تقديم
مقدمة المؤلفة
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
تقديم
مقدمة المؤلفة
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
شجرة تنمو في بروكلين
شجرة تنمو في بروكلين
تأليف
بيتي سميث
تقديم
حلمي مراد
ترجمة
نوال السعداوي
تقديم
بقلمحلمي مرادرئيس تحرير مجلة كتابيالكاتبة والكتاب
وراء هذه القصة الفذة، قصة أخرى فذة، هي قصة مؤلفتها «بيتي سميث»، فقد ولدت هذه الكاتبة في سنة 1904م، أي في أوائل القرن العشرين، وكان مولدها في «وليامسبيرج» ببروكلين، وبروكلين في أوائل القرن العشرين هي المسرح الحقيقي الذي تدور فيه أحداث هذا الكتاب، ومن هنا يبدأ التشابك والتشابه - ولا نقول التطابق - بين واقع القصة في الحياة، وواقع التجربة الإنسانية التي تصورها المؤلفة ... فنلمس منذ البداية، ذلك المصدر الخصب الذي استمدت منه المؤلفة صدقها النابض بالحياة. والحق أن «فرانسي» - بطلة القصة المكتوبة - فيها الكثير جدا من ملامح «بيتي سميث» الكاتبة الموهوبة:
ففي ظلال الفقر، ولدت كل منهما.
وفي ميادين الفاقة، والجوع، والحاجة إلى الملبس الكافي، والتعليم الوافي، خاضت كل منهما حربا قاسية مريرة، طويلة الأمد.
وفي وجه اليأس، صمدت كل منهما، فلم تسمح له بأن يتطرق إلى قلبها الباسل.
فمنذ سن مبكرة اضطرت المؤلفة إلى التماس العمل لتقيم أودها، فعملت في مصانع ومكاتب شتى في بروكلين، وفي المؤسسات الشعبية تعلمت أصول الطهو والحياكة والرقص، وفي سن الثامنة عشرة غادرت بروكلين، لتقضي في «ميتشيجان» عشر سنوات، وهناك تزوجت وأنجبت.
وهناك أيضا بدأت صلتها بدنيا القلم والكتابة، في مناسبة طريفة، هي بلا شك أقرب إلى نسيج الخيال منها إلى الواقع المألوف في الحياة: كانت «بيتي سميث» تخترق أرض جامعة ميتشيجان في «آن أربور» وهي تدفع أمامها عربة بها طفلها الصغير، وإذا بالمطر يفاجئها؛ فالتجأت، كي تحتمي منه، إلى مدخل أحد الأبنية، وشاءت المصادفة أن تكون هناك حلقة منعقدة في داخل المبنى لمناقشة بعض الموضوعات التي يلقيها الطلاب، فدعيت - ريثما يكف المطر عن الهطول - للدخول، وإبداء رأيها، والتعليق على ما تسمع؛ باعتبارها محلفة «محايدة »!
ويبدو أن تعليقاتها كانت سديدة ورشيدة، بحيث استولت على إعجاب الأستاذ والطلاب، قبل أن ينقطع المطر وتصفو السماء؛ فدعوها، عند انصرافها، للحضور في المستقبل للمشاركة في مثل هذه المناقشات والإدلاء بتعليقاتها الصائبة.
ولكن الأثر الذي تركته، في نفس «بيتي سميث»، تلك المناقشة التي ساقتها إليها المقادير، كان أضخم بكثير من الأثر الذي تركته «بيتي» في الأستاذ وتلاميذه؛ فقد فتحت هذه الحادثة العارضة عينيها على عالم جديد، بهرها واستهواها، فما إن كبر أطفالها وبلغوا سن الالتحاق برياض الأطفال، حتى قررت أن تتعلم تعليما جامعيا.
وواجهتها عقبة لا يستهان بها: وهي أنها لم تحصل من التعليم، من قبل، على ما يؤهلها رسميا لدخول الجامعة؛ فليست لديها أية إجازة مدرسية معترف بها. ولكن نفرا من كرام الأساتذة الذين عرفوا لها ألمعيتها - وعلى رأسهم الدكتورة «كلارنس كوك»، والبروفيسور «بيترجاك» - قاموا بتزكيتها، فقبلت طالبة بالجامعة «بصفة خاصة»، بيد أن ظروفها - كربة بيت، وأم، وعاملة كادحة - لم تسمح لها بأكثر من الانتظام في دروسها خمس ساعات فقط، كل أسبوع، فاقتضى ذلك منها أن تقضي عشر سنوات، في دراسة تستغرق في العادة أربع سنوات فقط!
وفي أثناء هذه الدراسة، كتبت مسرحية فازت بها - في إحدى المسابقات - بالجائزة الأولى! وبعد إتمام دراستها الجامعية في «ميتشيجان» التحقت بمعهد الدراما في جامعة «ييل» حيث كانت - خلال سنوات الدراسة الثلاث - محل احتفاء كبار الأساتذة بها، وفي مقدمتهم البروفيسور «جورج بيكر» الشهير، وفي غضون تلك المدة كتبت، وباعت حقوق تمثيل، أكثر من سبعين مسرحية من ذات الفصل الواحد!
وبعد سنوات من العمل في التأليف المسرحي، كتبت «بيتي سميث» تحفتها هذه: «شجرة تنمو في بروكلين»، التي أتمتها عام 1942م، فأرسلتها يومئذ بطريق البريد إلى دار «إخوان هاربر» للنشر، فكان أن نالت على الفور إعجاب لجنة القراءة بالمؤسسة، وحقق نشرها، بالفعل، نجاحا باهرا، ثم اشترت شركة «فوكس للقرن العشرين» حقوق إخراجها في السينما، وطبعت منها عشرات الطبعات «حتى إن الناشر كان يضطر إلى طبعها في أربع مطابع دفعة واحدة، كي يلاحق الطلبات التي تنهال عليه من المكتبات!».
وقد ترجمت الرواية إلى ست عشرة لغة، وتعتبر هذه الترجمة العربية هي السابعة عشرة في تلك القائمة المجيدة!
والآن، ما هي قصة الكتاب، بعد أن عرفنا قصة الكاتبة؟
إنها قصة «فرانسي نولان»، ابنة أسرة نولان، حيث الأب السكير «جوني نولان» الذي يجمع في طباعه بين عنصر الفنان الفاشل، وعنصر الخادم المتعطل، إنه أشبه بطائر كسير الجناح، لم يبق في ذيله من الريش إلا القليل، ولا بد له مع ذلك أن يحاول الطيران والتقاط الرزق رغم كل شيء!
أما الأم «كاتي نولان» فحارسة بيت من بيوت المساكن الشعبية، وهي التي تقوم بحمل عبء المسئولية، إنها «الرجل» الحقيقي في هذه الأسرة الصغيرة، هي التي تدبر، وترعى، وتعطف، ولا بد لها أيضا من عنصر الصلابة حتى تقود السفينة الصغيرة - فليس في حياتها متسع للعواطف الرقيقة - ولكن تحت صلابتها قلبا طيبا كبيرا.
وهناك أيضا الأخ الأصغر «نيلي» إنه الرفيق الحالم الذي تمارس «فرانسي» تجاهه منذ نعومة أظفارها دور الأم، وأمامها القدوة المثلى في الجلد والمثابرة؛ أمها «كاتي».
ومن الأب الفنان الكسير المريض ورثت «فرانسي» الحساسية الحالمة، ومن الأم القوية المكافحة ورثت الجلد، وتحدي الصعاب، والإصرار على البقاء، والانتصار على الزمن مهما يكن الثمن!
إنها في بداية القصة تشترك مع أخيها في جمع القمامة والنفايات، وبيعها، ومن هذه الطريق كانا يحصلان على مصروفهما الشخصي، فكانت هذه حرفتها الأولى ومنفذها الأول إلى شيء من الشعور بالاستقلال.
فماذا كانت هوايتها الأولى في تلك الآونة؟
إنها هواية لا تمت بصلة إلى القمامة والنفايات، تلك هي هواية المعرفة! ولكنها لم تكن تدري كيف تجمعها؛ فالمكتبة العامة مفتوحة للجميع، ولكنها لا تدري بأي ترتيب تطالع ما فيها من الكتب المبذولة للقارئين؛ ومن هنا اتبعت في ذلك نفس المنهج الذي كانت تجمع به القمامة: وهو الترتيب الواقعي، ترتيب المكان! فبدأت بالكتب التي تبدأ عناوينها بحرف الألف، ثم الباء، ثم التاء ... وهكذا! كانت تجد - بالمصادفة - معلومات تناسبها، تماما مثلما تجد في أكوام النفايات - بالمصادفة أيضا - أشياء تناسبها، «من قبيل الشرائط، والورق المفضض»، وقد تجد أشياء تصلح للبيع، كالمعادن، والخرق، والمطاط، والعظام ... إلخ.
وهكذا راحت تقرأ بشراهة، كتابا كل يوم! وفي يوم السبت، كانت تخلو لتأملاتها، في الفناء الخلفي للبيت، حيث تجلس على سلم الطوارئ الخلفي، وتتلهى بمراقبة الجيران من حولها وهم يستعدون لليلة الأحد وسهراتها، في داخل البيوت وخارجها.
وفي ذلك الفناء الخلفي شجرة صغيرة يتيمة، كانت «فرانسي» ترقبها أسبوعا بعد أسبوع، وهي تمد فروعها شيئا فشيئا، وتنمو نحو السماء، لا يشعر بها أحد! إنها ذلك الكائن الحي الصغير، النبات الوحيد وسط جدران الحجارة، وسلالم الحديد، وحبال الغسيل، وكل ما هو جامد، خامد، مضاد للنمو والحياة والازدهار.
ومن هذه الشجرة الوحيدة الشجاعة النامية، استمدت القصة عنوانها!
ولم يكن ذلك اعتباطا، بل لما هناك من توازن واضح بين خط هذه الشجرة، وكفاحها في سبيل حق النمو والصعود من الأرض إلى السماء؛ وبين خط حياة البطلة «فرانسي»، التي تشق بكدها المضني سبيلها من حضيض جمع القمامة، إلى سماء المعرفة والتحليق في دنيا الإلهام، في تمكن واقتدار.
وأي تصوير أمين تطالعه عيوننا في تلك الأضواء المشرقة بين ظلال الفاقة الداكنة! أي حنان نلمسه نابضا في صورة الأب و«فرانسي» تكوي له ملابس العمل يوم السبت، يوم عمله الوحيد، حين يتيسر له العمل! وكيف يمضي هذا الرجل ليخدم السكارى ليلة الأحد، ويغني لهم وهو يقدم الأقداح، ويجرع الثمالات، وابنته تنتظره حتى يعود قبيل الفجر منتشيا، وقد يغلبها النعاس، فلا ينسى أن يوقظها وأخاها ليعطيهما شيئا من الفطائر والحلوى والمشهيات التي تبقت في الأطباق، أو التي دسها في جيبه خلسة! وتنعم الأسرة الصغيرة بدفء هذه اللحظة، ثم يخلد الأب والأم إلى حجرتهما يثرثران حتى مطلع النهار.
وهذان الأبوان إن خلف حياتهما هذه قصة حب رومانسي عجيبة، فقد كان «جوني» في التاسعة عشرة، وكانت «كاتي» في السابعة عشرة، حين التقيا وتحابا في ليلة من ليالي الآحاد، في مرقص شعبي. «وكانت قدما «جوني» طويلتين رفيعتين، وحذاؤه لامعا، وهو يرقص على أطراف أصابعه، ويتبختر مهتزا على عقبيه في إيقاع جميل، وحمي وطيس الرقص وعلق «جوني» معطفه على ظهر كرسيه، وكان سرواله ينسدل متناسبا على حقويه، وقميصه الأبيض ينسدل على حزامه، ويرتدي بنيقة عالية صلبة، ولم تستطع «كاتي» أن تحول نظرها عنه، فقد كان شابا ممشوق القوام، يشرق بشعره الأشقر المجعد وعينيه الزرقاوين العميقتين، وكان أنفه مستقيما وكتفاه عريضتين، وسمعت «كاتي» البنات الجالسات إلى المائدة المجاورة لها يقلن عنه إنه أنيق الملبس، وقال رفاقهم إنه راقص بارع أيضا، ومنحها «جوني» رقصة من قبيل المجاملة حين عزفت الموسيقى مقطوعة «روزي الجميلة»، وعرفت «كاتي»، حينما شعرت بذراعيه تلتفان حولها فانساقت بلا وعي إلى مجاراته في الإيقاع، أنه الرجل الذي تنشده، إنها لا تطلب شيئا أكثر من أن تنظر إليه وتستمع له بقية حياتها.»
و«كاتي» هذه من سلالة ألمانية، فوالدها رجل صارم، قاس، فظ، أناني، وأمها قديسة وأمية في آن واحد.
من هذه السلالة جاءت «فرانسي»، ومن أبيها ورثت حب الموسيقى والرقص والغناء، وعندما أتيح لها أن تدخل المدرسة كانت دروس هذه الفنون الثلاثة أحب الدروس إلى قلبها، ثم فوجئت معلمتها باستعدادها الكبير للتعبير الواضح السليم.
وما إن أتمت «فرانسي» الثالثة عشرة، حتى حلت بالأسرة كارثة اضطرت الفتاة معها إلى العمل كخادمة، واضطر أخوها بدوره إلى الخدمة في مطبخ الحانة التي كان أبوهما يعمل بها حينا، ويعاقر فيها الخمر في أكثر الأحيان! ولم تلبث الأم أن ولدت فما جديدا في حاجة إلى مزيد من الطعام!
ثم انتقلت «فرانسي» للعمل في مشغل للأزهار الصناعية، وهي تصف أيامها الأولى في ذلك العمل وصفا صادقا أمينا، وتصف خيبتها ومتاعبها، وكيف طردت بعد أيام لتعمل في «أرشيف» أحد المكاتب الصغيرة. ولما نشبت الحرب العالمية - الأولى - اشتغلت عاملة تلغراف، في نوبات ليلية، مكنتها من مواصلة دراستها، فكانت تتقدم للامتحانات كلما تيسر لها ذلك.
سنوات من الكفاح المتصل، تتخللها ومضات من السعادة، ومن الحب، منذ عرفت «فرانسي» طريقها إلى موعدها الغرامي الأول!
وتتوالى أحداث القصة، في تحليل رائع وتصوير صادق لأدق خلجات النفس البشرية؛ نفس الفتاة المراهقة «فرانسي »، ونفس أمها «كاتي»، التي تهب عليها ذكريات أيام كانت قد نسيتها، وينبري لها - من الماضي البعيد - شبح يحدث في حياتها الأثر الذي يحدثه حجر يسقط فوق سطح بحيرة ساكنة! لكني لن أفسد عليك متعة متابعة أحداث القصة بنفسك، فلأدعك تستمتع بصحبة هذه الأسرة وهي تنتقل من مرحلة في حياتها، إلى مرحلة أخرى جديدة، اقتضتها أن ترحل إلى «ميتشيجان» حيث تغيرت ظروفها، كما تقلب أسطوانة على وجهها الآخر، وهناك التحقت «فرانسي» بالجامعة، لتحقق حلمها الكبير!
لقد بدأت الشجرة تجد طريقها إلى رقعة فسيحة من السماء.
وهذا يصدق على الشجرة الحية «فرانسي»، كما يصدق على الشجرة النابتة في الفناء، على السواء.
فها هي ذي «فرانسي» في آخر يوم لها في «بروكلين» تمضي دافعة أمامها عربة شقيقها الأصغر في الطريق، كي ترد - لآخر مرة - الكتب التي استعارتها من المكتبة العامة، وها هي ذي تتوقف لتنظر إلى الفناء القديم وإلى سلم الطوارئ الذي كفت عن الجلوس عليه منذ سنين، وإذا بها ترى في مكانها القديم المعهود، فتاة في نحو العاشرة - نفس سنها هي يوم كانت تجلس في ذلك الموضع - ثم تفجع برؤية الشجرة المكافحة، وقد قطع السكان جذعها حين كبر وحجب عن غسيلهم الشمس!
ولكن الشجرة لم تمت، بل نبتت من جذورها القديمة أغصان جديدة، في اتجاه جديد، لقد تحاشت مواضع حبال الغسيل، وشقت لها طريقا إلى سماء حرة.
كذلك كانت حال «فرانسي»، اقتطعت منها الأيام بعض أغصانها، ولكنها أكسبت من ذلك مزيدا من القدرة والقوة، وها هي ذي تشق أيضا طريقا جديدة إلى سماء حرة، في أفق جديد. «ولكن الشجرة التي أقام السكان الجدد حولها نارا في فناء الدار، محاولين أن يحرقوا جذعها قد عاشت!
أجل عاشت ...
وما من شيء يستطيع أن يقضي عليها!
ثم عادت «فرانسي» فنظرت إلى الفتاة الصغيرة التي تقرأ وهي جالسة على سلم الحريق، وهمست: وداعا ... يا «فرانسي»!» ... ومضت طارحة وراء ظهرها صفحات من حياتها وحياة أسرتها في «بروكلين»، لتتطلع إلى صفحات جديدة لن تلبث أن تطالعها في موطنها الجديد «ميتشيجان»!
وهكذا تلتقي صورة حياة المؤلفة في الواقع بصورة بطلتها في القصة؛ لتقولا لنا معا، في هذا العمل الفني المؤثر الصادق الجميل: إن حياة الإنسان لا تقتلها الصعاب، بل تقويها حرارة الكفاح! «وما من شيء يستطيع أن يقضي عليها.»
إنها ليست شجرة تنمو في «بروكلين» دون غيرها من الأماكن ... كلا! فإن وراء صورتها المحلية المحدودة، إحساسا أعمق وأشمل، يشعر به القارئ في كل مكان في الأرض؛ إنها شجرة تنمو بشجاعة وإصرار، في أي ركن يعيش فيه إنسان!
وهذا هو سر جمالها الفني الإنساني الرفيع!
مقدمة المؤلفة
حين يصبح الشخص المغمور بين عشية وضحاها شخصية معروفة، فإن الناس ينسجون أحيانا حكايات عن السنين المجهولة من حياته، وكان هذا شأني؛ إذ يروى أنه كانت لي عادة مفزعة، فقد درجت على السير في شوارع القرية المظلمة في منتصف كل ليلة، يرافقني كلب أسود كبير كالشبح، ويقولون إنني كنت على هذا النحو أستوحي الإلهام في كتابة روايتي «شجرة تنمو في بروكلين».
وكنت أسير حقا وسط القرية في منتصف كل ليلة ومعي كلب أسود، ولكني لم أكن أبغي من ذلك إلا أن أصل إلى مكتب البريد لأرى هل هناك رسالة في البريد الأخير، وكان الكلب، وهو كلب صيد لطيف من نوع اللابرادوري، صديقا لي، ينتظرني عند المنعطف كل ليلة؛ لأنه كان يستمتع بالمسير في صحبتي إلى المدينة.
وكنت أشعر بالوحدة في تلك الفترة قبل أن ينشر لي كتاب، فأفعل ما يفعله توماس وولف، طالب الجامعة هناك، إذ دأب على أن يحوم حول مكتب بريد تشابل هيل، راغبا في أن يلقى شيئا من الرسائل، وكنت أنا أيضا أقصد إلى هذا المكتب لأراقبهم وهم يخرجون بريد منتصف الليل، آملة أن يكون أحد قد بعث إلي برسالة، ولم تكن تصلني رسالات إلا قليلا اللهم إلا قوائم الحساب.
ولقد كففت عن هذا السير الآن؛ لأن صندوق البريد رقم 405 أصبح يمتلئ في أي وقت من أوقات اليوم برسائل الذين قرءوا كتابي، فتفد إلي الرسائل من المدن والبلاد والقرى والنواحي الريفية في أمريكا، وقد اعتدت أن أتسلم رسائل واردة من خنادق المحاربين، والبوارج، والمستشفيات، ومراكز الترفيه، ومعسكرات التدريب، وهي لا تزال ترد من مناطق الاستيطان، ولقد وردت إلي رسالة من رجل شرير من رجال العصابات بعث بها إلي، وهو على شفا الإعدام من محبسه يقول فيها إن كتابي كان آخر ما قدر له أن يقرأ في هذا العالم. وجاءتني رسالة أخرى من امرأة وضعت وشيكا، تنبئني فيها أنها كانت فقيرة جدا، ولكن مولودها لن يحرم زاده من الحنان والفهم إذا استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وكانت معظم الرسائل تبدأ على هذا النحو: هذه أول رسالة إعجاب أخطها، إنني قرأت كتابك لتوي، ولا مناص لي من أن أقول لك ...»، ومنهم من يكتب لي قائلا: «كنت فتاة مثل فرانسي نولان» أو «عاشت أسرتي تعاني مثل هذا الصراع وكانت أمي مثل كاتي» أو «إنني لم أعش قط في بروكلين، لكن شخصا ما لا بد أن يكون قد أنبأك بقصة حياتي؛ لأنها هي هي ما كتبت»، ويبلغ بهم الأمر إلى حد القول: «إنني أتميز غيظا لأنك كتبت روايتي قبل أن تواتيني الفرصة لكتابتها.»
وليس ثمة ما يلزمني بالرد على جميع هذه الرسائل، فإن ذلك يستغرق الوقت الذي ينبغي لي أن أفرغ فيه للكتاب الثاني، لكنني أذكر كيف قرأت مرة وأنا طفلة كتابا ملك علي قلبي، وحررت رسالة إلى مؤلفه المشهور، وضعت فيها ذوب نفسي، ولكنه لم يرد علي؛ وشعرت بالألم والخزي لأن ما بذلته من صميم مشاعري كان جزاؤه الجحود، فأقسمت أن أحاول حين يشتد ساعدي أن أكتب كتابا أفضل من كتابه، وأن أرد على أية رسالة تصلني بشأنه؛ ولذلك فأنا أرد على كل رسالة تصلني، وحسبي أن أقول «شكرا». ويبدو لي الأمر أحيانا كأنه عبء ثقيل فأرغب في الإقلاع عنه، ولكني أخشى حينذاك أن أولم أحدا كما فعل معي ذلك المؤلف منذ عهد بعيد؛ ولذلك دأبت على أن أرد على الرسائل التي تصلني.
ولم أشأ أن أهدي كتابي إلى أحد؛ لأني لم أستطع أن أقرر من كان أكثر عونا لي على كتابته، فكرت في أمي التي وهبتني الحياة وإني لمدينة لها بالكثير، ومدينة لأختي ولأخي، اللذين أضفيا على طفولتي جمالا وسحرا، وإني لمدينة لأطفالي الذين أمدتني سنوات طفولتهم بحياة ممتعة راضية. وهناك فضل أدين به لصديق حبيب ولزوج واسع الإدراك، وهناك دين آخر في عنقي لمعلم محبوب، ولا يمكنني أن أنسى البدال الذي منحني ثقة حانية أثناء سني الكتابة الجدباء، ولا الطبيب البيطري الذي عالج ساق كلبي المكسورة، وتنازل عن تعهدي بأن أرد إليه بعض ما يستحق قائلا في كرم ولطف: لا عليك، انسي هذا الأمر.
وإني لمدينة لمعارف لقيتهم مصادفة في القطارات وفي محطات السيارات العامة، لما بادلوني إياه من ثقة عن حقائق الحياة الخالدة، وإني لأحس من صميم قلبي أيضا بفضل من آلمني؛ لأن الحزن زاد في نضج عاطفتي ووسع من إدراكي، وكذلك أشعر بالامتنان حيال صاحب عمل أنبأني منذ عهد بعيد في يوم قائظ من أيام شهر أغسطس، بأن الوظيفة التي كنت أطلبها قد شغلت، ولكنه ألح علي أن أجلس وأستريح لحظة قبل أن أستأنف ردي على إعلان آخر، وأحضر لي كأسا من الورق فيها ماء مثلج، وفاضت كأسي حقا حينما سكبت فيها دمعة أو دمعتين، طفرتا من عيني بسبب التعب والإجهاد.
وإن هؤلاء جميعا - ومئات منهم لم أذكرهم - بل في الحقيقة كل من أثر في حياتي، إن خيرا وإن شرا، قد عاونوني في كتابة هذه القصة، وما كنت لأستطيع أن أهديها إلى أحد بالذات دون أن أجحد فضل الآخرين.
ولكني أريد أن أهدي هذه الطبعة الخاصة - التي لم تخرج إلى الناس إلا لأن عددا كبيرا منهم كانوا مع الشجرة متجاوبين - أريد أن أهديها لكم، أريد أن أهديها لكم جميعا يا من قرأتموها، ولكم يا من تقرءونها الآن، وأريد أن أقول:
شكرا، شكرا جزيلا.
بيتي سميث
تشابل هيل، كارولينا الشمالية
يونيو 1947م
هنالك شجرة تنمو في بروكلين،
يسميها القوم شجرة السماء،
وأيا كان الموضع الذي تسقط فيه بذرتها،
فإنها تنبثق شجرة سامقة تناضل؛
لكي تبلغ عنان السماء.
إنها تنمو أنى تكن؛
وسط الأحواش،
وبين أكوام النفايات،
وتنطلق خلال الأسوار الحديدية،
وتبزغ من شقوق الصخر،
وتنمو يانعة نضرة،
وتحيا وتؤتي أكلها،
دون أن تغاديها شمس،
أو يسقيها مطر،
بل إنها لتعيش فيما يخيل إلى الناس ... عدما،
وكانت هذه الشجرة خليقة بأن تعد فذة في جمالها
لولا مثيلات لها كثيرات،
وكثيرات ...
الباب الأول
1 «الهدوء» هي الكلمة التي كان يمكنك أن تصف بها بروكلين في نيويورك في صيف سنة 1912م، ولعله كان من الأفضل أن توصف بكلمة «موحشة» لتعبر عن هذا المعنى، ولكن هذه الصفة لا تنطبق على ويليامسبرج في بروكلين. إن كلمة برية كلمة حلوة، وكلمة شناندوه
1
لها جرس جميل، ولكن هذه الأوصاف لا يمكن أن تجعلها تنطبق على بروكلين؛ ذلك أن الهدوء هو الصفة الوحيدة التي تلائمها، وخاصة في عصر يوم سبت من أيام الصيف.
وكان الوقت متأخرا بعد الظهيرة حين مالت الشمس منحدرة في فناء منزل فرانسي نولان المغشى بالطحلب باعثة الدفء في السور الخشبي البالي، وانتاب فرانسي وهي تنظر إلى أشعة الشمس المائلة ذلك الشعور المرهف المعهود، الذي كان ينتابها حين تذكر قصيدة كانوا يتلونها في المدرسة:
هذه هي الغابة البدائية،
تقف فيها أشجار الصنوبر والشوكران الهامسة،
وقد غشي عوارضها الطحلب واكتست بالخضرة،
كالكهنة الوثنيين من قدماء الإنجليز،
لا تبين معالمها ساعة الغسق.
ولم تكن الشجرة الوحيدة النامية في فناء فرانسي من أشجار الصنوبر ولا من أشجار الشوكران، وإنما كانت أوراقها مدببة الطرف تنمو على سوق خضر تنتشر من الغصن فتجعل الشجرة تبدو للعين كأنها مجموعة من المظلات الخضراء المنبسطة، وقد سماها بعض الناس شجرة السماء؛ لأنها كانت تناضل حتى يبلغ طولها عنان السماء، أيا ما كان الموضع الذي تسقط فيه بذرتها، وكانت تنمو وسط الأحواش وتنبثق من أكوام النفايات المهملة، وإلى جانب ذلك كانت الشجرة الوحيدة التي برزت من الأسمنت ونمت، نمت في نضارة، ولكن في أحياء السكن فحسب.
وإنك لتسير في عصر يوم من أيام الأحد فتبلغ حيا قريبا غاية في الإبداع، وترى الشجرة الصغيرة من تلك الأشجار من خلال البوابة الحديدية المؤدية إلى فناء بيت، فتدرك أن ذلك القطاع من بروكلين سوف يصبح عما قريب حيا من أحياء السكن، وكانت الشجرة تعلم ذلك، إذ كانت أول الساكنين، ثم يتسلل إلى الحي من بعدها أغراب من الفقراء، وتتحول البيوت القديمة الهادئة المشيدة من الحجر الأسمر إلى طوابق، وتدفع الحشايا المصنوعة من الريش إلى الخارج على عتبات النوافذ لتهويتها، وتزدهر شجرة السماء، كانت تلك الشجرة من هذا الطراز، تحب الفقراء من الناس.
أجل، كانت الشجرة التي في فناء فرانسي من ذلك الطراز، كانت أفنانها المتشابكة تلتف حول سلم الطوارئ في الطابق الثالث ومن فوقه ومن تحته، وثمة فتاة في سن الحادية عشرة جالسة على هذا السلم تتخيل أنها تعيش في شجرة، ذلك ما كانت تتخيله فرانسي في عصر كل سبت من أيام الصيف.
ما كان أروع يوم السبت من يوم في بروكلين! وما كان أروعه في أي مكان آخر: كان الناس يتسلمون أجورهم في يوم السبت، وكان يوما من أيام العطلة لا يتسم بما يتسم به يوم الأحد من تزمت، يجد فيه الناس جيوبهم عامرة بالمال، فيخرجون من بيوتهم ويشترون ما يريدون، ويصيبون من الطعام الجيد مرة، ويمعنون في الشراب، ويلتقون على ميعاد، ويمارسون الحب، ويقضون ساعات الليل جميعها يغنون ويعزفون الموسيقى، ويتصارعون ويرقصون، فالغد يوم عطلتهم، وفي مقدورهم أن يناموا إلى وقت متأخر؛ حتى القداس الأخير على أية حال.
وفي يوم الأحد كان معظم الناس يحتشدون في قداس الساعة الحادية عشرة، ولو أن بعضهم أو قليلا منهم، كانوا يذهبون إلى قداس الساعة السادسة في الصباح المبكر، وكانوا يثابون على ذلك، وإن لم يكونوا يستحقون هذا الثواب لأنهم ظلوا خارج بيوتهم إلى الهزيع الأخير من الليل، فعادوا إلى بيوتهم مع الصباح؛ ولذلك ذهبوا إلى هذا القداس المبكر، وانتهوا منه ثم عادوا إلى بيوتهم وناموا النهار كله بنفس راضية.
ويبدأ يوم السبت بالنسبة لفرانسي برحلة إلى بائع النفايات ، وكانت هي وأخوها نيلي - مثل باقي صبية بروكلين - يجمعان الخرق البالية والورق والمعدن والمطاط، وغير ذلك من أنواع النفايات، ويكدسانها في الصفائح المغلقة الموضوعة في بدروم الدار، أو في صناديق يخفيانها تحت الفراش، وكانت فرانسي في أيام الأسبوع جميعا تمشي على استحياء عائدة إلى بيتها من المدرسة، وعيناها مصوبتان إلى كومة القمامة تبحثان عن رقائق القصدير من صناديق السجائر أو أغلفة العلك، وكانت هذه الرقائق تذاب في غطاء إناء من الأواني؛ إذ إن بائع النفايات لم يكن يقبل كرة من الرقائق دون أن تذاب؛ لأن عددا كبيرا من الصبية كانوا يضعون في وسطها حلقات من الحديد لتصبح أثقل وزنا، وأحيانا كان يعثر نيلي على زجاجة من زجاجات ماء سلتزر،
2
فتعاونه فرانسي في استخلاص غطائها وإذابته للحصول على الرصاص، وكان بائع النفايات لا يشتري عنق الزجاجة كاملا؛ لأن ذلك كان يوقعه في مشاكل مع صناع ماء الصودا، وكان غطاء زجاجة سلتزر شيئا قيما، يساوي بعد صهره خمسة سنتات.
وفي كل مساء كانت فرانسي ونيلي يهبطان إلى «الكرار»، ويفرغان الرفوف مما كدس عليها في النهار من نفايات، وكان لهما هذا الامتياز لأن أم فرانسي كانت هي خادمة الدار، ويسلبان من الرفوف الورق والخرق البالية والزجاجات الفارغة، ولم يكن للورق قيمة كبيرة، فقد كانا يتقاضيان عن كل عشرة أرطال منه سنتا واحدا، وعن رطل الخرق البالية سنتين، ورطل الحديد أربعة سنتات، وكان النحاس معدنا له قيمته، الرطل منه بعشرة سنتات، وكانت فرانسي تعثر أحيانا على قاع مهمل من قيعان غلايات الغسيل، فتنتزعه بفتاحة العلب وتثنيه ثم تطرقه، ثم تثنيه وتطرقه مرة أخرى.
وكان الصبية بعد التاسعة من صباح السبت يبدءون مباشرة مسيرهم نحو طريق مانهاتان، وهو الطريق العام الرئيسي، بعد أن تلفظهم الشوارع الجانبية كالرذاذ ويشقون طريقهم في بطء صاعدين في الطريق إلى شارع سكولز، وقد حمل بعضهم النفايات التي جمعها بين ذراعيه، وجر البعض الآخر عربات صنعت من صناديق الصابون الخشبية، لها عجلات متينة من الخشب، ودفع القليل منهم أمامهم عربات صغيرة من عربات الأطفال محملة بالنفايات.
ووضعت فرانسي ونيلي النفايات التي جمعاها كلها في حقيبة مصنوعة من القنب (الخيش)، وأمسك كل منهما بطرف فيها، وجراها في الطريق، صاعدين شارع مانهاتان، مارين بشوارع موجير، وتن آيك، وستاج، حتى يبلغا شارع سكولز، ويا لها من أسماء جميلة لشوارع قبيحة، وكانت جموع من المساكين الصغار لابسي الأسمال تبرز من كل شارع جانبي لتنضم إلى هذا الحشد الرئيسي، وفي طريقهم إلى محل كارني، كانوا يقابلون الصبية الآخرين العائدين بأيديهم فارغة، بعد أن باعوا نفاياتهم وبعثروا ما أخذوه من بنسات، وعادوا يسيرون في خيلاء، ويهزءون بالصبية الآخرين صائحين: لمام الخرق، لمام الخرق!
واحمر وجه فرانسي حين سمعت هذا النداء، ولم يخفف عنها ما تعلمه من أن هؤلاء الساخرين هم من لمامي الخرق أيضا، أو أن أخاها سوف يعود هائما على وجهه خالي اليدين من عصبته، ويسخرون بالطريقة نفسها من الصبية الذاهبين بعدهم. أجل لقد أحست فرانسي بالعار.
وكان كارني يمارس حرفة جمع النفايات وبيعها في حظيرة آيلة للسقوط، ورأت فرانسي وهي تلف من المنعطف أن بابي الحظيرة قد فتحا على مصراعيهما لاستقبال الوافدين، وخيل إليها أن قرص الميزان يغمز لها مرحبا، ورأت كارني يتصدر الميزان بشعره المغبر، وشاربه المصوف، وعينيه المتآكلتين بالصدأ، وكان كارني يفضل البنات على الصبيان، ويعطي البنات بنسا إضافيا إذا لم تجفل حين يقرص خدها.
وخطا نيلي منتحيا ليفسح لها صدر المكان، انتظارا لما قد تناله فرانسي من منحة، وتركها تجر الحقيبة إلى داخل الحظيرة، وقفز كارني إلى الأمام وقلب الحقيبة وأفرغها على الأرض، ثم نال قرصة أولى من خدها، وبينما كان كارني يكوم النفايات على الميزان، رمشت فرانسي بجفنيها لتعود عينيها الظلام الجاثم على الحظيرة، وتنبهت إلى الجو المعتق، ونفذت إلى أنفها رائحة الخرق المبللة. وصوب كارني نظرة إليها وقال كلمتين هما القيمة التي يشتري بها البضاعة، وكانت فرانسي تعلم أن المساومة ممنوعة، فأطرقت برأسها موافقة. وركل كارني النفايات بعنف، وترك فرانسي تنتظر وهو يكوم الورق في ركن ويرمي الخرق في آخر ، ويصنف المعادن، وفي هذه اللحظة فقط وضع يديه في جيب سرواله، وجذب كيسا قديما من الجلد ربط بخيط مشمع، وعد بعض البنسات القديمة الصدئة التي تشبه النفايات أيضا، وصوب كارني إليها نظرة عفنة باهتة وهي تهمس قائلة: أشكرك.
وقرص خدها بشدة، وملكت فرانسي زمام نفسها، فابتسم كارني وأعطاها بنسا آخر، ثم تغير حاله وأصبح نشطا صاخبا.
ونادى من يليها في الصف، وكان صبيا، قائلا: تعال، أخرج الرصاص.
وضحك ضحكة في أوانها وقال: ولست أريد نفايات.
وضحك الأطفال في إذعان ورن ضحكهم كغثاء حملان صغيرة ضالة، لكن كارني كان يبدو عليه الرضا.
وخرجت فرانسي وقالت لأخيها: لقد أعطاني ستة عشر، وبنسا على القرصة.
ورد أخوها وفقا لاتفاق قديم بينهما: ذلك البنس لك.
ووضعت البنس في جيب ردائها وقدمت له باقي المبلغ، وكان نيلي في العاشرة من عمره، أصغر من فرانسي بسنة واحدة، ولكنه كان «الرجل»، فأخذ المبلغ وقسم البنسات في عناية وحرص: «ثمانية سنتات للحصالة وأربعة سنتات لك وأربعة سنتات لي»، تلك كانت القاعدة أن يودعا نصف ما يحصلان عليه من أي مصدر في علبة القصدير، التي ثبتاها بمسامير في أشد أركان الكرار ظلاما.
وعقدت فرانسي النقود المدخرة في منديل يدها، ونظرت إلى البنسات الخمسة التي تمتلكها، وقد أدركت مغتبطة أنها يمكن أن تستبدل بها قرشا كاملا.
ورفع نيلي الحقيبة المصنوعة من القنب وطواها تحت ذراعه، وشق طريقه إلى محل تشارلي الرخيص الأسعار، وقد سارت فرانسي خلفه مباشرة، وكان مخزن تشارلي الرخيص الأسعار محلا مجاورا لكارني، يبيع صنوف الحلوى ببنس لكل قطعة، وتمونه تجارة النفايات، وكانت خزانته تمتلئ في نهاية يوم السبت ببنسات علاها الصدأ، بيد أن فرانسي لم تدخل المحل ووقفت بجوار بابه، حيث إن العرف جرى على أن المحل للصبية من الذكور.
وكان الصبية ما بين الثامنة والرابعة عشرة من عمرهم، يتشابهون في شكلهم المتشرد بسراويلهم الصغيرة وقلانسهم ذوات القمم المنكسرة، ووقفوا حول المحل وأيديهم في جيوبهم وأكتافهم النحيلة محنية إلى الأمام في حدة، وإنه لمن المحتمل أن تنمو أجسامهم محتفظين بمنظرهم هذا ، واقفين على هذا النحو في غير ذلك من الأماكن التي يغشاها المتسكعون، وقد يكون الفارق الوحيد الذي يحدث هو السيجارة، التي تبدو وكأنما ثبتت إلى الأبد بين شفاههم، ترتفع وتنخفض مع نبرات أصواتهم حين يتكلمون.
ومضى الصبية حينئذ يثرثرون في عصبية، ووجوههم النحيلة تستدير من تشارلي إلى بعضهم، ثم تتجه إلى تشارلي مرة أخرى، ولاحظت فرانسي أن بعضهم قص شعره لحلول الصيف، وأن الشعر قد اجتز قصيرا، حتى إنها رأت على فروة رءوسهم حزوزا في الأمكنة التي تخللها المقص بعمق، واستطاع هؤلاء المحظوظون أن يطووا قلانسهم في جيوبهم أو يزيحوها إلى الخلف على رءوسهم. أما أولئك الذين لم يحلقوا والذين تجعد شعرهم عند مؤخرة أعناقهم في رفق لا تزال فيه سمات الطفولة، فقد أحسوا بالخزي وجذبوا قلانسهم على رءوسهم حتى بلغت آذانهم، فأكسبتهم بعض الشبه بالبنات على الرغم من حركاتهم النابية.
ولم يكن محل تشارلي الرخيص الأسعار رخيصا، كان اسما على غير مسمى ولم يكن صاحبه تشارلي، ولكنه أخذ ذلك الاسم ووضعه على لافتة المحل، وما كان لفرانسي أن تكذب اللافتة، وكان تشارلي يعطي رقما لكل صبي مقابل كل بنس، ومن خلف مائدة الصرف ثبت خمسين خطافا على لوح من الخشب، تتدلى من كل خطاف جائزة، ولم يكن من الجوائز القيمة إلا القليل، مثل قبقاب الانزلاق ذي العجل، وقفاز لعبة البيسبول، ودمية لها شعر حقيقي، وما إلى ذلك ... وحملت الخطافات الأخرى نشافات وأقلام رصاص وغيرها من الأدوات التي تباع ببنس واحد، وراقبت فرانسي نيلي وهو يشتري رقما، وينزع الورقة القذرة من الظرف المهلهل ليجدها ستة وعشرين، ونظرت فرانسي على اللوحة آملة في نيل إحدى الجوائز، ولكن نيلي سحب ممحاة تساوي بنسا.
