وأرضت الأم هذه النظرة الغريبة إلى الأمور، وطابت لها نفس فرانسي؛ إذ كانت إحدى الروابط التي تجمع بين الفقراء المعدمين والأغنياء المسرفين، وشعرت الفتاة أنها كانت تملك أقل مما كان يملكه أي شخص في ويليمسبرج، فإنه كان لديها بوجه من الوجوه شيء أكثر مما لديهم جميعا؛ لقد كانت أغنى لأن لديها شيئا تستطيع أن تبدده، وأكلت كعكة الحلوى في بطء مشفقة من أن تفقد طعمها الحلو، على حين أصبحت القهوة في برودة الثلج، ثم أفرغتها في البالوعة في عظمة، وقد أحست إحساسا عارضا بالتبذير، واستعدت بعد ذلك للذهاب إلى محل لوشر، لتشتري ما تحتاج إليه الأسرة من الخبز غير الطازج، الذي يكفيهم نصف أسبوع، وأخبرتها أمها بأن تأخذ خمسة سنتات وتشتري فطيرة بائتة، إذا استطاعت أن تحصل على فطيرة لم تضرب عند عجنها ضربا شديدا.
وكان مخبز لوشر يزود بالخبز حوانيت المنطقة المجاورة، ولم يكن الخبز يلف في ورق الشمع، كما كان يفسد سريعا؛ لذا فإن لوشر كان يخفي الخبز البائت عن زبائنه ويبيعه بنصف ثمنه للفقراء، وكان الحانوت الخارجي يتبع المخبز وتشغل جانبا منه مائدة البيع المستطيلة، ويشغل الجانبين الآخرين صف من الأرائك، وثمة باب ذو مصراعين ضخم مفتوح وراء مائدة البيع، وكانت عربات المخبز تقف في مؤخرتها لصق المائدة، وتفرغ حمولتها من الخبز على هذه المائدة مباشرة، حيث كانوا يبيعون الرغيفين بخمسة سنتات، ويندفع الجمهور حينما كانت العربات تفرغ حمولتها، ومن ثم فقد كان على المائدة متزاحما يجاهد في سبيل شراء الخبز، ولم يكن الخبز يتوافر قط للجميع، على البعض أن ينتظر حتى تقبل ثلاث عربات أو أربع قبل أن يتمكنوا من شراء الخبز، وكان الزبائن يشترون الخبز بهذا السعر ويتكفلون هم بلفه، وكان معظمهم من الأطفال، وكان بعض الصبية يطوون الخبز تحت أذرعتهم، ويعودون أدراجهم إلى بيوتهم يعلنون بلا حياء للعالم كله أنهم قوم فقراء، أما ذوو الكبرياء فكانوا يلفون خبزهم في أوراق الصحف القديمة أو في أكياس الدقيق النظيفة أو القذرة، ولكن فرانسي أحضرت معها كيسا كبيرا من الورق.
ولم تحاول فرانسي أن تحصل على خبزها سريعا، وجلست على إحدى الأرائك وأخذت تراقب الناس، كان نفر من الصبية يتدافعون ويتصايحون عند مائدة البيع، وأربعة رجال مسنون ينعسون على الدكة المقابلة، وكان الرجال المسنون، وقد أصبحوا عالة على أسرهم، يكلفون بتوصيل الرسالات ورعاية الأطفال، وكان ذلك هو العمل الوحيد الذي بقي لهؤلاء الرجال الذين بلغوا من الكبر عتيا في ويليمسبرج، كانوا ينتظرون ما وسعهم الانتظار قبل أن يشتروا لأن رائحة الخبز في مخبز لوشر كانت طيبة، والشمس النافذة من الشرفات تسقط على ظهورهم الكليلة وتشعرهم بالراحة؛ لهذا جلسوا ونعسوا والساعات تمر، وأحسوا بأنهم يزجون بذلك وقت فراغهم، وقد جعل الانتظار لحياتهم هدفا إلى حين، وأوشكوا أن يشعروا بأن الناس ما فتئوا يحتاجون إلى وجودهم.
