وكانت فرانسي في كل أسبوع تسأل السؤال نفسه، وتسأل أمينة المكتبة السؤال عينه، ولم يكن أي اسم يسجل بالبطاقة يعني شيئا في نظر الأمينة، وما دامت لم تكن تنظر مطلقا إلى وجه الطفلة، فإنها لم تصل أبدا إلى معرفة الفتاة الصغيرة، التي تأخذ كتابا كل يوم، وكتابين في يوم السبت، وكانت الابتسامة خليقة بأن تعني أشياء كثيرة لفرانسي، كما كان التعليق العطوف جديرا بأن يجعلها سعيدة كل السعادة. وأحبت فرانسي المكتبة وكانت مشغوفة بأن تحب السيدة المسئولة عنها أخلص الحب، ولكن أمينة المكتبة كان فكرها مشغولا بأشياء أخرى، وكانت تكره الأطفال على أي حال.
وارتعدت فرانسي في ترقب حين وصلت السيدة إلى ما تحت المكتب، ورأت فرانسي عنوان الكتاب وهو يرتفع في يدها «لو كنت ملكا» بقلم ماكارثي، كتاب رائع! وكان كتاب الأسبوع الماضي هو بيفرلي من جروستارك، وتكرر هذا الكتاب في الأسبوعين السابقين. ولقد استعارت فرانسي كتاب مكارثي مرتين فحسب، وأوصت أمينة المكتبة بهذين الكتابين مرة بعد مرة بعد أخرى، ولعل هذين الكتابين هما الوحيدان اللذان قرأتهما أمينة المكتبة، أو أنهما كانا ضمن القائمة المختارة، أو لعلها اكتشفت أنهما يلهبان مشاعر الفتيات اللاتي في سن الحادية عشرة.
وحملت فرانسي الكتابين وضمتهما إليها، وأسرعت إلى البيت وهي تقاوم إغراء الجلوس في أول ظلة تبلغها في البناء لتبدأ القراءة.
ووصلت السيدة إلى البيت أخيرا، وبذلك حل الوقت الذي كانت تنتظره طوال الأسبوع؛ وقت الجلوس على سلم الطوارئ الخلفي، ووضعت خرقة بالية صغيرة على هذا السلم، وأحضرت الوسادة من فوق سريرها وأسندتها إلى القضبان. ومن حسن حظها أنها وجدت ثلجا في صندوق الثلج، فقطعت منه قطعة صغيرة ووضعتها في كوب به ماء، ونظمت رقائق النعناع الوردية والبيضاء التي اشترتها صباحا في وعاء صغير مشدوخ، ولكن لونه كان أزرق جميلا، ورتبت الكوب والوعاء والكتاب على عتبة النافذة، ثم تسلقت خارجة فوق سلم الطوارئ، وما إن كانت تخرج إلى هناك حتى تختفي بين فروع الشجرة، فلا يستطيع أحد أن يراها، سواء كان في الطابق العلوي أو في الطابق السفلي أو عابرا للطريق، على حين كانت تستطيع هي أن تطل بين أوراق الشجرة فترى كل شيء.
وكانت الشمس مشرقة بعد ظهيرة ذلك اليوم، وريح حارة عليلة تتهادى حاملة معها رائحة البحر، وأوراق الشجرة ترسم على غطاء الوسادة الأبيض ظلالا هائمة، ومن حسن التوفيق أنه لم يكن في الفناء أحد، وكان الصبي الذي يؤجر أبوه المخزن الكائن بالطابق الأرضي قد أخلى الفناء من قبل كالمعتاد، بعد أن لعب لعبة المقبرة التي لا يعرف لها آخر، فراح يحفر نماذج صغيرة لقبور، ويضع فيها ما أمسكه من الأساريع الحية في صناديق الكبريت الصغيرة، ويدفنها في احتفال غير رسمي، وينصب فوق آكام الأرض الصغيرة قوائم أضرحة من الحصباء، وكان يصاحب اللعبة جميعها نشيج موهوم يصدر عنه وزفرات حارة تخرج من صدره، ولكن هذا الصبي الحزين قد تغيب اليوم في زيارة عمة له في بنسونهيرست، وكان علمها بغيابه يكاد يبلغ من نفسها مبلغ حصولها على هدية في عيد ميلادها.
واستنشقت فرانسي الهواء الدافئ، وراقبت ظلال الأوراق الراقصة، وأكلت الحلوى، ورشفت بضع رشفات من الماء البارد أثناء قراءتها الكتاب.
لو كنت ملكا يا حبيبتي
آه، لو كنت ملكا ...
وكانت قصة فرانسوا فييون تزداد روعة كلما قرأتها، حتى إنها كانت تقلق أحيانا خشية أن يضيع الكتاب في المكتبة، فلا تستطيع أن تقرأه مرة أخرى، وبدأت ذات مرة تنسخ الكتاب في مفكرة ثمنها سنتان، وقد استبدت بها رغبة جارفة في أن تمتلك كتابا، وظنت أن نسخ الكتاب سوف يوفر لها ذلك، ولكن الأوراق المكتوبة بالقلم الرصاص لم تكن تشبه كتاب المكتبة، ولا تحمل رائحته، فأعرضت عن ذلك العمل، وهي تعزي نفسها بالقسم الذي أخذته على نفسها، أن تكد في عملها حينما تكبر، وتقتصد المال وتشتري كل كتاب يروقها.
وبينما هي تقرأ، ونفسها راضية عن العالم، وقد تملكتها السعادة بالقدر الذي تسعد به فتاة صغيرة في حوزتها كتاب شائق، ووعاء صغير من الحلوى، ووحيدة تماما في البيت، إذا بظلال أوراق الشجرة ترتفع وتؤذن الشمس بالمغيب، ودبت الحياة حوالي الساعة الرابعة داخل الشقق في البيوت المستأجرة بالجهة المقابلة لفناء فرانسي ، ونظرت من خلال أوراق الشجرة إلى النوافذ المفتوحة الخالية من الستائر، ورأت الأقداح تدفع ثم تعود، وقد امتلأت بالجعة المثلجة ذات الزبد، وجرى الأولاد داخلين خارجين، ذاهبين عائدين من عند الجزار والبقال والخباز، وأقبلت النساء ومعهن حزم سميكة من لحم الخنزير، وقد عادت إلى البيت حلة صاحب الدار التي يرتديها يوم الأحد، لترتد مرة أخرى يوم الإثنين إلى المرابي لتبقى عنده أسبوعا آخر، وكان حانوت لحم الخنزير يستفيد من الربح الأسبوعي، والحلة تحظى بمن يفرشها ويعلقها في وسط الكافور بعيدا، حيث لا تستطيع العثة الوصول إليها، كانت الحلة تأتي يوم الإثنين وتخرج يوم السبت، ويأخذ عنها العم تيمي عشرة سنتات فائدة، كانت هذه هي الدائرة التي تدور فيها الحلة.
Page inconnue