وسأله تشارلي: أتختار جائزة أم حلوى؟ - أختار الحلوى، فما قولك؟
وكان هذا ما يحدث دائما، ولم تسمع فرانسي أبدا عن صبي ربح جائزة قيمتها أكثر من بنس واحد، وكانت قباقيب الانزلاق في الحقيقة صدئة، وشعر الدمية يغشاه التراب، وكأنما بقيت هذه الأشياء تنتظر هناك أمدا طويلا، مثلها مثل دمية الكلب الأزرق والجندي المصنوع من القصدير.
وقررت فرانسي أنها سوف تشتري في يوم ما حين تملك خمسين سنتا الأرقام جميعا، وتربح كل شيء على اللوحة، وتصورت أنها ستكون صفقة رابحة حين تحصل على قباقيب الانزلاق والقفازات والدمية والأشياء الأخرى جميعها مقابل خمسين سنتا. ترى ما الذي جعل قباقيب الانزلاق وحدها تساوي أربعة أضعاف هذه القيمة، ولسوف يحضر نيلي في هذا اليوم العظيم لأن البنات نادرا ما كن يناصرن تشارلي. والحق أن عدد البنات كان قليلا في ذلك اليوم من أيام السبت، بنات جريئات عصبيات، أكثر نضجا مما يتناسب وأعمارهن، يتكلمن بصوت عال ويلعبن مع الصبية لعبة الجياد، بنات تنبأ لهن الجيران بمستقبل لا يبشر بخير.
واخترقت فرانسي الشارع ذاهبة إلى محل جيمبي لبيع الحلوى، وكان جيمبي أعرج، لكنه كان مهذبا عطوفا على الأطفال الصغار، أو لعله كان كذلك في نظر الناس، حتى كان ذلك اليوم المشمس بعد الظهيرة، حين غرر ببنت صغيرة في حجرته الخلفية المعتمة.
وتساءلت فرانسي عما إذا كان يجدر بها أن تضحي ببنس مما معها من أجل تحفة جيمبي الخاصة، وهي الحقيبة الفائزة، وكانت مودي دونافان التي كانت ذات يوم صديقة فرانسي على وشك أن تبتاع شيئا، فشقت فرانسي طريقها إلى الداخل حتى وقفت خلف مودي، وتظاهرت بأنها تنفق البنس، وكتمت فرانسي أنفاسها حين أشارت مودي بطريقة مسرحية بعد تفكير طويل إلى حقيبة بارزة في نافذة العرض، كانت فرانسي خليقة بأن تنتقي حقيبة أصغر حجما، ونظرت من فوق كتف صديقتها، ورأتها تلتقط قليلا من قطع الحلوى القديمة، وتفحص جائزتها التي كانت منديل يد من الكتان الخشن، وحصلت فرانسي مرة على زجاجة صغيرة من عطر له رائحة نفاذة، وتساءلت مرة أخرى أيصح لها أن تنفق بنسا لتنال جائزة تفوز فيها بالحقيبة، وكان جميلا أن تفاجأ بالجائزة وإن لم تستطع أن تأكل الحلوى، لكن فرانسي رأت حين تدبرت الأمر أن المفاجأة كانت في وجودها مع مودي وهي تشتري، وكان هذا لا يكاد يقل جمالا عن مفاجأة الجائزة.
وسارت فرانسي صاعدة في شارع مانهاتان تقرأ بصوت عال أسماء الشوارع ذات الجرس الجميل، وهي تمر بها: سكولز، ميزيرول، مونتروز ثم شارع جونسون، وكان الإيطاليون يقطنون في الشارعين الأخيرين، وكانت الضاحية المسماة بمدينة اليهود تبدأ من شارع سيجل وتشمل شارع مور وشارع ماكيبن حتى شارع برودواي، واتجهت فرانسي تلقاء برودواي.
وماذا كان هناك في شارع برودواي في حي ويليمسبرج ببروكلين؟ لا شيء، اللهم إلا أجمل محل في العالم يبيع بضائعه بعشرة أو خمسة سنتات، وكان محلا كبيرا تتلألأ أنواره، وبه كل شيء في العالم، أو هكذا خيل لفتاة في الحادية عشرة من عمرها، وكانت فرانسي تمتلك عشرة سنتات، تمتلك قوة ... تستطيع أن تشتري أي شيء تقريبا في ذلك المحل، وكان هو المكان الوحيد في العالم الذي يمكن أن يحدث فيه ذلك.
ووصلت فرانسي إلى المحل، وأخذت تتجول بين أقسامه ذهابا وإيابا، تمسك بأي سلعة يهفو إليها خيالها، يا له من شعور رائع تحسه حين تلتقط شيئا ما وتمسكه بيديها لحظة، تتحسس هيكله وتجري يدها على سطحه، ثم تعيده إلى مكانه في حرص وعناية، وكانت السنتات العشرة التي معها تمنحها هذا الامتياز، فإذا ما سألها سائل إذا كانت تنوي شراء شيء فإنها تستطيع أن تقول نعم، وتشتريه مشيرة إلى شيء أو شيئين، وقررت فرانسي أن المال شيء عجيب، واستقر رأيها بعد فترة من المتعة العارمة في لمس الأشياء، على أن تشتري رقائق من النعناع قرنفلية اللون مقابل خمسة سنتات.
وعادت فرانسي إلى بيتها هابطة طريق جراهام وشارع غيتو، وبهرتها عربات اليد الممتلئة بالسلع، وكل عربة في ذاتها بمثابة محل صغير، زاخرة ... بالمساومات، واليهودي الحاد المزاج، والرائحة الغريبة التي تنبعث من المنطقة المجاورة، رائحة السمك المطهو، وخبز الجويدار الحريف حين يخرج طازجا من الفرن، ونفذت إلى أنفها رائحة تشبه رائحة العسل وهو يغلي، وحملقت فرانسي في الرجال الملتحين وعلى رءوسهم قلانس مصنوعة من صوف الباكاه، يرتدون معاطف من قماش السلكلين، وتساءلت في عجب عما جعل عيونهم ضيقة إلى هذا الحد ، تنبعث منها تلك النظرات النفاذة، ونظرت من خلال الفتحات الصغيرة في جدران المحال، وشمت رائحة أقمشة الأردية التي وضعت بغير نظام على المناضد، ولاحظت الأسرة المصنوعة من الريش تبرز خارج النوافذ، والملابس ذات الألوان الشرقية الزاهية منشورة على سلم الطوارئ، والأطفال أنصاف العرايا يلعبون في بالوعات المياه، وقد جلست على حافة الطريق على كرسي خشبي صلب امرأة تحمل في أحشائها طفلا؛ جلست في صبر تحت أشعة الشمس الدافئة، تراقب الحياة الجارية في الشارع، وترعى ما يستكن في أعماقها من سر حياتها.
وكانت الساعة الثانية عشرة حين وصلت فرانسي إلى بيتها، وأقبلت أمها بعد مجيئها مباشرة تحمل دلوها ومكنستها، وضربت بهما في الركن، تلك الضربة الأخيرة التي تعني أنها لن تمسهما مرة أخرى حتى يوم الإثنين.
وكانت أمها في التاسعة والعشرين من عمرها، سوداء الشعر، داكنة العينين، يداها سريعتا الحركة، وكانت جميلة الشكل أيضا، تعمل خادمة وتنظف ثلاثة بيوت مستأجرة، ترى هل يطرأ ببال أحد قط أن أمها تمسح الأرض لتعولهم هم الأربعة؟ كانت جميلة، خفيفة، مليئة بالحياة، تفيض بالمرح والنشاط دائما، وكانت يداها جميلتين وأظافرهما جميلة بشكلها المقوس البيضاوي بالرغم من أن يديها كانتا حمراوين مشققتين من أثر استعمال الماء الممتزج بالصودا، وكان كل شخص يقول إنه لأمر يستدر الشفقة أن امرأة خفيفة جميلة مثل كاتي نولان، تقتضيها الظروف أن تسعى لتمسح الأرض، ولكنهم كانوا يتساءلون: ماذا عسى أن تعمل ولديها ذلك الزوج الذي تعوله؟ وكانوا يعترفون أن جوني نولان رجل وسيم محبوب أفضل بكثير من أي رجل في الحي، بصرف النظر عن اختلاف نظرة الناس إليه، ولكنه كان سكيرا. ذلك ما كانوا يقولونه، وكان قولا حقا.
وتعمدت فرانسي أن تجعل أمها تشاهدها وهي تضع السنتات الثمانية في الحصالة المصنوعة من القصدير، واستمتعتا بخمس دقائق طيبة تخمنان فيها قيمة النقود التي في الحصالة، وظنت فرانسي أنه لا بد أن يكون فيها ما يقرب من مائة دولار، ولكن أمها قالت إن ثمانية دولارات ربما تكون أقرب رقم إلى الحقيقة.
وأصدرت الأم لفرانسي تعليماتها بشأن الخروج لتشتري شيئا للغداء، قائلة: خذي ثمانية سنتات من الفنجان المشدوخ، واشتري ربع رغيف من الخبز المصنوع من الجويدار وتأكدي أنه طازج، ثم خذي خمسة سنتات واذهبي إلى محل سوروين واطلبي طرف لسان، ولكن يجب أن تلحي وتلحفي لكي تحصلي عليه، ثم أضافت في تصميم وحزم: أخبريه أن أمك هي التي قالت ذلك.
وأخذت تفكر في شيء، ثم قالت: لا أدري هل يجب أن نشتري كعك السكر الصغير بخمسة سنتات، أو نودع هذا المبلغ في الحصالة؟ - أوه يا أماه! هذا يوم السبت، وإنك ظللت تقولين طوال الأسبوع إننا سنأكل الحلوى يوم السبت. - حسنا، أحضري الكعك الصغير.
وكان المخبز الصغير مليئا بالذين يشترون الخبز المصنوع من الجويدار، وشاهدت فرانسي البائع وهو يدس ربع رغيفها في كيس من الورق، وظنت أنه بلا شك أروع خبز في العالم، وهو طازج بقشرته العجيبة الفضية الهشة وقعره المغطى بالدقيق، ودخلت حانوت سوروين في إحجام وتردد، فقد كان أحيانا يبيع اللسان بثمن مناسب وأحيانا يبيعه بثمن غير مناسب؛ ذلك أن شرائح اللسان يباع الرطل منها بخمسة وسبعين سنتا، وهو ثمن لا يناسب إلا الأغنياء، ولكنك كنت تستطيع بعد أن يوشك الرجل على بيع اللسان كله، أن تشتري طرفه المربع بخمسة سنتات فحسب، لو أنك ساومته. ولم يكن يبقى بطبيعة الحال من طرف اللسان شيء اللهم إلا غضاريف صغيرة معظمها رخو، وليس به إلا أثر يسير يذكرك باللحم. وتصادف أن كان ذلك اليوم من الأيام التي يكون فيها سوروين معتدل المزاج وديعا، وقال الرجل لفرانسي: لقد نفد اللسان بالأمس، ولكني حفظته لك؛ لأني أعلم أن أمك تحب اللسان أخبري أمك بهذا.
وهمست فرانسي: نعم يا سيدي.
وأطرقت وهي تحس بالحرارة تسري في وجهها، لقد كرهت سوروين، ولم تصح نيتها على أن تنبئ أمها بما قال.
واختارت فرانسي حين وصولها إلى الخباز أربع كعكات صغيرة، وأخذت تنتقي بعناية الكعكة التي يغطيها السكر أكثر من غيرها، وقابلت نيلي خارج المخبز، واختلس نيلي نظرة إلى داخل الحقيبة ، ثم قفز من الفرح حين رأى الكعك، وبالرغم من أنه أكل في ذلك الصباح حلوى قيمتها أربعة سنتات، فإنه كان يشعر بجوع شديد، وحمل فرانسي على أن تجري الطريق كله إلى البيت.
ولم يعد أبوها إلى البيت وقت الغداء، وكان نادلا يغني بالقطعة، ومعنى ذلك أنه لم يكن يعمل في كثير من الأحيان، وكان يقضي عادة صباح يوم السبت في مكتب العمل ينتظر عملا يوكل إليه.
وحظيت فرانسي ونيلي وأمهما بأكلة شهية جدا، أخذ كل منهم شريحة سميكة من اللسان، وقطعتين من خبز الجويدار الطيب الرائحة تغطيها طبقة من الزبد غير المملح، وأصاب كل منهم كعكة من كعك السكر ثم فنجانا من القهوة الساخنة ممزوجة بملعقة من اللبن المركز المحلى بالسكر.
وكان لأسرة نولان فكرة خاصة عن القهوة، فقد كانت متعتهم الوحيدة الكبرى، تصنع الأم منها كل صباح ملء وعاء كبير، ثم تعيد تسخينه للغداء والعشاء، فتصبح القهوة أكثر تركيزا كلما انقضى اليوم، وكانت الأم تضع كمية هائلة من الماء على كمية قليلة جدا من اللبن، ولكنها كانت تضيف إليهما قطعة من الشيكوريا تجعل لها طعما مركزا مرا، وتسمح لكل فرد أن ينال ثلاثة فناجين منها مع اللبن، ويمكن في الأوقات الأخرى أن ينال المرء فنجانا إضافيا من القهوة السوداء في أي وقت يشاء. وإنك في بعض الأحيان، حين تكون خلي البال والجو ممطرا والشقة خاوية إلا منك، تشعر بالثقة إذ تعلم أنك تستطيع أن تصيب شيئا، حتى ولو لم يكن سوى فنجان من القهوة المرة السوداء.
وكان نيلي وفرانسي يحبان القهوة، ولكنهما قلما كانا يشربانها، وترك نيلي اليوم كشأنه دائما فنجان قهوته على حاله، والتهم نصيبه من اللبن المركز واضعا إياه على الخبز، ورشف من القهوة السوداء جريا على العرف، وأفرغت الأم لفرانسي قهوتها ومزجت بها اللبن، بالرغم من أنها كانت تعلم أن الطفلة سوف لا تشربها.
وكانت فرانسي تحب نكهة القهوة وسخونتها، فبينما كانت تأكل خبزها وقطعتها من اللحم، تركت يدها مثنية تلتف حول فنجان القهوة مستمتعة بدفئها ، ومن حين إلى حين تشم نكهة حلاوتها الممررة، وكانت تؤثر ذلك على احتسائها، وكان مصير القهوة بعد فراغها من طعامها إلى البالوعة.
وكان للأم أختان: هما سيسي وإيفي، تأتيان إلى الشقة في كثير من الأحيان، وكانتا في كل مرة تريان فيها القهوة تنتهي إلى هذا المصير، تعطيان الأم محاضرة في الإسراف، وشرحت الأم لهما الأمر قائلة: إن فرانسي يخصها في كل وجبة فنجان من القهوة مثل الباقين، وإذا كانت تؤثر إلقاءها في البالوعة على احتسائها، فلا ضير من ذلك، وإني أظن أنه من الخير لأناس مثلنا أن يبددوا شيئا من حين لآخر، ويستمتعوا بشعور الذين يتوافر لديهم مال وفير، ولا يشغلون أنفسهم بالتقتير.
وأرضت الأم هذه النظرة الغريبة إلى الأمور، وطابت لها نفس فرانسي؛ إذ كانت إحدى الروابط التي تجمع بين الفقراء المعدمين والأغنياء المسرفين، وشعرت الفتاة أنها كانت تملك أقل مما كان يملكه أي شخص في ويليمسبرج، فإنه كان لديها بوجه من الوجوه شيء أكثر مما لديهم جميعا؛ لقد كانت أغنى لأن لديها شيئا تستطيع أن تبدده، وأكلت كعكة الحلوى في بطء مشفقة من أن تفقد طعمها الحلو، على حين أصبحت القهوة في برودة الثلج، ثم أفرغتها في البالوعة في عظمة، وقد أحست إحساسا عارضا بالتبذير، واستعدت بعد ذلك للذهاب إلى محل لوشر، لتشتري ما تحتاج إليه الأسرة من الخبز غير الطازج، الذي يكفيهم نصف أسبوع، وأخبرتها أمها بأن تأخذ خمسة سنتات وتشتري فطيرة بائتة، إذا استطاعت أن تحصل على فطيرة لم تضرب عند عجنها ضربا شديدا.
وكان مخبز لوشر يزود بالخبز حوانيت المنطقة المجاورة، ولم يكن الخبز يلف في ورق الشمع، كما كان يفسد سريعا؛ لذا فإن لوشر كان يخفي الخبز البائت عن زبائنه ويبيعه بنصف ثمنه للفقراء، وكان الحانوت الخارجي يتبع المخبز وتشغل جانبا منه مائدة البيع المستطيلة، ويشغل الجانبين الآخرين صف من الأرائك، وثمة باب ذو مصراعين ضخم مفتوح وراء مائدة البيع، وكانت عربات المخبز تقف في مؤخرتها لصق المائدة، وتفرغ حمولتها من الخبز على هذه المائدة مباشرة، حيث كانوا يبيعون الرغيفين بخمسة سنتات، ويندفع الجمهور حينما كانت العربات تفرغ حمولتها، ومن ثم فقد كان على المائدة متزاحما يجاهد في سبيل شراء الخبز، ولم يكن الخبز يتوافر قط للجميع، على البعض أن ينتظر حتى تقبل ثلاث عربات أو أربع قبل أن يتمكنوا من شراء الخبز، وكان الزبائن يشترون الخبز بهذا السعر ويتكفلون هم بلفه، وكان معظمهم من الأطفال، وكان بعض الصبية يطوون الخبز تحت أذرعتهم، ويعودون أدراجهم إلى بيوتهم يعلنون بلا حياء للعالم كله أنهم قوم فقراء، أما ذوو الكبرياء فكانوا يلفون خبزهم في أوراق الصحف القديمة أو في أكياس الدقيق النظيفة أو القذرة، ولكن فرانسي أحضرت معها كيسا كبيرا من الورق.
ولم تحاول فرانسي أن تحصل على خبزها سريعا، وجلست على إحدى الأرائك وأخذت تراقب الناس، كان نفر من الصبية يتدافعون ويتصايحون عند مائدة البيع، وأربعة رجال مسنون ينعسون على الدكة المقابلة، وكان الرجال المسنون، وقد أصبحوا عالة على أسرهم، يكلفون بتوصيل الرسالات ورعاية الأطفال، وكان ذلك هو العمل الوحيد الذي بقي لهؤلاء الرجال الذين بلغوا من الكبر عتيا في ويليمسبرج، كانوا ينتظرون ما وسعهم الانتظار قبل أن يشتروا لأن رائحة الخبز في مخبز لوشر كانت طيبة، والشمس النافذة من الشرفات تسقط على ظهورهم الكليلة وتشعرهم بالراحة؛ لهذا جلسوا ونعسوا والساعات تمر، وأحسوا بأنهم يزجون بذلك وقت فراغهم، وقد جعل الانتظار لحياتهم هدفا إلى حين، وأوشكوا أن يشعروا بأن الناس ما فتئوا يحتاجون إلى وجودهم.
وحملقت فرانسي في أكبر الرجال سنا، وأخذت تمارس لعبتها المفضلة في تأمل أشكال الناس، وكان شعره الخفيف المتشابك رماديا قذرا كالهشيم يعف على خديه الغائرين، وأحاط لعابه الجاف بزاويتي فمه، وراح الرجل المسن يتثاءب فبدا فمه خاليا من الأسنان، وراقبته فرانسي معجبة منفعلة، وهو يغلق فمه ويجذب شفتيه إلى الداخل، حتى يصبح وكأنه بلا شفتين، ويرفع ذقنه حتى يكاد يلمس أنفه، وأخذت تدرس معطفه العتيق، وقد تدلى حشوه عند طية الحياكة من الكم المهلهل، وكانت ساقاه تستلقيان على الأرض متباعدتين في استرخاء لا حول له ولا قوة، وقد فقد «زرار» من فتحة السروال التي تحيط بها طبقة من الشحم، ورأت أن حذاءه كان متعجنا ممزقا عند الأصابع، على أن فردة من فردتي الحذاء، كانت قد خيطت بخيط من خيوط الأحذية كثير العقد، وخيطت الأخرى بقطعة من الدوبارة القذرة، ورأت إصبعين من أصابع قدميه سميكتين قذرتين لهما أظافر رمادية مجعدة، وصرحت بأفكارها قائلة بينها وبين نفسها: إنه لرجل مسن جاوز بلا ريب سبعين سنة، وولد تقريبا في الوقت الذي كان فيه إبراهام لنكولن يعيش متأهبا لرياسة الجمهورية، وما من ريب أن ويليمسبرج كانت حينئذ بلدة ريفية، ولعل الهنود كانوا لا يزالون يعيشون في فلاتبوش، كان ذلك منذ أمد بعيد.
واستمرت تحملق في قدميه وهي تهمس لنفسها: لقد كان طفلا في يوم من الأيام، ولا بد أنه كان جميلا نظيفا، تقبل أمه أصابع قدميه الصغيرة الوردية اللون، وربما كانت تمضي إلى مهده حين ترعد السماء بالليل، وتحكم الغطاء حوله، وتهمس في أذنه بألا يخاف لأنها بجانبه، ثم ترفعه إليها وتضع خدها على رأسه، وتقول إنه طفلها الجميل، ولعله كان صبيا مثل أخي، يجري داخل المنزل وخارجه ويصفق الباب، وحينما تؤنبه أمه يذهب بها التفكير إلى أنه قد يصبح رئيسا للجمهورية ذات يوم، ثم أصبح شابا قويا سعيدا تبتسم له الفتيات حين يمشي في الشارع، ويلتفتن إليه ليشاهدنه ويبادلهن الابتسام وقد يغمز بعينيه لأجملهن، وإني لأخمن أنه لا بد قد تزوج وأنجب أطفالا، كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى أروع أب في العالم؛ لأنه كان يكد في العمل ويشتري لهم اللعب في ليلة عيد الميلاد، ولكن أطفاله الآن يتقدمون في العمر أيضا مثله، وقد أنجبوا أطفالا ... بدورهم، ولم يعد أحد منهم يرغب في الرجل المسن وإنهم لينتظرون موته، ولكنه لا يريد أن يموت، بل يريد أن يبقى حيا بالرغم من تقدمه الكبير في السن، ولم يعد أمامه شيء بعد يبعث في قلبه السعادة.
وكان المكان هادئا، وشمس الصيف تنفذ إلى الداخل، محدثة شعاعات يغشاها الغبار تنحدر إلى أسفل من النافذة إلى الأرض، وأخذت ذبابة كبيرة خضراء تطن داخلة خارجة في الغبار المشمس، وكان المكان خاليا إلا من هذه الذبابة والرجال المسنين الناعسين، وقد خرج الأطفال الذين ينتظرون الخبز ليلعبوا في الخارج، وبدأت أصواتهم العالية الصاخبة كأنها تأتي من بعيد.
وفجأة قفزت فرانسي واقفة، وقلبها يدق دقا سريعا، وشعرت بالفزع وظنت بلا سبب مطلقا أن أحدا قد شد أوتار «الأكورديون» إلى آخرها ليعزف نغمة قوية، وانتابتها فكرة بأن «الأكورديون» يقترب ... ويقترب ... واستولى عليها رعب لا سبيل إلى وصفه حين تحققت أن كثيرا من الأطفال الملاح في العالم، قد ولدوا لينتهوا في يوم من الأيام إلى ما انتهى إليه هذا الرجل المسن، وخيل إليها أنها يجب أن تخرج من ذلك المكان وإلا فقد يحل بها ذلك فجأة، فتصبح امرأة عجوزا خلا فمها من الأسنان، وينظر الناس إلى قدميها في تقزز واشمئزاز، وفي تلك اللحظة انفتح مصراعا الباب المزدوج خلف مائدة البيع، معلنين عن قدوم عربة من الخبز، وأقبل رجل ووقف خلف المائدة، وبدأ سائق العربة يقذف له الخبز الذي أخذ يكومه على المائدة، واحتشد الصبية الذين سمعوا الباب وهو يفتح في الداخل، وأخذوا يتشاجرون حول فرانسي التي وصلت إلى المادة من قبل.
وصاحت فرانسي قائلة: إنني أريد خبزا.
ودفعتها فتاة كبيرة دفعة قوية، وأرادت أن تعلم من تكون، وما هو الشأن الذي تدعيه لنفسها، وقالت لها فرانسي: لا عليك، لا عليك.
وصاحت فرانسي قائلة: أريد ستة أرغفة وفطيرة لم تضرب ضربا شديدا.
ودفع لها البائع، وقد تأثر بإلحاحها، ستة أرغفة وأقل الفطائر ضربا من العائد، وأخذ منها عشرين سنتا، وشقت طريقها خارج الزحام، وسقط منها رغيف التقطته من الأرض بعد عناء، حيث إنه لم تكن هناك فسحة تتيح لأحد أن ينحني.
وجلست في الخارج على حافة الطريق تسوي الخبز والفطيرة في حقيبة الورق، ومرت امرأة تجر طفلا في عربة صغيرة، وكان الطفل يحرك قدميه في الهواء، ونظرت فرانسي، ولم تر قدمي الطفل، وإنما رأت شيئا غريبا داخل حذاء كبير مهلهل ، واستولى عليها الرعب مرة أخرى، وأطلقت ساقيها للريح طول الطريق إلى البيت.
ووجدت الشقة خالية، كانت أمها قد ارتدت ملابسها وخرجت مع الخالة سيسي لتشهد حفلة صباحية في السينما، مقابل عشرة سنتات لكل مقعد في الشرفة العليا، وحفظت فرانسي الخبز والفطيرة في المكان المخصص لهما، وطوت الحقيبة بعناية حتى يمكن استعمالها في المرة المقبلة، وذهبت إلى حجرة النوم الصغيرة الخالية النوافذ، التي كانت ترقد فيها هي ونيلي، وجلست في مهدها في الظلام تنتظر انحسار موجات الرعب التي كانت تنتابها.
ودخل نيلي بعد قليل وزحف تحت مهده وجذب قفازا مهلهلا ثم وقف، وسألته قائلة: إلى أين أنت ذاهب؟ - ذاهب لألعب الكرة في الخلاء. - هل أستطيع أن آتي معك؟ - لا.
وتبعته هابطة إلى الشارع حيث كان ينتظره ثلاثة من إخوانه، وكان أحدهم يحمل مضربا ويحمل الآخر كرة البيسبول، والثالث لا يحمل شيئا، ولكنه يرتدي السراويل الخاصة بكرة البيسبول، واستأنفوا طريقهم إلى شقة من الأرض خالية من المباني بالقرب من جرتينبونيت، ورأى نيلي فرانسي وهي تتبعهم ولم يقل شيئا، لكن أحد الصبيان لكزه قائلا: هاي! إن أختك تتبعنا!
ورد نيلي موافقا: أجل!
واستدار الصبي وصاح في فرانسي قائلا: امضي لشأنك.
وقالت فرانسي: هذا بلد حر.
وردد نيلي القول للصبي: هذا بلد حر.
ولم يعيروا فرانسي اهتماما بعد ذلك، وظلت فرانسي تتبعهم؛ إذ لم يكن لديها شيء يشغلها حتى الساعة الثانية، حينما تفتح مكتبة الحي مرة أخرى.
وكان المسير بطيئا كتبختر الجياد، يتوقف الصبية ليبحثوا عن رقائق القصدير في النفايات، ويلتقطوا أعقاب السجائر يدخرونها ويدخنونها بعيدا عن الأنظار بعد ظهر اليوم الممطر التالي، وقضوا وقتا في مشاكسة صبي يهودي كان في طريقه إلى المعبد، فاحتجزوه عن المضي في سبيله، وراحوا يتجادلون فيما يفعلون به، وانتظر الصبي وهو يبتسم في مذلة، ثم أطلقوا سراحه أخيرا بعد أن زودوه بإرشادات مفصلة عن السلوك الذي يجب عليه أن يتبعه في الأسبوع المقبل.
وأمروه قائلين: لا تظهر فتاتك في شارع ديفو.
ووعدهم قائلا: لن أفعل ذلك.
وشعر الصبية بخيبة أمل؛ فقد كانوا يتوقعون منه مقاومة أكثر من ذلك، وأخرج أحدهم قطعة طباشير من جيبه ورسم خطا متموجا على جانب الطريق، وقال له آمرا: لا تمش فوق هذا الخط.
وصمم الصبي الصغير، وقد عرف أنه ضايقهم لاستسلامه اليسير، على أن يجاوبهم، فقال لهم: ألا أستطيع حتى أن أضع قدما واحدة في البالوعة أيها الرفاق؟ وقالوا له: إنك لا تستطيع أن تبصق في البالوعة.
وتنهد الصبي متظاهرا بالتسليم: وهو كذلك.
وقال واحد من الصبية الأكبر سنا: وابتعد عن البنات من جنسنا، أتفهمني؟
ومضوا في طريقهم وتركوه يحملق خلفهم.
وهمس الصبي وهو يحرك عينيه الكبيرتين الداكنتين: وي! وي!
وكانت الفكرة التي راودت هؤلاء الصبية، وجعلتهم يحسبون أن عوده قد اشتد، فأصبح يستطيع أن يفكر في أية فتاة قد أصابته بالاضطراب، فأخذ يترنح ومضى في طريقه يردد: وي! وي!
ومشى الصبية متباطئين يختلسون النظر في خبث إلى الصبي الكبير الذي أشار إلى البنات متسائلين: هل سيفضي به الأمر إلى حديث قذر؟ ولكن قبل أن يحدث ذلك سمعت فرانسي أخاها يقول: أعرف هذا الصبي، إنه يهودي أبيض.
وكان نيلي قد سمع أباه يقول ذلك عن يهودي يعمل في إحدى الحانات كان يميل إليه، وقال الصبي الكبير: ليس هناك من يسمى باليهودي الأبيض.
وقال نيلي بأسلوبه الذي جمع بين موافقة الآخرين مع الاحتفاظ بآرائه الخاصة مما حبب فيه القلوب: حسنا! لو أن هناك من يسمى باليهودي الأبيض لكان خليقا أن يكونه.
وقال الصبي الكبير: لا يمكن أن يوجد من يسمى باليهودي الأبيض ولو من قبيل الفرض.
ورأوا قبل أن يتعمقوا أكثر من ذلك في علم اللاهوت صبيا آخر، يتجه إلى شارع أينسلي قادما من شارع هامبولت يحمل سلة في ذراعه، وكانت السلة مغطاة بقطعة نظيفة من القماش المهلهل، برزت من أحد أركانها عصا نصب عليها كالعلم الفاتر الحركة، ست فطائر مملحة من فطائر البرتزل، وأصدر الصبي الكبير من زمرة نيلي أمرا فانقض الصبية متكاتفين على بائع فطائر البرتزل، وثبت الصبي في مكانه فاغرا فمه وصاح قائلا: أماه!
وانفتحت نافذة في الطابق الثاني وصاحت منها امرأة، تمسك حول نهديها المسترخيين كيمونو
3
من نوع الكريب الذي يشبه الورق: دعوه وشأنه واتركوا هذا المكان يا أيها الملاعين.
وارتفعت يدا فرانسي لتسدا أذنيها حتى لا تقول للقسيس ساعة الاعتراف، إنها وقفت واستمعت إلى كلمة نابية.
وقال نيلي وعلى وجهه تلك الابتسامة المحببة التي ينال بها دائما رضا أمه: إننا لا نفعل شيئا أيتها السيدة.
وقالت السيدة: إنك تقامر بحياتك، فلا تفعل، لن يحدث ذلك وأنا قائمة هنا.
ثم نادت ابنها دون أن تغير لهجتها: وأنت، اصعد على السلم إلى هنا، سأعلمك كيف تحترمني وأنا مستسلمة إلى النعاس وقت القيلولة.
وصعد الصبي صاحب فطائر البرتزل، وانطلقت عصبة الصبية يجرون بأقصى سرعتهم.
وهز الصبي الكبير رأسه إلى الخلف ناحية النافذة، وقال: تلك السيدة امرأة قاسية!
ووافق الآخرون: أجل!
وقال الصبي الصغير: إن أبي رجل شديد.
وتساءل الصبي الكبير في هدوء: وماذا يهمنا من ذلك؟
واعتذر الصبي الصغير قائلا: قلت ذلك لمجرد القول.
وقال نيلي: إن أبي المسن ليس رجلا شديدا.
وضحك الصبية ومضوا يجرون بأقصى سرعتهم، ويقفون بين الفينة والفينة ليستنشقوا في عمق رائحة خور نيوتاون، الذي كان يشق طريقه الضيق جاهدا، متجاوزا في مسيره قليلا من مجموعات المباني، صاعدا إلى شارع جراند.
وقال الصبي الكبير: يا إلهي، إن مياهه نتنة!
وقال نيلي وقد بدا عليه الشعور بالرضا العميق: أجل!
وقال صبي آخر متفاخرا: أراهن أن هذه البقعة أكثر بقاع العالم نتنا! - نعم.
وهمست فرانسي قائلة «نعم» مؤيدة قولهم، بيد أنها كانت فخورا بتلك الرائحة التي عرفت عن طريقها، أنه يوجد بالقرب منهم مجرى ماء، كان بالرغم من قذارته يلتقي بنهر يصب في البحر، وكانت هذه الراحة البالغة النتن توحي إلى فرانسي بالتفكير في السفن التي تعبر البحر وفي المغامرة، فاستراحت نفسها للتفكير في هذه الرائحة.
وما إن وصل الصبية إلى قطعة الأرض التي قام فيها نشز، أشبه بالماسة الشعثاء التي وطئتها الأقدام، حتى طارت فراشة صفراء صغيرة عبر العشب ، وجرى الصبية يطاردونها بغريزة الإنسان في الاستحواذ على كل شيء يجري أو يطير أو يعوم أو يزحف، وأخذوا يطاردونها ويلقون بقلانسهم المهلهلة مستبقين قدومها، وأمسكها نيلي، ونظر إليها الصبية نظرة عابرة، وسرعان ما فقدوا اهتمامهم بها، وبدءوا يتبارون في لعبة البيسبول، يمارسونها أربعة لاعبين، وكان هذا من ابتكارهم.
وأخذوا يلعبون في عنف، يتلاعنون ويتصببون عرقا، ويقرص بعضهم بعضا، وكانوا في كل مرة يتعثرون فترة قصيرة، ويتلكئون لحظة، فيهرجون ويتباهون، وكانت هناك شائعة بأن مائة من كشافة بروكلين يسيرون في الشوارع بعد عصر أيام السبت، ليراقبوا المباريات التي تجرى في الخلاء وينتقوا اللاعبين المرموقين، ولم يكن من صبية بروكلين صبي واحد لا يؤثر اللعب في فريق بروكلين، على أن يصبح رئيسا لجمهورية الولايات المتحدة.
وشعرت فرانسي بعد حين بالتعب من مراقبة الصبية؛ لأنها كانت تدرك أنهم سوف يمضون في اللعب والعراك والتفاخر، حتى يحين موعد أوبتهم إلى البيت للغداء، وكانت الساعة قد بلغت الثانية، وآن وقت عودة أمينة المكتبة من غدائها، وعادت فرانسي تسير نحو المكتبة وقد غمرها شعور رضى بالتوقع والانتظار.
2
كانت المكتبة مكانا صغيرا عتيقا رثا، لكن فرانسي كانت تراها جميلة، وكان شعورها نحو المكتبة طيبا كشعورها حيال الكنيسة، ودفعت الباب ففتحته ودخلت، وكانت تؤثر الرائحة التي تجمع بين جلد الكتب العتيق وبين طلاء المكتبة، والختامات المزودة بالحبور، على رائحة البخور وهي تحترق في القداس الكبير.
وظنت فرانسي أن جميع كتب العالم قد حشدت في تلك المكتبة، وكانت لديها خطة تستهدف قراءة كتب العالم أجمع، وكانت تقرأ كل يوم كتابا من الكتب حسب ترتيب الحروف الأبجدية، بدون أن تتخطى الكتب ذات المادة الجافة، وتذكرت أن المؤلف الأول كان أبوت، وظلت فترة طويلة تقرأ كل يوم كتابا، ولكنها لم تتجاوز حرف الباء، ولقد قرأت بالفعل عن النحل، والجواميس، والسياحة في برمودا، والعمارة البيزنطية، وإنها لتعترف بالرغم من حماستها كلها بأن بعض كتب المؤلفين التي تندرج تحت حرف الباء كانت عسيرة الهضم، لكن فرانسي كانت قارئة نهمة تقرأ كل ما يقع بين يديها من مؤلفات تافهة أو روائع الكتب أو جداول التوقيت أو قوائم أسعار البقالة، وكان بعض ما قرأته رائعا، مثل كتب لويزا الكوت، وعزمت فرانسي على أن تقرأ جميع الكتب مرة أخرى بعدما تنتهي من المؤلفين الذين يندرجون تحت حرف الباء.
وكانت أيام السبت تختلف عن بقية الأيام، كانت تعمد فيها إلى الترفيه عن نفسها بقراءة كتاب، لا يلتزم بالترتيب الأبجدي التي تسير عليه طيلة الأسبوع، وطلبت في ذلك اليوم من أمينة المكتبة أن تنتقي لها كتابا.
وبعد أن دخلت فرانسي المكتبة وأغلقت الباب في هدوء - وهو ما يطلب منك عندما تكون في المكتبة - نظرت نظرة سريعة إلى وعاء الفخار الصغير ذي اللون البني المذهب، الذي كان قائما على طرف مكتب أمينة المكتبة، وكان بمثابة دليل لفصول السنة، يحمل في فصل الخريف قليلا من أغصان نبات سكر المر، وفي وقت عيد الميلاد يحمل عددا من نبات شرابة الراعي. وكانت فرانسي تعرف أن الربيع مقبل عندما ترى نبات البسول في الوعاء حتى ولو كان الجليد يكسو الأرض، ترى ماذا يحمل الوعاء اليوم، يوم السبت من صيف سنة 1912م؟ ورفعت فرانسي عينيها ببطء إلى الوعاء، متجاوزة عن السيقان الرفيعة الخضراء والأوراق المستديرة الصغيرة، ورأت نبات «أبو خنجر» بألوانه المختلفة: الأحمر والأصفر والمذهب والأبيض كالعاج، وشعرت بألم بين عينيها وهي تستوعب هذا المنظر الرائع، كان شيئا لا ينساه المرء طول حياته.
وفكرت بينها وبين نفسها: سيكون عندي حين أكبر وعاء بني اللون، وسيضم هذا الوعاء في شهر أغسطس الحار نبات «أبو خنجر»!
ووضعت يدها على طرف المكتب المطلي وقد أعجبها ملمسه، ونظرت إلى الصف المنظم من أقلام الرصاص التي بريت حديثا، وإلى مربع النشاف الأخضر النظيف، وإلى الوعاء الأبيض الغليظ المحتوي على معجون اللصق، وإلى حزمة الجذاذات المحكمة، وإلى الكتب المرتجعة تنتظر من يضعها مرة أخرى على الأرفف، وكان قلم الرصاص المشهود موضوعا إلى جانب النتيجة قريبا من طرف النشافة. «أجل إنني عندما أكبر ويصبح لي بيت خاص بي، فسوف لا أتخذ كراسي من المخمل الرديء، ولا ستائر من المخرمات، ولا أشجارا من المطاط، ولكن سأتخذ مكتبا مثل هذا في بهو منزلي، وأحرص على أن تكون الحوائط مطلية باللون الأبيض، ويكون لي في كل ليلة من ليالي السبت نشاف أخضر نظيف، وصف من أقلام الرصاص الصفراء اللامعة، وقد بريت دائما استعدادا للكتابة، ووعاء بني اللون مذهب يحتوي دائما على زهرة أو بعض أوراق الشجر أو التوت البري، ثم الكتب ... الكتب ... الكتب ...
واختارت كتابا لتقرأه يوم الأحد، كتابا مؤلفه يدعى براون، وتذكرت فرانسي أنها ظلت تقرأ لكتاب يحملون اسم براون شهورا، ولاحظت - حين ظنت أنها على وشك الانتهاء منهم - أن الحرف التالي يبدأ مرة أخرى باسم براون، ويلي ذلك الكتاب الذين يحملون اسم براونينج، تنهدت فرانسي وقد كانت مشوقة إلى بلوغ كتب المؤلفين، الذين يندرجون تحت حرف الكاف، فقد كان من بينها كتاب بقلم ماري كوريلي، كانت قد اختلست إليه النظر ووجدته مثيرا، ترى هل يقيض لها أن تبلغ في قراءتها مؤلفات هذه الكاتبة؟ لعل ذلك كان يقتضي منها أن تقرأ كتابين في اليوم الواحد، لعل ...