وحملقت فرانسي في أكبر الرجال سنا، وأخذت تمارس لعبتها المفضلة في تأمل أشكال الناس، وكان شعره الخفيف المتشابك رماديا قذرا كالهشيم يعف على خديه الغائرين، وأحاط لعابه الجاف بزاويتي فمه، وراح الرجل المسن يتثاءب فبدا فمه خاليا من الأسنان، وراقبته فرانسي معجبة منفعلة، وهو يغلق فمه ويجذب شفتيه إلى الداخل، حتى يصبح وكأنه بلا شفتين، ويرفع ذقنه حتى يكاد يلمس أنفه، وأخذت تدرس معطفه العتيق، وقد تدلى حشوه عند طية الحياكة من الكم المهلهل، وكانت ساقاه تستلقيان على الأرض متباعدتين في استرخاء لا حول له ولا قوة، وقد فقد «زرار» من فتحة السروال التي تحيط بها طبقة من الشحم، ورأت أن حذاءه كان متعجنا ممزقا عند الأصابع، على أن فردة من فردتي الحذاء، كانت قد خيطت بخيط من خيوط الأحذية كثير العقد، وخيطت الأخرى بقطعة من الدوبارة القذرة، ورأت إصبعين من أصابع قدميه سميكتين قذرتين لهما أظافر رمادية مجعدة، وصرحت بأفكارها قائلة بينها وبين نفسها: إنه لرجل مسن جاوز بلا ريب سبعين سنة، وولد تقريبا في الوقت الذي كان فيه إبراهام لنكولن يعيش متأهبا لرياسة الجمهورية، وما من ريب أن ويليمسبرج كانت حينئذ بلدة ريفية، ولعل الهنود كانوا لا يزالون يعيشون في فلاتبوش، كان ذلك منذ أمد بعيد.
واستمرت تحملق في قدميه وهي تهمس لنفسها: لقد كان طفلا في يوم من الأيام، ولا بد أنه كان جميلا نظيفا، تقبل أمه أصابع قدميه الصغيرة الوردية اللون، وربما كانت تمضي إلى مهده حين ترعد السماء بالليل، وتحكم الغطاء حوله، وتهمس في أذنه بألا يخاف لأنها بجانبه، ثم ترفعه إليها وتضع خدها على رأسه، وتقول إنه طفلها الجميل، ولعله كان صبيا مثل أخي، يجري داخل المنزل وخارجه ويصفق الباب، وحينما تؤنبه أمه يذهب بها التفكير إلى أنه قد يصبح رئيسا للجمهورية ذات يوم، ثم أصبح شابا قويا سعيدا تبتسم له الفتيات حين يمشي في الشارع، ويلتفتن إليه ليشاهدنه ويبادلهن الابتسام وقد يغمز بعينيه لأجملهن، وإني لأخمن أنه لا بد قد تزوج وأنجب أطفالا، كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى أروع أب في العالم؛ لأنه كان يكد في العمل ويشتري لهم اللعب في ليلة عيد الميلاد، ولكن أطفاله الآن يتقدمون في العمر أيضا مثله، وقد أنجبوا أطفالا ... بدورهم، ولم يعد أحد منهم يرغب في الرجل المسن وإنهم لينتظرون موته، ولكنه لا يريد أن يموت، بل يريد أن يبقى حيا بالرغم من تقدمه الكبير في السن، ولم يعد أمامه شيء بعد يبعث في قلبه السعادة.
وكان المكان هادئا، وشمس الصيف تنفذ إلى الداخل، محدثة شعاعات يغشاها الغبار تنحدر إلى أسفل من النافذة إلى الأرض، وأخذت ذبابة كبيرة خضراء تطن داخلة خارجة في الغبار المشمس، وكان المكان خاليا إلا من هذه الذبابة والرجال المسنين الناعسين، وقد خرج الأطفال الذين ينتظرون الخبز ليلعبوا في الخارج، وبدأت أصواتهم العالية الصاخبة كأنها تأتي من بعيد.
وفجأة قفزت فرانسي واقفة، وقلبها يدق دقا سريعا، وشعرت بالفزع وظنت بلا سبب مطلقا أن أحدا قد شد أوتار «الأكورديون» إلى آخرها ليعزف نغمة قوية، وانتابتها فكرة بأن «الأكورديون» يقترب ... ويقترب ... واستولى عليها رعب لا سبيل إلى وصفه حين تحققت أن كثيرا من الأطفال الملاح في العالم، قد ولدوا لينتهوا في يوم من الأيام إلى ما انتهى إليه هذا الرجل المسن، وخيل إليها أنها يجب أن تخرج من ذلك المكان وإلا فقد يحل بها ذلك فجأة، فتصبح امرأة عجوزا خلا فمها من الأسنان، وينظر الناس إلى قدميها في تقزز واشمئزاز، وفي تلك اللحظة انفتح مصراعا الباب المزدوج خلف مائدة البيع، معلنين عن قدوم عربة من الخبز، وأقبل رجل ووقف خلف المائدة، وبدأ سائق العربة يقذف له الخبز الذي أخذ يكومه على المائدة، واحتشد الصبية الذين سمعوا الباب وهو يفتح في الداخل، وأخذوا يتشاجرون حول فرانسي التي وصلت إلى المادة من قبل.
وصاحت فرانسي قائلة: إنني أريد خبزا.
ودفعتها فتاة كبيرة دفعة قوية، وأرادت أن تعلم من تكون، وما هو الشأن الذي تدعيه لنفسها، وقالت لها فرانسي: لا عليك، لا عليك.
وصاحت فرانسي قائلة: أريد ستة أرغفة وفطيرة لم تضرب ضربا شديدا.
Page inconnue