ولبثت أمام المكتب وقتا طويلا قبل أن تتنازل أمينة المكتبة وتلتفت إليها، وسألتها تلك السيدة في لهجة نكدة: ماذا تريدين؟
ودفعت فرانسي الكتاب إلى الأمام وقد فتح عن آخره، والبطاقة الصغيرة قد دفعت خارج المظروف، وقالت: أريد هذا الكتاب.
ولقد مرنت أمينات المكتبة الأطفال على أن يقدموا الكتب بهذه الطريقة، التي كانت توفر لهم مشقة فتح مئات عدة من الكتب في اليوم، واستخراج مئات عدة من البطاقات من مثل هذا العدد من المظاريف.
وأخذت أمينة المكتبة البطاقة وختمتها، ثم أسقطتها من فتحة في المكتب، ثم ختمت بطاقة فرانسي وأعادتها إليها، والتقطتها فرانسي دون أن تنصرف.
وسألتها أمينة المكتبة دون أن تكلف نفسها مجرد النظر إليها: ماذا تريدين؟ - هل لك أن تختاري كتابا لفتاة؟ - كم عمرها؟ - أحد عشر عاما.
وكانت فرانسي في كل أسبوع تسأل السؤال نفسه، وتسأل أمينة المكتبة السؤال عينه، ولم يكن أي اسم يسجل بالبطاقة يعني شيئا في نظر الأمينة، وما دامت لم تكن تنظر مطلقا إلى وجه الطفلة، فإنها لم تصل أبدا إلى معرفة الفتاة الصغيرة، التي تأخذ كتابا كل يوم، وكتابين في يوم السبت، وكانت الابتسامة خليقة بأن تعني أشياء كثيرة لفرانسي، كما كان التعليق العطوف جديرا بأن يجعلها سعيدة كل السعادة. وأحبت فرانسي المكتبة وكانت مشغوفة بأن تحب السيدة المسئولة عنها أخلص الحب، ولكن أمينة المكتبة كان فكرها مشغولا بأشياء أخرى، وكانت تكره الأطفال على أي حال.
وارتعدت فرانسي في ترقب حين وصلت السيدة إلى ما تحت المكتب، ورأت فرانسي عنوان الكتاب وهو يرتفع في يدها «لو كنت ملكا» بقلم ماكارثي، كتاب رائع! وكان كتاب الأسبوع الماضي هو بيفرلي من جروستارك، وتكرر هذا الكتاب في الأسبوعين السابقين. ولقد استعارت فرانسي كتاب مكارثي مرتين فحسب، وأوصت أمينة المكتبة بهذين الكتابين مرة بعد مرة بعد أخرى، ولعل هذين الكتابين هما الوحيدان اللذان قرأتهما أمينة المكتبة، أو أنهما كانا ضمن القائمة المختارة، أو لعلها اكتشفت أنهما يلهبان مشاعر الفتيات اللاتي في سن الحادية عشرة.
وحملت فرانسي الكتابين وضمتهما إليها، وأسرعت إلى البيت وهي تقاوم إغراء الجلوس في أول ظلة تبلغها في البناء لتبدأ القراءة.
ووصلت السيدة إلى البيت أخيرا، وبذلك حل الوقت الذي كانت تنتظره طوال الأسبوع؛ وقت الجلوس على سلم الطوارئ الخلفي، ووضعت خرقة بالية صغيرة على هذا السلم، وأحضرت الوسادة من فوق سريرها وأسندتها إلى القضبان. ومن حسن حظها أنها وجدت ثلجا في صندوق الثلج، فقطعت منه قطعة صغيرة ووضعتها في كوب به ماء، ونظمت رقائق النعناع الوردية والبيضاء التي اشترتها صباحا في وعاء صغير مشدوخ، ولكن لونه كان أزرق جميلا، ورتبت الكوب والوعاء والكتاب على عتبة النافذة، ثم تسلقت خارجة فوق سلم الطوارئ، وما إن كانت تخرج إلى هناك حتى تختفي بين فروع الشجرة، فلا يستطيع أحد أن يراها، سواء كان في الطابق العلوي أو في الطابق السفلي أو عابرا للطريق، على حين كانت تستطيع هي أن تطل بين أوراق الشجرة فترى كل شيء.
وكانت الشمس مشرقة بعد ظهيرة ذلك اليوم، وريح حارة عليلة تتهادى حاملة معها رائحة البحر، وأوراق الشجرة ترسم على غطاء الوسادة الأبيض ظلالا هائمة، ومن حسن التوفيق أنه لم يكن في الفناء أحد، وكان الصبي الذي يؤجر أبوه المخزن الكائن بالطابق الأرضي قد أخلى الفناء من قبل كالمعتاد، بعد أن لعب لعبة المقبرة التي لا يعرف لها آخر، فراح يحفر نماذج صغيرة لقبور، ويضع فيها ما أمسكه من الأساريع الحية في صناديق الكبريت الصغيرة، ويدفنها في احتفال غير رسمي، وينصب فوق آكام الأرض الصغيرة قوائم أضرحة من الحصباء، وكان يصاحب اللعبة جميعها نشيج موهوم يصدر عنه وزفرات حارة تخرج من صدره، ولكن هذا الصبي الحزين قد تغيب اليوم في زيارة عمة له في بنسونهيرست، وكان علمها بغيابه يكاد يبلغ من نفسها مبلغ حصولها على هدية في عيد ميلادها.
واستنشقت فرانسي الهواء الدافئ، وراقبت ظلال الأوراق الراقصة، وأكلت الحلوى، ورشفت بضع رشفات من الماء البارد أثناء قراءتها الكتاب.
لو كنت ملكا يا حبيبتي
آه، لو كنت ملكا ...
وكانت قصة فرانسوا فييون تزداد روعة كلما قرأتها، حتى إنها كانت تقلق أحيانا خشية أن يضيع الكتاب في المكتبة، فلا تستطيع أن تقرأه مرة أخرى، وبدأت ذات مرة تنسخ الكتاب في مفكرة ثمنها سنتان، وقد استبدت بها رغبة جارفة في أن تمتلك كتابا، وظنت أن نسخ الكتاب سوف يوفر لها ذلك، ولكن الأوراق المكتوبة بالقلم الرصاص لم تكن تشبه كتاب المكتبة، ولا تحمل رائحته، فأعرضت عن ذلك العمل، وهي تعزي نفسها بالقسم الذي أخذته على نفسها، أن تكد في عملها حينما تكبر، وتقتصد المال وتشتري كل كتاب يروقها.
وبينما هي تقرأ، ونفسها راضية عن العالم، وقد تملكتها السعادة بالقدر الذي تسعد به فتاة صغيرة في حوزتها كتاب شائق، ووعاء صغير من الحلوى، ووحيدة تماما في البيت، إذا بظلال أوراق الشجرة ترتفع وتؤذن الشمس بالمغيب، ودبت الحياة حوالي الساعة الرابعة داخل الشقق في البيوت المستأجرة بالجهة المقابلة لفناء فرانسي ، ونظرت من خلال أوراق الشجرة إلى النوافذ المفتوحة الخالية من الستائر، ورأت الأقداح تدفع ثم تعود، وقد امتلأت بالجعة المثلجة ذات الزبد، وجرى الأولاد داخلين خارجين، ذاهبين عائدين من عند الجزار والبقال والخباز، وأقبلت النساء ومعهن حزم سميكة من لحم الخنزير، وقد عادت إلى البيت حلة صاحب الدار التي يرتديها يوم الأحد، لترتد مرة أخرى يوم الإثنين إلى المرابي لتبقى عنده أسبوعا آخر، وكان حانوت لحم الخنزير يستفيد من الربح الأسبوعي، والحلة تحظى بمن يفرشها ويعلقها في وسط الكافور بعيدا، حيث لا تستطيع العثة الوصول إليها، كانت الحلة تأتي يوم الإثنين وتخرج يوم السبت، ويأخذ عنها العم تيمي عشرة سنتات فائدة، كانت هذه هي الدائرة التي تدور فيها الحلة.
ورأت فرانسي الفتيات يتأهبن للخروج مع رفاقهن، وقد وقفن أمام أحواض المطبخ بقمصانهن وتنوراتهن، إذ لم يكن هناك حمامات بأية شقة من الشقق، وكان شكل أذرعتهن مثنية على رءوسهن وهن يغسلن ما تحت الذراع جميلا كل الجمال، وكان هناك عدد كبير من الفتيات يظهرن في كثير من النوافذ وهن يغتسلن على هذا النحو، حتى إن المشهد بدا وكأنه نوع من الطقوس الصامتة المرتقبة.
وتوقفت عن القراءة حين دخل جواد فريبر وعربته الفناء المجاور لها، حيث كانت مشاهدة الجواد الجميل تكاد تبلغ في متعتها مبلغ القراءة، وكان الفناء المجاور مرصوفا بالحصباء، وفي نهايته حظيرة حسنة المنظر، ويفصل الفناء عن الشارع بوابة مزدوجة من الحديد المصقول، وفي طرف الأرض المرصوفة بالحصباء صدع من الأرض أحسن تسميده، حيث نمت شجرة ورد جميلة وصف من نبات الجرونيه الأحمر الزاهي، وكانت الحظيرة أنظف من أي بيت في الحي، والفناء أجمل فناء في ويليمسبرج.
وسمعت فرانسي صرير البوابة وهي تغلق، ورأت أول ما رأت الجواد الخصي ذا اللون البني اللامع بمعرفته وذيله الأسودين، يجر عربة صغيرة لونها أرجواني داكن، وقد كتب عليها اسم الدكتور فريبر، طبيب الأسنان، وعنوانه، في حروف مطلية باللون الذهبي، ولم تكن هذه العربة المنسقة توزع شيئا أو تحمل شيئا، وإنما تسير في بطء في الشوارع جميعها طوال اليوم كنوع من الإعلان، لقد كانت لوحة إعلان متحركة لا تستقر على حال.
وكان فرانك - وهو شاب وسيم، متورد الخدين مثل صبيان الأساطير في أغاني الأطفال - يخرج العربة كل صباح ليعود بها بعد الظهيرة، وكانت حياته ممتعة، والفتيات جميعا يغازلنه، ولم يكن له من عمل سوى أن يقود العربة متمهلا هنا وهناك، حتى يستطيع الناس أن يقرءوا ما عليها من اسم وعنوان، فإذا عن لأحد أن يركب طقم أسنان أو يخلع سنا، تذكروا العنوان المكتوب على العربة وأقبلوا على الدكتور فريبر.
وخلع فرانك معطفه على مهل، وارتدى «فوطة» من الجلد، على حين راح الجواد بوب ينقل قدما بعد قدم في صبر وأناة، ثم حل فرانك سرجه، ومسح جلده بإسفنجة كبيرة صفراء مبللة استمتع بها الجواد، ووقف هناك وأشعة الشمس تضفي عليه ألوانا مختلفة، وتنطلق من حوافره أحيانا شرارة تنبعث من الحجارة، حين يضرب الأرض بحوافره، وصب فرانك الماء على ظهره الداكن اللون، وأخذ يمسحه وهو يكلم الجواد الكبير طول الوقت: رويدك الآن يا بوب، كن ولدا طيبا، انهض، عد إلى الخلف هناك، مرحى مرحى!
ولم يكن بوب هو الجواد الوحيد في حياة فرانسي، فقد كان العم ويلي فليتمان زوج خالتها إيفي يقود جوادا أيضا، وكان جواده يدعى درامر ويجر عربة لبن، ولم يكن ويلي ودرامر صديقين على نحو ما كان عليه فرانك وجواده، كان كل من ويلي ودرامر يتربص بصاحبه الدوائر مفكرا في وسيلة لإيذائه، ويسب العم ويلي درامر كل ساعة، وحينما تسمعه يتكلم يخيل إليك أن الجواد لم ينم طول ليله، وإنما وقف متيقظا في حظيرة شركة اللبن، يفكر في وسائل جديدة يعذب بها صاحبه.
وأولعت فرانسي بأن تلعب لعبة تتخيل فيها أن الناس يشبهون حيواناتهم المدللة والعكس، وكانت كلاب البودل الصغيرة من الحيوانات المدللة المفضلة في بروكلين، والغالب أن المرأة التي تمتلك كلبا من هذه الكلاب تكون صغيرة الحجم، ربلة، بيضاء قذرة الملابس، لها عينان نجلاوان كعيني الكلب سواء بسواء، وكانت الآنسة تنمور العانس العجوز التي كانت تلقن الأم دروس الموسيقى، والتي كانت نحيلة القوام مشرقة تغرد كعصفور الكناريا تماما، الذي كان قفصه معلقا في المطبخ، وإذا جاز أن ينقلب فرانك جوادا فإنه خليق بأن يشبه بوب، ولم تكن فرانسي قد رأت أبدا جواد العم ويلي، ولكنها كانت تعلم ماذا كان شكله. إن درامر مثل ويلي خليق بأن يكون صغير الحجم، نحيلا، داكن اللون، له عينان قلقتان يغلب عليهما البياض، وخليق أيضا بأن يكون صخابا مثل زوج الخالة إيفي. وتركت فرانسي لفكرها العنان يشرد بعيدا عن العم فليتمان.
وكان في الشارع شرذمة من الصبية الصغار، تعلقوا بالبوابة الحديدية، يرقبون الجواد الوحيد في الحي، وقد راح صاحبه يغسله، ولم تكن فرانسي تستطيع أن تراهم، ولكنها تسمع أصواتهم وهم يتكلمون، وكانوا يقصون حكايات مختلفة مخيفة عن هذا الحيوان اللطيف.
وقال صبي: إنه يبدو هادئا سهل القياد، ولكن ذلك ليس سوى خديعة، إنه يتحين الفرصة حين يكون فرانك غافلا عنه فيعضه ويرفسه حتى يقضي عليه.
وقال آخر: نعم، لقد رأيته بالأمس يدوس طفلا صغيرا.
وقال صبي ثالث كأنما ألهم القول: رأيته يقف على قائمته ويتبول على امرأة عجوز، تجلس بجوار البالوعة تبيع تفاحا.
وأضاف قائلا كأنما واتته الفكرة بعد: وفوق التفاح جميعا أيضا. - إنهم يضعون المئمتين على عينيه لكي يرى مدى صغر الناس، ولو أنه رأى مدى صغرهم لقتلهم جميعا. - أتجعله هاتان المئمتان يظن أن الناس صغار؟ - أجل صغار كالأشياء الحقيرة. - وي!
وكان كل صبي يعلم أنه يكذب، إلا أنه صدق ما كان يقوله الصبية الآخرون عن الجواد، وأخيرا، وبعد أن مل الصبية مراقبتهم لبوب اللطيف وهو واقف هناك، التقط أحدهم حجرا وألقاه على الجواد، وتغضن جلد بوب في موضع إصابته بالحجر، وانتفض الصبية متوقعين أن يجن جنونه، فيحمل عليهم كالفارس المغوار، ورفع فرانك بصره إليهم وقال لهم بصوت لطيف، عرف عن أهل بروكلين: خليق بكم ألا تمضوا في هذا الصنيع، إن الجواد لم يصبكم بشيء.
وصاح أحد الصبية ساخطا: طبعا لا نريد أن نمسه بسوء.
وأجاب فرانك: كلا لا تريدون.
وجاءت الضربة القاضية التي لا مناص منها، حين قال أصغر الصبية: اذهب أنت، تبا لك ...
وقال فرانك وما زال محتفظا بهدوئه ووداعته، وهو يلقي على كفل الجواد بعض الماء المصبوب: ألا تريدون أن تنفضوا؟ انفضوا وإلا حطمت حمارين منكم. - لقد عرفناك، ومن يكون الآخر؟ - لأرينكم من يكون الآخر!
وانحنى فرانك فجأة والتقط حجرا منفصلا من الحصباء ولفه، كأنما يهم بأن يقذف به، وتراجع الصبية وهم يصيحون صيحات من يقرع الحجة بالحجة: أظن أن هذا بلد حر. - أنت لا تملك هذه الشوارع. - سأذهب وأبلغ عمي بالأمر، عليك اللعنة.
وقال فرانك مستخفا: لقد حلت بكم الهزيمة الآن.
وأعاد الحجر إلى مكانه بعناية.
وانسحب الصبية الكبار وقد ملوا اللعبة، ولكن الصبية الصغار تسللوا عائدين، ليروا فرانك وهو يطعم بوب الشوفان.
وانتهى فرانك من غسل الجواد ووقفه تحت الشجرة ليكون رأسه في الظل، وعلق في رقبته حقيبة ممتلئة بالعليق، ثم ذهب ليغسل العربة وهو يصفر منشدا: «دعيني أناديك يا حبيبتي»، وكأنما كان نداه هذا يحمل إشارة استجابت لها فلوسي جاديس، التي كانت تقيم أسفل أسرة نولان، فأخرجت رأسها من النافذة وقالت بمرح: أهلا يا من هناك.
وعرف فرانك من التي تنادي، فانتظر وقتا طويلا ثم أجاب: «أهلا!» دون أن يرفع بصره إليها، وسار إلى الجانب الآخر من العربة، حيث لا تراه فلوسي، ولكن صوتها الملح أردف قائلا: هل انتهيت من عملك؟ - نعم، سأنتهي حالا. - أظن أنك ستخرج للرياضة لأن الليلة ليلة السبت.
ولم يحر فرانك جوابا. - لا تقل لي إن شابا وسيما مثلك ليست له فتاة.
وسكت فرانك عن الجواب. - إنهم يقيمون مباراة الليلة في نادي شامروك.
ولم يبد على فرانك الاهتمام وهو يقول: إيه؟ - إيه، لقد حصلت على تذكرة لرجل وامرأة. - متأسف، فأنا مشغول طول الوقت. - أتبقى في البيت لتؤنس أمك العجوز؟ - ربما. - وي، فلتذهب إلى الجحيم!
وصفقت النافذة، وتنفس فرانك الصعداء، لقد تخلص منها.
3
وعاد الأب إلى البيت في الساعة الخامسة، وما إن حل هذا الوقت حتى كان الجواد والعربة قد أوصد فريبر دونهما باب الحظيرة، وكانت فرانسي قد فرغت من كتابها وحلواها، ولاحظت كيف بدت شمس الأصيل شاحبة على عوارض السور البالية، ورفعت الوسادة التي بثت فيها الشمس الدفء ورطبتها الريح، إلى خدها لحظة قبل أن تعيدها إلى مكانها في مهدها، ودخل الأب يغني أنشودته التي يفضلها «مولي مالون»، وكان يغنيها دائما وهو يصعد السلم، حتى يعرف الجميع أنه عاد إلى البيت:
الفتيات في دبلن؛
المدينة الجميلة؛
فائقات الحسن،
وهنالك لقيت لأول مرة ...
وفتحت فرانسي الباب وهي تبتسم في سعادة، قبل أن يغني البيت التالي، وسألها قائلا: أين أمك؟
كان دائما يسأل هذا السؤال حين يصل إلى البيت. - ذهبت إلى المسرح مع سيسي.
وصاح في خيبة أمل: أوه!
كان يشعر دائما بخيبة أمل إذ لم يجد كاتي. - سأعمل عند أسرة كلومر هذا المساء، وإنهم سيقيمون حفل عرس كبيرا!
ومسح قبعته بكم معطفه قبل أن يعلقها.
وسألته فرانسي: أتخدم أم تغني؟ - الاثنين معا، هل عندك يا فرانسي فوطة نظيفة من فوط الخدم؟ - هناك فوطة نظيفة لكنها غير مكوية، سأكويها لك.
ونصبت فرانسي منضدة الكي على كرسيين ووضعت المكواة على النار، وأحضرت قطعة مربعة من القماش السميك المنقوش الذي يشبه الخيش، محلاة بأربطة من أشرطة الكتان ورشتها بالماء، وبينما كانت المكواة تحمى على النار، سخنت فرانسي القهوة وقدمت له فنجانا، وشرب الأب القهوة وأكل كعكة السكر التي ادخروها له، وكان سعيدا كل السعادة لأنه سيقوم بعمل هذا المساء؛ ولأن اليوم كان يوما طيبا.
وقال: إن يوما مثل هذا اليوم يشبه هدية يهديها لك صديق. - أجل يا أبي. - أليست القهوة الساخنة شيئا رائعا! ترى كيف كان يعيش الناس قبل أن تكتشف؟ - إنني أحب رائحتها. - من أين اشتريت هذا الكعك؟ - من محل وينكلر، لماذا؟ - إنهم يجيدون صنعه يوما بعد يوم. - هناك قطعة باقية من خبز الشوفان. - حسنا!
وأخذ قطعة الخبز وقلبها بين يديه، وكان طابع الاتحاد ملصقا على هذه القطعة. - إنه خبز طيب، لقد أجاد خبازو الاتحاد صنعه!
ونزع الورقة الملصقة ، وخطرت له فكرة فهتف قائلا : أين علامة الاتحاد التجارية التي على فوطتي! - إنها هنا مخيطة في طية الفوطة، سأكويها.
وصاح: هذه العلامة تشبه الحلية، بل تشبه الوردة التي تثبتينها في ثوبك، انظري إلى أزرار الاتحاد التي يلبسها الخدم (وكان «الزراران» الأخضر الباهت والأبيض مثبتين على طية الفوطة، فنظفهما بكمه). - قبل أن ألتحق بالاتحاد كان رؤسائي يدفعون لي ما يرونه مناسبا، وفي بعض الأحيان كانوا لا يدفعون لي شيئا، وكانوا يقولون إن النفحات «البقشيش» ستعوضني، بل إن بعض المحال كانت تستخدمني وتعد ذلك فضلا، ويقولون إن النفحات كانت عندهم كثيرة، حتى إن في استطاعتهم أن يتقاضوا ثمنا للخدمة عندهم، ثم التحقت بالاتحاد، إن الاتحاد يدبر لي أعمالا حيث يقتضي الأمر، أن يدفع رئيس العمال لي بعض الأجور، بصرف النظر عن النفحات التي آخذها، يجب أن تدخل جميع الأعمال تحت لواء الاتحاد. - صدقت يا أبي.
وكانت فرانسي حينذاك قاربت أن تنتهي من الكي، وكانت تحب أن تسمعه وهو يتكلم.
وفكرت فرانسي في مركز إدارة الاتحاد، لقد ذهبت إلى هناك مرة، لتحضر له فوطة وأجر المواصلات ليذهب إلى عمل، ورأته جالسا مع بعض الرجال، يرتدي لباس السهرة الذي لا يخلعه، إذ إن هذه هي الحلة الوحيدة التي يمتلكها، وكانت قبعته السوداء لها قنزعة مطرزة بتأنق، وكان يدخن سيجارا، ورفع قبعته وقذف بسيجاره بعيدا، حين رأى فرانسي تدخل، وقال في فخر: هذه ابنتي.
ونظر الخدم إلى الطفلة النحيلة في ردائها المهلهل ثم تبادلوا النظرات، كانوا يختلفون عن جوني نولان، فقد كانت لهم أعمال منتظمة أثناء الأسبوع، وينالون أجورا إضافية نظير أعمال يؤدونها ليلة السبت، ولم يكن لجوني عمل منتظم، كان يعمل كل ليلة في أماكن مختلفة.
وقال: أريد أن أقول لكم أيها الرفاق إن لي طفلين جميلين في البيت وزوجة جميلة، وأريد أن أقول لكم إنني لست كفئا لهم.
وقال له صديق وهو يربت كتفه: هون عليك.
واسترقت فرانسي السمع لحديث رجلين بالخارج يتكلمان عن أبيها، قال الرجل القصير: أريدك أن تسمع هذا الرفيق وهو يتكلم عن زوجته وطفليه ، إنه حديث ممتع، ويا له من رجل مسل، يحمل أجوره إلى بيته ويعطيها لزوجته، لكنه يحتفظ بالنفحات لسكره ومتعته، لقد عقد اتفاقا مضحكا مع حانة ماكجريتي، فهو يعطي صاحبها كل ما يناله من نفحات فيزوده ماكجريتي بالشراب، إنه لا يعرف أهو مدين لماكجريتي، أم أن ماكجريتي مدين له، وبرغم ذلك فهذه الطريقة لا بد أن تفيده كثيرا، إنه يحمل عبئا دائما.
ومضى الرجلان بعيدا.
وشعرت فرانسي بألم يحز في قلبها، ولكنها حين رأت كيف يحب الرجال أباها هنا وهناك، وكيف يبتسمون ويضحكون لما يقول، وكيف ينصتون له في شغف، أحست أن حدة الألم تخف، كان هذان الرجلان يشذان عن هذه القاعدة، كانت تعلم أن الجميع يحبون أباها.
أجل، إن الجميع يحبون جوني نولان، كان مغنيا ندي الصوت يغني أغنيات ندية، والناس جميعا منذ بدء الخليقة، وخاصة الأيرلنديين، يحبون أن يروا المغني بينهم ويسعون إلى ذلك، كما كان إخوته الخدم يحبونه حقا، والرجال الذين يعمل من أجلهم يحبونه أيضا، كما كانت تحبه زوجته وطفلاه، وكان لا يزال شابا مرحا وسيما، ولم تكن زوجته قد انقلبت عليه، ولم يكن طفلاه يحسان أنهما أهل لأن يخجلا منه.
وانتزعت فرانسي أفكارها بعيدا عن ذلك اليوم الذي زارت فيه مركز إدارة الاتحاد، وأنصتت إلى أبيها ثانية، وكان أبوها قد سرح مع ذكرياته، وقال وهو يشعل في هدوء سيجارا من فئة خمسة سنتات: أنا لا في العير ولا في النفير، أخذني قومي الأيرلنديون من أيرلندا في السنة التي قل فيها محصول البطاطس، وقال أحدهم، وكان يدير شركة للبواخر، إنه سوف يأخذ أبي إلى أمريكا حيث ينتظره عمل هناك، ثم قال إنه سيأخذ أجر ركوب السفينة من الأجور التي سوف يحصلها، وهكذا جاء أبي وأمي إلى أمريكا. «وكان شأن أبي كشأني؛ لا يستمر قط في عمل واحد.» وأخذ يدخن في صمت لحظة.
وكانت فرانسي تكوي في هدوء وهي تعلم أنه كان يفكر بصوت عال، ولم يكن يتوقع منها أن تفهمه، لكنه كان يريد أن يستمع إليه أحد ، وكان يكرر تقريبا الأشياء نفسها التي يقولها كل يوم من أيام السبت، أما بقية أيام الأسبوع حين يكون ثملا فإنه يدخل ويخرج ولا يتكلم إلا قليلا، ولكن اليوم كان يوم السبت، يومه الذي يتكلم فيه. - ولم يكن قومي يعرفون القراءة أو الكتابة، ووصلت أنا نفسي إلى الصف السادس في المدرسة فقط، وكان علي أن أترك المدرسة حين مات الرجل المسن، أما أنتما أيها الطفلان فإنكما محظوظان؛ لأنني أسعى لكي تواصلا دراستكما في المدرسة. - أجل يا أبي. - كنت صبيا في الثانية عشرة من عمري حينئذ، وأخذت أغني في الحانات للسكارى وهم يلقون إلي بالبنسات، ثم بدأت أعمل في الحانات والمطاعم، أقف في خدمة الناس.
وصمت لحظة وهو يغيب في أفكاره. - كنت أريد دائما أن أصبح مغنيا حقا من ذلك النوع الذي يظهر على المسرح ويرتدي ملابس كاملة، ولكني لم أكن تلقيت تعليما، ولم أكن أعرف كيف أهتدي إلى أول السلم الذي يقودني إلى الغناء على المسرح، وقالت لي أمي: حافظ على عملك، فأنت لا تعلم مبلغ توفيقك إذا توافر لك عمل. وهكذا جرفني التيار إلى العمل نادلا يغني، وهو عمل غير ثابت، وكنت خليقا بأن أحصل على إيراد أكبر لو أنني كنت نادلا فحسب.
واختتم كلامه فجأة بدون تسلسل منطقي قائلا: هذا هو السبب الذي يدفعني إلى الشراب.
ورفعت فرانسي بصرها إليه كأنما تسأله سؤالا، لكنها لم تقل شيئا. - إنني أشرب الخمر لأنني مضياع للفرص، وأنا أعلم ذلك، فإنني لا أستطيع أن أصل إلى القمة فيما أعمل، كل ما علي هو أن أصب الجعة، وأغني حين أريد أن أغني فحسب، وإني لأشرب الخمر لأن علي تبعات لا أستطيع الوفاء بها.
وسكت لحظة أخرى طويلة، ثم قال هامسا:
أنا لست رجلا سعيدا، لي زوجة وطفلان، ولم يحدث أنني كنت رجلا يجهد نفسه في العمل، لم يكن بودي أبدا أن أكون رب أسرة.
وشعرت فرانسي بالألم يحز في قلبها مرة أخرى، ترى هل كان أبوها لا يريدها، لا هي ولا نيلي؟ - لم يريد رجل مثلي أن تكون له أسرة؟ ولكنني أحببت كاتي روملي، أوه إنني لا ألوم أمك.
ثم أردف سريعا: لو لم أتزوجها لتزوجت هيلدي أودير، وأنت تعلمين أن أمك لا تزال تغار منها، ولكني حين قابلت كاتي قلت لهيلدي: فليذهب كل منا في طريقه، وهكذا تزوجت أمك وأنجبنا الطفلين، وإن أمك يا فرانسي امرأة طيبة، لا تنسي ذلك أبدا.
وكانت فرانسي تعلم أن أمها امرأة طيبة، كانت تعلم ذلك، وأبوها يقول ذلك، فما بالها إذن تحب أباها أكثر من أمها؟ لماذا تحبه أكثر؟ إن أباها ليس صالحا، وقد اعترف بذلك، ولكنها كانت تحب أباها أكثر من أمها. - نعم، إن أمك تشقى في العمل، وأنا أحب زوجتي وأحب طفلي.
وشعرت فرانسي بالسعادة مرة أخرى. - ولكن ألا يجدر بالرجل أن تكون له حياة أفضل؟ قد يحدث في يوم ما أن تتولى الاتحادات تدبير العمل للرجل، وتعطيه وقتا لمتعته أيضا، ولكن ذلك لن يكون في أيام حياتي، فالمرء الآن بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يعمل جاهدا كل وقته، وإما أن يصبح من المتعطلين، وحين أموت لن يذكرني أحد طويلا، ولن يقول أحد: «كان رجلا يحب أسرته ويؤمن بالاتحاد.» كل ما سوف يقولونه: «وا أسفاه! لم يكن إلا سكيرا من أي زاوية نظرت إليه، أجل إنهم خليقون بأن يقولوا ذلك.»
وكانت الحجرة هادئة كل الهدوء، وألقى جوني نولان لفافة التبغ التي احترقت حتى نصفها من النافذة العارية من الستائر بحركة تنم عن المرارة والحسرة، وكان قد أحس بنذير ينذره بأنه يستنفد حياته بسرعة بالغة، وأنها تتسرب من بين يديه كذرات الرمال، ونظر إلى الفتاة الصغيرة وهي تكوي في هدوء بالغ ورأسها محني على المائدة، فأثر في نفسه ما رآه من حزن رقيق يرتسم على وجه الطفلة النحيل، ومضى إليها ووضع ذراعا حول كتفيها النحيلتين وقال: «أنصتي! لو أنني حصلت على قدر كبير من النفحات هذه الليلة، فسوف أراهن بالنقود على جواد طيب، أعلم أنه سيجري يوم الإثنين، سوف أراهن عليه بدولارين وأكسب عشرة ، ثم أراهن بالعشرة على جواد آخر أعرفه وأكسب مائة، ولو أنني قدحت ذهني وواتاني بعض الحظ فسوف أزيدها إلى خمسمائة دولار.»
وكان يعلم بينه وبين نفسه أنها أحلام اليقظة، حتى حين كان يسبح بخياله فيما سوف يربحه، ولكنه فكر كم يكون رائعا لو تحقق كل شيء يهجس به المرء! ومضى في حديثه: أتعلمين إذن ما الذي نويت أن أفعله أيتها المغنية الأولى؟
وابتسمت فرانسي في سعادة، وسرها أن يناديها بالاسم المستعار الذي كان قد أطلقه عليها وهي طفلة؛ لأنه أقسم حينئذ إن بكاءها كان متنوع الألوان منغوما، كأنما هي مغنية من مغنيات الأوبرا. - لا، ما الذي نويت أن تفعل؟ - سآخذك في رحلة، أنت وأنا فقط أيتها المغنية الأولى، سنهبط نحو الجنوب حيث يتفتح نوار القطن.
وأطربته الجملة فقالها ثانية: سنهبط نحو الجنوب حيث يتفتح نوار القطن.
ثم تذكر أن الجملة شطر بيت من أغنية يعرفها، فوضع يديه في جيوبه وصفر، وبدأ يقلد بات روني في رقصات الفالس التي عرف بها، ثم مضى يغني:
حقل مشرق باللون الأبيض في نصوع الثلج،
أسمع فيه الزنوج يغنون بصوت عذب خفيض.
إني لمشوق أن أمثل هناك حيث ألاقي من ينتظرني، في منبسط يزهر فيه نوار القطن.
وقبلت فرانسي خده في رفق وهمست: أبتاه! إنني أحبك حبا شديدا.
وضمها إليه بقوة، وأحس مرة أخرى بشيء يحز في قلبه، وراح يردد مرة أخرى في ألم مبرح لا يكاد يحتمل! «رباه! رباه! ما أشقاني من أب!»، ولكنه حين عاود الحديث معها تكلم في هدوء، وقال: ألم تفرغي من كي الفوطة بعد هذا كله؟ - «لقد انتهيت من كيها يا أبي.» وطوتها في عناية أربعا. - هل في البيت أي مال يا طفلتي؟
ونظرت في الفنجان المشدوخ القائم على الرف، وقالت: توجد قطعة من فئة البنسات الخمسة وبعض الفكة. - هل لك أن تأخذي سبعة سنتات وتذهبي لتشتري لي صدرية وبنيقة من الورق؟
وذهبت فرانسي إلى مخزن المنسوجات لتشتري لأبيها صدرية ليلة السبت، وكانت الصدرية قميصا أماميا صنع من «الموسلين» المنشى الصلد، تربط حول الرقبة بزرار للعنق، ويثبتها الرداء في مكانها، وكانت تلبس بدلا من القميص، مرة واحدة ثم تنبذ، ولم تكن بنيقة الورق قد صنعت حقا من الورق، وإنما سميت على هذا النحو ليفرقوا بينها وبين بنيقة السليلوز التي كان يلبسها الرجال الفقراء؛ لأنها كانت تنظف بسهولة بمسحها بخرقة مبللة، وكانت بنيقة الورق تصنع من قماش القمبري الرفيع بعد أن ينشى، حتى يصبح صلدا وحتى تستعمل البنيقة مرة واحدة فحسب.
وحينما عادت فرانسي وجدت أباها حلق ذقنه وبلل شعره، ولمع حذاءه، وارتدى قميصا داخليا نظيفا لم يكن مكويا وبه ثقب كبير من الخلف، ولكن رائحته كانت طيبة، تدل على نظافته، ووقف على أحد المقاعد وأخذ صندوقا صغيرا من أعلى رف في الصوان، وكان يحتوي على أزرار القميص اللؤلئية التي أعطتها له كاتي هدية بمناسبة عيد زواجهما، وقد كلفتها مرتب شهر كامل، وكان جوني جد فخور بها، ولم تكن هذه الأزرار ترهن أبدا مهما تأثرت حال أسرة نولان.
وساعدته فرانسي على تثبيت الأزرار في الصدر، وربط طرف البنيقة بزرار مذهب، وهو هدية هيلدي أودير التي أعطتها له قبل أن يخطب كاتي، وإنه لا يتخلى عن تلك الهدية أيضا، وكانت ربطة عنقه قطعة من الحرير الأسود الثقيل، كان يربطها بمهارة فائقة، وكان الندل الآخرون يلبسون ربطة العنق الجاهزة التي تثبت بالمطاط، ولكن جوني نولان لم يكن ليفعل ذلك، وكان الندل الآخرون أيضا يلبسون قمصانا غير ناصعة البياض، أو قمصانا بيضاء كويت بغير عناية، ويرتدون بنيقات مقواة بالباغة، ولكن ليس هذا شأن جوني نولان، كانت ملابسه نظيفة ناصعة حتى ولو كانت تلبس إلى حين ثم تنبذ.
وأخيرا فرغ من ارتداء ملابسه، وكان شعره المتموج الأشقر يلمع وتنبعث منه رائحة عطرة من أثر الاغتسال والحلاقة، وارتدى معطفه وزرره في تأنق، وكانت قلبة بذلة السهرة المصنوعة من الساتان بالية، ولكن من ذا الذي ينظر إليها والحلة تناسبه كل المناسبة، وكذلك ثنية السروال منتظمة كل الانتظام، ونظرت فرانسي إلى حذائه الأسود الذي لمع بعناية، ولاحظت كيف يتدلى السروال الذي لا ينتهي بثنية من الخلف على الكعب، وكيف يصنع كسرة جميلة على رسغ القدم، وهيهات أن تتدلى سراويل غيره من الآباء على هذا النحو، كانت فرانسي فخورا بأبيها، ولفت بعناية فوطته المكوية بقطعة من الورق النظيف ادخرتها لهذا الغرض.
وسارت معه حتى عربة التروللي، وكانت النساء يبتسمن حين يلاحظن البنت الصغيرة التي تتعلق بيده، وبدا جوني كفتى أيرلندي وسيم لا يحمل مثقال ذرة من الهم كزوج لامرأة عادية وأب لطفلين جائعين على الدوام.
ومرا بمحل جابريل للأدوات المعدنية وتوقفا لينظرا إلى قباقيب الانزلاق في النافذة، إن أمها لا تجد وقتا لمثل هذا الترف، وتكلم أبوها كما لو كان خليقا بأن يشتري لها زوجا في يوم من الأيام، وسارا إلى المنعطف، وعندما أقبل التروللي الذي يصل إلى شارع جراهام، قفز جوني إلى داخل التروللي الذي كان يبطئ في سيره، وحينما سارت العربة مرة أخرى وقف في ممر العربة الخلفي ممسكا بالقضيب، على حين مال بجسمه إلى الخارج ولوح بيده لفرانسي، ودار بخلدها أنه ما من رجل مثل أبيها في ظرفه وأناقته.
4
وبعد أن ودعت فرانسي أباها، ذهبت لترى أي نوع من الحلل أعدتها فلوس جاديس للرقص في ذلك المساء.
وكانت فلوس تعول أمها وأخاها باشتغالها قلابة قفازات في مصنع لقفازات الأطفال، وكانت القفازات في هذا المصنع تحاك مقلوبة، وعليها هي أن تردها إلى وضعها الصحيح، وكثيرا ما كانت تعود بشغلها إلى البيت لتنجزه ليلا؛ لأن أسرتها كانت تحتاج إلى كل سنت تحصل هي عليه، فقد كان أخوها لا يستطيع العمل؛ لأنه مريض بالسل.
وكانت فرانسي قد علمت أن هني جاديس موشك على الموت، لكنها لم تصدق ذلك؛ لأن الموت لم يكن باديا عليه، فقد كان مظهره رائعا حقا، له بشرة صافية، وخدان جميلان مشربان بالحمرة، وعينان واسعتان داكنتان، ينبعث منهما شعاع دائم كأنه شعلة مصباح مكنون بعيد عن الريح، ولكنه كان يعلم مصيره، وكان قد بلغ التاسعة عشرة من عمره، يقبل على الحياة ويشتهيها، ولم يستطع أن يفهم لم كتب عليه هذا المصير، وسعدت السيدة جاديس حين رأت فرانسي، وكانت تعلم أن هني ينشغل عن أفكاره في وجود الآخرين، وصاحت في مرح: «هني، إن فرانسي هنا.» - أهلا فرانسي. - أهلا هني. - ألا ترين يا فرانسي أن هني يبدو في صحة جيدة، قولي له إنه يبدو في صحة جيدة. - إنك تبدو في صحة جيدة يا هني.
وقال هني كأنما يخاطب شخصا لا تراه العين: إنها تقول لرجل يحتضر إنه يبدو في صحة جيدة. - أنا أعني ما أقول. - لا، إنك لا تعنين ما تقولين، وإنما تقولين بلسانك فحسب. - كيف تقول ذلك يا هني؟ انظر إلي، ألا تراني مع شدة نحول جسمي لا أفكر في الموت أبدا. - لن تموتي يا فرانسي، إنك ولدت لتنتصري على هذه الحياة الفاسدة. - ومع ذلك كله لا أزال أتمنى أن يكون لي خدان متوردان جميلان مثلك. - لا، أنت لا تتمنين ذلك، وخاصة إذا علمت سر توردهما.
وقالت أمه: هني، عليك أن تطيل الجلوس على السطح.
وخاطب هني ذلك الشخص الوهمي الذي لا تراه العين: إنها تقول لرجل يحتضر إنه يجب عليه أن يجلس على السطح! - إن ما تحتاج إليه هو الهواء النقي وأشعة الشمس. - دعيني وشأني يا أماه. - إن ما أقوله في مصلحتك. - أماه، أماه، دعيني وشأني دعيني وشأني.
ثم مال برأسه فجأة متكئا على ذراعيه، وراح ينتزع من أعماقه في ألم مبرح نشيجا يختلط بالسعال، وتبادلت فرانسي وأمه النظرات، ووافقتا في صمت على أن يدعاه وشأنه، وتركتاه يسعل وينتحب في المطبخ، وذهبتا إلى الحجرة الأمامية لتطلع المرأة فرانسي على الأثواب.
وكانت فلوس تقوم بثلاثة أعمال كل أسبوع، عمل تؤديه في مصنع القفازات، وعمل تقوم به في حياكة أثوابها، وعمل تعمله في سبيل الفوز بفرانك، وكانت تذهب إلى حفلة تنكرية في كل ليلة من ليالي السبت، وهي تلبس ثوبا مختلفا كل مرة، وكانت الأثواب تصمم بطريقة خاصة لتخفي ذراعها اليمنى المشوهة، فقد سقطت إبان طفولتها في غلاية للغسيل بها ماء حارق، تركت في إهمال على أرض المطبخ ، واحترقت ذراعها اليمنى احتراقا بشعا، وشب عودها وذراعها يكسوها جلد مجعد أرجواني اللون؛ ولهذا كانت تلبس القفازات الطويلة دائما.
ولما كان من الضروري أن يكون الثوب الذي يلبس في الحفلة التنكرية مفتوح الصدر، فقد ابتكرت ثوبا بدون ظهر، مفتوحا من الأمام لتظهر صدرها الممتلئ، وله كم واحد طويل يغطي ذراعها اليمنى، وظن المحكمون أن هذا الكم يرمز إلى شيء، ونالت فلوس الجائزة الأولى بلا منازع.
وارتدت فلوس الثوب الذي كانت سترتديه في تلك الليلة، وكان يشبه ما يتوقع الناس أن تلبسه راقصة في صالة، وقد صنعته من قطعة خارجية من الساتان الأرجواني، تشتمل على ثنيات من الشاش المزركش بلون الكرز اتخذتها قميصا، وقد طرزت فراشة سوداء من قماش السكوين على موضع بروز نهدها الأيسر، وكان الكم الوحيد مصنوعا من حرير الشيفون في خضرة البازلاء، وأعجبت فرانسي بالثوب، وفتحت أم فلوس الصوان على مصراعيه، ونظرت فرانسي إلى صف الملابس ذات الألوان الزاهية البراقة.
وكانت فلوس تمتلك ست سترات بألوان مختلفة، ونفس العدد من القمصان المصنوعة من الطرلطان، وعشرين كما من الشيفون على الأقل من كل لون من الألوان التي يمكن أن تخطر للمرء على بال. وفي كل أسبوع كانت فلوس تبدل هذه المجموعات لتخرج منها بثوب جديد، وربما ارتدت في الأسبوع التالي قميصا في لون الكرز، يبزغ من تحت سترة زرقاء بلون السماء لها كم واحد من الشيفون الأسود، وهكذا ... وكان في ذلك الصوان عشرات من المظلات الحريرية طويت بإحكام ولم تستعمل أبدا، نالتها فلوس جوائز، وجمعتها لتستعرضها على النحو الذي يجمع به الرياضي كئوس التفوق، وشعرت فرانسي بالسعادة وهي تنظر إلى المظلات جميعا؛ إن الفقراء من الناس تستهويهم كثيرا المقادير الضخمة من الأشياء.
وبينما كانت فرانسي تعجب بالأثواب بدأ ينتابها القلق، وساورها شعور وهي تنظر إلى الألوان البراقة الزاهية، ألوان الكرز والبرتقالي والأزرق والأحمر والأصفر، بأن شيئا ما كان يتسلل مختفيا وراء تلك الأثواب، كان شيئا مكتسيا بعباءة طويلة داكنة اللون، له رأس عابس، ويدان من عظام، كان مختبئا وراء تلك الألوان البراقة ينتظر هني.
5
وعادت الأم إلى البيت في الساعة السادسة ومعها الخالة سيسي، وشعرت فرانسي بالسعادة حين رأت سيسي لأنها خالتها المفضلة، وكانت فرانسي تحبها وتفتتن بها، وكانت سيسي قد عاشت حتى ذلك الحين حياة مثيرة كل الإثارة، وبلغت حينذاك الخامسة والثلاثين، وقد تزوجت ثلاث مرات، وأنجبت عشرة أطفال، ماتوا جميعا بعد ولادتهم، ودأبت سيسي على أن تقول دائما إن فرانسي هي كل ما بقي لها من أطفالها العشرة.
وكانت سيسي تعمل في مصنع للمطاط، وكانت ذات عاطفة جامحة جدا مع الرجال، لها عينان سوداوان هائمتان، وشعر مجعد أسود، وبشرة صافية كل الصفاء، ويحلو لها أن تلبس في شعرها مشبكا بلون الكرز، وكانت الأم ترتدي قبعتها الخضراء المائلة إلى الصفرة، والتي جعلت بشرتها تبدو كالزبد على فوهة الزجاجة، وقد اختفت خشونة يديها الجميلتين تحت قفاز أبيض من القطن، ودخلت الأم وسيسي تتحدثان في ابتهاج وفرح، وتضحكان وهما تتذكران الفكاهات التي سمعتاها في المسرح.
وأحضرت سيسي معها هدية لفرانسي، وهي أنبوبة من الحديد ينفخ فيها فتنطلق منها دجاجة من المطاط تنتفخ فوق الأنبوبة، ولقد جلبت الأنبوبة من المصنع الذي كانت تعمل فيه، وكان المصنع يصنع لعبا قليلة من المطاط للتمويه، وكان يحصل على أكبر أرباحه من أدوات المطاط الأخرى التي تباع سرا.
ورجت فرانسي أن تبقى سيسي للعشاء، فقد كان كل شيء يبدو في وجودها مرحا فاتنا، وشعرت فرانسي أن سيسي تفهم كيف ينبغي معاملة البنات الصغيرات، وكان الآخرون يعاملون الأطفال كأنهم شيء حبيب إلى النفس، وإن كانوا شرا، ولكنهم شر لا بد منه، أما سيسي فكانت تعاملهم كأناس لهم شأنهم. على أن سيسي لم تبق بالرغم من إلحاح الأم، وقالت إنها يجب أن تعود إلى بيتها لترى إن كان زوجها لا يزال مقيما على حبها، وأضحك قولها الأم وفرانسي أيضا بالرغم من أنها لم تفهم ما الذي عنته سيسي بقولها هذا، ومضت سيسي بعد أن وعدت بأن تعود في أول الشهر ومعها المجلات ، وكان زوج سيسي الحالي يعمل في دار لإصدار مجلات تنشر قصصا بوليسية وجنسية مثيرة، وفي كل شهر كان يتسلم نسخا من مطبوعاتها مثل قصص الحب وقصص الغرب الجامحة، والقصص البوليسية والقصص الخارقة للطبيعة وما إلى ذلك.
وكان لهذه المطبوعات أغلفة براقة ملونة، يتسلمها من المخزن وقد ربطت بخيوط صفراء جديدة، وكانت سيسي تحضرها إلى فرانسي بالهيئة التي تأتي بها تماما، فتقبل فرانسي على قراءتها جميعا في اشتياق، ثم تبيعها بنصف ثمنها لمحل مجاور يبيع أدوات الكتابة ولوازمها، وتضع النقود في حصالة الأم المصنوعة من القصدير.
فلما مضت سيسي أخبرت فرانسي أمها بالرجل المسن الذي رأته في محل لوشر بقدمه المنفرة، وقالت الأم: هراء، إن الشيخوخة ليست مأساة على هذا النحو، وكان من الممكن أن تكون كذلك لو أنه كان الرجل المسن الوحيد في العالم، ولكن هناك رجالا مسنين آخرين يؤنسونه، وإن المسنين ليسوا أشقياء، فهم لا يتمنون الأشياء التي نريدها، ولكنهم يريدون أن يشعروا بالدفء فحسب، ويجدوا طعاما لينا يأكلونه، ويتذاكروا الأمور معا، لا تكوني بلهاء إلى هذا الحد، فلو أن ثمة شيئا واحدا معلوما لكان هو أننا سوف نصبح مسنين في يوم من الأيام، فوطني نفسك على هذه الفكرة بأسرع ما في وسعك.
وكانت فرانسي تعلم أن أمها على صواب، ولكن ... ولكنها كانت تسعد حينما تتكلم أمها عن شيء آخر، وفكرت هي وأمها: أي نوع من المأكولات يمكن أن يصنعاه من الخبز البائت في الأسبوع المقبل؟
وكانت أسرة نولان تكاد تعيش على ذلك الخبز البائت، والأصناف العجيبة التي كانت كاتي تستطيع أن تصنعها منه! كانت تأخذ رغيفا من الخبز البائت وتصب عليه ماء مغليا، وتقلبه حتى يصبح عجينة، ثم تطيبه بالملح والفلفل والصعتر والبصل المفروم وبيضة (إذا كان البيض رخيصا)، ثم تخبزه في الفرن، وحينما ينضج ويصبح داكن اللون، فإنها تصنع مملوحة من نصف قدح من عصير الطماطم وقدحين من الماء المغلي، وتتبل مزيجا من القهوة الغليظة بإضافة الدقيق إليها، ثم تصب ذلك فوق الطعام الناضج. وكان الصنف طيب المذاق ساخنا، لذيذا، يبقى مدة طويلة دون أن يفسد، وكان ما يتبقى منه يقطع قطعا رقيقة في اليوم التالي، ويحمر في شحم الخنزير.
وكانت الأم تصنع كعكعة خبز لذيذة جدا من قطع الخبز البائت والسكر والقرفة وتفاحة ثمنها بنس واحد، قطعت شرائح رقيقة، فإذا تم نضجها حتى أصبح لونها داكنا فإنها تضيف إلى سطحها السكر المذاب، وفي بعض الأحيان كانت تصنع ما تسميه «المفتفتة»، وهو اسم إذا كل المرء في فهمه، فإنه يعني شيئا صنع من فتات الخبز الذي يلقى غالبا في المهملات، وكانت الأم تضع فتات الخبز في عجينة صنعت من الدقيق والماء والملح وبيضة، ثم تحمره في شحم غزير، وأثناء التحمير تنطلق فرانسي مهرولة إلى مخزن الحلوى، وتشتري بما يساوي بنسا قطعة من الحلوى الصلدة الداكنة اللون، تسحق في الهاون ثم تذر فوق الفتات المحمر قبل أكله مباشرة، ولم تكن البلورات تذوب تماما، وهذا ما يجعلها رائعة.
وكان عشاء ليلة السبت هو الأكلة المشهودة، وكانت أسرة نولان تعد لحما محمرا، وقد صنعت الأم من رغيف من الخبز البائت عجينة بالماء الساخن، ومزجتها بما يساوي عشرة سنتات من شرائح اللحم، تضاف إلى ذلك بصلة مقطعة مع ما يساوي بنسا من البقدونس المفري، ثم صنعت من ذلك كرات صغيرة حمرتها ثم قدمتها مع صلصة الطماطم الساخنة، وكانت هذه الكرات من اللحم تسمى المقانق، بل لقد تحدث أضحوكة كبيرة لفرانسي ونيلي.
وكان معظم اعتمادهم في معيشتهم على تلك الأصناف المصنوعة من الخبز البائت واللبن المركز والقهوة والبصل والبطاطس، ويقترن بهذا دائما شيء يساوي بنسا يشترى في اللحظة الأخيرة، ويضاف لفتح الشهية، وكانوا يشترون الموز في بعض الأوقات، ولكن فرانسي كانت نفسها تهفو دائما إلى البرتقال والأناناس، وخاصة اليوسفي الذي كانت تحصل عليه في عيد الميلاد فحسب.
وفي بعض الأحيان حينما يتبقى معها بنس كانت تشتري به حلوى مكسرة، وكان البائع يصنع بوقا على هيئة كيس من قطعة من الورق المطوي يملؤه بقطع من الحلوى التي تكسرت في الصندوق، ولا يمكنه أن يبيعها بعدئذ كحلوى سليمة، وكانت القاعدة التي تؤمن بها الأم هي: إذا كان معك بنس فلا تشتر حلوى أو كعكا، وإنما اشتر تفاحة، ولكن أي شيء كانت التفاحة؟ لقد وجدت فرانسي أن البطاطس قبل أن تطهى لها طعم التفاحة، وهي تستطيع أن تحصل على البطاطس دون عناء.
ومع ذلك كانت تمر بفرانسي أوقات لا تستطيب فيها شيئا مهما بلغ بها الجوع، وخاصة قرب نهاية فصول الشتاء الطويلة الباردة المظلمة، وكان ذلك هو أفضل وقت لصنع المخللات، إذ كانت تأخذ بنسا وتذهب إلى محل في شارع هور، ليس به إلا مخلل مما يصنعه اليهود، يسبح في محلول مملح ثقيل أضيف إليه كثير من التوابل، وكان يتصدر المحل أمام الأحواض شيخ وقور له لحية طويلة بيضاء ويلبس قلنسوة سوداء، وتظهر لثته خالية من الأسنان، يمسك بعصا كبيرة من الخشب، لها أطراف مسننة كالشوكة، وطلبت فرانسي نفس طلب الأطفال الآخرين: أعطني ببنس مخللا من المخلل البراق.
ونظر اليهودي الشيخ إلى الطفلة الأيرلندية نظرة قاسية بعينيه الصغيرتين الناريتين، وقد ظهر فيهما الحقد، وأحاطت بهما جفون محمرة اللون: اغربي عن وجهي! اغربي!
وبصق نحوها كارها كلمة «براق»، ولم تكن فرانسي تقصد بذلك سوءا، ولم تكن أيضا تعلم مدلول الكلمة حقا، فقد كانت اصطلاحا لشيء أجنبي، ولكنه محبوب، وكان اليهودي يجهل ذلك بلا شك، وكانت فرانسي قد سمعت أنه يحتفظ بحوض واحد يبيع منه لغير اليهود فحسب، وقيل إنه كان يبصق في هذا الحوض مرة كل يوم، أو يفعل ما هو شر من ذلك.
كانت هذه طريقته في الانتقام، ولكنها لم تثبت على هذا اليهودي المسن قط، ولم تصدق فرانسي هذا القول مرة واحدة.
وبينما هو يقلب في الحوض بعصاه والسباب ينطلق من بين شفتيه على لحيته البيضاء المبقعة، إذا بنوبة من الجنون تتملكه حين طلبت فرانسي قطعة من المخلل من قاع الحوض، وأخذت عيناه تدوران ولحيته تنتفض، وأخيرا اصطاد قطعة غليظة من المخلل الجيد ذات لون أصفر ضارب إلى الخضرة وأطراف صلبة، ووضعها على قطعة من الورق الداكن اللون، وأخذ منها البنس في راحته التي أصابها الخل بالندوب، ومضى يسب ويلعن، ثم انزوى في مكان خلف المحل حيث هدأت أعصابه، وهو جالس مطرق بلحيته يحلم بالأيام السالفة في بلده القديم.
وبقي المخلل طول اليوم وفرانسي تمص قطعة وتقضمها، ولم تكن تأكلها تماما، ولكنها كانت تريد أن تحصل عليها فحسب، وحين كان الطعام في البيت لا يتجاوز في كثير من الأحيان الخبز والبطاطس، كانت أفكار فرانسي تنصرف إلى أكل المخلل اللاذع، ولم تكن تعرف لذلك سببا، ولكنها كانت تشعر بعد يوم المخلل أن الخبز والبطاطس قد عاد إليهما طيب مذاقهما، أجل، كان يوم المخلل يوما تتطلع النفس إليه.
6
وعاد نيلي إلى البيت، ثم أرسلته أمه هو وفرانسي لشراء لحم نهاية الأسبوع، وكان ذلك سنة متبعة، تقتضي من الأم أن تصدر في شأنها أوامر مفصلة: اشتري من محل هاسلر عظاما للحساء بخمسة سنتات، ولكن لا تشتري شرائح اللحم من هناك، بل اطلبيها من محل ويرنر، أحضري شريحة مستديرة من اللحم بعشرة سنتات، ولا تقبلي أن يعطيها لك من وعاء اللحم المفروم، وخذي بصلة معك أيضا.
ووقفت فرانسي وأخوها أمام المنضدة وقتا طويلا، قبل أن يلحظهما الجزار، وسألهما أخيرا: ماذا تطلبان؟
وبدأت فرانسي المساومة قائلة: أعطني شريحة مستديرة من اللحم بعشرة سنتات. - مفرومة؟ - لا. - إن إحدى السيدات اشترت منذ لحظة شرائح لحم مفرومة بربع دولار، وقد فرمت لحما أكثر من اللازم، والباقي في الصحن يساوي عشرة بنسات فحسب، أقسم بشرفي إنني فرمته منذ لحظة فقط.
وكانت أم فرانسي قد حذرتها من الوقوع في مثل هذه الحيلة، وألا تشتري من وعاء اللحم المفروم مهما قال الجزار. - لا، إن أمي قالت لي: شرائح مستديرة من اللحم بعشرة سنتات.
وقطع الجزار في غضب قطعة من اللحم ورماها على الورقة بعد أن وزنها، وكان على وشك أن يلفها حين قالت فرانسي في صوت مرتعش: أوه! لقد نسيت، إن أمي تريدها مفرومة. - تبا لك!
وقطع اللحم وضغطه في المفرمة وهو يفكر في مرارة أنه خدع مرة أخرى، وخرج اللحم قطعا لولبية حمراء طازجة، وجمعها في يده، وكان على وشك أن يرميها على الورقة ... وإذا بفرانسي تقول: إن أمي قالت لي افرمي هذه البصلة مع اللحم.
ودفعت البصلة المقشورة التي أحضرتها معها من البيت على المنضدة في خوف، ووقف نيلي بجوارها ولم يقل شيئا، وكان شأنه معها أن يشد أزرها.
وانفجر الجزار قائلا: يا إلهي!
ولكنه استمر يعمل بمفرمتين ليفرم البصلة مع اللحم، وراقبته فرانسي وقد أعجبت بالضربات المنتظمة التي تحدثها نصال المفرمة، وجمع الجزار اللحم مرة أخرى ورمى به على الورقة وحملق في فرانسي، التي ابتلعت ريقها، كأن الأمر الأخير هو أصعبها جميعا، وكأن الجزار يعلم ما سيأتي، فوقف يرتعد من أعماقه، وقالت فرانسي في نفس واحد: وقطعة من الشحم لنحمرها بها.
وهمس الجزار في مرارة: سحقا لك!
وانتزع قطعة من الشحم الأبيض، وتركها تسقط على الأرض انتقاما، ثم التقطها وألقى بها فوق اللحم، ولفها في غضب شديد، ثم اختطف منها قطعة السنتات العشرة، وبينا هو يناولها إلى رئيس المحل ليزنها لعن الحظ الذي جعله جزارا.
وذهبا بعد شراء اللحم إلى محل هاسلر ليشتريا عظام الحساء، وكان هاسلر جزارا ممتازا في بيع العظام، أما بيع شرائح اللحم فلا؛ لأنه كان يفرمها خفية، ويعلم الله أي نوع من اللحم تأخذه منه، وانتظر نيلي خارج المحل ومعه لفة اللحم حتى لا يراه هاسلر، فيقول له في كبرياء أن يذهب ويشتري العظام من حيث اشترى اللحم.
وطلبت فرانسي قطعة عظام طيبة عليها شيء من اللحم لحساء يوم الأحد نظير خمسة سنتات، وجعلها هاسلر تنتظر ليروي لها النكتة المبتذلة عن الرجل الذي اشترى قطعة من لحم الكلاب بسنتين، وكيف أن هاسلر سأله: أيلفها له أم أنه يريد أن يأكلها هناك! وابتسمت فرانسي في خجل، وذهب الجزار المغتبط إلى الثلاجة وعاد ممسكا بقطعة عظام بيضاء لامعة، بداخلها نخاع سميك وتتعلق بطرفيها قطعة صغيرة من اللحم الأحمر؛ مما جعل فرانسي تعجب بها، وقال: بعد أن تطهي أمك هذه، أوصيها بأن تخرج منها النخاع وتبسطه على قطعة من الخبز، وتضع عليه شيئا من الملح والفلفل، وتصنع منه شطيرة طيبة لك. - سأقول لأمي. - وإنك إذا أكلتها كسا اللحم عظامك، ها ها ...
ولف العظام في الورقة وتسلم ثمنها، ثم قطع قطعة سميكة من مقانق الكبد وأعطاها لها، وشعرت فرانسي بالأسف لأنها خدعت ذلك الرجل الطيب، واشترت اللحم من محل آخر، لقد أساءت أمها كل الإساءة لأنها لا تثق باللحم المفروم الذي يبيعه.
وكان الليل لا يزال في أوله، وأنوار الشارع لم تشعل بعد، على أن بائعة الفجل كانت جالسة أمام محل هاسلر تهصر جذور الفجل الحريفة.
ورفعت لها فرانسي القدح الذي أحضرته معها من البيت، وملأته المرأة العجوز إلى النصف مقابل سنتين، واشترت فرانسي بسنتين خضرة للحساء من بائع الخضر، وشعرت بالسعادة بعد أن انتهت من شراء اللحم، وأخذت جزرة ناضجة وفرعا ذابلا من الكرفس، وقطعة من الطماطم اللينة، وحزمة من البقدونس الطازج، وكان هذا كله يغلي مع العظام فيخرج من هذا المزيج حساء دسم تطفو على سطحه قطع صغيرة من اللحم، ويضاف إليه الشحم وعجينة البيض، وهذا مع النخاع المبسوط على الخبز، خليق بأن ينتهي إلى غذاء شهي يوم الأحد.
ونزل نيلي إلى الشارع ليلعب مع أصدقائه بعد العشاء الذي كان يتكون من مقانق الكبد المحمرة والبطاطس وشطائر الفطير والقهوة، وكان الصبية بدون اتفاق أو إشارة يجتمعون دائما بعد العشاء عند المنعطف، حيث يقضون الأمسية كلها وأيديهم في جيوبهم وأكتافهم تبرز إلى الأمام، يتجادلون ويضحكون ويتدافعون ويرقصون على أنغام الصفير.
وأقبلت مودي دونافان لتمضي إلى الكنيسة للاعتراف مع فرانسي، وكانت مودي يتيمة تعيش مع خالتيها العانسين اللتين تشتغلان في البيت في صنع أكفان النساء، وترتزقان ببيع «الدستة» منها بثمن معلوم لشركة من شركات النواويس، وكانتا تصنعان الأكفان من قماش الساتان، وكانت الأكفان البيضاء للعذارى، وذات اللون الخزامي الفاتح للزوجات الشابات، وذات اللون الأرجواني للسيدات اللائي في منتصف العمر، وذات اللون الأسود للمتقدمات في العمر، وأحضرت مودي بعض الجذاذات وهي تظن أن فرانسي قد ترغب في عمل شيء منها، وتظاهرت فرانسي بالغبطة، ولكنها ارتعدت وهي تضع الأقمشة اللامعة بعيدا.
وكان جو الكنيسة عابقا بدخان البخور والشموع المتألقة، وقد وضعت الراهبات الزهور النضيرة على الهياكل، ووضعن على هيكل الأم المباركة أنضر الزهور، فقد كانت محبوبة من الراهبات، واصطف الناس خارج أمكنة الاعتراف، وقد رغب الأولاد والبنات أن ينتهوا من الاعتراف قبل أن يذهبوا إلى مواعيدهم، وكان صف الناس أمام المربع الخاص بالأب أوفلين أطول الصفوف؛ إذ كان هذا الأب شابا رحيما سمحا يتسهل في الكفارة.
ودفعت فرانسي الستارة الكثيفة جانبا حين حل دورها، وركعت في مكان الاعتراف، وحل السر القديم الأزلي حين فتح الكاهن الباب الصغير الذي يفصله عن الآثم، ورسم علامة الصليب أمام النافذة ذات القضبان، وبدأ يهمس بصوت سريع رتيب باللغة اللاتينية وعيناه مغمضتان، وشمت فرانسي رائحة البخور ممتزجة برائحة الشموع والزهور وملابس الكاهن السوداء الجيدة وعطر حلاقته. - باركني يا أبت فقد أثمت ...
وما أسرع ما اعترفت بذنوبها، وسرعان ما غفر لها، وخرجت وقد انحنى رأسها على يديها المتشابكتين، وركعت أمام الهيكل، ثم ركعت عند الحاجز، وتلت التوبة عن آثامها وهي تستخدم سبحة أمها المصنوعة من الصدف، وكانت مودي التي تعيش حياة أقل تعقيدا من حياة فرانسي، قد ارتكبت من الآثام التي تقتضي الاعتراف أقل من فرانسي وخرجت قبلها، وجلست خارج الهيكل على السلم تنتظر قدوم فرانسي.
وسارت الفتاتان صاعدتين هابطتين المنطقة السكنية، وقد لفت كل منهما ذراعها حول خصر الأخرى، مثلما تفعل البنات الصديقات في بروكلين، وكان مع مودي بنس اشترت به شطيرة من الكريمة المثلجة، وقدمتها لفرانسي لتصيب قدرا منها، وسرعان ما حل وقت عودة مودي إلى بيتها؛ إذ لم يكن يسمح لها بأن تبقى خارج البيت بعد الثامنة مساء، وافترقت الفتاتان بعد أن تواعدتا على الذهاب للاعتراف معا يوم السبت التالي.
وقالت مودي وهي تمشي عائدة مبتعدة عن فرانسي: لا تنسي، لقد أتيت إليك هذه المرة، وسيكون دورك المرة القادمة أن تأتي إلي.
ووعدت فرانسي قائلة: لن أنسى .
وكان هناك جمع في الحجرة الأمامية حين وصلت فرانسي إلى البيت ... خالتها إيفي وزوجها ويلي فليتمان، وكانت فرانسي تحب خالتها إيفي؛ لأنها تشبه أمها إلى حد كبير، مليئة بالفرح والفكاهة، تحكي لك ما يجعلك تضحك، كما يضحك الناس في المسرح، وهي تستطيع أن تقلد أي شخص في العالم.
وكان الخال فليتمان قد أحضر قيثارته معه وأخذ يعزف عليها، في حين طفق الجميع يغنون، وفليتمان رجل نحيل داكن اللون، له شعر أسود ناعم وشارب كالحرير، ويعزف على قيثارته عزفا جيدا، وخاصة أنه فقد إصبعه الوسطى ليده اليمنى، فإذا اقتضى الأمر منه أن يستخدم هذا الإصبع، فإنه يضرب القيثارة ضربة شديدة لتشغل الزمن الذي كان يجب أن تشغله النغمة، وهذا يعطي أغانيه إيقاعا غريبا، وكان فليتمان قد وصل إلى ختام أناشيده تقريبا حين دخلت فرانسي، إنها وصلت في الوقت المناسب لتسمع أنشودته الأخيرة.
وخرج فليتمان بعد عزف الموسيقى وأحضر إبريقا من الجعة، وأخذت الخالة إيفي رغيفا من الخبز المحمص، وما يساوي عشرة سنتات من جبن الليمبرجر وتناولا الشطائر مع الجعة، وانحلت عقدة لسانه بعد احتسائه الجعة، وقال للأم: انظري إلي يا كاتي تري رجلا فاشلا.
وأدارت الخالة إيفي عينيها إلى أعلى، وتنهدت وهي تشد شفتها السفلى، وقال فليتمان: إن أولادي لا يحترمونني، وزوجتي لا تجد لي نفعا، ودرامر الذي يجر عربة اللبن الخاصة بي أصبح يفعل ما يشاء، هل تعرفين ماذا فعل بالأمس فقط؟
ومال إلى الأمام، ورأت فرانسي عينيه تلمعان بدموع حبيسة: كنت أقوم بغسله في الحظيرة، وبلغت في غسله إلى ما تحت بطنه، فإذا به يبول فوقي.
وتبادلت كاتي وإيفي النظرات وعيونهما ترقص بضحكات مكتومة، ونظرت كاتي فجأة إلى فرانسي والضحك ما زال في عينيها، لكن شفتيها كانتا صارمتين وأطرقت فرانسي إلى الأرض عابسة، بالرغم من أنها كانت تكتم الضحك في أعماقها. - هذا ما فعله معي، وضحك علي جميع الرجال الذين في الحظيرة. - أجل إن الناس جميعا يضحكون مني.
وشرب كأسا أخرى من الجعة.
وقالت زوجته: لا تتكلم على هذا النحو يا ويل.
وقال للأم : إن إيفي لا تحبني.
وأكدت له إيفي حبها بصوتها الحنون الرقيق الذي كان في حد ذاته ينم عن التدليل: إني أحبك يا ويل. - لقد أحببتني عندما تزوجنا، ولكنك لا تحبينني الآن، أليس كذلك؟
وانتظر الرد، لكن إيفي لم تقل شيئا، فقال للأم: أرأيت، إنها لم تعد تحبني!
وقالت إيفي: حان الوقت لنعود إلى البيت.
وقد فرض على فرانسي ونيلي قبل الذهاب إلى النوم أن يقرآ صفحة من الإنجيل وصفحة من شكسبير، وكانا قد درجا على هذه العادة، فقد تعودت الأم أن تقرأ لهما الصفحتين كل مساء، حتى كبرا واستطاعا أن يقرآ بمفردهما، وقرأ نيلي صفحة الإنجيل، وقرأت فرانسي صفحة شكسبير اقتصادا للوقت، وظلا مستمرين على هذه القراءة منذ ست سنوات، حتى وصلا إلى منتصف الإنجيل وإلى مسرحية ماكبث من مسرحيات شكسبير الكاملة، وتسابقا في القراءة، وما إن حلت الساعة الحادية عشرة، حتى كانت أسرة نولان جميعا قد ذهبت إلى الفراش، ما عدا جوني الذي لا يزال في عمله.
وكان يسمح لفرانسي في ليالي السبت أن تنام في الحجرة الأمامية، فحملت مقعدين وضمتهما لتصنع سريرا أمام النافذة، حيث تستطيع أن تراقب الناس في الشارع، وكانت، وهي راقدة في مكانها، تستمع إلى الأصوات المنبعثة في الليل من المنزل؛ أناس يدخلون ويذهبون إلى شققهم، بعضهم متعب يجر قدميه جرا، وبعضهم يصعد السلم جريا في خفة، أحدهم تعثرت قدمه فلعن المشمع الممزق الذي يغطي أرض الصالة، وبكى طفل في شيء من التصنع، وأخذ رجل مخمور في إحدى الشقق السفلية يسرد في إيجاز الحياة الآثمة التي زعم أن زوجته عاشتها.
وسمعت فرانسي في الثانية صباحا صوت أبيها يغني في رقة وهو يصعد السلم: ... مولي مالون الجميلة.
تقود عربة اليد ذات العجلات،
وتخترق الشوارع واسعها وضيقها،
باكية منتحبة ...
وفتحت الأم الباب عند كلمة «باكية»، وكان ذلك من الأب على سبيل المباراة، فإذا ما فتحوا له الباب قبل أن ينتهي من إنشاده، فازوا، أما هو فيفوز إذا فرغ من غنائه وهو في البهو.
ونهض نيلي وفرانسي من فراشهما وجلس الجميع حول المائدة، وأكلوا بعد أن وضع الأب على المائدة ثلاثة دولارات، وأعطى لكل طفل خمسة سنتات، ثم حملتهما الأم على أن يضعاها في الحصالة المصنوعة من القصدير، مبينة أنه قد سبق لهما أن تسلما في ذلك اليوم مالا من بيع النفايات، وأحضر الأب معه إلى البيت حقيبة من الورق ممتلئة بالطعام المتبقي من حفل الزفاف؛ لأن بعض المدعوين لم يحضروا، فوزعت العروس الطعام الفائض على الخدم، وكان يحتوي نصف سرطان بحري مشوي بارد، وخمس محارات مقلية متجمدة، ووعاء يحتوي مقدار بوصة من الكافيار، وقطعة من جبن الروكفور. ولم يكن الطفلان يحبان السرطان البحري، ولم يكن للمحار البارد أي طعم يسيغان، وبدا الكافيار مملحا أكثر مما ينبغي، ولكن الجوع كان قد بلغ بهما مبلغه فأتيا على كل ما احتوته المائدة، بل هضماه أيضا خلال الليل، وكان في إمكانهما أن يهضما المسامير لو استطاعا أن يمضغاها.
وبعد أن أكلت فرانسي واجهت الحقيقة أخيرا، وهي أنها قد أفسدت الصيام الذي بدأته في منتصف الليل، وكان يجب أن تستمر فيه إلى ما بعد قداس الصباح التالي، وبذلك فهي لا تستطيع أن تتناول القربان المقدس، وهذه خطيئة صريحة يجب أن تعترف بها للقسيس في الأسبوع التالي.
وعاد نيلي إلى فراشه وواصل نومه العميق، أما فرانسي فقد ذهبت إلى الحجرة الأمامية المظلمة وجلست بجوار النافذة، ولم تشعر برغبة في النوم، وجلس الأب والأم في المطبخ، وكانا خليقين بأن يجلسا هناك وأن يتحدثا حتى تبدأ تباشير الصباح، وكان الأب يحكي عن عمله في تلك الليلة، والناس الذين رآهم وكيف بدوا له وكيف كانوا يتحدثون، ولم تر أسرة نولان الكثير من الحياة، كانوا يعيشون حياتهم بكل ما فيها، ولكن ذلك لم يكن كافيا، فعليهم أن يكملوها بحياة جميع الناس الذين يتصلون بهم.
وهكذا أخذ جوني وكاتي يتحدثان طول الليل، وكان صوتهما وهو يرتفع وينخفض يبعث الاطمئنان والأمن في الظلام، وبلغت الساعة حينذاك الثالثة صباحا والشارع هادئ كل الهدوء، ورأت فرانسي الفتاة التي تسكن في الشقة الكائنة بالناحية الأخرى من الشارع تعود إلى البيت من إحدى الحفلات مع صديقها، ووقفا في مدخل بيتها يتعانقان، دون أن يتكلما حتى مالت الفتاة إلى الوراء وضغطت على الجرس دون أن تدري، فنزل أبوها بملابسه الداخلية الطويلة وأخبر الشاب بلهجة هادئة، ولكنها شديدة جارحة، بأنه يستطيع أن يذهب إلى حال سبيله، ولقنه ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه، وجرت الفتاة صاعدة السلم وهي تقهقه قهقهة عصبية، على حين مضى صديقها الشاب هابطا في الشارع يصفر بلحن أغنية «عندما نتقابل الليلة».
وعاد إلى بيته السيد توموني الذي يملك محلات للرهون في عربة أنيقة بعد أن قضى ليلة في نيويورك، أنفق فيها الكثير، ولم يكن السيد توموني قد دخل محل الرهون الذي ورثه بمديره الكفء، ولا أحد يعلم لماذا يسكن السيد توموني في الشقة التي فوق المحل، وهو يمتلك مثل هذه الأموال، وكان يحيا حياة رجل أرستقراطي من نيويورك في حي ويليمسبرج، وأذاع عامل طلاء دخل شقته مرة، بأنها مزينة بالتماثيل ورسومات الزيت وقطع الفراء البيضاء، وكان السيد توموني عزبا، لا يراه أحد طول الأسبوع، أو وهو خارج لقضاء الأمسيات من أيام السبت، كانت فرانسي وحدها هي والشرطي صاحب النوبة يريانه حين يعود إلى بيته، وأخذت فرانسي تراقبه وهي تشعر كأنها متفرجة تجلس في مقصورة بمسرح من المسارح.
وكانت قبعته الحريرية العالية تميل على إحدى أذنيه، ونور الشارع يتلألأ على عصاه الفضية المحببة وهو يتأبطها تحت ذراعه، وقد أزاح إلى الخلف «حرملته» المصنوعة من حرير الساتان ليخرج من جيبه بعض النقود، وأخذ السائق أجره، ولمس بطرف السوط الغليظ حافة قبعته العالية، وهز أعنة الجواد، وراقبه السيد توموني وهو يقود العربة مبتعدا كأنما كانت العربة هي آخر صلة له بحياة اكتشف أنها طيبة ممتعة، ثم صعد إلى شقته الفاخرة.
وكان من المفروض أن يؤم الأماكن الفاخرة مثل فندقي ريزنويبرز ووالدروف، وصممت فرانسي على أن ترى هذه الأماكن يوما ما، أجل سوف تخترق في يوم من الأيام جسر ويليمسبرج الذي لا يبعده عنها إلا قليل من المناطق السكنية، وتشق طريقها في المدينة إلى نيويورك حيث توجد هذه الأماكن الجميلة، ثم تشبع عينيها من المناظر التي تبدو خارجها، وحينئذ تستطيع أن تقدر السيد توموني حق قدره.
وهبت ريح منعشة فوق بروكلين، آتية من البحر، ووصل إلى سمعيها صياح ديك من الشمال البعيد، حيث يسكن الإيطاليون ويربون الدجاج في أفنيتهم، ورد على الصياح نباح كلب من بعيد، وصهيل متسائل من الجواد بوب الذي يرقد هادئا في حظيرته.
وكانت فرانسي سعيدة بيوم السبت، تكره أن تقضيه في النوم، وقد جعلها خوفها من حلول الأسبوع تشعر بالقلق، فوعت ذكرى يوم السبت في مخيلتها، وكان يوما بريئا من الشوائب، اللهم إلا من الرجل المسن الذي ينتظر الخبز.
وفي ليالي الأسبوع الأخرى كانت فرانسي ترقد على فراشها، وتسمع من خلال بئر التهوية أصواتا مبهمة تصدر من العروس الشبيهة بالطفلة، التي تسكن في إحدى الشقق الأخرى مع زوجها سائق العربة الشبيه بالقرد، وانبعث صوت العروس عذبا مستعطفا وصوته خشنا آمرا، تعقب ذلك فترة صمت قصيرة، يبدأ بعدها غطيط الزوج، في حين تبكي الزوجة بكاء يستدر الشفقة، حتى يوشك الصباح أن ينبلج.
وكانت فرانسي إذا تذكرت نشيج العروس ارتعدت وارتفعت يداها بلا وعي تسدان أذنيها، ثم تذكرت أن ذلك حدث يوم السبت، وأنها كانت في الحجرة الأمامية حيث لا تستطيع أن تسمع الأصوات الصادرة من بئر التهوية، أجل كان لا يزال يوم السبت، وهو يوم ممتع، أما يوم الإثنين فلا يزال بعيدا يسبقه يوم الأحد الآمن، الذي تستطيع أن تفكر خلاله طويلا في زهر «أبو خنجر» ماثلا في الزهرية البنية اللون، وفي منظر الجواد بعد غسله، وهو يقف في أشعة الشمس والظل، وبدأ النعاس يغلب على فرانسي فأنصتت لحظة إلى كاتي وجوني، وهما يتحدثان في المطبخ، يستعيدان الذكرى.
وقالت كاتي: كنت في السابعة عشرة حينما رأيتك لأول مرة، كنت أعمل في مصنع كاسل بريد.
وقال جوني مستذكرا: وكنت في التاسعة عشرة حينئذ صديقا لصديقتك الحميمة هيلدي أودير .
وقالت كاتي: أوه، هي!
وتخللت الريح الدافئة العطرة في رفق شعر فرانسي، وثنت ذراعيها على عتبة النافذة ووضعت خدها عليها، وكانت تستطيع أن ترفع بصرها فترى النجوم تتلألأ في سمائها فوق أسطح شقق السكن، وراحت في النوم بعد فترة قصيرة.
الباب الثاني
7
كان ذلك في صيف آخر من فصول صيف بروكلين، ولكن منذ اثنتي عشرة سنة، في سنة 1900م، حين لقي جوني نولان كاتي روملي لأول مرة، كان في التاسعة عشرة من عمره، وكاتي في السابعة عشرة وتعمل في مصنع كاسل بريد ومعها صديقتها الحميمة هيلدي أودير، وتوثقت الصداقة بينهما بالرغم من أن هيلدي من أيرلندا وكاتي ولدت لأبوين من النمسا، وكانت كاتي أجمل من هيلدي، ولكن هيلدي أشجع وأجسر، لها شعر أشقر، وتضع حول عنقها ربطة من الشيفون في لون العقيق، وتمضغ علكا معطرا، وتعرف أحدث الأغاني الحديثة وترقص بمهارة.
وكان لهيلدي صديق وسيم يأخذها في ليالي السبت للرقص، اسمه جوني نولان، وينتظرها في بعض الأحيان خارج المصنع، ويصطحب معه دائما بعض الفتية لينتظروا معه، ويقفوا عند المنعطف يتسكعون ويتبادلون الفكاهات ويضحكون.
وطلبت هيلدي من جوني ذات يوم أن يحضر رفيقا لصديقتها كاتي في المرة القادمة التي يذهبان فيها للرقص، ووافق جوني ممتنا، وركبوا هم الأربعة التروللي إلى كاتارسي، وكان الفتية يرتدون قبعات من القش لها حبل مثبت في حافتها، ويتصل طرفه الآخر بقلابة سترتهم، وأطارت ريح المحيط القوية قبعاتهم من فوق رءوسهم، واشتدت الضحكات عندما ثبت الفتية القبعات إلى مكانها بالحبال.
ورقص جوني مع فتاته هيلدي، ورفضت كاتي أن ترقص مع الرفيق الذي جاءوا به من أجلها، وكان فتى تافها سيء السلوك درج على أن يبدي ملاحظات من قبيل: «ظننت أنك تعثرت» وذلك حين عادت كاتي من حجرة السيدات، وبالرغم من ذلك سمحت له بأن يشتري لها الجعة، وجلست إلى المائدة ترقب جوني وهو يرقص مع هيلدي، وتفكر في أنه لا يوجد مخلوق في العالم مثل جوني.
وكانت قدما جوني طويلتين رقيقتين وحذاؤه لامعا، يرقص على أطراف أصابعه ويتبختر مهتزا من كعبيه إلى أطراف قدميه في إيقاع جميل، وحمي وطيس الرقص، وعلق جوني معطفه على ظهر مقعده، وكان سرواله ينسدل متناسبا على حقويه، وقميصه الأبيض ينسدل على حزامه، ويرتدي بنيقة عالية صلبة، ورباط عنق منقطا (يلائم الشريط الذي على قبعته المصنوعة من القش)، ووساما من شريط من الساتان الأزرق الزاهي وضعه على كميه، وقد طرز في قماش من المطاط؛ مما حدا بكاتي أن يساورها الشك، وقد تملكتها الغيرة، بأن هيلدي هي التي صنعته له، واستبدت بها الغيرة، حتى إنها ظلت بقية حياتها تكره ذلك اللون.
ولم تستطع كاتي أن تحول نظرها عنه، كان شابا، ممشوق القوام يشرق بشعره الأشقر المجعد وعينيه الزرقاوين العميقتين، وكان أنفه مستقيما وكتفاه عريضتين مربعتين، وسمعت كاتي البنات الجالسات إلى المائدة المجاورة لها يقلن عنه إنه أنيق الملبس ... وقال رفقاؤهن: إنه راقص بارع أيضا، وشعرت كاتي أنها فخور به بالرغم من أنه لم يكن فتاها.
ومنحها جوني رقصة من قبيل المجاملة حين عزفت المويسقى قطعة «روزي أو جرادي الجميلة» وعرفت كاتي حينما شعرت بذراعيه تلتفان حولها، وانساقت بلا وعي إلى مجاراته في الإيقاع، أنه الرجل الذي تنشده، إنها لا تطلب شيئا أكثر من أن تنظر إليه وتستمع له بقية حياتها، وهنالك قررت أن هذه الفضائل جديرة بأن تجعلها أسيرة له طول حياتها.
وربما كان قرارها هذا هو خطأها الأكبر؛ لأنها كانت خليقة بأن تنتظر حتى يصادفها الرجل الذي يحس نحوها بهذا الشعور، وعندئذ لم يكن أطفالها جديرين بأن يجوعوا أو أن تحملها الظروف على مسح الأرض لتعولهم، ولظلت ذكراه باقية في مخيلتها عاطرة مشرقة، ولكنها اختارت جوني نولان، ولم ترد سواه، وعملت جاهدة على أن تظفر به.
وبدأت خطتها يوم الإثنين التالي، حين انطلقت صفارة الانصراف فجرت خارج المصنع، ووصلت إلى المنعطف قبل هيلدي، وقالت مترنمة: أهلا، جوني نولان.
وأجابها: أهلا، كاتي العزيزة.
وحاولت بعد ذلك أن تتبادل معه الكلمات القليلة كل يوم، ووجد جوني نفسه ينتظر عند المنعطف من أجل هذه الكلمات القليلة .
وذات يوم شعرت كاتي بالتوعك الذي يصيب المرأة كل شهر، فأخبرت رئيستها أنها معتلة الصحة بسبب هذا العذر، وخرجت قبل موعد الانصراف بخمس عشرة دقيقة، وكان جوني ينتظر عند المنعطف مع أصدقائه، وراحوا يصفرون لحن «آني روني» تمضية للوقت، وأمال جوني قبعته على إحدى عينيه ووضع يده في جيوبه، وتحرك حركة من رقصات الفالس على جانب الطريق، وتوقف المارة معجبين، وصاح الشرطي الذي كان يسير في نوبته قائلا: إنك تضيع وقتك أيها الفتى الشاذ، وإن مكانك على المسرح.
ورأى كاتي مقبلة فتوقف عن الرقص وابتسم لها، وبدت كاتي رائعة في حلة رمادية محكمة التفصيل، موشاة بشريط أسود أتت بها من المصنع، وكان الشريط المطرز في دوائر ولوالب متشابكة كل التشابك، وصممت رسوماته بحيث تلفت الأنظار، قد التف إلى نصفها الأعلى الجميل الذي ساعد في إبرازه صفان من الثنيات شبكا في غطاء المشد الذي ترتديه، وارتدت مع الحلة قبعة في لون الكرز جذبتها فوق إحدى عينيها، وحذاء عاليا ذا أزرار نعله ملفوف، ولمعت عيناها البنيتان واحمر خداها من الاضطراب والخجل، حين فكرت كيف تبدو متأنقة لتسعى وراء رفيق كهذا، وناداها جوني وابتعد عن الفتية الآخرين، ولم يتذكر جوني وكاتي ماذا قال كل منهما للآخر في ذلك اليوم المشهود، وفي أثناء حديثهما الذي كان يدور بلا غاية ولا هدف - وإن كان ينم عن أشياء كثيرة وتتخلله فترات صمت ممتعة، واختلاجات عاطفية مثيرة مكنونة - تبين لهما على نحو أن كلا منهما يحب الآخر حبا جارفا.
وانطلقت صفارة المصنع فاندفعت أسراب الفتيات خارجات من مصنع كاسل بريد، وأقبلت هيلدي في حلة بنية غبراء، وقبعة سوداء مثل قبعات البحارة ثبتتها بدبوس شيطاني المنظر كسيخ الشواء في تصفيفة شعرها المسواة بشريط في لون النحاس، وهي التصفيفة المأثورة عن مدام بومبادور، وابتسمت ابتسامة آسرة حين رأت جوني، ولكن الابتسامة انقلبت إلى انقباضة ألم وخوف وكراهية حين رأت كاتي معه، واندفعت نحوهما وهي تنتزع الدبوس الطويل من قبعتها وصرخت: إنه رفيقي يا كاتي روملي، ولا يمكنك أن تسرقيه مني!
وقال جوني في صوته العذب المتزن: هيلدي! هيلدي!
وقالت كاتي وهي تهز رأسها: أظن أن هذا بلد حر.
وصرخت هيلدي وهي تثب نحو كاتي شاهرة دبوس قبعتها: إنه ليس حرا للصوص.
وخطا جوني بين الفتاتين وأصابه خدش في خده، وكانت فتيات كاسل بريدج في ذلك الوقت قد تجمعن يراقبن ما يحدث، ضاحكات في مرح، وأمسك جوني بذراعي الفتاتين، وقادهما إلى المنعطف، ودفعهما إلى بوابة، وحبسهما بذراعه، وراح يتكلم معهما، وقال: هيلدي، إنه لا يرجى من ورائي نفع كبير، وما كان ينبغي لي أن أمضي هذا الشوط معك؛ لأني أرى الآن أنني لا أستطيع أن أتزوجك، وبكت هيلدي قائلة: إن الوزر كله يقع عليها.
واعترف جوني في لطف: إنه وزري أنا، فلم أعرف قط الحب الصحيح حتى لقيت كاتي.
وقالت كاتي في إشفاق كما لو كان جوني يقترف إثما: ولكنها صديقتي المفضلة، إنها فتاتي الأثيرة عندي، وليس هناك شيء آخر يقال في هذا الموضوع.
وبكت هيلدي وجادلت، وأخيرا هدأ جوني من روعها وشرح لها كيف كان الأمر بينه وبين كاتي، وأنهى كلامه بأن أوصى لهيلدي أن تمضي في طريقها ويمضي هو في طريقه، وأعجب جوني بوقع كلماته، وأخذ يرددها مرة بعد مرة، مستمتعا بهذه اللحظة المسرحية المثيرة. - أجل امضي في طريقك وأمضي أنا في طريقي.
وقالت هيلدي في مرارة: أنت تعني أن أمضي أنا في طريقي وتمضي أنت في طريقها.
وأخيرا مضت هيلدي في طريقها، وسارت هابطة الطريق وكتفاها متهدلتان، وجرى جوني خلفها وأحاطها بذراعيه في الشارع وقبلها في حنان قبلة الوداع. وقال في حزن: كنت أود أن تكون حالنا غير ذلك.
وانفجرت هيلدي قائلة: أنت لا تريد هذا، ولو كنت تريد لتخليت عنها وعدت إلي.
وبدأت تبكي مرة أخرى ...
وكانت كاتي تبكي هي الأخرى، فإن هيلدي أودير رغم هذا، كانت خير صديقاتها، وقبلت هيلدي أيضا، وأشاحت بوجهها عنها عندما رأت عينيها الدانيتين منها مبللتين بالدموع، وقد ضاقتا بفعل الحقد والكراهية.
وهكذا مضت هيلدي في طريقها، ومضى جوني في طريق كاتي.
وظلت العلاقة بين كاتي وجوني فترة قصيرة، ثم تمت خطبتهما وتزوجا في الكنيسة التي تتبعها كاتي يوم رأس السنة الجديدة عام 1901م، وكان التعارف بينهما قد تم منذ أربعة أشهر أو أقل، قبل أن يتزوجا.
ولم يغفر توماس روملي لابنته، والواقع أنه لم يكن يغفر قط لأية بنت من بناته زواجها، وكانت فلسفته عن الأطفال بسيطة مفيدة، وهي أن الرجل يمتع نفسه حين ينجبهم، وينفق أقل ما يملك من مال وجهد لينشئهم، ثم يدفعهم إلى العمل ليكسبوا له مالا حين يتجاوزون الثالثة عشرة، وكانت كاتي في السابعة عشرة، وقد اشتغلت أربع سنوات فحسب حين تزوجت، فتخيل أنها مدينة له بالمال.
ومن طبيعة روملي أنه يكره الأحياء والأشياء جميعا، ولم يستطع أحد قط أن يكتشف سر ذلك، كان رجلا بدينا له شعر مجعد رمادي أغبر يغطي رأسا كرأس الأسد! وقد فر من أستراليا هو وعروسه هربا من التجنيد، وبالرغم من أنه يكره وطنه القديم فقد رفض في عناد أن يحب الوطن الجديد، وكان يفهم اللغة الإنجليزية ويستطيع التحدث بها إن شاء، ولكنه يرفض الإجابة حين يخاطب بالإنجليزية وحرم في بيته التحدث بها، وكانت بناته يفهمن من اللغة الألمانية النزر اليسير (فقد أصرت أمهن على أن يتكلمن بالإنجليزية فحسب في البيت، ودافعت عن ذلك بقولها إنه كلما قل فهم البنات للألمانية قل إدراكهن لقسوة أبيهن)، وهكذا شبت البنات الأربع والصلة بينهن وبين أبيهن قليلة، كان لا يتكلم معهن أبدا إلا ليشتمهن، وأصبحت كلمة «عليك لعنة الله» تدل على التحية والوداع، وحين يبلغ الغضب به مبلغه يقول لمن يحل عليه غضبه: يا لك من روسي!
وهذه أقبح شهادة في اعتباره، وكان يكره النمسا ويكره أمريكا، أما كراهيته لروسيا فتفوق الجميع، مع أنه لم يذهب إلى هذا البلد قط، ولم تر عيناه روسيا واحدا، ولم يكن أحد يفهم سر كراهيته لهذا البلد الذي لا يعرف عنه وعن أهله إلا القليل الغامض، وهذا الرجل هو جد فرانسي لأمها، وفرانسي تكرهه كراهية بناته له.
وكانت ماري روملي زوجته وجدة فرانسي قديسة، لم تنل أي حظ من التعليم، ولا تستطيع أن تكتب اسمها أو تقرأه، ولكنها تحتفظ في ذاكرتها بأكثر من ألف قصة وأسطورة، ابتدعت بعضها لتسلي بها أطفالها، والبعض الآخر حكايات قديمة سمعتها من أمها وجدتها، وهي تعرف كثيرا من أغاني القرية القديمة، وتفهم جميع الأمثال والحكم.
وبلغ بها من شدة التدين أنها كانت تعرف قصة حياة كل قديس كاثوليكي، وتؤمن بالأرواح والجان وجميع المخلوقات الخارقة للطبيعة، وتعلم كل شيء عن الأعشاب، وتستطيع أن تصنع أي دواء أو تعويذة، ما دامت لا تضمر شرا بهذه التعويذة، وكانت محل تقدير الناس في الوطن القديم لحكمتها، ويسعى إليها الناس كثيرا طلبا للنصح والمشورة، إنها امرأة طاهرة الذيل بريئة من الذنوب ولكنها تدرك مشاعر الآثمين، ومتشددة غاية التشدد في خلقها وسلوكها، إلا أنها تغتفر ضعف الآخرين، وتبجل الله، وتحب المسيح، وتفهم لماذا يتحول الناس عنهما في كثير من الأحيان.
وتزوجت وهي عذراء، واستسلمت في خضوع لحب زوجها الجامح، وقد قتل جموحه فيها مبكرا كل رغباتها المكنونة، وبالرغم من ذلك كانت تستطيع أن تفهم سطوة الجوع إلى الحب الذي يدفع الفتيات إلى الضلال - كما يقول الناس - وتدرك كيف يمكن لفتى أقصي من الحي لاغتصابه فتاة أن يظل طيب القلب، وتدرك أيضا كيف يضطر الناس إلى الكذب والسرقة وإصابة غيرهم بالأذى. أجل كانت تدرك ضعف البشر جميعا، ذلك الضعف الذي يستدر الرحمة، وكيف يندفع كثير من الأقوياء إلى القسوة والبطش.
ومع ذلك فهي أمية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت عيناها بنيتين رقيقتين صافيتين، فيهما براءة، وشعرها الداكن اللامع مفروقا في الوسط يسترسل على أذنيها، وبشرتها شاحبة شفافة، وفمها عذبا، تتكلم في صوت هادئ رقيق فيه دفء وعذوبة يستريح لهما السامعون، وقد ورثت عنها بناتها وحفيداتها جميعا هذا الصوت.
وقد آمنت ماري بأنها حالفت الشيطان نفسه من جراء خطيئة اقترفتها في حياتها بلا حكمة أو تعقل، آمنت بذلك حقا لأن زوجها أنبأها به، فقد درج على أن يقول لها: إنني أنا الشيطان نفسه.
وكثيرا ما كانت تنظر إليه وقد وقفت خصلتان من شعره على جانبي رأسه، وضاقت عيناه الرماديتان الباردتان من زاويتيهما الخارجيتين إلى أعلى، فتتنهد وتقول بينها وبين نفسها: أجل إنه هو الشيطان.
وكان له أسلوب خاص في النظر إلى وجهها الملائكي نظرة متفرسة، ويختلق أقوالا لم يقلها المسيح في نغمة تدليل بريئة من الصدق، وكان هذا يروعها دائما حتى يحملها على أن تأخذ وشاحها من فوق المسمار الذي وراء الباب، وتلقي به على رأسها وتندفع إلى الشارع، حيث تسير وتسير لا تلوي على شيء حتى يعيدها إلى البيت حرصها على أطفالها.
وذهبت إلى المدرسة الابتدائية التي تدرس بها البنات الثلاث الصغيرات، وأوصت للمدرسة بلغة إنجليزية ركيكة أن تشجع الأطفال على التحدث بالإنجليزية دون سواها، وألا يستعملن مطلقا كلمة أو عبارة ألمانية، وبذلك حمتهن من أبيهن، وحزنت حين اضطر أطفالها إلى ترك المدرسة بعد انتهائهن من الصف السادس وخروجهن إلى العمل، وحز في نفسها أيضا أنهن تزوجن رجالا لا شأن لهم ولا مكانة، وبكت حين أنجبن بنات؛ لأنها تعلم أن البنت تنتظرها حياة شقية ذليلة، وما من مرة كانت تبدأ فيها فرانسي صلاتها مرتلة: «سلام لك يا مريم، أيتها المنعم عليها، الرب معك.» حتى يتمثل لها وجه جدتها.
وقد ولدت سيسي كبرى أطفال توماس وماري روملي بعد ثلاثة أشهر من نزول والديها إلى أرض أمريكا، ولم تذهب قط إلى المدرسة، ولم تكن ماري تفهم حين بلغت سيسي السن التي يجب عليها فيها أن تذهب إلى مدرسة أن التعليم المجاني متاح لأمثالهم، وهناك قوانين تقضي بإرسال الأطفال إلى المدارس، ولكن أحدا لم يكن يبحث عن هؤلاء الناس الجهلاء لينفذ حكم القانون، وعلمت ماري بوجود التعليم المجاني حتى بلغت بناتها الأخريات سن القبول بالمدرسة، ولكن سن سيسي أكبر من أن تبتدئ مع البنات اللائي عمرهن ست سنوات، فبقيت بالبيت وساعدت أمها.
وحين بلغت سيسي العاشرة اكتمل نضجها، كأنها امرأة في الثلاثين، وأصبح الصبية جميعا يطاردون سيسي، وأصبحت سيسي تطارد الصبية جميعا، فلما بلغت الثانية عشرة كانت تلازم فتى في العشرين من عمره ووأد أبوها هذه القصة الغرامية في مهدها بأن ضرب الفتى، وحين بلغت الرابعة عشرة كانت تصاحب رجل مطافئ في الخامسة والعشرين، وقد انتهت هذه القصة الغرامية بزواج رجل المطافئ من سيسي؛ لأنه نال من أبيها بدلا من أن ينال أبوها منه، وذهب المحبان إلى دار البلدية حيث أقسمت سيسي أنها بلغت الثامنة عشرة وتزوجا على يد كاتب من الكتاب، وصدم الجيران لهذا، لكن ماري كانت تعلم أن الزواج خير شيء يمكن أن يحدث لابنتها العارمة الأنوثة.
وجيم، رجل المطافئ كان رجلا طيبا، ويعد متعلما لأنه أكمل الدراسة الابتدائية، ويكسب مالا لا بأس به، ولا يمكث بالبيت كثيرا، إنه زوج مثالي، وهو وزوجته سعيدان كل السعادة، ومطالب سيسي منه قليلة إلا في الحب، فقد كانت تطلب منه الكثير، مما جعله بالغ السعادة.
وكان جيم يخجل في بعض الأحيان؛ لأن زوجته لا تعرف القراءة أو الكتابة ولكنها على درجة كبيرة من الذكاء والبراعة، ولها قلب عامر بالحب حتى إنها جعلت الحياة شيئا مرحا غاية المرح، بهيجا كل البهجة، وبدأ جيم بمضي الزمن يتغاضى عن أميتها، وكانت سيسي تعامل أمها وأخواتها الصغيرات معاملة طيبة، وجيم يعطيها نفقة معتدلة للبيت تنفقها في حرص شديد، ويبقى منها في الغالب قدر تعطيه لأمها، وحملت سيسي بعد شهر من زواجها، وكانت لا تزال فتاة جريئة في الرابعة عشرة من عمرها، بالرغم من أنها قد أصبحت امرأة، وارتاع الجيران حين رأوها تنط الحبل في الشارع مع الأطفال الآخرين، بالرغم من الجنين الذي تحمله في أحشائها والذي أصبح نتوءا ناشزا في بطنها أو يكاد. وأخذت سيسي تفكر في تدبير أمور طفلها المقبل في الساعات التي لا تقضيها في الطهي، أو تنظيف البيت، أو مطارحة زوجها الغرام، أو نط الحبل، أو محاولة الاشتراك في لعبة كرة البيسبول مع الصبية، وعزمت أن تسمي مولودها ماري تيمنا باسم أمها إذا جاء بنتا، وتسميه جون إذا جاء صبيا، وكانت تحب اسم جون حبا كبيرا لسبب غامض، وبدأت تنادي جيم باسم جون، وقالت إنها تريد أن تسميه باسم الطفل، وكان هذا الاسم في أول الأمر اسم تدليل، ولكن سرعان ما أصبح كل شخص يناديه جون، واعتقد كثير من الناس أن هذا الاسم هو اسمه الحقيقي.
وولد المولود الجديد، وكان بنتا جاءت بعد ولادة يسيرة كل اليسر، فقد استدعيت قابلة تسكن في أسفل منطقتهم السكنية، وسارت الأمور سهلة هينة، واستغرقت ولادة سيسي خمسا وعشرين دقيقة فقط، كانت ولادة رائعة، ولكن الخطأ الوحيد الذي شاب هذه العملية كلها أن الطفل ولد ميتا، وتصادف أن ولد الطفل ومات في يوم عيد ميلاد سيسي الخامس عشر.
وحزنت سيسي فترة، وغير الحزن منها، فبذلت جهدا أكبر لتجعل بيتها نظيفا لا تعلوه غبرة، بل أصبحت أكثر تفكيرا في أمها، ولم تعد فتاة متسكعة، وآمنت بأن نط الحبل كلفها حياة طفلها، وكانت تبدو حين تخلد إلى السكينة أصغر سنا وأقرب إلى الطفولة.
وحين بلغت العشرين كانت قد أنجبت أربعة أطفال، ولدوا كلهم موتى، واستقر رأيها أخيرا على أن الخطأ هو خطأ زوجها وليس خطأها، ألم تقلع عن نط الحبل بعد أن وضعت الطفل الأول؟ وقالت لجيم إنها لم تعد تحبه ما دام حبهما لا ينتج إلا الموت، وطلبت منه أن يتركها، وجادلها قليلا ثم تركها أخيرا، وكان يرسل لها أول الأمر نفقتها من حين إلى حين، وكانت سيسي في الفترات التي تفتقد فيها الرجل تسير مارة بمبنى المطافئ، حيث يكون جيم جالسا خارج الدار، وقد انحرف بمقعده على جدار البناء المصنوع من الآجر، وتمشي على مهل وتبتسم، فيأخذ جيم إجازة غير رسمية ويجري لمقابلتها، ويقضيان معا حوالي نصف ساعة في سعادة غامرة.
وأخيرا قابلت سيسي رجلا يريد أن يتزوجها، ولم يعلم أحد من أسرتها اسمه الحقيقي؛ لأنها بدأت من فورها تطلق عليه اسم جون، وتم زواجها الثاني بكل بساطة، وكان الطلاق يستلزم إجراءات معقدة تكلفها مالا كثيرا، كما أنها كاثوليكية لا تؤمن بالطلاق، وقد تزوجت جيم في دار البلدية على يد كاتب، وتعللت بأن هذه الدار لم تكن كنيسة، وأن زواجها بهذه الطريقة لم يكن زواجا صحيحا، فلماذا إذن تدعه يقف حجر عثرة في طريقها؟ وتزوجت مرة أخرى في دار البلدية على يد كاتب آخر، مستخدمة الاسم الذي اكتسبته من زواجها الأول، دون أن تذكر شيئا عن ذلك الزواج.
وحزنت أمها ماري؛ لأن سيسي لم تتزوج في الكنيسة، وزود هذا الزواج الثاني توماس بأداة جديدة، يعذب بها زوجته، كان يقول لها في كثير من الأحيان إنه سيبلغ الشرطة ليقبضوا على سيسي بتهمة الجمع بين زوجين، ولكنه قبل أن ينفذ ذلك كانت سيسي قد عاشت مع زوجها الثاني جون أربع سنين وأنجبت أربعة أطفال، ولدوا جميعا موتى، وقررت أن هذا الزوج الثاني لم يكن رجلها أيضا.
وأنهت زواجها بكل بساطة بأن أنبأت زوجها البروتستانتي بأنه ما دامت الكنيسة الكاثوليكية لم تعترف بزواجها، فإنها لا تعترف به أيضا، وأعلنت حينئذ أنها حرة.
واستغل جون الأمر لمصلحته، وظل يحب سيسي ويشعر معها بسعادة كبيرة ولكنها كانت كالزئبق، وبالرغم من صراحتها المخيفة وسذاجتها الغالبة، فقد كان لا يعرف عنها شيئا حقا، ومل الحياة مع امرأة كاللغز الغامض؛ ولهذا لم يحزن كثيرا على افتراقه عنها.
وكانت سيسي قد أنجبت حيث بلغت الرابعة والعشرين ثمانية أطفال لم يعش واحد منهم، فانتهى رأيها إلى أن الإله يعارض زواجها، فالتحقت بعمل في مصنع للمطاط حيث أنبأت الجميع بأنها عانس (الأمر الذي لم يصدقه أحد) وذهبت لتعيش في بيت أمها.
وأخذ حب سيسي للأطفال يزداد قوة كلما ولد لها طفل ميت، وكانت تصيبها نوبات من الكآبة تشعر فيها أنها خليقة بأن تصاب بالجنون إن لم تجد طفلا تمنحه حبها، وعاشت تفيء من أمومتها المكبوتة على الرجال الذين تقضي الليل معهم، وعلى أختيها، إيفي وكاتي وأطفالهما، وكانت فرانسي تحبها إلى درجة العبادة، وسمعت همسا بأن سيسي امرأة سيئة الخلق، ولكن حبها لها ظل عارما لم ينل منه هذا الهمس في شيء، وحاولت إيفي وكاتي أن تثورا على أختهما الآثمة الضالة، ولكنها راحت تعاملهما أطيب معاملة، فلم تستطيعا أن تقفا منها موقف العداء.
وما إن بلغت فرانسي الحادية عشرة من عمرها حتى تزوجت سيسي للمرة الثالثة في دار البلدية، وكان زوجها جون الثالث يعمل في دار المجلات، وعن طريقه كانت فرانسي تحصل كل شهر على تلك المجلات الأنيقة الجديدة، وتأمل أن يستمر الزواج الثالث من أجل هذه المجلات.
أما إليزا، وهي الابنة الثانية لماري وتوماس، فقد كانت خالية من الجمال والحرارة اللذين امتازت بهما أخواتها الثلاث، وكانت لا تملك جمالا ولا ذكاء ولا تحفل بالحياة، وأرادت ماري أن تهب إحدى بناتها للكنيسة، فقررت أن تكون إليزا هي تلك الابنة، ودخلت إليزا الدير وهي في السادسة عشرة من عمرها، واختارت طائفة من الراهبات عرفن بالتشدد والتزمت، فلم يكن يسمح لها قط بمغادرة باب الدير إلا في حالة وفاة والديها، واتخذت لنفسها اسم أورسولا، وأصبحت الأخت أورسولا في نظر فرانسي أسطورة من الأساطير لا سند لها من الواقع.
ورأتها فرانسي مرة واحدة حين خرجت من الدير لتحضر جنازة توماس روملي، وكانت فرانسي في التاسعة من عمرها قد فرغت لتوها من قربانها الأول المقدس، ووهبت نفسها كلية للكنيسة حتى ظنت أنها سوف تود أن تصبح راهبة حينما يشتد عودها.
وانتظرت قدوم الأخت أورسولا في شوق ولهفة، وهي تقول بينها وبين نفسها: ما أروع التفكير في هذا! خالة راهبة! ما أعظمه من شرف!
ولكن حين انحنت الأخت أورسولا عليها لتقبلها، رأت فرانسي قليلا من الشعر الخفيف على شفتها العليا وذقنها، فروعت فرانسي لذلك؛ إذ ظنت أن الشعر ينمو على وجوه الراهبات اللاتي يدخلن الدير، وهن في نضارة الشباب، واستقر رأي فرانسي على استنكار الرهبنة.
وكانت إيفي ابنة روملي الثالثة، قد تزوجت هي أيضا في سن مبكرة، تزوجت ويلي فليتمان، وهو رجل وسيم، أسود الشعر، له شارب حريري، وعينان صافيتان كالإيطاليين، واعتقدت فرانسي أن اسمه مضحك للغاية، فكانت تضحك بينها وبين نفسها في كل مرة تفكر في ذلك الأمر.
وفليتمان رجل لا يحمد من سجاياه إلا القليل ، ومع ذلك لم يكن إمعة بمعنى الكلمة ، وإنما هو رجل ضعيف لا يكف عن النحيب، ويعزف على القيثارة، وكان في نساء روملي هؤلاء ضعف تجاه أي رجل يبشر بأنه سوف يصبح مبدعا أو عازفا، وأي نوع من الموهبة في الموسيقى أو الفن أو كتابة القصص يعد شيئا رائعا في نظرهن، يثير في نفوسهن الشعور بأن واجبهن تجاه هذه المواهب هو رعايتها.
وكانت إيفي هي المرأة الرقيقة الحاشية الآسرة، تسكن شقة أرضية رخيصة على مشارف حي مهذب كل التهذيب، وتقبل على الدرس ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وأرادت أن تصبح شيئا مذكورا وأرادت لأطفالها أن يحصلوا على ميزات لم تنعم هي بها قط، وكان لها ثلاثة أطفال: صبي سمي باسم أبيه، وبنت اسمها بلوصوم، وصبي آخر اسمه بول جونز، وخطت خطواتها الأولى نحو هذا التهذيب، بأن أخرجت أطفالها من مدرسة الأحد الكاثوليكية، وأدخلتهم مدرسة الأحد الأسقفية، ودخل في روعها أن البروتستانت أكثر تهذيبا من الكاثوليك.
وأخذت إيفي التي عشقت المواهب الموسيقية وأحست أنها محرومة منها، تبحث عنها في نهم بين أطفالها، وداعبها الأمل بأن بلوصوم سوف تحب الغناء، ويحب بول أن يكون عازفا على الكمان، وأن يلعب الصغير على البيانو. على أن الأطفال خلوا من أي ميل للموسيقى، وأخذت إيفي الأمر بالشدة! ورأت أن تحمل أطفالها على حب الموسيقى، رغبوا في ذلك أم لم يرغبوا، وإذا لم يكونوا ذوي مواهب، فإنها خليقة بأن تغرس المواهب فيهم بالدأب على المران كل ساعة، واشترت كمانا قديما لبول جونز، وفاوضت رجلا يسمي نفسه الأستاذ أليجرتو ليعطيه دروسا نظير خمسين سنتا في الساعة. وقد علم هذا الأستاذ فليتمان الصغير مقطوعات مخيفة، وأعطاه في نهاية السنة قطعة اسمها «النزوة»، ورأت إيفي أنه شيء رائع أن يعطي الأستاذ فليتمان مقطوعة ليعزفها، وهذا أفضل من أن يعزف السلالم الموسيقية طول الوقت، أجل أفضل قليلا بلا شك، وهكذا أصبحت إيفي أكثر طموحا.
وقالت لزوجها: ما دمنا قد حصلنا على الكمان لبول جونز، فإن الصغيرة بلوصوم تستطيع أن تتلقى هي الأخرى دروسا، ويستطيع كلاهما أن يتمرن على الكمان نفسه.
وأجاب زوجها في مرارة: أملي أن يكون ذلك في أوقات مختلفة.
وأجابت في سخط: كما تشاء.
وهكذا أصبحت بلوصوم تطبق كل أسبوع يدها في تردد على خمسين سنتا أخرى، لتذهب إلى مدرس الكمان أيضا.
وكان للأستاذ أليجرتو عادة غريبة إلى حد ما مع تلميذاته البنات، فهو يحملهن على خلع أحذيتهن وجواربهن ليقفن حافيات الأقدام على بساطه الأخضر وهن ينشدن، ويقضي الساعة المخصصة للعزف أو لتصحيح مواقع أصابعهن يتفرس في أقدامهن سابحا بأفكاره.
وأخذت إيفي تراقب بلوصوم وهي تستعد للذهاب إلى الدرس ذات يوم، ولاحظت أن الطفلة خلعت حذاءها وجوربها وغسلت قدميها بعناية، وحسبت إيفي أن ذلك أمر محمود، وإن كان غريبا إلى حد ما. - ما بالك تغسلين قدميك الآن؟ - استعدادا لتلقي درس الكمان! - أنت تعزفين بيديك وليس بقدميك؟ - إنني أشعر بالخزي حين أقف أمام المدرس وقدماي قذرتان. - أيستطيع أن يرى من خلال حذائك؟ - لا أظن أنه يستطيع؛ لأنه يحملني دائما على أن أخلع حذائي وجوربي.
وقفزت إيفي لسماع ذلك، وكانت لا تعلم شيئا عن «فرويد»، ولم تشمل معلوماتها القليلة عن الجنس شيئا عن انحرافاته، ولكن ذكاءها الفطري أنبأها بأن الأستاذ أليجرتو ليس خليقا بأخذ خمسين سنتا في الساعة، دون أن يقوم بأداء واجبه، وبهذا انتهت الدروس الموسيقية التي كانت تتلقاها بلوصوم.
وقال بول جونز بعد أن سئل عن الأمر: إن المدرس لم يطلب منه مطلقا أن يخلع شيئا اللهم إلا قبعته، حين كان يذهب إلى الدرس، فسمحت له إيفي بالاستمرار، واستطاع بول جونز بعد خمس سنوات أن يعزف على الكمان بمهارة، تكاد تبلغ مهارة أبيه في العزف على القيثارة؛ أبيه الذي لم يتلق درسا واحدا في حياته.
والعم فليتمان، إذا صرفنا النظر عن موسيقاه، رجل غبي، لا حديث له في البيت إلا عن درامر؛ الجواد الذي يجر عربة اللبن وكيف يعامله، وهناك بين فليتمان والجواد شقاق قديم منذ خمس سنوات، وكانت إيفي تأمل أن ينتهي أحدهما سريعا إلى قرار.
ولقد أحبت إيفي زوجها حقا بالرغم من أنها لا تقوى على مقاومة رغبتها في تقليده، فكانت تقف في مطبخ أسرة نولان وتتظاهر بأنها درامر الجواد، ثم تقلد العم فليتمان تقليدا جيدا، وهو يحاول أن يضع كيس العليق في رقبة الجواد.
ومالت إيفي بجسمها حتى كاد رأسها المترنح يبلغ قدميها قائلة: إن الجواد يقف على حافة الطريق هكذا، ويأتي ويل ومعه كيس العليق وما إن يهم بأن يضعه حتى يرفع الجواد رأسه.
وهنا تقذف إيفي برأسها إلى أعلى وتصهل كالجواد: وينتظر ويل، وينخفض رأس الجواد مرة أخرى، حتى لتظن أنه لن يستطيع أبدا أن يرفعه في الفضاء، ثم يبدو من الجواد ما يشعر بأنه قد خلا من العظام.
وتدلى رأس إيفي على نحو يبعث على الرعب: ويأتي ويل ومعه كيس العليق، فينتصب رأس الجواد.
وسألتها فرانسي: ثم ماذا يحدث؟ - إن ما يحدث هو أنني أهبط إليه وأضع كيس العليق على الجواد. - وهل يسمح الجواد لك بذلك؟
وقالت إيفي لكاتي: هل يسمح لي؟
واتجهت لفرانسي وقالت: إنه يجري على جانب الطريق ليلقاني، بل يدخل رأسه في كيس العليق قبل أن أستطيع رفعه.
وتمتمت في سخط: وهل يسمح لي؟
واتجهت ثانية إلى كاتي وقالت: هل تعلمين يا كاتي أنني أظن أحيانا أن رجلي يغار من حب درامر لي؟ وحملقت كاتي إليها لحظة وقد فغرت فاها، ثم بدأت تضحك، وضحكت إيفي وضحكت فرانسي، ووقفت المرأتان من أسرة روملي، وفرانسي التي تنتسب إلى روملي من ناحية أمها فحسب؛ وقفن هناك يضحكن من سر مشترك بينهن عن الضعف الذي يكمن في الرجل.
وكان أولئك هن نساء روملي: ماري الأم، وإيفي، وسيسي، وكاتي وبناتها، وفرانسي التي كانت خليقة بأن يشتد عودها لتصبح من نساء روملي بالرغم من أن اسمها كان نولان، كن جميعا مخلوقات نحيلة واهنة، ينظرن بعيون شاردة، ويتحدثن بأصوات رقيقة مثيرة.
على أنهن كن قد صنعن من فولاذ رقيق لا تراه العين.
8
كانت بنات روملي يشتد عودهن ليصبحن نساء قويات الشخصية، ويستحيل صبية نولان رجالا ضعافا موهوبين ، وكانت أسرة جوني في طريقها إلى الغناء ، ورجال نولان يزدادون وسامة وضعفا وإغراء جيلا بعد جيل، ويقعون في الحب على نحو خاص بهم، إلا أن زواجهم كان ينطوي على الخضوع والمذلة، وهذا هو السبب الأكبر في انقراضهم.
وكانت روثي نولان قد أقبلت من أيرلندا مع زوجها الوسيم الشاب، بعد زواجهما مباشرة! وقد أنجبا أربعة صبية، بين كل مولود وآخر سنة واحدة، ثم مات ميكي وهو في الثلاثين من عمره، فتحملت روثي المسئولية، وحاولت أن تلحق آندي وجورجي وفرانكي الصف السادس في المدرسة، وحين يبلغ الصبي منهم الثانية عشرة من عمره، يضطره الأمر إلى ترك المدرسة ليشتغل ويكسب قليلا من البنسات.
واشتد عود الصبية وأصبحوا رجالا وسيمين يستطيعون عزف الموسيقى والرقص والغناء، وتفتتن بهم كل الفتيات، وكان الصبية أكثر أبناء الحي أناقة وهنداما، بالرغم من أن أهل نولان كانوا يسكنون أحقر بيت في إيريش تاون، وكانت مائدة الكي تظل مبسوطة في المطبخ؛ لأن هذا الصبي أو ذاك يكوي سرواله دائما، أو يسوي ربطة عنق، أو يكوي قميصا. وكان صبية نولان بقوامهم الفارع ووسامتهم وشقرتهم فخر شانتي تاون، يتميزون بخطواتهم الخفيفة، يسيرون مهرولين في أحذية يحرصون على أن تكون لامعة أشد اللمعان، وسراويلهم تتسق على أجسامهم وقبعاتهم توضع على رءوسهم في أناقة، ولكنهم يموتون جميعا قبل أن يبلغوا الخامسة والثلاثين، أجل يموتون جميعا، ولم يترك أولادا من الصبية الأربعة سوى جوني.
وآندي كان أكبرهم سنا وأكثرهم وسامة، وله شعر أحمر ذهبي متموج وملامح قد سويت في أكمل خلقة، وكان يعاني من مرض السل أيضا، وقد خطب فتاة اسمها فرانسي ميلاني وظلا يؤجلان الزواج حتى تتحسن صحته، ولكنها لم تتحسن قط.
واشتغل صبية نولان ندلا مغنين، وظل يطلق عليهم الرباعي نولان حتى ساءت صحة آندي إلى حد عجز معه عن العمل، فأصبحوا الثلاثي نولان، ولم يكونوا يكسبون كثيرا، كما كانوا ينفقون معظم ما يكسبون في الشراب والرهان في سباق الخيل.
واشترى الصبية لآندي حين حمل إلى الفراش في أيامه الأخيرة وسادة من زغب البجع الحر كلفتهم سبعة دولارات، وقد أحبوا له أن ينعم بشيء من الرفاهية قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ورأى آندي أنها وسادة رائعة، ورقد عليها يومين، ثم انبثق من صدره فيض غزير من الدم، لطخ الوسادة الجديدة الجميلة بلون بني صدئ، وكان هذا آخر عهده بالحياة، وركعت أمه بجوار جثمانه ثلاثة أيام، وأقسمت فرانسي ميلاني ألا تتزوج بعده بحال، وأقسم صبية نولان الثلاثة الباقون بألا يتركوا أمهم أبدا.
وتزوج جوني من كاتي بعد ستة أشهر، وكرهت روثي كاتي؛ لأنها تأمل في أن تحتفظ بأولادها الملاح معها، حتى تموت أو يموتوا، ومن يومها تجنبوا الزواج جميعا، ولكن تلك الفتاة تلك الفتاة؛ كاتي روملي أغرته بالخروج على هذا العهد! وكانت روثي على يقين من أن جوني قد خدع حين وقع في فخ الزواج.
وأحب جورجي وفرانكي كاتي، ولكنهما كانا يعتقدان أنها خدعة دنيئة، تلك التي أقدم عليها جوني حين تخلى عنهما وتركهما يرعيان أمهما، على أنهما قد استخلصا من هذا الظرف خير ما فيه، وبحثا عن هدية الزواج، وقررا أن يهديا إلى كاتي الوسادة الناعمة التي اشترياها لآندي، واستخدمها آندي فترة قصيرة جدا، وحاكت الأم لها غطاء جديدا لتخفي البقعة القبيحة التي حملت آخر أثر من حياة آندي، وهكذا صارت الوسادة إلى جوني وكاتي اللذين رأيها أنها أنفس من أن تستعمل كل يوم، فلم يكونا يخرجانها إلا حين يصيب المرض أحدهما، وأطلقت عليها فرانسي اسم «وسادة المرض»، ولم تكن كاتي أو فرانسي تعلم أنها كانت وسادة الموت.
وكان فرانكي الذي يعد في نظر طائفة من الناس أكثر وسامة من آندي عائدا من مجلس شراب يترنح ذات ليلة، ولما تنقض سنة على زواج جوني، حين تعثرت قدمه في سلك مشدود وضعته امرأة ريفية من بروكلين حول قدم مربعة من العشب أمام ظلة بيته، وكان السلك مرفوعا إلى أعلى على عصي صغيرة حادة الأطراف، فلما وقع فرانكي على السلك اخترقت إحدى هذه العصي معدته، ولكنه استطاع أن ينهض من كبوته بطريقة ما، وعاد إلى بيته وأدركته المنية أثناء الليل، فقضى نحبه وحيدا، وحرم الغفران الأخير للقسيس على ما اقترف من آثام، وظلت أمه بقية حياتها تقيم قداسا كل شهر لراحة نفسه التي تظن أنها تهيم على وجهها في المطهر.
وقد فقدت روثي نولان ثلاثة من أبنائها في سنة أو أكثر قليلا، اثنان منهما عدا عليهما الموت، والثالث مات بالزواج، وحزنت على ثلاثتهم، ومات جورجي الذي لم يتركها قط بعد ثلاث سنوات حين بلغ الثامنة والعشرين، وأصبح جوني الذي بلغ الثالثة والعشرين الابن الوحيد الذي بقي من أولاد نولان في ذلك الحين.
وهؤلاء كانوا فتية نولان، ماتوا جميعا في عنفوان الشباب، ماتوا فجأة أو اخترمهم الموت اختراما لتهورهم أو سلوكهم المنحرف في الحياة، وجوني هو الابن الوحيد الذي عاش بعد سن الثلاثين.
وكان يجري في دماء الطفلة فرانسي نولان كل صفات بنات روملي، وصفات أبناء نولان جميعا، فورثت عن أبناء نولان المرحين ضعفهم الشديد وولعهم بالجمال، وكان فيها آثار من تصوف جدتها لأمها، ومن روايتها للقصص وإيمانها الشديد بكل شيء ورحمتها بالضعفاء، وفيها أيضا كثير من العزيمة الجبارة التي اتصف بها جدها لأمها، وورثت بعض ما عرفت به خالتها إيفي من موهبة في التقليد، وبعض ما عهد في روثي نولان من رغبة في الاستحواذ، وكانت تجمع إلى ذلك حب خالتها سيسي للحياة وحبها للأطفال، وتجمع أيضا ما أثر عن جوني من دقة الإحساس دون الوسامة، وكل ما تميزت به كاتي من لين في الأسلوب، ونصف ما انطوت عليه كاتي من إرادة حديدية ... أجل كانت تجمع كل هذه الخلال الطيبة وكل هذه الخلال القبيحة.
إلى جانب هذا كله حصلت من الكتب التي طالعتها في المكتبة شيئا آخر، كان فيها شيء من الزهرة التي نمت في الوعاء البني اللون، وفي حياتها شيء من الشجرة التي نمت متناسقة في الفناء، وقد أثرت في حياتها المشاحنات المريرة التي كانت تنشب بينها وبين أخيها الذي تحبه من صميم قلبها. لقد كانت فرانسي سر كاتي، يساورها اليأس ويستهويها البكاء، وكانت هي الخزي يحس به أبوها وهو عائد إلى البيت يترنح من السكر.
أجل كانت هي كل هذا جميعا، وشيئا آخر لم تكتسبه من آل روملي أو آل نولان، أو من القراءة أو الملاحظة أو ممارسة الحياة يوما بعد يوم، أجل كان شيئا ولد فيها، وفيها وحدها دون سواها؛ إنه ذلك الشيء الذي تختلف فيه عن أي فرد من أفراد الأسرتين، كان هذا الشيء هو الذي يغرسه الله في كل نفس ينفخ فيها الروح، ذلك هو الشيء الوحيد المنفرد الذي لا يجعل قدمين تدبان على وجه هذه الأرض تستويان فيما تحدثانه من أثر.
9
وتزوج جوني وكاتي واستقر بهما المقام في شارع جانبي هادئ في ويليمسبرج يسمى شارع بوجارت، واختار جوني الشارع لأنه أنس في اسمه جرسا مثيرا حزينا، وعاشا هناك السنة الأولى من زواجهما سعيدين.
وقد تزوجت كاتي جوني لأنها أحبت فيه طريقته في الغناء والرقص والملبس، ولكنها بدأت، شأن النساء، تغير فيه كل هذه الصفات بعد الزواج، وأقنعته بأن يترك عمله كنادل مغن، وأطاع جوني أمرها لأنه كان يحبها ويعمل على إرضائها، وحصلا على وظيفة تجمع بينهما وتنيط بهما العناية بمدرسة ثانوية، وأحبا هذا العمل، وكان يومهما يبدأ حين يخلد الناس إلى النوم، فترتدي كاتي بعد العشاء معطفها الأسود ذا الأكمام الضيقة التي تتسع عند الأطراف، وقد حلي في بذخ بأشرطة، وهذا المعطف هو آخر ما غنمته من المصنع، وتلقي على رأسها طرحة بديعة من الصوف في لون الكرز، ثم تنطلق هي وجوني إلى العمل.
وكانت المدرسة عتيقة صغيرة دافئة، وهما يتشوقان لقضاء الليل هناك، ويسيران متشابكي الأذرع، وقد لبس جوني حذاء الرقص ذا الجلد اللامع المتلألئ، ولبست كاتي حذاءها ذا الرباط المصنوع من جلد الماعز العالي، وفي بعض الأحيان يجريان قليلا ويتزحلقان قليلا، ويضحكان كثيرا عندما يكون الليل شديد البرد، والسماء حافلة بالنجوم، وأحسا بعظم شأنهما حين كانا يفتحان المدرسة بمفتاحها الخاص، فالمدرسة هي عالمهما الذي يقضيان فيه الليل.
وكانا يلعبان وهما يشتغلان، فيجلس جوني على درج من الأدراج، وتتظاهر كاتي بأنها هي المدرسة، ويتبادلان الرسائل كتابة على السبورة، ويجذبان الخرائط التي تلتف بالستائر إلى أسفل، ويشيران إلى البلاد الأجنبية بالمؤشر الذي صنع طرفه من المطاط، وكانت جوانحهما تمتلئ عجبا حين يفكران في البلاد الغريبة واللغات المجهولة (كان جوني في التاسعة عشرة وكاتي في السابعة عشرة).
وإن أكثر ما يرغبان فيه هو تنظيف حجرة الاجتماعات، فينفض جوني التراب عن البيانو، وحين يفعل ذلك تجري أصابعه على مفاتيحه ويتخير بعض الأوتار، فيغني لها الأغاني العاطفية الشائعة في ذلك الوقت، مثل: «لعلها رأت أياما أفضل» أو «إني أذيب قلبي من أجلك»، ويداعب الغناء آذان السكان المجاورين، وهم نائمون في منتصف الليل فينصتون وسنانين، وهم يخلدون إلى فراشهم الدافئ ويتهامسون: إن ذلك الحبيب أيا كان، يضيع وقته، أجل إنه يضيع وقته، وكان أولى به أن يعتلي حشبة المسرح.
وأحيانا ينخرط جوني في رقصة من رقصاته على المنصة الصغيرة متخيلا أنها مسرح، وكان رشيقا كل الرشاقة، جميلا غاية الجمال، يفيض قلبه بالحب، ويمتلئ فؤاده بعظمة الحياة، حتى إن كاتي اعتقدت وهي تراقبه أنها تكاد تموت من فرط السعادة.
وذهبا حين حلت الساعة الثانية إلى حجرة غداء المدرسين، حيث كان هناك موقد للغاز، وضعا عليه القهوة، وقد احتفظا بعلبة من اللبن المركز في الصوان، واستمتعا بمنظر القهوة الساخنة وهي تغلي وتملأ الحجرة برائحة رائعة، واستطابا طعم الخبز المصنوع من الجويدار، وشطيرة البولونيا الطيبة النكهة، وكانا يذهبان أحيانا بعد العشاء إلى استراحة المدرسين، حيث توجد هناك أريكة مغطاة بقماش من قطن مطبوع بزهور مختلفة براقة، وينامان عليها بعض الوقت.
وإن آخر عمل لهما هو إفراغ سلال المهملات، وتستنقذ كاتي منها قطع الطباشير الطويلة التي أهملت وأقلام الرصاص التي لم تكن قد انتهت تماما، وتأخذها معها إلى البيت وتحفظها في صندوق، وشعرت فرانسي بعد أن اشتد عودها بأنها أصبحت غنية كل الغنى، بفضل ما جمعت من الطباشير الكثير وأقلام الرصاص الكثيرة.
وقد اعتادا أن يتركا المدرسة في الفجر نظيفة لامعة دافئة، معدة للبواب الذي يتعهدها بالنهار، ويسيران عائدين إلى بيتهما يراقبان النجوم وهي تخبو في أديم السماء، ويمران بالمخبز حيث تفوح من حجرة الخبيز في الطابق الأرضي رائحة الكعك الطازج، ويجري جوني ويشتري بخمسة سنتات كعكا ساخنا من الفرن، ويتناولان حين يصلان إلى البيت فطورهما، الذي يشتمل على القهوة الساخنة والكعك الدافئ المحلى، ثم يجري جوني خارجا ويشتري صحيفة «أمريكان» الصباحية ويقرأ لها الأخبار، معلقا عليها في سرعة، في حين تنظف هي الحجرات، وفي الظهيرة يتناولان غداء ساخنا يشتمل على طاجن شواء وعجينة بالبيض، أو شيء طيب من هذا القبيل، ويذهبان بعد الغداء ليناما حتى يحين موعد ذهابهما إلى العمل.
وبلغ دخلهما خمسين دولارا في الشهر، وذلك دخل طيب لأناس من طبقتهم في تلك الأيام، وعاشا حياة طيبة مريحة سعيدة حافلة بالمغامرات الصغيرة، وكانا لا يزالان في ريعان الصبا يتبادلان حبا قويا عظيما.
واكتشفت كاتي بعد شهور قليلة أنها حامل، وأثار هذا في نفسها دهشة بريئة وذهولا محيرا، وأنبأت جوني بأنها أصبحت حاملا، وذهل جوني وارتبك أول الأمر، فهو لا يريد لها أن تعمل في المدرسة، ولكنها أخبرته أنها على تلك الحال منذ فترة قبل أن تتأكد من الحمل، وقد كانت تعمل دون أن تعاني شيئا، وأذعن جوني للأمر حين أقنعته أن من الخير لها أن تعمل، واستمرت تعمل حتى أصبح جسمها لا يطاوعها لتكنس تحت الأدراج، ثم أصبحت لا تستطيع أن تفعل شيئا أكثر من الذهاب معه لتؤنسه، وترقد على الأريكة البهيجة التي لم تعد تستخدم لمطارحة الغرام، وأصبح يقوم وحده بكل العمل، ويصنع لها حين تحل الساعة الثانية صباحا شطائر غليظة، وقهوة غليظة أكثر من اللازم، وظلا يشعران بالسعادة الغامرة، بالرغم من أن جوني يزداد قلقا وهما بمضي الأيام.
وبدأت آلامها في نهاية ليلة من ليالي ديسمبر الشديدة البرودة، فرقدت على الأريكة تكتم آلامها، غير راغبة في أن تطلع جوني على الأمر، حتى ينتهي من العمل، وشعرت وهما في طريق العودة إلى البيت بألم يمزق أحشاءها لم تستطع أن تكتمه، فندت منها أنات، وعلم جوني أن الطفل في طريقه إلى النور، وأخذها إلى البيت، ووضعها في السرير دون أن يخلع عنها ملابسها، وغطاها وأرقدها، ثم نزل يجري من المنطقة التي يسكنانها، وذهب إلى السيدة جيندلر القابلة، واستعطفها أن تمضي معه سريعا، وقد أثارته تلك السيدة الطيبة إلى حد الجنون بتمهلها.
كان عليها أن تخرج من رأسها عشرات الأسلاك التي تسوي بها شعرها، ولم تستطع أن تعثر على طقم أسنانها، ورفضت أن تذهب بدونه للقيام بواجبها، وساعدها جوني في البحث عنه، ووجداه أخيرا في كوب ماء على الرف خارج النافذة، وكان الماء قد تجمد على طقم الأسنان فاقتضاهما ذلك أن يذيبا ما تراكم عليه من ثلج قبل أن تضعه في فمها، وعليها بعد الانتهاء من ذلك أن تصنع تعويذة من قطعة من سعف النخيل مباركة، أخذتها من الهيكل في يوم أحد الزعف، وأضافت إلى ذلك شارة للأم المباركة وريشة صغيرة زرقاء من ريش الطير، وشفرة مكسورة من مطواة وغصنا من بعض الأعشاب، وربطت تلك الأشياء جميعا بقطعة خيط قذرة، أخذتها من مشد كان يخص امرأة وضعت توأمين، بعد ولادة لم تستغرق أكثر من عشر دقائق، ورشت التعويذة كلها بالماء المقدس الذي زعم الناس أنه خرج من بئر في بيت المقدس، قيل إنه الماء الذي أطفأ به يسوع ظمأه ذات مرة، وشرحت للرجل الثائر أن تلك التعويذة خليقة بأن تخمد الآلام، وتجلب له بكل تأكيد طفلا جميلا بعد ولادة سهلة، وأمسكت أخيرا بكيسها الموضوع من جلد التمساح المألوف لكل من يسكن الحي، والذي يعتقد كل الأحداث الصغار أنه الكيس الذي ولدوا فيه جميعا وهم يرفسون أمهاتهم، وأصبحت القابلة مستعدة للخروج.
وأخذت كاتي تصرخ من الألم حين وصلا إليها، وقد امتلأت الشقة بنساء الجيران اللائي وقفن حولها يصلين، ويستعدن ذكرى ما مررن به من خبرات في ميدان الولادة، وقالت واحدة: حين وضعت طفلي «وينسنت» كنت ...
وقالت أخرى: كنت أصغر منها سنا، وحين ...
وأعلنت امرأة ثالثة في فخر: إنهم لم يتوقعوا لي أن أخرج سليمة من الولادة، ولكن ...
ورحبت النساء بالقابلة وأخرجن جوني بعيدا عن المكان ، فجلس تحت ظلة البيت يرتعد كلما ندت صرخة من كاتي، وكان مرتبكا لذلك الأمر الذي حدث فجأة، وبلغت الساعة السابعة صباحا، وصراخها لا يزال يطرق أذنيه بالرغم من أن النوافذ كانت مغلقة، وكان الرجال يمرون وهم في طريقهم إلى أعمالهم، يتطلعون إلى النافذة التي ينبعث من خلفها الصراخ، ثم ينظرون إلى جوني الذي تكوم تحت الظلة، وترتسم على وجوههم نظرة هم واكتئاب.
وقضت كاتي ذلك اليوم في الوضع، ولم يستطع جوني أن يفعل شيئا! أجل لم يكن في مقدوره أن يفعل أي شيء، ولم يستطع عند حلول الليل أن يحتمل الأمر أكثر من ذلك، فذهب إلى بيت أمه طلبا للمواساة، وحين أنبأها أن كاتي ستلد طفلا، تعالت صرخاتها حتى كادت تشق عنان السماء.
وولولت قائلة: الآن قد استحوذت عليك كل الاستحواذ، ولن تستطيع أن تعود إلي أبدا.
ولم يكن هناك شيء يمكن أن يهدئ روعها.
وقصد جوني إلى أخيه جورجي الذي يعمل راقصا، وجلس يحتسي الخمر منتظرا جورجي حتى يفرغ من العمل، ناسيا أنه يجب أن يكون بالمدرسة، وذهبا حين فرغ جورجي من عمله لقضاء الليل في حانات متعددة تفتح طول الليل، وشربا كأسا أو كأسين من الخمر في كل مكان، وأنبأ الجميع بالأزمة التي مر بها، وأنصت إليه الرجال في عطف ودعوا جوني للشراب، وأكدوا له أنهم مروا بتلك المحنة نفسها.
وذهب الرجلان عند الفجر إلى بيت أمهما حيث راح جوني في نوم متقطع، واستيقظ في الساعة التاسعة وهو يشعر أن المتاعب في سبيلها إليه، وتذكر كاتي، ولم يذكر المدرسة إلا متأخرا جدا، فاغتسل وارتدى ملابسه واتجه عائدا إلى بيته، ومر بمظلة للفواكه تعرض فيها فاكهة الأفوكادو، فاشترى ثمرتين منها لكاتي.
ولم يكن ثمة شيء ينبئه أن زوجته قد وضعت أثناء الليل، وبعد ولادة استغرقت أربعا وعشرين ساعة أو نحوها، طفلة ضعيفة ونزفت معها دماء كثيرة، ولم يكن هناك شيء يميز الوضع سوى أن الطفلة ولدت، وحول رأسها غشاء النخط، وساد اعتقاده بأن الطفلة أعدها الله لأداء أعمال جليلة في العالم، وكانت القابلة تؤمن بالخرافات، فاحتجزت الغشاء ثم باعته لبحار يعمل في حوض بروكلين نظير دولارين، وهناك زعم بأن من يلبس غشاء النخط لا يموت بالغرق أبدا، ولبسه البحار في كيس من الفانلة وربطه حول عنقه.
ولم يعلم جوني وهو ينفق الليل في شرب الخمر والنوم، أن الليل قد أمسى باردا، وانطفأت نيران المدرسة التي كان يجب أن يتعهدها، وانفجرت مواسير المياه وأغرقت الطابق الأرضي والطابق الأول بالمدرسة.
وحين وصل إلى البيت وجد كاتي نائمة في المخدع المظلم، والطفلة ترقد بجوارها على وسادة آندي، والشقة ممسوحة نظيفة، وقد قامت بهذا العمل جاراتها، وكانت تنبعث من الحجرة رائحة خفيفة من حامض الكربونيك ممتزجا بمسحوق التلك، وخرجت القابلة بعد أن قالت: إن أجري خمسة دولارات وإن زوجك يعرف أين أسكن.
وانصرفت القابلة، وأدارت كاتي رأسها نحو الحائط، وحاولت ألا تبكي، وفي أثناء الليل طمأنت بالها بأن جوني يعمل في المدرسة، وكانت تأمل أنه سوف يهرول إلى البيت لحظة في فترة غداء الساعة الثانية، والآن قد أوغل الصباح، وبات من المنتظر أن يعود إلى البيت، من يدري لعله مضى إلى أمه يختلس ساعة، يقضيها في النوم بعد عمل الليل، وحملت نفسها على الاعتقاد بأن أي شيء يفعله جوني خليق بأن يكون صوابا، وأن تعليله لغيبته سوف يريح بالها.
وأقبلت إيفي بعد أن مضت القابلة مباشرة، ناداها صبي من الجيران كان قد أرسل في طلبها، وأحضرت إيفي معها بعض الزبد الطيب، وكيسا من «القراقيش» المعالجة بالصودا، وأعدت الشاي الذي استطابت كاتي طعمه جيدا، وفحصت إيفي الطفلة واعتقدت أنها ليست جميلة، ولكنها لم تقل شيئا لكاتي.
وبدأت إيفي تلقي على جوني درسا بعد عودته إلى البيت، ولكنها حين رأت ما يبدو عليه من شحوب وخوف، وتذكرت عمره الذي لم يكد يبلغ العشرين، حز في نفسها الألم، وقبلت وجنته، وقالت له: «لا داعي للقلق»، وأعدت له قدحا من القهوة.
ونظر جوني إلى الطفلة نظرة عابرة، وركع بجوار سرير كاتي وهو لا يزال يمسك بثمرتي الأفوكادو ، وأخذ ينتحب مفضيا إليها بمخاوفه وقلقه، وبكت كاتي معه، أو كانت تريده معها أثناء الليل، ولكنها ودت الآن لو أنها استطاعت أن تضع طفلتها خفية، وأن تذهب إلى مكان بعيد ثم تعود حين ينتهي كل شيء، وتنبئه بأن الأمور كلها سارت على ما يرام، ولكنها كانت تعاني الألم كأنها ألقيت حية في زيت ملتهب يغلي، ولا يدركها الموت حتى يخلصها من آلامها، لقد كان يلح عليها الألم؛ رباه! أليس ذلك حسبي؟ لم كتب عليه الشقاء أيضا! إنه لم يخلق للشقاء ولكنها هي التي خلقت له، وكانت قد وضعت طفلتها منذ ساعتين فحسب، ونال منها الضعف فلم تعد تستطيع أن ترفع رأسها عن الوسادة، وبالرغم من ذلك أخذت تواسيه وتخفف آلامه، وتسأله ألا يستسلم للقلق وأنها سوف تعنى به وترعاه.
وبدأت حال جوني تتحسن، وأخبرها أن الأمر هين على أي حال، وأنه قد عرف أن كثيرا من الأزواج مروا بتلك المحنة، وقال: وإني لأمر بتلك المحنة أيضا، فأنا الآن رجل.
وأخذ يتحدث عن الطفلة ممعنا في الصخب، ووافقت على اقتراحه بتسمية الطفلة فرانسي، تيمنا بالفتاة فرانسي ميلاني التي لم تتزوج أخاه آندي قط، وظنا أن هذه التسمية خليقة بأن تساعد على التئام قلبها الجريح، لو أنها أصبحت أم الطفلة في العماد؛ لأن الطفلة سوف تحمل الاسم الذي كانت ستحمله هي، لو أن آندي قد عاش؛ فرانسي نولان.
وعالج ثمرتي الأفوكادو بالزيت المحلى والخل المملح، وأحضر الكامخ لكاتي وخاب أملها حين ذاقت طعمه غير المستساغ، لكن جوني قال إنها لا بد أن تعتاده كما اعتادت الزيتون، وأكلت كاتي الكامخ مراعاة لخاطره وتأثرا بلفتته، إذ رأته يفكر فيها، وحثت إيفي على أن تذوق شيئا منه ففعلت، ثم قالت إنها لا تلبث أن تصيب بعض الطماطم.
وبينما كان جوني يشرب القهوة في المطبخ، جاء صبي من المدرسة يحمل رسالة من المدير، يقول فيها إن جوني فصل من العمل بسبب الإهمال، وعليه أن يذهب إلى المدرسة ليأخذ ما يستحقه من مال، وختمت الرسالة بإنباء جوني ألا يطلب أية توصية، وشحب لون جوني وهو يقرأ الرسالة، وناول الصبي خمسة سنتات نظير حملها إليه، وتوصيل رسالة منه يقول فيها: إنه سوف يحضر إلى المدرسة، ومزق جوني الورقة ولم يذكر عنها شيئا لكاتي.
وقابل جوني المدير، وحاول أن يشرح له الأمر، ولكن المدير أنبأه بأنه إذا علم أنه يوشك على إنجاب طفل، أصبح من واجبه أن يكون أكثر حرصا على وظيفته، وأخبره بعد روية مشفقا عليه بأنه لن يدفع شيئا نظير الخسارة التي سببتها المواسير المنفجرة، وأن مجلس التعليم سوف يتحمل ذلك، وشكره جوني ودفع له المدير من جيبه الخاص ما يستحقه من مال، بعد أن وقع جوني مستندا بتحويل مرتبه المقبل إلى المدير، وفعل المدير على كل حال ما وسعه بحسب تقديره للظروف.
وأعطى جوني القابلة أجرها كما أعطى صاحب البيت إيجار الشهر المقبل، وشعر بشيء من الفزع حين أدرك أنه أصبح أبا لطفلة، وأن كاتي سوف تظل مدة طويلة ضعيفة لا تستطيع أن تفعل الكثير، وأنهما طردا من الوظيفة، وطمأن نفسه أخيرا حين فكر في أن الإيجار قد سدد، وأن أمامهما ثلاثين يوما يقضيانها في أمن من العوز، وما من شك في أنه سوف تأتيهما الأيام في هذه الأثناء بشيء جديد.
ومضى جوني عصر ذلك اليوم إلى ماري روملي ليخبرها بمولد الطفلة، وتوقف عند مصنع المطاط، وسأل عن رئيس سيسي، وطلب من الرجل أن ينبئها بنبأ الطفلة، ويسألها إن كانت ستزورهما بعد فراغها من العمل، وقال الرئيس إنه سيفعل، وغمز بعينيه لجوني ولكزه في ضلوعه قائلا: إن هذا لخير أصابك يا ماك.
وابتسم جوني وناوله عشرة سنتات، وقال له: اشتر سيجارا من نوع جيد ودخنه حبا وكرامة.
ووعد الرئيس قائلا: سأفعل، يا ماك.
والتقط الرجل النقود من يد جوني، ووعده مرة أخرى بأنه سينبئ سيسي بالأمر.
وبكت ماري روملي حين سمعت الأخبار، وولولت قائلة: يا للطفلة المسكينة! يا للصغيرة البائسة تخرج إلى هذا العالم المليء بالأسى، لقد ولدت لتعاني العذاب والشقاء. آه، لسوف تجد قليلا من السعادة، ولكنها ستلقى الكثير من العمل الشاق، آه! آه!
وكان جوني يريد من صميم قلبه أن ينبئ توماس روملي بالأمر، ولكن ماري رجته ألا يفعل ذلك الآن، وكان توماس يكره جوني نولان لأنه أيرلندي ويكره الألمان، ويكره الأمريكيين، ويكره الروس، ولم يكن يطيق الأيرلنديين بالذات، وكان عنيفا في تعصبه لسلالته بالرغم من كراهيته العظيمة لعنصره، وله نظرية بأن التزاوج بين عنصرين غريبين خليق بأن ينتج نسلا هجينا، ويدلل على هذا بقوله: أي نتاج يمكن أن أحصل عليه لو أنني زوجت عصفورة الكناريا للغراب؟ •••
وانطلق جوني يبحث عن عمل بعد أن رافق حماته وأوصلها إلى بيته، وفرحت كاتي حين رأت أمها، وعلمت آنئذ وآلام الوضع لا تزال تتردد في ذاكرتها مبلغ الألم الذي عانته أمها حين ولدتها، وفكرت في أمها التي وضعت سبعة أطفال لترعاهم وتربيهم، وترى ثلاثة منهم يموتون، وتعلم أن هؤلاء الذين يعيشون قد كتب عليهم الجوع والشقاء، وارتسم في مخيلتها أن هذا المصير نفسه ينتظر طفلتها التي لم تبلغ من العمر يوما واحدا، فبرح بها القلق حتى أشرفت على الجنون.
وسألت كاتي أمها: ماذا عساي أن أدري؟ إني لا أستطيع أن أعلمها شيئا أكثر مما أعلمه أنا نفسي، وأنا لا أعلم إلا النزر اليسير، أنت فقيرة يا أمي، وجوني وأنا فقيران، سوف تكبر الطفلة لتكون فقيرة، ولن نستطيع أن نتقدم عما نحن عليه اليوم، بل إني لأظن في بعض الأحيان أن السنة الماضية خير سنة قدر لنا أن نشهدها في حياتنا، وسوف يتقدم بي العمر وبجوني كلما توالت الأعوام، ولن تتحسن الحال. إن كل ما نمتلكه الآن هو شبابنا وقوتنا اللذان يعيناننا على العمل، ولكننا سوف نفقدهما بمضي الزمن.
ثم تكشفت لها الحقيقة، وقالت بينها وبين نفسها: إنني لا أعني أنني أستطيع العمل، وأنا لا أستطيع الاعتماد على جوني؛ لأنني سوف أظل دائما أرعى شأنه، أوه يا إلهي! لا ترزقني أطفالا آخرين، وإلا فلن أستطيع أن أرعى جوني، ولا مناص لي من أن أرعى جوني؛ لأنه لا يستطيع أن يرعى نفسه.
وقطعت أمها حبل أفكارها، وقالت ماري: ماذا كنا نملك في وطننا القديم؟ لا شيء، كنا فلاحين، وكنا نتضور جوعا، ثم نزحنا إلى هنا، ولم تكن حالنا أفضل من ذلك كثيرا، إلا حين امتنعوا عن تجنيد أبيك، كما كانوا خليقين بأن يفعلوا في وطننا القديم، أما فيما عدا ذلك فقد كانت حياتنا أشد وأقسى، وإني لأفتقد أرض الوطن، والشجر، والحقول الفسيحة، وأسلوب الحياة الذي ألفناه، والأصدقاء القدماء. - ولماذا أتيت إلى أمريكا ما دمت لا تتوقعين حياة أفضل؟ - من أجل أولادي الذين أردت لهم أن يولدوا في بلد حر.
وابتسمت كاتي في مرارة: إن أولادك لم يتعلموا في حياتهم كثيرا! - هنا تجدين ما لا تجدينه في وطننا القديم؛ لأننا نجد هنا فسحة من الأمل بالرغم مما يعترضك من شدائد لم تألفيها. إن الرجل في وطننا القديم لا يستطيع أن يكون أفضل من أبيه، هذا إذا جاهد وكافح، فإذا كان أبوه نجارا فإنه يصبح نجارا، ولكنه لا يكون معلما أو قسيسا، إنه يستطيع أن يرتقي، ولكنه لا يستطيع أن يتجاوز طبقة أبيه. إن الرجل في وطننا القديم ابن ماضيه، ولكنه هنا ابن مستقبله، إنه في هذه البلاد قد يكون ما يريد إذا كان سليم القلب، يستطيع أن يعمل مخلصا في صالح الأعمال. - لس هذا صحيحا، فإن أولادك لم يعيشوا حياة أفضل من حياتك!
وتنهدت ماري روملي قائلة: إن ذلك قد يكون خطئي، لقد جهلت كيف أعلم بناتي؛ لأنني لم أكن أستند إلى شيء سوى أن أسرتي ظلت منذ مئات السنين تشتغل في أرض يملكها أحد الملاك، ولم أرسل ابنتي الأولى للمدرسة؛ لأنني كنت أجهل أول الأمر أن أولاد عامة الشعب من أمثالنا، كان يوفر لهم التعليم المجاني في هذه البلاد، وهكذا لم تجد سيسي فرصة لأن تصبح أحسن حالا مني، ولكن الثلاث الأخريات ... لقد ذهبت أنت إلى المدرسة. - إنني انتهيت من الصف السادس إذا كان ذلك يعد تعليما. - وزوجك يوني (كانت لا تستطيع أن تنطق حرف الجيم) فعل ذلك أيضا ، ألا ترين ذلك؟
واضطرب صوتها في انفعال: بدأت الأمور تتحسن.
والتقطت الطفلة ورفعتها بين ذراعيها عاليا، وقالت في بساطة: إن هذه الطفلة ولدت من أبوين يعرفان القراءة والكتابة، وهو في رأيي شيء رائع. - أماه! إنني شابة، أماه، لقد بلغت الثامنة عشرة، وأنا قوية، وسوف أعمل وأكد يا أمي، ولكني لا أريد لهذه الطفلة أن تكبر لتشقى في العمل مثلما شقيت. أماه، ماذا يجب علي أن أفعله؟ أجل ماذا يجب علي أن أفعله لأوفر لها عالما مختلفا عن عالمي؟ كيف أبدأ؟ - إن السر يكمن في القراءة والكتابة، وأنت تستطيعين القراءة، فلتقرئي كل يوم لطفلتك صفحة واحدة من كتاب جيد، ولتفعلي ذلك كل يوم حتى تتعلم الطفلة القراءة، فيصبح واجبها أن تقرأ كل يوم، أنا أعلم أن هذا هو سر الفلاح.
وودعتها كاتي قائلة: لأقرأن، فما هو الكتاب الجيد؟ - هناك كتابان عظيمان، إن شكسبير كتاب عظيم، لقد سمعت أن كل روائع الحياة في ذلك الكتاب، إن صفحاته لتضم كل ما عرفه الإنسان عن الجمال، وكل ما يمكن أن يحصله من حكمة ويعلمه من الحياة، وقد قيل إن تلك القصص ما هي إلا روايات تمثل على المسرح، صحيح أنه لم يقدر لي مطلقا أن أتحدث مع أحد عن هذا الأثر العظيم، ولكني سمعت صاحب الأرض التي كنا نعمل فيها في أستراليا يقول: إن بعض صفحاته تشدو بالكلمات كما تشدو الأغاني والألحان. - وهل شكسبير كتاب كتب بالألمانية؟ - إنه كتب بالإنجليزية، وسمعت صاحب أرضنا يقول ذلك منذ زمن بعيد لابنه، الذي كان يعد نفسه للالتحاق بجامعة هيدلبردج العظيمة. - وما هو الكتاب العظيم الثاني؟ - إنه الإنجيل الذي يقرؤه البروتستانت. - إن لدينا إنجيلنا؛ إنجيل الكاثوليك.
وأدارت ماري عينيها في الحجرة هائمة النظرات، وقالت: إنه لا يليق بامرأة كاثوليكية صالحة أن تقول ذلك، ولكني أعتقد أن إنجيل البروتستانت فيه من جمال القصة الكبرى التي تمثل على مسرح هذه الأرض وما وراءها أكثر مما في إنجيل الكاثوليك، وقرأت لي ذات مرة صديقة حميمة بعض صفحات إنجيلها، فأنست فيه من الجمال ما ذكرت.
إن ذلك إذن هو الكتاب، هو وكتاب شكسبير، وعليك أن تقرئي كل يوم لطفلتك صفحة من كل منهما، ولو كنت أنت نفسك لا تستطيعين أن تفهمي أو تنطقي الكلمات نطقا صحيحا، أجل يجب عليك أن تفعلي ذلك، حتى تشب الطفلة عارفة بأسرار العظمة، وإن بيوت ويليمسبرج هذه ليست هي العالم جميعا. - إنجيل البروتستانت وشكسبير. - وعليك أن تروي لطفلتك القصص التي رويتها لك، كما روتها لي أمي وروتها لها أمها، وعليك أن تروي لها حكايات الجان المألوفة في بلدنا القديم، وكذلك القصص التي لا تخص هذه الأرض، وهي التي تعيش في قلوب الناس أبد الآبدين، قصص الجنيات والعفاريت والأقزام وما إليها. أجل يجب أن تحكي لها عن الأشباح العظيمة التي تسكن في أعماق أهل أبيك، وعن عين الحسود التي أصاب بها ساحر عمتك. عليك أن تعلمي طفلتك الأحداث التي تتكشف لنساء أسرتنا، حين تلوح نذر الشدائد أو الموت، يجب على الطفلة أن تؤمن بالله عز جلاله وبالمسيح.
ثم رسمت علامة الصليب. - أوه! ولا تنسي سانتا كلوز الذي يجب على الطفلة أن تؤمن به حتى تبلغ السادسة من عمرها. - أماه! إني لأعلم أنه لا توجد أشباح أو جان، ولو فعلت لكنت أعلم الطفلة أكاذيب سخيفة.
وتكلمت ماري في حدة: أنت لا تعلمين إن كانت الأرض تخلو من الأشباح، أو أن السماء تخلو من الملائكة. - أنا أعلم أنه لا وجود لسانتا كلوز. - يجب عليك أن تعلمي الطفلة أن هذه أشياء حقيقية. - كيف، وأنا نفسي لا أومن بها؟
وشرحت ماري روملي الأمر ببساطة قائلة: لأن الطفلة يجب أن يتوافر لها شيء له قيمته يسمى الخيال، يجب على الطفلة أن يكون لها عالم خفي تعيش فيه، أشياء لم يكن لها وجود قط، أجل ينبغي لها أن تؤمن، ويجب أن تبدأ بالإيمان بأشياء لا تنتمي إلى هذا العالم، فتستطيع الطفلة حين يصبح العالم في نظرها قبيحا لا يستساغ العيش فيه، أن ترتد إلى الخيال وتعيش فيه ، وإني أنا نفسي حتى هذا اليوم وفي هذه السن التي بلغتها، أشعر بحاجة شديدة إلى تذكر سير القديسين العجيبة والمعجزات العظيمة التي قدر لهذا العالم أن يراها، وإني لا أستطيع أن أعيش وراء ما ينبغي أن أعيش من أجله، إلا بفضل تذكر هذه الأشياء وتخيلها في مخيلتي. - إن الطفلة سوف يشتد عودها وتكتشف الأشياء بنفسها، فتعلم أنني كذبت عليها وتشعر بخيبة الأمل. - إن ذلك هو ما نسميه تعلم الحقيقة، ومن الخير للمرء أن يتعلم الحقيقة بنفسه، ومن الخير له أيضا أن يؤمن أول الأمر من كل قلبه ثم يكفر، فإن ذلك يغذي العواطف ويفسح لها الآفاق، وحين يخيب أمل المرأة في الحياة والناس، فإنها تكون قد مارست خيبة الأمل فيهون عليها الأمر، ولا تنسي وأنت تعلمين طفلتك أن الشقاء فيه خير أيضا، فإنه يقوي شخصية المرء.
وعلقت كاتي على ذلك في مرارة: لو كان الأمر كذلك فنحن نساء روملي ذوات شخصيات قوية. - نعم، نحن فقيرات، ونحن نشقى، وسبيلنا وعر كثير المشقة، ولكننا من خير الناس؛ لأننا بلونا الأشياء التي حدثتك عنها، وأنا لا أستطيع أن أقرأ، ولكني أنبأتك بكل ما علمتني الحياة، فعليك أن تنبئ طفلتك بها، وتزيدي عليها تلك الأشياء التي تتعلمينها كلما تقدم بك العمر. - وهل من مزيد يجب أن أعلمه لطفلتي؟ - على الطفلة أن تتعلم الإيمان بالسماء؛ سماء تحفل بملائكة تسبح فيها، ويتوسطها عرش استوى عليه إله.
وعبرت ماري عن أفكارها في عسر بعبارات بعضها ألماني وبعضها إنجليزي. - بل سماء تدل على مكان عجيب رائع، يستطيع أن يحلم به الناس كأنه عالم تتحقق فيه الأحلام، ولعل هذا العالم نوع مختلف من العقيدة، لست أدري. - ثم ماذا؟ - وعليك قبل أن تموتي أن تكون لك قطعة من الأرض، وقد يكون عليها بيت يمكن لطفلتك أو أطفالك أن يرثوه!
وضحكت كاتي: أنا؟ أنا أمتلك أرضا؟ وبيتا؟ لسوف نكون من أهل السعادة إذا استطعنا أن ندفع إيجار البيت.
وتكلمت ماري في ثبات: ومع كل ذلك يجب أن تفعلي ما ذكرت، إن أهلنا منذ آلاف السنين كانوا فلاحين يفلحون أرضا يملكها غيرهم، حدث ذلك في وطننا القديم، ولكننا هنا نقوم بعمل أفضل بأيدينا في المصنع، إن العامل منا له في كل يوم نصيب لا يخص رئيسه، وإنما يخصه هو نفسه، وهذا خير، ولكن امتلاك قطعة من الأرض أحسن، أجل قطعة من الأرض يرثها أولادنا؛ فيرفع هذا من شأننا على وجه هذه الأرض. - وكيف يتسنى لنا بحال أن نمتلك أرضا؟ أنا وجوني نعمل لنكسب القليل، بل أقل من القليل، ولا يكاد يتبقى لنا في بعض الأحيان بعد دفع الإيجار والتأمين شيء للطعام، فكيف نستطيع أن ندخر مالا ننفقه في شراء أرض؟ - خذي علبة لبن مركز ثم اغسليها جيدا. - علبة؟ - اقطعي الغطاء بعناية، واقطعي العلبة طولا بطول إصبعك، واجعلي القطعة عريضة على هذا النحو (ثم قاست بأصابعها مسافة عرضها بوصتان) اثني القطع إلى الخلف لتصبح العلبة أشبه ما تكون بنجم غير مستو، واصنعي فتحة في العلبة ثم ثبتيها بالمسامير في أظلم ركن من أركان مخزن المؤن في بيتك بدق مسمار في كل قطعة، وضعي كل يوم خمسة سنتات فيها، بعد ثلاث سنوات تتجمع لك ثروة صغيرة قدرها خمسون دولارا، خذي هذا المال واشتري به قطعة أرض في الريف، واحصلي على الوثائق التي تثبت أنها ملكك، وهكذا تصبحين من ملاك الأرض، فإن المرء إذا استطاع أن يمتلك أرضا فلن يعود أبدا من رقيق الأرض. - إن خمسة سنتات في اليوم تبدو شيئا قليلا، ولكن من أين لنا بها؟ إننا لا نجد كفايتنا من الطعام الآن، ولن يتأتى لنا ذلك في شهر آخر. - يجب أن تسعي إلى ذلك على الوجه الآتي: إنك تذهبين إلى بائع الخضر وتسألينه عن ثمن حزمة الجزر، فيقول لك الرجل: إن ثمنها ثلاثة بنسات، وهنالك ابحثي حتى يقع نظرك على حزمة أخرى ليست في نضارة الأولى أو حجمها، وقولي له: هل أشتري هذه الحزمة التالفة بسنتين، تكلمي بقوة وحزم تناليها بسنتين، فيتوافر لك بذلك بنس تدخرينه وتضعينه في العلبة التي تشبه النجم. وافرضي أن الشتاء قد حل، وأنك اشتريت كمية من الفحم نظير خمسة وعشرين سنتا، والجو بارد، فإنك تستطيعين أن تشعلي النار في المدفأة، ولكن صبرا! صبرا! أجل تحملي البرد ساعة، والتفي بوشاح، قولي لنفسك: إنني أتحمل البرد لأنني أدخر لأشتري الأرض، ولسوف توفر لك هذه الساعة فحما ثمنه ثلاثة سنتات، وهذه السنتات الثلاثة تضعينها في العلبة. ولا تشعلي المصباح حين تكونين وحدك بالمنزل، بل اجلسي في الظلام وعيشي في الأحلام فترة، ثم احسبي كم وفرت من الزيت وضعي قيمته بالبنسات في العلبة، فتزداد النقود، وسوف توفرين في يوم من الأيام خمسين دولارا، وتجدين في مكان ما فوق هذه الجزيرة الطويلة قطعة أرض تشترينها بهذا المال. - وهل يجدي هذا الادخار؟ - أقسم بمريم العذراء أنه يجدي. - لماذا إذن لم تدخري في حياتك مالا يكفي لأن تشتري أرضا؟ - لقد فعلت، حين نزلنا أول الأمر هذه البلاد، كانت لي علبة تشبه النجم، وسلخت من عمري عشر سنوات لأدخر تلك الخمسين دولارا الأولى، وجمعت النقود في يدي، وذهبت إلى رجل في المنطقة المجاورة، يقال عنه إنه أمين في تعامله مع هؤلاء الذين يشترون الأرض، وأراني قطعة جميلة من الأرض وقال لي بلغتي «هذه لك.» وأخذ مني المال وأعطاني ورقة لم أستطع أن أقرأها، ورأيت بعد ذلك رجالا يبنون بيتا لشخص آخر، فوق أرضي، وأطلعتهم على الورقة التي معي فضحكوا مني، وبدت في عيونهم نظرات رثاء لحالي، وتبين أن الأرض لم تكن ملكا للرجل بادئ ذي بدء حتى يبيعها! لقد كان ذلك ماذا تسمونه بالإنجليزية ... كان ذلك اختلاسا! - اختلاس؟ - إن أمثالنا من الناس الذين عرف عنهم أنهم سذج أغرار، جاءوا من الوطن القديم، كثيرا ما كان يبتز أموالهم مثل هؤلاء الناس؛ لأننا لا نستطيع أن نقرأ، ولكنك قد تعلمت، وعليك قبل كل شيء أن تقرئي في الورقة أن الأرض ملكك، وهنالك، وهناك فحسب يمكنك أن تدفعي ثمن الأرض. - ألم تدخري قط مرة أخرى يا أماه؟ - لقد فعلت، وبدأت من جديد مرة أخرى، وكان الأمر أكثر صعوبة في المرة الثانية لأنني أصبحت أما لأطفال كثيرين ، وادخرت المال، ولكن حين رحلنا عثر أبوك على العلبة وأخذ المال، ولم يكن خليقا بأن يشتري به أرضا، كان منصرفا دائما إلى هواية الطيور، فاشترى بالمال ديكا وعددا كبيرا من الدجاج، ووضعها في الفناء الخلفي.
وقالت كاتي: يخيل إلي أنني أذكر ذلك الدجاج منذ عهد بعيد ... بعيد جدا. - وكان يقول: إن البيض سيجلب مالا كثيرا من بيعه في المنطقة المجاورة، إيه، ما أعظم الأحلام التي تراود الناس! وأقبلت من فوق السور في الليلة الأولى عشرون قطة تتضور جوعا، فقتلت وأكلت عددا كبيرا من الدجاج، وتسلق الإيطاليون السور في الليلة الثانية وسرقوا عددا أكبر، وجاء رجل الشرطة في اليوم الثالث، وقال إن القانون في بروكلين لا يسمح بإبقاء الدجاج في الفناء، وكان علينا أن ندفع له خمسة دولارات حتى لا يأخذ أباك إلى مركز الشرطة، وباع أبوك القلة الباقية من الدجاج، واشترى عصافير كناريا كان يستطيع أن يمتلكها آمنا لا يساوره خوف. وهكذا خسرت المال الذي ادخرته للمرة الثانية، ولكني أدخر مرة أخرى، من يدري فقد يأتي وقت ...
وجلست حينا صامتة ثم وقفت وطرحت وشاحها: إن الليل قد يرخي سدوله، والموعد الذي يعود فيه أبوك من عمله قد حان، فلترعك القديسة مريم أنت وطفلتك.
وأقبلت سيسي من عملها لا تلوي على شيء، حتى إنها لم تضيع وقتا في نفض مسحوق المطاط الرمادي من فوق عقدة شعرها، وانخرطت في نوبات هستيرية مختنقة فوق رأس الطفلة معلنة أنها أجمل طفلة في العالم، وظهر على جوني أمارات الشك في قولها؛ لأن الطفلة كانت تبدو في عينه زرقاء عجفاء حتى أحس بأنها لا شك مصابة بإحدى العلل، وغسلت سيسي الطفلة (ولا شك أنها قد استحمت عشر مرات في اليوم الأول) واندفعت خارجة إلى حانوت يبيع المشهيات، وأغرت الرجل بأن يفتح لها حسابا حتى يجيء يوم السبت الذي تتسلم فيه أجرها، واشترت مشهيات نظير دولارين: شرائح من اللسان، وحوت سليمان طهي على البخار، وشرائح بيضاء كالزبد من سمك الحنش المدخن، وكعكا طازجا هشا.
واشترت كيسا من الفحم، وجعلت النار تتأجج اشتعالا، وأحضرت صينية العشاء إلى كاتي ثم جلست هي وجوني في المطبخ وأكلا معا، وانتشرت في البيت رائحة الدفء والطعام الجيد، والمسحوق المعطر والرائحة القوية الشبيهة برائحة الحلوى التي تنبعث من قرص صلب كالطباشير، تضعه سيسي في قلب مزركش مطلي بالفضة له سلسلة تلتف حول عنقها.
وتأمل جوني سيسي وهو يدخن لفافته بعد العشاء، وتعجب من مقاييس الناس حين يطلقون على إخوانهم صفتي الصالح والطالح، فإذا نظرنا إلى سيسي مثلا، وجدناها طالحة، ولكنها في الوقت نفسه صالحة، كانت طالحة فيما يخص الرجال، ولكنها كانت صالحة لأنها أينما حلت تشيع الحياة والخير والحنان، وتفيض على الناس من مشاعرها وتبعث على المرح وتخلق جوا له عبير قوي، وتمنى أن تشبه ابنته الوحيدة سيسي بعض الشبه.
وبدا على وجه كاتي القلق حين أعلنت سيسي أنها ستبيت عندهم تلك الليلة، وقالت إنه لا يوجد عندهم سوى الفراش الوحيد الذي تتقاسمه هي وجوني، وصرحت سيسي بأنها قد لا تخشى شيئا من النوم مع جوني في فراش واحد.
وعبثت كاتي، وكانت تعلم أن سيسي تمزح بلا شك، ولكن سيسي كانت تتميز بشيء من الصدق واستقامة القول، فمضت تلقي عليها درسا، ولكن جوني حسم الموقف كله بقوله إن الأمر يقتضيه المضي إلى المدرسة.
ولم يأنس جوني في نفسه الشجاعة على أن ينبئ كاتي بأنهما فقدا وظيفتهما، وتصيد أخاه جورجي الذي كان يعمل تلك الليلة، ولحسن التوفيق أن القوم هناك كانوا يحتاجون إلى رجل للخدمة على الموائد ويغني بينها، وحصل جوني على الوظيفة ووعده بأخرى في الأسبوع المقبل، وهكذا عاد جوني إلى وظيفة النادل المغني، ولم يؤد عملا آخر منذ ذلك الحين.
ونامت سيسي مع كاتي في سريرها وظلتا تتكلمان معظم الليل، وحدثتهما كاتي عن قلقها على جوني وخوفها من المستقبل، وتكلمتا عن ماري روملي، وكيف كانت أما طيبة لإيفي وسيسي وكاتي، كما تكلمتا عن أبيهما توماس روملي، وقالت سيسي إنه كهل فاسد، فأخبرتها كاتي بأنها يجب أن تظهر له احتراما أكثر من ذلك ، فأردفت سيسي قائلة: أوه! تبا له!
وضحكت كاتي، وأخبرت سيسي بما كان بينها وبين أمها من حديث ذلك اليوم، واستهوت فكرة الحصالة سيسي حتى إنها نهضت - مع أن الليل كان قد انتصف - وافرغت إحدى علب اللبن في وعاء ثم صنعت الحصالة لتوها، وحاولت أن تزحف إلى الكرار الضيق المزدحم لتثبت العلبة بالمسامير، ولكنها تعثرت في رداء نومها الفضفاض، فخلعته وزحفت عارية إلى الكرار، ولم يكن يتسع لجسمها كله فبرزت خارجه مؤخرة ظهرها العارية الكبيرة المتألقة، على حين جثت على ركبتيها تدق العلبة في الأرض، وانتابت كاتي نوبة من القهقهة حتى إنها خشيت أن تصاب بنزيف، واستيقظ السكان الآخرون على صوت القرقعة العالية التي تنبعث في الثالثة صباحا، وأخذوا يدقون على السقف من تحت وعلى الأرض من فوق، وانتابت كاتي نوبة أخرى من القهقهة حين سمعت سيسي تتمتم من الكرار بأن السكان ينتابهم مثل هذا الجموح إلى الضجيج، حينما تكون بالمنزل امرأة مريضة، وسألت قائلة: كيف يمكن لأي شخص أن ينام؟
ودقت المسمار الأخير بخبطة مفزعة.
وثبتت العلبة في مكانها، ولبست سيسي رداء نومها مرة أخرى، وبدأت تدخر لشراء الأرض بأن وضعت في العلبة خمسة سنتات، ثم عادت إلى الفراش، وأنصتت في انفعال حين أخبرتها كاتي عن الكتابين، ووعدت بأنها سوف تحضر الكتابين، وأنهما سيكونان هديتها للطفلة في يوم تعميدها.
وقضت فرانسي يومها الأول في هذه الدنيا نائمة في استرخاء بين أمها وسيسي.
وانطلقت سيسي في اليوم التالي لتحضر الكتابين، وذهبت إلى مكتبة عامة وسألت أمين المكتبة كيف تحصل على نسخة من شكسبير والإنجيل لكي تقتنيهما بصفة دائمة.
ولم يستطع الرجل أن يساعدها بشأن الإنجيل، ولكنه قال: إن لديه في السجلات نسخة بالية من شكسبير، أوشكوا أن يدخلوها في عداد المستهلكات، وإنها تستطيع أن تشتري هذه النسخة، فاشترتها سيسي، وكانت مجلدا قديما مهلهلا يحتوي على مسرحيات شكسبير وقصائده جميعا، وكانت على صفحاته حواش مشوشة وشروح مسهبة لمعاني المسرحيات، ويشتمل على سيرة المؤلف وصورته ورسومات تصور مشاهد من كل مسرحية، وكانت الصفحة مكونة من عمودين طبعا بالبنط الصغير على ورق رقيق، وكلف هذا المجلد سيسي خمسة وعشرين سنتا.
أما الإنجيل فقد كان أرخص، وإن كان الحصول عليه أشق قليلا، على أنه في الحق لم يكلف سيسي شيئا، وكان مكتوبا على صفحة العنوان اسم «جيديون».
واستيقظت سيسي ذات صباح، بعد شرائها مجلد شكسبير بأيام قليلة، ولكزت عشيقها الذي كانت تقضي معه الليل في فندق هادئ من فنادق الأسر، ونادته قائلة: «يا جون» مع أنه اسمه كان شارلي: ما هذا الكتاب الذي فوق المزينة؟ - إنه نسخة من الإنجيل. - إنجيل بروتستانتي؟ - نعم، هذا صحيح! - سوف أسرقه ... - هيا افعلي، لقد وضعوه هناك من أجل ذلك. - لا! - نعم! - لا تخدعني! - إن الناس ينتزعونه، ويقرءونه، فيصلحون من شأنهم ويتوبون، ويعيدون الإنجيل إلى مكانه، ثم يشترون نسخة أخرى، حتى يستطيع الآخرون من الناس أن ينتزعوها ويقرءوها ويصلحوا من شأنهم، وبذلك لا تخسر الشركة التي تصدره شيئا.
ولفت سيسي الإنجيل في فوطة من فوط الفندق التي انتزعتها هي الأخرى وقالت: حسنا، هذه نسخة من الإنجيل لن يستردوها.
وغمر جون خوف شديد، وقال: عجبا! إنك سوف تقرئيه وتصلحين من شأنك، وحينئذ أعود أنا إلى زوجتي.
وارتجف ثم وضع ذراعيه حولها، وقال: عديني ألا تصلحي من شأنك.
وقالت سيسي: سوف لا أفعل.
وسألها جون: وما أدراك أنك سوف لا تفعلين؟
قالت: أنا لا أنصت أبدا لما يقوله الناس لي، كما أنني لا أستطيع أن أقرأ، إن الطريقة الوحيدة التي أعرف بها الخطأ من الصواب، هي الشعور الذي أحسه حيال الأشياء، فإذا أحسست نحو شيء بالسوء كان خطأ، وإذا أحسست نحوه بالخير كان صوابا، وإني لأشعر بالخير وأنا معك هنا.
وألقت بذراعها على صدره وقبلته في أذنه قبلة كان لها رنين شديد: إن لي رغبة صادقة في أن نتزوج يا سيسي.
وأضافت سيسي في صدق: وهذا شأني أيضا يا جون، وإني لأعلم أننا نستطيع أن نحقق ذلك، إلى حين على الأقل. - لكنني متزوج، وهذه هي متاعب المذهب الكاثوليكي، فهو لا يبيح الطلاق.
وقالت سيسي التي كانت تتزوج باستمرار دون أن تلجأ إلى الطلاق: أنا لا أومن بالطلاق على أي حال. - أتعلمين يا سيسي؟ - ماذا؟ - إن لك قلبا من ذهب! - أتخدعني؟ - أنا لا أخدعك!
وراقبها وهي ترتدي الرباط الأحمر فوق جوربها المصنوع من الحرير الخالص، الذي كانت قد ارتدته على ساقيها الجميلتين.
واستعطفها فجأة قائلا: دعينا نستمتع بقبلة!
وسألته في أسلوب عملي: ألدينا متسع من الوقت؟
ولكنها خلعت جوربها مرة أخرى.
وبدأت على هذا النحو تتكون مكتبة فرانسي.
10
لم يكن يبدو على فرانسي كثير من أمارات الطفولة، كانت نحيلة عميقة النظرات، لا ينمو جسمها، وكانت كاتي تعتني بها في دأب، بالرغم من أن جاراتها أنبأنها بأن لبنها غير ملائم للطفلة.
ولم تلبث فرانسي أن عودت الرضاع من الزجاجة؛ لأن لبن كاتي جف فجأة حين بلغت الطفلة الشهر الثالث من عمرها، وقلقت كاتي وسألت أمها النصيحة، ونظرت إليها ماري روملي وتنهدت، ولم تنبس ببنت شفة، وذهبت كاتي إلى القابلة تستشيرها الرأي، وسألتها المرأة سؤالا سخيفا: من أين تشترين سمك يوم الجمعة؟ - من سوق بادي، لماذا تسألين؟ - هل رأيت هناك امرأة عجوزا تشتري رأس سمك البكلاة لقطتها؟ ألا تزالين ترينها؟ - نعم إني أراها كل أسبوع. - لقد فعلتها! هي التي جففت لبنك. - أوه! لا! - لقد أصابتك بعينها الحسود. - ولكن، لماذا؟ - إنها لغيور منك؛ لأنك سعدت السعادة كلها بذلك الفتى الأيرلندي الجميل الذي تملكين. - غيور؟ مثل هذه المرأة العجوز؟ - إنها لساحرة، وأنا أعرفها منذ كانت في وطننا القديم، وجاءت معي بلا شك على السفينة نفسها، وكانت وهي شابة تحب فتى همجيا من مقاطعة أيرلندية تربى فيها الأبقار، ونالها الفتى على طريقته الهمجية، ولم يشخص إلى القسيس معها، فطارده أبوها، فتسلل في سكون الليل وركب سفينة ونزح إلى أمريكا، ومات طفلها حين ولد فباعت روحها للشيطان الذي منحها القوة على أن تجفف لبن الأبقار وأنثى الماعز، والبنات المتزوجات من الفتيان. - إني أذكر أنها نظرت إلي ساخرة. - لقد أصابتك تلك اللحظة بعينها الحسود . - وكيف أستطيع أن أسترد لبني؟ - لأنبئك بما تعملين، انتظري حتى يكتمل القمر، ثم اصنعي دمية صغيرة من خصلة من شعرك المجعد، وقطعة من ظفر إصبعك، وخرقة مبللة بالماء المقدس، وعمديها باسم نيلي جروجان، وذلك هو اسم الساحرة، وارشقي بها ثلاثة دبابيس صدئة، إن ذلك سوف يفسد ما أصابتك به من سحرها، وسوف يفيض لبنك بلا شك، كما يفيض نهر شانون، وإن أجري على ذلك هو ربع دولار.
ودفعت لها كاتي أجرها، وانتظرت حين اكتمل البدر، وصنعت الدمية الصغيرة ثم طعنتها وطعنتها، ولكن لبنها ظل جافا، ومرضت فرانسي من الرضاع من لبن الزجاجة، فلما أصاب كاتي اليأس سألت سيسي النصيحة، واستمعت سيسي لقصة الساحرة، وقالت في سخرية: ساحرة؟ إن جوني هو الذي فعل تلك الفعلة، ولم يصبك ذلك من عين حسود!
وعلمت كاتي على هذا النحو أنها حملت مرة أخرى، وأنبأت جوني بالنبأ، فبدأ يساوره القلق، وكان قد أصبح سعيدا بعض السعادة حين عاد إلى عمل النادل المغني، وأخذ يعمل كثيرا، وينتظم في عمله، ولا يشرب الخمر كثيرا، ويجلب إلى البيت معظم أجره، ولكن نبأ قدوم الطفل الثاني في الطريق، جعله يشعر أنه وقع في الفخ، وكان قد بلغ العشرين من عمره فقط، في حين بلغت كاتي الثامنة عشرة، وشعرا معا أنهما كانا في شرخ الشباب، وقد قست عليهما الحياة قسوة شديدة، وخرج بعد أن سمع النبأ، وشرب حتى ثمل.
وأتت القابلة لترى ماذا صنعت التعويذة، وأخبرتها كاتي أن التعويذة فشلت لأنها حملت، وأنه لا لوم عليها، ورفعت القابلة جلبابها وغرست يدها في جيب واسع في قميصها القصير، وأخرجت زجاجة تحتوي على سائل بني داكن قبيح الشكل، وقالت: لن يكون هناك ما يقلقك بكل تأكيد، خذي جرعة طبية من هذا السائل بالليل وبالنهار، لتستردي صحتك في ثلاثة أيام.
وهزت كاتي رأسها منكرة، فقالت القابلة: أتخافين ما قد يقوله القسيس لك إذا فعلت ذلك؟ - لا، إنني لا أستطيع أن أقتل ولو نملة. - ليس في الأمر قتل، ولا يعد ذلك قتلا، إلا إذا أحسست بالحياة تدب في الجنين، إنه لا يعد قتلا حتى تشعري به وهو يتحرك، أليس كذلك؟ - أجل!
وقرعت المائدة بقبضتها في انتصار، وقالت: أرأيت؟ لن آخذ منك سوى دولار واحد ثمن الزجاجة. - أشكرك، أنا لا أريدها. - لا تكوني بلهاء، أنت مازلت فتاة صغيرة، وحسبك المتاعب التي نالتك من إنجابك لطفلتك، وإن فتاك لوسيم، ولكنه ليس أكثر الفتية استقامة. - إن ما يتصف به زوجي يخصني وحدي، وإن طفلتي لا تسبب لي أية متاعب. - إنني لا أروم من ذلك إلا مساعدتك! - أشكرك وإلى اللقاء.
وأعادت القابلة الزجاجة إلى جيب قميصها القصير، ونهضت لتنصرف وقالت: أنت تعرفين أين أسكن حين يأتي موعد الولادة.
وختمت عند الباب نصيحتها الباعثة على التفاؤل قائلة: قد تتعرضين للإجهاض لو دأبت على الجري فوق السلم نزولا وطلوعا.
وفي ذلك الخريف الذي يسود فيه بروكلين دفء كاذب كدفء الصيف، جلست كاتي تحت الظلة تحمل بطنها المنتفخ، الذي ينبئ بقرب مولد طفل آخر، وتوقفت الجارات مشفقات عليها مواسيات إياها من أجل فرانسي قائلات: لن يقدر لك قط أن تنشأ هذه الطفلة؛ فإن لونها شاحب، وسوف يرحمك الله إذا أحاطك بعنايته وأخذها إلى جواره، أي خير ينتظر من طفلة مريضة تشب في أسرة فقيرة؟ إن الأرض تضيق بما رحبت من أطفال، ولا تتسع للضعفاء منهم.
وضمت كاتي طفلتها بقوة قائلة: لا تقلن ذلك، ليس من الخير أن تموت، من من الناس يريد أن يموت، إن كل مخلوق يصارع من أجل الحياة، انظرن إلى هذه الشجرة التي تنمو خارج تلك النافذة الحديدية، إنها لا ترى الشمس، ولا تدركها المياه إلا إذا جادها الغيث، وهي تخرج من أرض سبخة، ولكنها شامخة قوية؛ لأن صراعها المرير من أجل الحياة يقويها ويشد من عودها، وسوف يكون أطفالي أقوياء على هذا النحو. - أوه، ينبغي أن تجتث هذه الشجرة البيتية.
وقالت كاتي: لو لم يكن في العالم إلا شجرة واحد من هذا النوع، لآمنتن أنها شجرة جميلة، ولكن كثرة ما في العالم من شجر يجعلكن لا ترين مبلغ جمالها حقا.
وأشارت إلى حشد من الأطفال القذرين يلعبون في البالوعة، قائلة: انظرن إلى هؤلاء الأطفال، إنكن تستطعن أن تحملن أي واحد منهم، وتحسن غسله وإلباسه، ثم أجلسنه في بيت جميل فيبدو في أعينكن جميلا مليحا.
وقلن لها: إن لك أفكارا جميلة يا كاتي، ولكن طفلتك مريضة جدا.
فردت كاتي في وحشية قائلة: لتعيشن هذه الطفلة، وسأجعلها تعيش.
وعاشت فرانسي، وقضت عامها الأول وهي تشق حياتها بصعوبة، وتصدر منها صيحات متقطعة.
وولد أخو فرانسي بعد عيد ميلادها الأول بأسبوع.
وكانت كاتي لا تعمل هذه المرة حين أدركتها آلام الوضع، وعضت شفتها وكتمت صرخاتها حين ألح عليها الألم، وتركها الألم بلا حول ولا قوة، ومع ذلك بقي لها فضل من قوة، كان هو أساس ما تزودت به في المستقبل من صرامة واقتدار.
وعوى الطفل القوي السليم البنية وكأنه يعاني مما يكتنف الوضع من زراية، فأسلمته كاتي صدرها، وأحست بحنين جارف إليه، وبدأت الطفلة الأخرى فرانسي تصدر صيحات متقطعة، وهي راقدة في المهد بجوار سرير أمها.
وومضت في نفس كاتي بارقة من الاحتقار لهذه الطفلة الضعيفة، التي أنجبتها منذ عام حين قارنتها بذلك الوليد الوسيم، لكنها سرعان ما شعرت بالخجل لهذا الاحتقار؛ فقد أدركت أن الخطأ لم يكن خطأ البنت الصغيرة، وقالت بينها وبين نفسها: يجب أن أحاسب نفسي جيدا، فإني مقبلة على إيثار هذا الصبي على البنت، ولكن يجب ألا أشعرها بذلك أبدا، ومن الخطأ أن أحب طفلا أكثر من الآخر، ولكن ذلك شيء فوق إرادتي.
ورجت سيسي كاتي أن تسمي الصبي باسم جوني، ولكن كاتي صممت على أن من حق الصبي أن يكون له اسم خاص به وحده، وغضبت سيسي كل الغضب، ونالت كاتي بكلمة أو كلمتين، وأخيرا اتهمتها كاتي، وهي إلى الغضب أكثر ميلا منها إلى الحق، بأنها تحب جوني، وأجابت سيسي قائلة: ربما!
فأمسكت كاتي، لأنها خشيت لو استمرت المشاجرة قليلا، أن تكتشف أن سيسي تحب جوني حقا.
وسمت كاتي الصبي كورنيليوس، تيمنا بشخصية نبيلة رأتها على المسرح يمثلها ممثل وسيم، وتغير الاسم حين كبر الصبي وأصبح بروكلينيز، ثم اشتهر باسم نيلي.
وأصبح الصبي هو كل شيء بالنسبة لكاتي، دون أن يقودها إلى ذلك ضلال في التفكير أو عقد عاطفية، واحتل جوني المكان الثاني، أما فرانسي فقد نزلت إلى المكان الأخير في قلب أمها، وأحبت كاتي الصبي لأنها كانت تمتلكه كلية أكثر مما تمتلك جوني أو فرانسي، وكان نيلي يشبه جوني كل الشبه، وكاتي خليقة بأن تصنع منه الرجل الذي كان يجب على جوني أن يكونه، إنه جدير بأن يأخذ كل صفة طيبة في جوني، ولسوف تشجع هي ذلك، وتقتل كل صفات جوني السيئة كلما برزت إحداها في الصبي نيلي، سوف يشتد عوده وتصبح فخورا به، ويرعاها طوال حياتها، إنه الإنسان الوحيد الذي ينبغي لها أن ترى الحياة بعينيه، وسوف يتمكن جوني وفرانسي من شق طريقهما على نحوهما، ولكنها لن تجازف مع الصبي، بل ستهتم به أكثر منهما.
وأخذ الطفلان يكبران شيئا فشيئا، وبنموهما فقدت كاتي حنانها جميعا، لكنها اكتسبت ما يسميه الناس الشخصية، وأصبحت قادرة قاسية، بعيدة النظر، وأحبت جوني كثيرا ولكن ولهها القديم الجامح كان قد خبا، وأحبت ابنتها الصغيرة بدافع الشفقة والواجب أكثر من دافع الحب.
وأحس جوني وفرانسي بالتغيير الذي أخذ يصيب كاتي، وبينما أخذ الصبي يبدو أكثر قوة ووسامة، كان جوني يبدو أكثر ضعفا وتضعف قواه أكثر من ذي قبل، وشعرت فرانسي بما تشعر به أمها نحوها فأصبحت تجازي قسوة أمها عليها بقسوتها على أمها، ومن العجيب المتناقض أن هذه القسوة أثرت تأثيرا عكسيا، فقربت بين الأم وابنتها شيئا ما؛ لأنها جعلتهما أكثر تشابها.
وما إن بلغ نيلي عامه الأول حتى كانت كاتي أصبحت لا تعتمد على جوني، وكان جوني قد أدمن الشراب ولا يعمل إلا حين تعرض عليه أعمال تقتضي ليلة واحدة، ويحمل أجره إلى البيت ويحتفظ بالهبات ينفقها على شرابه، وأخذت الحياة تمر بجوني مسرعة جدا، فقد كان لديه زوجة وطفلان قبل أن يبلغ السن التي تمنحه حق الانتخاب، وبلغت حياته النهاية قبل أن تتهيأ له الفرصة للبداية، وكان مصيره إلى الهلاك، ولم يكن أحد يعلم ذلك أكثر من جوني نولان.
وأخذت كاتي تعاني ما يعانيه جوني من شدائد، وكانت أصغر منه بسنتين، في التاسعة عشرة من عمرها، ومن الممكن أن يقال إن مصيرها إلى الهلاك أيضا، فقد امتلأت حياتها وفاضت قبل أن تمارس البداية، ولكن وجه الشبه بينها وبين جوني انتهى عند هذا الحد، فجوني يعلم أنه يصير إلى الهلاك ويتقبل هذا المصير، لكن كاتي لم تكن لتتقبله، وراحت تبدأ صفحة جديدة من حياتها حيث تودع الصفحة القديمة.
واستبدلت كاتي بالحنان القدرة، واستعاضت عن أحلامها بالحقائق المرة تزنها بميزانها الصحيح.
وانطوت نفس كاتي على رغبة عارمة في سبيل البقاء، فغرس ذلك فيها نزعة الجهاد، أما جوني فقد راوده هوى للخلود جعل منه رجلا حالما عديم النفع، وكان ذلك هو الفارق العظيم بين هذين الاثنين، اللذين أحب كل منهما الآخر حبا جما.
11
واحتفل جوني بعيد ميلاده الذي بلغ به سن الانتخاب بأن شرب الخمر ثلاثة أيام متتالية، وحبسته كاتي حين بدأ يفيق في حجرة النوم حتى لا يستطيع الحصول على مزيد من الشراب، وبدأ جوني يهذي ويرتعش بدلا من أن يتنبه ويفيق، وراح يبكي ويستعطف مرة بعد مرة طلبا للشراب، قائلا إنه يشقى، وقالت له كاتي: إن من الخير له أن يشقى؛ لأن الشقاء يجعله صلب العود ويلقنه درسا يثنيه عن الشراب، ولكن جوني المسكين لم يكن خليقا بأن يصلب عوده، وإنما رق حتى انقلب إلى شبح أنثى تولول وتنوح كالثكلى.
وأخذ الجيران يقرعون الباب راجين كاتي أن تفعل شيئا من أجل الرجل المسكين، وبدا على فم كاتي برود ممزوج بالقسوة، وصاحت فيهم أن ينصرفوا إلى شئونهم، ولكنها كانت تعلم أن لا سبيل لهم إلا أن يهجروا مسكنهم في نهاية الشهر، إنهم لن يستطيعوا العيش في هذا الجوار بعد أن بدأ جوني يزري بهم على ذلك النحو.
وفقدت كاتي أعصابها قرب المساء وهي تستمع إلى صيحات العذاب والألم التي تنبعث من جوني، فحشرت طفليها في العربة الصغيرة ، وانطلقت إلى المصنع حيث طلبت من رئيس سيسي الذي طال احتماله وعيل صبره، أن ينتزعها من خلف آلتها، وحدثت سيسي عن جوني، وقالت سيسي إنها ستوافيه وترده إلى صوابه، فور انتهائها من العمل.
واستشارت سيسي صديقا مهذبا في شأن جوني، وزودها الصديق بتعليماته، فامتثلت لذلك واشترت قدرا من الويسكي الجيد خبأته بين ثدييها الممتلئتين، وأعادت ربط غطاء مشدها وزررت رداءها فوقه.
وذهبت إلى كاتي وأخبرتها بأنها تستطيع أن تنقذ جوني من محنته، لو أنها تركتهما وحدهما، وأغلقت كاتي باب حجرة النوم دون سيسي وجوني، وعادت إلى المطبخ وقضت الليل جالسة على المائدة، ألقت رأسها على ذراعيها وراحت تنتظر.
ولما رأى جوني سيسي عاد إليه عقله المضطرب المشوش لحظة، وشدها من ذراعيها قائلا: أنت صديقتي يا سيسي، أنت أختي؛ بربك أعطيني كأسا من الشراب، وقالت في صوتها الرقيق المواسي: رويدك يا جوني، إنني أحضرت لك معي كأسا هنا.
وفكت سيسي رباط خصرها فانطلقت من عقالها حزمة من الثنيات المطرزة بيضاء كالزبد، وشريط له لون وردي داكن، وامتلأت الحجرة بعبير عذب انبعث من قارورة الطيب المثير الذي تستعمله، وحملق جوني وهي تحل الرباط المعقد وترخي غطاء شعرها، وتذكر الرجل المسكين سمعتها المعروفة وأساء فهم الأمر، وأن قائلا: لا، لا يا سيسي، أرجوك. - لا تكن غبيا يا جوني، لكل شيء مكانه وأوانه، ولكن ليس هذا هو الأوان.
وانتزعت الزجاجة، واختطفها منها، وكانت قد دفئت من دفء جسدها، وتركته يعب منها جرعة كبيرة، ثم انتزعت الزجاجة من بين أصابعه المتشنجة، وهدأ جوني بعد أن شرب، وشعر برغبة في النوم، ورجاها ألا تتركه، ووعدته بذلك، ونامت على السرير بجواره دون أن تكلف نفسها عناء عقد أشرطتها أو ربط خصرها، ووضعت ذراعها تحت كتفيه، وأسند جوني خده على صدرها العاري الفواح العبير، وراح في النوم والدموع تطفر من تحت جفونه المغلقة، وزادت حرارتهما على حرارة جسديهما المتلاصقين.
ورقدت سيسي يقظى تحتضنه بين ذراعيها وتحملق في الظلام، وهي تشعر نحوه بما كانت خليقة بأن تشعر به حيال أطفالها، لو أنهم عاشوا ليستشعروا دفء حبها، وربتت على شعره المجعد وتحسست خده في رفق، ولاطفته وهدأت ثائرته حين راح يئن في نومه بالكلمات الرحيمة، التي كانت خليقة بأن تناجي بها أطفالها، وتقلص ذراعها وحاولت أن تحركه فاستيقظ جوني لحظة وأمسك بها في قوة، ورجاها مستعطفا ألا تتركه، وكان يناديها حين يخاطبها: أماه.
وكانت تعطيه كلما استيقظ وشعر بالخوف جرعة من الويسكي، ثم استيقظ قبل الصبح ووجد عقله أكثر صفاء، ولكنه قال إنه يشعر بألم في رأسه، وانتفض مبتعدا عن أحضان سيسي، وراح يئن، وقالت في صوتها العذب الرقراق: عد إلى أحضان أمك.
وفتحت ذراعيها عن آخرهما، واندس جوني بينهما مرة أخرى، وأسند خده على صدرها الرحب، وبكى في صمت ثم انتحب ينفس عن مخاوفه وهمومه وحيرته من مجرى الأمور في هذا العالم، وتركته يتكلم، تركته يبكي، واحتضنته كما لو كنت أمه تحتضنه وهو بعد طفل، (الشيء الذي لم تفعله أبدا)، وكانت سيسي تبكي معه في بعض الأحيان، وناولته ما بقي من الويسكي حين أفرغ ما في جعبته من حديث، ثم انخرط آخر الأمر في نوم عميق يخلد إليه المرء بعد إرهاق.
ورقدت سيسي لا تبدي حراكا وقتا طويلا، حتى لا يشعر بها وهي تنسل من بين أحضانه، وارتخت قبيل الفجر أصابعه التي كانت تمسك يدها في قوة وعنف، وبدت على وجهه أمارات الأمن والطمأنينة، وتمثلت فيه ملامح الطفولة من جديد، ووضعت سيسي رأسه على الوسادة وخلعت عنه ملابسه في مهارة ووضعت عليه الأغطية، ثم ألقت زجاجة الخمر الفارغة في بئر التهوية (المنور)، وتخيلت أن كاتي لا يمكن لها أن تعبأ بشيء لم تعرفه، وربطت أشرطتها الوردية بإهمال، وأحكمت خصرها، ثم أغلقت الباب في رفق كبير، وهي تدلف إلى الخارج.
وهناك ضعفان كبيران يلازمان سيسي على الدوام، كان قلبها قلب المحب العاشق، وقلب الأم الرحيم، وكان في أعماقها حنان غامر، ورغبة عارمة في أن تبذل من نفسها لكل من يحس بالحاجة إلى ما تملكه، سواء كان هذا مالها أو وقتها أو ملابسها التي تسترها، أو شفقتها، أو فهمها للأمور، أو صداقتها، أو صحبتها أو حبها، كانت أما لكل عابر سبيل، صحيح أنها تحب الرجال، ولكنها تحب النساء أيضا، والعجائز، والأطفال بوجه خاص، ولشد ما كانت تحب الأطفال، وتحب كسيري الخاطر والضالين من الناس، وتريد أن تجعل كل الناس سعداء، وقد حاولت أن تغري القسيس الصالح الذي سمع اعترافاتها الكثيرة؛ لأنها شعرت بالأسى من أجله، فقد اعتقدت أنه يفقد أروع متعة على ظهر الأرض، بأن نذر نفسه للعزوبة.
كانت تحب الكلاب التي تنبش في الطريق، وتبكي من أجل القطط الهزيلة التي تلتقط القمامة، وتنسل حول أركان بروكلين، وقد انتفخت جنوبها باحثة عن شق تضع فيه ما قد تلده من الصغار. كما أنها تحب العصافير الداكنة اللون، وترى الجمال في العشب الذي ينمو على الأرض، وتلتقط زهور البرسيم البيضاء النامية في الأرض، وتعتقد أنها أجمل زهور خلقها الله، ورأت ذات مرة فأرا في حجرتها فأفردت له في الليلة التالية صندوقا صغيرا ملأته بفتات الجبن، أجل كانت تستمع لهموم كل شخص، ولكن أحدا لم يكن يستمع إلى همومها، بيد أن ذلك كان هو العدل؛ لأن سيسي خلقت لتبذل من نفسها دائما ولا تأخذ شيئا أبدا.
ولما دخلت سيسي المطبخ، نظرت كاتي إلى ملابسها المضطربة بعينين منتفختين يطل منهما الشك، وقالت في كبرياء يبعث على الشفقة: أنا لا أنسى أنك أختي، وإني لآمل ألا يكون ذلك قد غاب عنك أيضا.
وقالت سيسي وقد عرفت ما تعنيه كاتي: لا تكوني كالأتان اللئيمة.
وابتسمت وهي تنظر بعمق في عيني كاتي، فعادت الثقة فجأة في نفس كاتي: كيف حال جوني؟ - سيكون على ما يرام حين يصحو، ولكن لا تؤنبيه بحق المسيح حين يستيقظ، لا تؤنبيه يا كاتي. - ولكن يحق له أن يعرف الحقيقة. - لو سمعت أنك أنبته فسوف أبعده عنك، أقسم بذلك، بالرغم من أنني أختك.
وأدركت كاتي أنها تعني ما تقول، فارتاعت بعض الشيء وتنحنحت: لن أفعل ذلك، ليس هذه المرة.
وأمنت سيسي على كلامها، وهي تقبل وجنة كاتي قائلة: ها أنت ذي تنضجين نضج المرأة.
وشعرت بالأسف لها ولجوني سواء بسواء.
وحينئذ انهارت كاتي وأخذت تبكي، وانبعثت منها أصوات خشنة قبيحة لأنها كانت تكره البكاء، ولكنها لم تستطع أن تقاومه، فلم تجد سيسي بدا من الإنصات إليها، وأن تعود فتمر بكل ما مرت به مع جوني، ولكن معاناتها هذه المرة كانت من وجهة نظر كاتي، وعالجت سيسي كاتي بغير ما عالجت به جوني، كانت مع جوني رقيقة حانية حنان الأم لأنه يحتاج إلى ذلك، ولكنها تعلم القوة الفولاذية التي تكمن في أعماق كاتي، فاشتدت اشتداد الفولاذ حين فرغت كاتي من قصتها: إنك تعلمين الآن كل ما في الأمر يا سيسي، إن جوني سكير. - حسنا، لا يخلو إنسان من عيب، ففي كل منا نقص ما، خذيني مثلا، فأنا لم أشرب كأسا واحدة من الخمر قط في حياتي.
ثم قالت في صدق وجهل مطبق: ولكن هل تعلمين أن من الناس من يتحدث عني ويرميني بأنني امرأة سيئة السلوك؟ أتتخيلين ذلك؟ أنا أعترف أنني أدخن السجائر من حين إلى حين، ولكن كونهم يرمونني بسوء الخلق فهذا ... - نعم يا سيسي ... إن سلوكك مع الرجال يجعل الناس ... - لا تؤنبيني يا كاتي! فكل ميسر لما خلق له، وكل يعيش الحياة التي قدر له أن يحياها، وأنت يا كاتي قد وفقت إلى رجل طيب. - ولكنه يشرب الخمر. - وليشربن دائما حتى يموت، هذه هي الحقيقة، إنه يشرب، وعليك أن تغتفري ذلك بالقياس إلى ميزاته الأخرى. - أي ميزات أخرى؟ أتعنين بطالته وقضاءه الليل بطوله خارج البيت، والصعاليك الذين يتخذ منهم أصدقاء؟ - لقد تزوجته وانتهى الأمر، وكانت فيه ميزة أسرت قلبك، تعلقي بهذه وانسي الباقي. - لا أعلم أحيانا لماذا تزوجته! - إنك تكذبين! فأنت تعرفين لماذا تزوجته، لقد تزوجته لأنك ملت إليه، ولكنك كنت أكثر تدينا من أن تقتنصي فرصتك معه دون أن تزفي إليه في الكنيسة. - ماذا تقولين؟ كان الأمر كله لا يعدو أنني كنت أريد أن أنتزعه من فتاة أخرى. - كان ذلك هو الجنس ، وهذا شأنه دائما، فإذا كان سليما كان الزواج سليما، وإذا كان فاسدا كان الزواج فاسدا. - لا، هناك أشياء أخرى.
وسلمت سيسي قائلة: ما هي تلك الأشياء الأخرى؟ حسنا، ربما تكون هناك أشياء أخرى، وإذا كانت هناك أشياء أخرى سليمة، ففي ذلك نعيم أي نعيم. - أنت مخطئة، إن ذلك قد يكون هاما في نظرك ولكن ... - إنه هام في نظر كل إنسان، أو هذا ما ينبغي له، وهناك تصبح كل الزيجات سعيدة. - أوه! أعترف بأنني أحببت أسلوبه في الرقص، وأسلوبه في الغناء ومنظره. - أنت تقولين ما أقول، لكنك تتكلمين بلغتك الخاصة.
وفكرت كاتي كيف يمكن للمرء أن ينتصر على امرأة مثل سيسي، كانت تصور كل شيء بأسلوبها الخاص، ولعل أسلوبها في هذا التصوير كان أسلوبا مليحا، لست أدري، إنها أختي الشقيقة، ولكن الناس يلوكون سيرتها، إنها فتاة سيئة السيرة، وما من سبيل إلى تأويل ذلك، وسوف تهيم بوجهها حين يدركها الموت في المطهر أبد الآبدين، وطالما قلت لها ذلك فكانت ترد علي دائما بأن روحها لن تهيم وحدها في المطهر، إذا ماتت سيسي قبلي فإن الواجب يقتضيني أن أقيم قداسات لراحة نفسها، وقد تغادر روحها المطهر بعد حين؛ لأنها بالرغم مما قيل عن سوء سلوكها، كانت تفعل الخير لجميع من أسعده الحظ بلقائها، ولا شك أن الله سيجازيها على ذلك.
ومالت كاتي فجأة وطبعت على وجنة سيسي قبلة، ودهشت سيسي لأنها لم تجد سبيلا لمعرفة الأفكار التي تدور في رأس كاتي. - قد تكونين على صواب يا سيسي، وقد تكونين على خطأ، أما بالنسبة لي فقد انتهيت إلى هذا الرأي، إني بصرف النظر عن إدمان جوني للشراب أحب خلاله الأخرى جميعا، وسأحاول أن أحسن معاملتي وأتغاضى ...
وأمسكت عن الكلام، وكانت كاتي تدرك من أعماقها أنها ليست بالمرأة التي تستطيع أن تتغاضى.
ورقدت فرانسي يقظة في سلة الغسيل التي نصبت بجوار موقد المطبخ، رقدت تمص إبهامها وتنصت إلى الحديث الدائر، ولكنها لم تدرك منه شيئا؛ لأن عمرها لم يكن يجاوز سنتين في ذلك الحين .
12
وخجلت كاتي من البقاء في الحي بعد الضجة الكبيرة التي أحدثها جوني، وإن كان عدد كبير من أزواج الحي ليسوا بأحسن حالا من جوني بلا شك، ولكن ذلك لم يكن المستوى الذي تنشده كاتي، كانت تريد لأفراد أسرة نولان أن يكونوا أفضل من غيرهم وليسوا كسائر الناس، وكانت هناك أيضا مشكلة المال بالرغم من أنها لم تكن مشكلة حقا؛ لأنهما كانا يملكان مالا قليلا جدا، وقد أصبح لديهما طفلان، وبحثت كاتي عن مكان تستطيع أن تعمل فيه لتحصل على إيجار المسكن، ولتوفر لهم على الأقل سقفا يظلل رءوسهم.
ووجدت منزلا تعيش فيه بلا أجر نظير تنظيفها إياه، وأقسم جوني إنه سوف لا يجعل من زوجته خادمة، وأخبرته كاتي بأسلوبها السريع الجديد القاسي: أن عليهما أن يختارا بين أن تشتغل خادمة أو يفقدا مأواهما؛ إذ أصبح من العسير شهرا بعد شهر أن يحصلا على قيمة الإيجار. وسلم جوني أخيرا بالأمر بعد أن وعد بأنه سيقوم بكل أعمال الخدمة، حتى يحصل على وظيفة منتظمة، وعندئذ يستطيعان أن ينتقلا إلى بيت جديد مرة أخرى.
وحزمت كاتي أمتعتهما القليلة التي تشتمل على: سرير مزدوج، ومهد لطفلين، وعربة أطفال صغيرة غاصت أحشاؤها، وكساء أخضر للبهو من المخمل الرديء، وسجادة محلاة بزهور وردية، وزوج من الستائر الحريرية للبهو، وشجيرة من نبات المطاط، وشجيرة من زهور الجرونيه الوردي، وعصفور من عصافير الكناريا أصفر اللون في قفص مذهب، وحافظة صور من المخمل الرديء، ومائدة للمطبخ وبعض الكراسي، وصندوق مليء بالصحاف والأواني والقدور، وصليب مذهب في قاعدته صندوق موسيقي يعزف «سلام لك يا مريم» حين يملأ، وصليب بسيط من الخشب كانت قد أعطته لها أمها، وسلة غسيل مليئة بالملابس، وحزمة من الملاءات، وكوم من النوت الموسيقية الخاصة بجوني، وكتابين هما الإنجيل وكل مؤلفات وليم شكسبير في مجلد واحد.
لم يكن لديهم إلا أثاث قليل جدا حتى إن بائع الثلج استطاع أن يحمله كله على عربته، واستطاع جواده الأشعث أن يجرها وركب الأفراد الأربعة فوق عربة الثلج نازحين إلى بيتهم الجديد.
وآخر ما فعلته كاتي في بيتها القديم بعد أن جرد وتعرى من كل شيء، وأصبح يشبه الرجل القصير النظر بعد أن خلع نظارته، هو أن انتزعت الحصالة الصفيح التي كانت تدخر فيها المال، وكان بها ثلاثة دولارات وثمانون سنتا، وأدركت كاتي آسفة أنها ستعطي دولارا لبائع الثلج نظير نقلهم إلى البيت الجديد.
وأول ما فعلته في البيت الجديد حين كان جوني يعاون بائع الثلج في حمل الأثاث، هو أن ثبتت الحصالة بالمسامير في حجرة الكرار، وأعادت إليها دولارين وثمانين سنتا، وأضافت إلى ذلك عشرة سنتات أخذتها من البنسات التي في كيسها البالي، كان ذلك هو المبلغ الذي لم يكن في نيتها أن تعطيه لبائع الثلج.
وجرت العادة في ويليمسبرج على أن يدعو السكان الجدد من يتولون نقل أثاثهم إلى احتساء الجعة، حين ينتهون من الاستقرار في مسكنهم، ولكن كاتي قالت بينها وبين نفسها: إننا لن نرى الرجل مرة أخرى، وحسبه الدولار الذي أخذه، فإنه ليشقى حتى يبيع من الثلج ما قيمته دولار.
وأقبلت ماري روملي حين كانت كاتي تعلق الستائر الحريرية، ورشت الحجرات بالماء المقدس لتطرد الأرواح الشريرة، التي ربما تكون متلبثة في الأركان. من يدري؟ لعل البروتستانت كانوا يعيشون هنا من قبل، أو ربما مات في البيت كاثوليكي دون أن ينال غفران الكنيسة الأخير؛ إن الماء المقدس كفيل بأن يطهر البيت مرة أخرى حتى يمكن للرب أن يزوره إن شاء.
وصاحت فرانسي من الفرح حين رفعت جدتها الإناء، ولمعت الشمس من خلاله لتصنع على الجدار المقابل قوس قزح عريضا صغيرا، وابتسمت ماري مع الطفلة، وجعلت قوس قزح يرقص على الجدار.
وقالت: ما أجمله! ما أجمله!
وردت فرانسي قولها رافعة يديها: ما أكمله! ما أكمله!
وسمحت لها ماري بأن تحمل الإناء الذي امتلأ إلى نصفه، على حين ذهبت لتساعد كاتي، وخاب أمل فرانسي حين اختفى قوس قزح من فوق الجدار، وظنت أنه ربما يكون مختفيا في الزجاجة، فأفرغت الماء المقدس في حجرها ، متوقعة أن ينزلق قوس قزح من الزجاجة ، ولاحظت كاتي من بعد أنها قد ابتلت فبدلت ملابسها في رفق، وأخبرتها أنها أصبحت أكبر سنا من أن تتبول في سروالها، لكن ماري أوضحت ما كان من أمر الماء المقدس. - إيه! إن الطفلة باركت نفسها، وإن صفع الطفل على ردفيه يأتي من البركة.
وهنالك ضحكت كاتي، وضحكت فرانسي؛ لأن أمها كفت عن الغضب، وكشف نيلي عن ثلاث أسنان وهو يضحك في طفولته، وابتسمت ماري لهم جميعا، وقالت: من حسن التوفيق أن يبدءوا الحياة بالضحك في البيت الجديد.
واستقر متاعهم بالبيت حين حل موعد العشاء، وبقي جوني مع الطفلين، على حين ذهبت كاتي إلى حانوت البقالة لتفتح حسابا، وأخبرت البقال بأنها قد انتقلت لتوها إلى الحي، فهل له أن يثق بها فيعطيها بعض البقالة القليلة، حتى يجيء يوم السبت الذي تتسلم فيه أجرها؟ ووافق البقال وأعطاها كيسا من البقالة ودفترا صغيرا سجل فيه دينها، وطلب منها أن تحضر الدفتر معها في كل مرة تأتي لتشتري «على الحساب»، وضمنت الأسرة بهذا الإجراء اليسير طعامها حتى موعد تسلم الأجر المقبل.
وقرأت كاتي للطفلين بعد العشاء حتى ناما، قرأت صفحة من مقدمة شكسبير ومقتطفات من الإنجيل، وكان عليها أن تشير إلى الموضع الذي بلغته في القراءة، ولم يفهم الطفلان ولا كاتي شيئا من الموضوع كله، وغلب على كاتي النعاس من القراءة، لكنها أتمت الصفحتين في عناء، وغطت الطفلين بعناية، ثم ذهبت هي وجوني إلى فراشهما أيضا، وكانت الساعة قد بلغت الثامنة فحسب، لكنهما كانا يشعران بالتعب من مشقة الانتقال إلى السكن الجديد.
ونامت أسرة نولان في بيتها الجديد في شارع لوريمر الذي كان هو الآخر في حي ويليمسبرج، ولكنه كان قريبا جدا من بوابة منطقة جرينبوينت.
13
وكان شارع لوريمر أكثر رقيا من شارع بورجارت، يسكنه سعاة البريد، ورجال المطافئ وأصحاب الحوانيت الذين كانوا أيسر حالا من أن يسكنوا الحجرات الخلفية من مخازنهم.
وكان للمسكن حمام، وبرميل للماء على هيئة صندوق خشبي مستطيل مبطن بالزنك، ولم تستطع فرانسي أن تتخلص مما نالها من عجب عندما ملئ بالماء، وهذا أكبر قدر من الماء رأته حتى ذلك الحين، وبدا لعينها الغريرة كأنه محيط.
وأحب آل نولان البيت الجديد، وكانت كاتي وجوني يتعهدان الكرار والقاعات والسطح والرصيف المقابل للبيت، ويجعلانها نظيفة لا تعلوها غبرة نظير إيجار سكنهما، ولم يكن بالبيت أي بئر للتهوية، وكانت هناك نافذة لكل حجرة نوم وثلاث نوافذ بكل من المطبخ والحجرة الأمامية. وبدا الخريف الأول هناك بهيجا؛ إذ كانت أشعة الشمس تدخل طول النهار البيت، واستمتعوا بالدفء أيضا في ذلك الشتاء الأول، واستقام جوني في عمله وكف عن الإسراف في الشراب، فتوافر للأسرة المال لشراء الفحم.
وقضى الطفلان، حين حل فصل الصيف، معظم النهار خارج البيت تحت الظلة، وكان هما الطفلين الوحيدين بالمنزل؛ ولذلك كانت الظلة تتسع لهما دائما، ووكل إلى فرانسي التي أوشكت على السنة الرابعة الاهتمام بنيلي، الذي كان يقترب من عامه الثالث، وكانت تجلس الساعات الطوال تحت الظلة، وقد أحاطت ذراعاها النحيلتان بساقيها الرقيقتين، وراح شعرها البني الداكن يطير مع النسيم الفاتر، الذي يهب محملا برائحة البحر المشبعة بالملح؛ ذلك البحر الذي كان منها جد قريب والذي لم تره أبدا، وأخذت تلاحظ نيلي وهو يدب على السلم صاعدا هابطا، وجلست تهتز إلى الأمام وإلى الخلف، وتتعجب من أشياء كثيرة: من السبب في هبوب الريح، ومن ماهية العشب، ومن كون نيلي صبيا وليس بنتا مثلها.
وفي بعض الأحيان كان نيلي وفرانسي يجلسان ناظرين بعضهما إلى بعض بعينين ثابتتين، وكانت عيناه تشبه عينيها في شكلهما وعمقهما، ولكن عينيه كانتا صافيتي الزرقة، أما عيناها فكانتا داكنتين رماديتين صافيتين. ونشأت بين الطفلين صلة منتظمة لا تنقطع، وكان نيلي يتكلم قليلا وفرانسي تتكلم كثيرا، وتظل فرانسي في بعض الأحيان تتكلم وتتكلم، حتى يغيب الصبي الأنيس الصغير في النوم، وهو جالس معتدل القامة على درجات السلم، ورأسه على القضيب الحديدي.
واشتغلت فرانسي بالتطريز ذلك الصيف، فقد اشترت لها كاتي قطعة مربعة من القماش ببنس، في حجم منديل يد السيدات، خطط عليه رسم يصور كلبا جالسا من نوع النيوفوند لاند وقد تدلى لسانه، واشرت ببنس آخر «شلة» صغيرة من خيط قطني أحمر يستخدم للتطريز، وأنفقت سنتين في شراء زوج من الأطواق الصغيرة، وعلمت الجدة فرانسي كيف تسلك الغرز بعضها وراء بعض، وأصبحت الطفلة بارعة في التطريز، وكانت النسوة يقفن أثناء مرورهن، وينظرن في إعجاب ممزوج بالشفقة على البنت الضئيلة الجسم، وظهر خط عميق على الطرف الداخلي لحاجبها الأيمن، وهي تدفع الإبرة داخلة خارجة في القماش المشدود، على حين راح نيلي يتعلق بها ليراقب قطعة المعدن الفضية البراقة تختفي كالسحر، ثم تبرز ثانية من خلال القماش، وأعطتها سيسي قطعة قماش صغيرة سميكة في لون التوت لتنظف بها الإبرة، وسمحت فرانسي لنيلي، وقد استبد به القلق، أن يغرز الإبرة فترة من الوقت في تلك القطعة من القماش، وعلمت فرانسي أنها يجب أن تطرز مائة أو نحوها من تلك المربعات ثم تخيطها معا لتصنع غطاء للسرير، وسمعت أن بعض السيدات صنعن حقا غطاء للسرير على هذا النحو، وأصبح أمل فرانسي أن تحقق ذلك، ولكن الخريف حل ولم تنته فرانسي بعد، إلا من النصف فحسب، بالرغم من أنها كانت تشتغل في المربع على فترات طوال الصيف، ومن ثم كان على غطاء السرير أن ينتظر حتى حين.
وجاء الخريف مرة أخرى، وحل من بعده الشتاء، ثم أقبل الربيع وتلاه الصيف، وأخذت فرانسي ونيلي في كل موسم يشتد عودهما، ودأبت كاتي على الجد في العمل، وقل عمل جوني هونا ما، وزاد إقباله على الشراب، واستمرت كاتي تقرأ لطفليها، وتهمل في بعض الأحيان صفحة حين تشعر بالتعب في الليل، ولكنها تلتزمها في معظم الأحيان، وبلغت في قراءتها مسرحية «يوليوس قيصر»، وتحيرت كاتي في فهم الإرشادات الموجهة إلى المخرج، وظنت أنها تتعلق بعربات إطفاء الحريق، وكانت كلما بلغت تلك الكلمة تصيح قائلة: رن رن.
وطرب الطفلان لذلك طربا مدهشا.
وتجمعت البنسات في الحصالة، واضطر الأمر كاتي ذات مرة أن تشقها وتفتحها لتأخذ منها دولارين، دفعتهما للصيدلي حين دخل مسمار صدئ في ركبة فرانسي، وفكت شعبة من الشعب عشرات المرات وانتزعت خمسة سنتات من الحصالة بسكين، لتزود جوني بأجر العربة حتى يصل إلى عمله، ولكنهم درجوا على أن يردوا إلى الحصالة عشرة سنتات مما يصيبه جوني من هبات، وهكذا زاد المال في الحصالة.
وكانت فرانسي تلعب وحدها في الأيام الدافئة في الشوارع أو تحت الظلة، وتتوق للعب الرفاق، ولكنها لم تكن تعرف كيف تصادق البنات الصغيرات الأخريات، وكان الأولاد الصغار يتجنبونها لأنها تقول كلاما مضحكا، وكان لفرانسي أسلوب غريب في التعبير عن الأشياء، متأثرة في ذلك بما كانت تسمعه من قراءة كاتي بالليل، فقد حدث مرة أن قالت حين شدها أحد الصغار: أوه! أنت لا تعلم ماذا تقول؟ إنه لا يصدر عنك إلا الصخب الصاخب فلا تفصح أو تبين.
وقالت وهي تحاول مرة أخرى أن تصادق بنتا صغيرة: البثي هنا حتى آجأ حبلي فنمضي في القفز.
وصححت البنت الصغيرة عبارتها قائلة: أنت تقصدين أنك ستجيئين بالحبل؟ - لا، سآجأ حبلي، أنت لا تجيئين بالأشياء، وإنما تأجئينها.
وسألت البنت الصغيرة التي لم تكن جاوزت الخامسة من عمرها: ماذا تعنين بكلمة آجأ؟ - آجأ كما آجأت حواء قابيل. - أنت حمقاء، فإن السيدات لا يجئن بقبيل، وإنما الرجال يجيئون بقبيل، عندما يريدون أن يضمنهم أحد. - لقد آجأت حواء، أجل لقد آجأت هابيل أيضا. - تجيء أو لم تجيء، أتعرفين؟ - ماذا؟ - إنك ترطنين فحسب!
وصاحت فرانسي: أنا لا أرطن ... وإنما أتكلم كأهل البيان! - سوف لا يفهمك أحد أبدا. - سيفهمونني.
ولمست البنت الصغيرة جبينها، وقالت: ألا يوجد من تعاشرينه في بيتك؟ - نعم يوجد. - لماذا تتكلمين إذن على هذا النحو؟ - إن أمي تقرأ لي هذه الأشياء.
وصححت البنت الصغيرة: ألا يوجد أحد في بيت أمك؟ - إن أمي على أي حال ليست امرأة قذرة مثل أمك.
كان ذلك هو الرد الوحيد الذي تستطيع فرانسي أن تفكر فيه.
وكانت البنت الصغيرة قد سمعت ذلك كثيرا، ولها من الفطنة والذكاء ما جعلها لا تناقش ذلك الأمر، وقالت: حسنا، إنني أفضل أن تكون لي أم قذرة، على أن تكون لي أم مجنونة، وأوثر أن أكون بلا أب، من أن يكون لي أب سكير!
وصرخت فرانسي وقد جاشت عواطفها: قذرة! قذرة! قذرة!
وترنمت البنت الصغيرة مرددة: مجنونة، مجنونة، مجنونة!
وجرت البنت الصغيرة بعيدا تتراقص خصلات شعرها السميكة في ضوء الشمس، وتغني بصوت واضح عال:
إن العصى والأحجار تكسر عظامي،
ولكن الأسماء لا تصيبني بضر أبدا،
لسوف تبكين حين أموت؛
ندما على الصفات التي رميتني بها.
وبكت فرانسي حقا، لا ندما على الصفات التي رمتها صاحبتها بها، ولكن لأنها شعرت بالوحدة، وأن أحدا لا يريد أن يلعب معها، وكان الأطفال الخشنون يجدون فرانسي هادئة أكثر مما ينبغي، أما الأطفال الأكثر تهذيبا فكانوا يعرضون عنها، وشعرت فرانسي شعورا غامضا بأنها لم تكن هي المسئولة الوحيدة عن ذلك الخطأ.
فقد كانت بعض المسئولية في ذلك ترجع إلى خالتها سيسي، التي تتردد على البيت في أغلب الأحيان، وإلى مظهرها، ونظرة رجال الحي إليها حين تمر بهم، ويرجع بعضها الآخر إلى ترنح أبيها في بعض الأحيان، وتخبطه في السير من جانب إلى جانب، وهو يهبط الشارع عائدا إلى البيت، وكانت بعض التبعة ترجع إلى أسلوب الجارات وهن يسألنها أسئلة حول أبيها وأمها وسيسي، ولم تكن تغرر بها أسئلتهم الخادعة السريعة، ألم تحذرها أمها منهن قائلة: لا تدعي الجارات يلتقطن منك أي خبر!
وهكذا جلست الطفلة الوحيدة في أيام الصيف الدافئة تحت الظلة، تتظاهر بالترفع عن ثلة الأطفال الذين يلعبون على جانب الطريق، وصنعت فرانسي في خيالها رفاقا تلعب معهم، واعتقدت أنهم أفضل من الأطفال الحقيقيين، ولكن قلبها ظل طول الوقت يدق دقات منتظمة على الإيقاع الحزين للأغنية، التي كان الأطفال يتغنين بها وهن يدرن في حلقة، وقد تشابكت أيديهن:
والتر يا والتر، أنت الزهرة البرية،
تنمو ضاربة في السماء،
كما ننمو نحن الفتيات الشابات،
ثم يدركنا الموت لا محالة،
إلا ليزي فيهنر،
التي هي أجمل زهرة.
اختبئي اختبئي اختبي خجلا،
وأديري ظهرك وأفصحي عن اسم
حبيبك الجميل.
وتوقفن عن الغناء، وأخذت البنت المختارة تحاورهن طويلا، ثم همست أخيرا باسم فتى، وتحيرت فرانسي أي اسم تختاره لو أنها سئلت أن تلعب معهم، أتراهن يضحكن إذا ما همست باسم جوني نولان؟
وصرخت البنات الصغيرات في حبور، حين همست ليزي بالاسم، ثم تشابكت أيديهن ودرن في حلقة يخاطبن الفتى في لطف:
هيرمي باشمبر
فتى جميل،
يأتي إلى الباب،
وقبعته في يده،
وتهبط هي إليه،
تلبس حريرا في حرير،
غدا، غدا
يبدأ حفل الزفاف.
ووقفت البنات الصغيرات وصفقن بأيديهن في سرور، ثم تغير شعورهن بدون سبب أو دافع، ودرن في الحلقة بخطى بطيئة منكسات رءوسهن.
أماه! يا أماه! إني مريضة؛
فابعثي في طلب الطبيب
سريعا، سريعا، سريعا!
أيها الطبيب، أيها الطبيب، أتراني أموت!
أجل يا عزيزتي،
رويدا رويدا.
كم عربة ستكون لي؟
ما يكفي لك ولأسرتك أيضا.
وكانت الأغنية تتردد في الأحياء المجاورة الأخرى بألفاظ غير هذه الألفاظ، ولكنها في جوهرها واحدة، ولم يكن أحد يعلم من أين جاءت ألفاظها، فقد تعلمتها البنات الصغيرات من البنات الصغيرات الأخريات، وكانت أكثر لعبة تمارس في بروكلين.
وثمة لعب أخرى، مثل لعبة «الأولاد» تستطيع أن تلعبها بنتان صغيرتان معا، وهما جالستان على درجات الظلة، وكانت فرانسي تلعب لعبة «الولد» وحدها، تتمثل أولا دور فرانسي، ثم تمثل خصمها، وتكلم الرفيق الخيالي قائلة: إنني أختار ورق الثلاثة وأنت ورق الاثنين.
وكانت «بوتسي» لعبة يبدأها الصبيان وتختمها البنات، فيضع صبيان علبة من الصفيح على قضيب العربات، ويجلسان على حافة الطريق يراقبان بعين متمرسة، حين تضغط عجلات عربة التروللي العلبة، ثم يطويانها ويعيدانها إلى القضيب، وتضغطها العجلات ثانية، وهكذا دواليك، فلا تلبث العلبة أن تصبح مربعا من المعدن المنبسط الثقيل، ويرسم على جانب الطريق عدد من المربعات المرقمة، وتنتقل اللعبة للبنات اللائي يقفزن على قدم واحدة، ويدفعن «البوتسي» من مربع إلى مربع، وتفوز تلك التي تمر من المربعات بأقل عدد من القفزات.
وصنعت فرانسي علبة من علب «البوتسي» فوضعت علبة على القضيب، وراقبت بعين متمرسة عابسة مرور العربة عليها، وانتفضت في رهبة وفزع حين سمعت القرقعة، وتساءلت أيجن سائق العربة غضبا لو علم أنها تستغل مركبته؟ ورسمت المربعات ولكنها لم تستطع إلا أن تكتب رقمي واحد وسبعة، وقفزت في المربعات، وقد استولت عليها رغبة حارة في أن يشاركها أحد في اللعبة؛ لأنها على يقين من فوزها بأقل القفزات، عن أي بنت صغيرة أخرى في العالم.
وكانت الموسيقى تعزف أحيانا في الشوارع، وكان ذلك شيئا تستطيع فرانسي أن تستمتع به دون رفاق، فقد كانت فرقة موسيقية من ثلاث آلات تقبل مرة كل أسبوع، وأفراد الفرقة يلبسون حللا عادية، ولكن قبعاتهم تبدو مضحكة كقبعات سائقي السيارات بفارق واحد، هو أن قمتها منضغطة، وكانت فرانسي تجري إلى الشارع، وتجر معها نيلي أحيانا حين تسمع الأطفال يصيحون: ها هم أولاء الزامرون قد حضروا!
وهذه الفرقة تتكون من كمان وطبلة وبوق، ورجالها يعزفون ألحانا قديمة من ألحان فيينا، وإذا قلنا إن عزفهم لم يكن عزفا بارعا، فإنه كان على الأقل صاخبا جهيرا، وكانت البنات الصغيرات يرقصن رقصات الفالس اثنتين اثنتين على جوانب الطريق في أيام الصيف الدافئة، وهناك دائما صبيان يرقصان معا رقصة تتسم بالتهريج، يقلدان بها البنات ويلكزانهن في وقاحة، وينحنيان في مبالغة شديدة حين تغضب البنات (وقد تأكدا أن عجزيهما وهما ينحنيان، سوف يلكزان بنتين أخريين من الراقصات) ويعتذران بلغة منمقة معسولة.
وتمنت فرانسي لو استطاعت أن تكون أحد هؤلاء الشجعان الذين لا يشتركون في الرقص، وإنما يقفون بجوار نافخ البوق وهو ينفخ في صوت صاخب، يمصون قثاء مخللة؛ مما جعل اللعاب يفيض في البوق، فأهاج ذلك نافخ البوق، هياجا شديدا، وكان إذا ما أثير غضبه أكثر من ذلك يطلق من فمه سلسلة من الأيمان الغليظة باللغة الألمانية، تنتهي بأصوات تشبه أن تكون: أيها اليهودي الملعون البائس، وكان معظم الألمان في بروكلين، قد اعتادوا رمي كل من يغضبهم باليهودي.
وأعجبت فرانسي بقبعة النقود، وكانت الفرقة بعد أن تعزف أغنيتين يمضي عازف الكمان ونافخ البوق في العزف، على حين يدور عازف الطبلة بالمستمعين في حركات خالية من الرشاقة، ممسكا بقبعته يتلقى البنسات التي تعطى له، ويقف على الطرف من زاوية الشارع بعد أن يجوبه، ويتطلع إلى نوافذ البيوت، فتلف النسوة بنسين في قطعة من ورق الصحف ويلقين بهما إليه، وكانت قطعة الورق ضرورية؛ لأن البنسات التي تلقى من غير أن تدور تعد النصيب الحق للصبية، فيلتفون عليها ويلتقطونها ويهبطون الشارع عدوا، وقد جرى وراءهم أحد أفراد الفرقة غاضبا، في حين أنهم لا يحاولون لسبب أو لآخر أن يحصلوا على البنسات الملفوفة، وفي بعض الأحيان يلتقطونها ويناولونها للموسيقيين، وكانت هنالك شبه سنة مرعية تجعلهم يتفقون على من يستحق هذه البنسات.
ويعزف الموسيقيون أغنية أخرى إذا حصلوا على ما يكفيهم من البنسات، أو يرحلون مؤملين أن يصادفوا أحياء أكثر رواجا إذا كان كسبهم ضئيلا، وقد ألفت فرانسي أن تجر معها نيلي وتتبع الموسيقيين في كثير من الأحيان من وقفة إلى وقفة، ومن شارع إلى آخر حتى تحل الظلمة، ويأتي الموعد الذي يتفرق فيه الموسيقيون.
ولم تكن فرانسي إلا فردا في حشد؛ لأن أطفالا كثيرين يتبعون الفرق التي من هذا القبيل، ومعظم البنات الصغيرات يسحبن معهن أخواتهن وإخوتهن الصغار، بعضهم في عربات صغيرة صنعت بالبيت، والبعض الآخر في عربات أطفال سقطت حشياتها.
وكانت الموسيقى تسحر ألبابهن، حتى إنهن كن ينسين البيت والأكل، وكان الأطفال الصغار يبكون ويبللون سراويلهم، ثم ينامون مرة أخرى.
كل هذا ولحن «الدانوب الأزرق الساحر» يمضي في العزف إلى ما شاء الله.
وظنت فرانسي أن الموسيقيين يعيشون حياة ممتعة، فدبرت أمرا؛ ذلك أنها قررت حين يكبر نيلي أن تجعله يعزف على الأكورديون وتدق هي على الدف ويمضيان في الطرقات ويلقي إليهما الناس بالبنسات فيجمعان ثروة، ولا تضطر أمها إلى الاشتغال بعد ذلك.
وفرانسي تؤثر الأرغن بالرغم من أنها تتبع الفرقة، وكان يقبل بين الحين والحين رجل يحمل أرغن صغيرا، يجثم على قمته نسناس يلبس سترة حمراء، لها شريط ذهبي وقبعة حمراء صنعت من صندوق الدواء، وربطت بحزام تحت ذقنه.
وفي سرواله الأحمر فتحة تكفي لأن يخرج ذيله منها، وأحبت فرانسي ذلك النسناس، وكانت تعطيه حلواها الغالية التي تشتريها ببنس، لا لشيء إلا لتستمع برؤيته يقلب قبعته، وتخرج أمها إذا كانت بالبيت، ومعها البنس الذي ينبغي أن تضعه في الحصالة وتعطيه لصاحب النسناس، مغلظة عليه ألا يسيء معاملة النسناس، فإن أساء معاملته واكتشفت ذلك فإنها خليقة بأن تبلغ عنه. ولم يكن الرجل الإيطالي ليفهم قط كلمة مما تقول، ولكنه كان يجيب دائما جوابه المعهود، إذ يخلع قبعته وينحني في ذلة، وهو يلوي ساقه قليلا ويصيح في حماسة: سمعا وطاعة!
وكان الأرغن الكبير مختلفا عن ذلك، فإذا ما أقبل على الحي يصبح ذلك أشبه بالعيد، وكان يدير الأرغن رجل له شعر مجعد داكن اللون، وأسنان ناصعة البياض، يلبس سروالا من المخمل الأخضر، وسترة بنية من المخمل القطبي، يتدلى منها منديل أحمر بهيج الألوان، مما يعصب به النساء رءوسهن، ويضع في إحدى أذنيه قرطا.
والمرأة التي تساعده في إدارة الأرغن تلبس إزارا أحمر دوارا وصدرية صفراء، وتضع في أذنيها قرطا كبير الحجم.
وجلجل صوت الموسيقى صادحة بلحن من أوبرا كارمن أو أوبرا تروفاتوري، وهزت الموسيقى دفا قذرا ربط بشريطين، وقرعت عليه في غير اكتراث بمرفقها، متمشية مع إيقاع الموسيقى، ثم أخذت تدور فجأة بعد انتهاء، اللحن كاشفة عن ساقيها الغليظتين اللتين يغطيهما جورب قذر من القطن الأبيض، مبدية لمحة من القمصان القصيرة المتعددة الألوان.
ولم تلاحظ فرانسي قط قذارة هؤلاء العازفين وفتورهم، بل كانت تسمع الألحان وترى ومضة الألوان، وتحس بروعة هؤلاء القوم الساحرين، وحذرتها كاتي من أن تتبع الأرغن الكبير بحال، وقالت لها إن عازفي الأرغن هؤلاء الذين يرتدون مثل هذه الملابس كانوا أهل صقلية، والناس جميعا يعلمون أن أهل صقلية ينتمون إلى جمعية اليد السوداء، وأن جمعية اليد السوداء تخطف الأطفال الصغار، وتحتفظ بهم من أجل الفدية، وتترك رسالة للآباء بأن يضعوا مائة دولار في المقبرة، ويوقعوا عليها بخاتم يصور يدا سوداء. كان ذلك ما قالته أمها عن عازفي الأرغن هؤلاء.
وعزفت فرانسي على الأرغن بعد أيام من مجيء عازف الأرغن، وأخذت تدندن ما تذكره من ألحان فردي، وتضرب بمرفقها على علبة فطير قديمة تخيلت أنها دف، وختمت لعبتها بأن رسمت معالم راحتها على قطعة من الورق، ثم سودتها بالقلم الأسود.
وكانت فرانسي تتردد في بعض الأحيان لا تدري ما تكونه، وتحيرت في أمرها: ترى أمن الخير أن تكون عازفة في فرقة حين يشتد عودها؟ أم تكون سيدة تدير الأرغن؟ ومن الخير لها أن تحصل هي ونيلي على أرغن صغير ونسناس ذكي، فيستمتعان طول يومهما بالضحك والتسلية معه دون أن يدفعه شيئا، ويتجولان يعزفان ويراقبانه وهو يقلب قبعته، فينفحهما الناس بكثير من البنسات، ويستطيع النسناس أن يشاركهما في الأكل، وربما ينام معهما في فراشهما بالليل.
واستهوت هذه الحرفة فرانسي حتى إنها أعلنت عن عزمها لأمها، ولكن كاتي قتلت الفكرة في مهدها وقالت لها ألا تكون بلهاء، وإن البراغيث تعيش في النسانيس، وهي خليقة بألا تسمح لنسناس بأن ينام في سرير من أسرتها النظيفة.
وراحت فرانسي تحلم بفكرة أن تصبح عازفة دف، ولكنها سوف تدخل في زمرة أهل صقلية، وتخطف الأطفال الصغار، ولم تكن تريد ذلك بالرغم من أن رسم اليد السوداء كان شيئا مسليا.
وأخذت الموسيقى تتردد في ذلك الحي دائما، وانتشرت الأغاني والرقصات في شوارع بروكلين في فصول الصيف منذ عهد بعيد، وامتلأت الأيام بالبهجة والسرور، ولكن كان ثمة شيء حزين يحيط بفصول الصيف؛ شيء حزين يحيط بالأطفال، وقد نحلت أجسامهم، ولكن ملامح الطفولة لا تزال على وجوههم، وقد راحوا يغنون لحنا رتيبا حزينا حين يشتركون في لعبة الحلقة.
ومن المحزن أنهم وهم لا يزالون أطفالا في سن الرابعة أو الخامسة، تفرض عليهم الأيام أن يبلغوا من النضج المبكر، ما يحملهم على العناية بأنفسهم.
وكان لحن الدانوب الأزرق الذي تعزفه الفرقة لحنا حزينا بقدر ما كان سيئ العزف، وراح النسناس ينظر بعينين حزينتين تحت قبعته الحمراء اللامعة، وكان لحن الأرغن يخفي الحزن وراء أنغامه الصادحة المرحة، بل إن الموسيقيين الذين كانوا يفدون إلى أفنية المنازل ويغنون:
لو أنني وفقت إلى سبيلي
لما عدت عليك السن أبدا
كانوا حزانى أيضا، وصعاليك جائعين لم يؤتوا موهبة الغناء، وكل ما يمتلكونه في هذا العالم، هو القدرة على الوقوف في الفناء الخلفي، وقبعاتهم في أيديهم يغنون بصوت جهير.
وأشد ما يحزنهم هو إدراكهم أن قدرتهم جميعا لن تبلغ بهم شيئا في العالم، وأنهم قوم ضائعون، شأنهم شأن أهل بروكلين جميعا الذين يبدو عليهم الضياع، حين يوشك النهار على الإدبار بالرغم من أن الشمس تظل في إشراقها، ولكن أشعتها تكون رقيقة ضئيلة لا تفيء عليك الدفء حين تغاديك.
14
وسارت الحياة طيبة رضية في شارع لوريمر، وكانت أسرة نولان خليقة بأن تستمر في العيش هناك، لولا الخالة سيسي وقلبها الكبير الذي يسيء الناس فهمه. إن فعلة سيسي بالدراجة ذات العجلات الثلاث والإطارات، هي ما حطم أسرة نولان وشأنها.
فقد قررت في يوم ما بعد أن انتهت من عملها، أن تذهب وترعى شأن فرانسي ونيلي أثناء غياب كاتي في العمل، وبهر عينيها قبل أن تصل إلى بيتهما بريق الشمس على المقبض النحاسي لدراجة جميلة ذات عجلات ثلاث، وهذا نوع من الدراجات لا يرى في هذه الأيام، وكان للدراجة مقعد جلدي يتسع لجلوس طفلين صغيرين، وله مسند من الخلف، وعجلة القيادة من الحديد تتصل بالعجلة الأمامية الصغيرة، والعجلتان الخلفيتان أكبر حجما، والمقبض من النحاس الصلب على قمة عجلة القيادة، والدواسة أمام المقعد يجلس إليها طفل في ارتياح، ويديرها بقدمه وهو يتكئ بظهره إلى المسند، ويوجهها ممسكا بمقبضيها اللذين يبرزان في حجره.
ورأت سيسي تلك الدراجة تقف أمام الظلة دون أن ينتبه إليها أحد، فلم تتردد لحظة في أخذ الدراجة إلى بيت نولان، وأخرجت الطفلين وأركبتهما الدراجة في نزهة.
واعتقدت فرانسي أنها نزهة رائعة، وجلست هي ونيلي على المقعد الخلفي، في حين راحت سيسي تجرهما حول البناء، وكان المقعد الجلدي دافئا بعد أن سقطت عليه أشعة الشمس، تنبعث منه رائحة الثراء والغنى، ورقصت أشعة الشمس على المقبض النحاسي، فبدا كأنه نار مضطرمة، واعتقدت فرانسي أنه سوف يحرقها بلا شك إذا لمسته بيدها، ثم حدث شيء.
اتجه إليهم حشد صغير على رأسه امرأة تهذي في عصبية، وصبي يصرخ ويولول، واندفعت المرأة إلى سيسي صارخة: يا لك من لصة!
انتزعت منها المقبض وجرت الدراجة، لكن سيسي أمسكتها بقوة وكادت فرانسي تسقط من فوقها، وأقبل الشرطي من فوق الجسر مندفعا، وسأل قائلا: ماذا جرى؟ ماذا جرى؟
وقالت المرأة: إن هذه السيدة لصة، لقد سرقت دراجة ابني الصغير.
وقالت سيسي في صوتها الرقيق الذي يستهوي القلوب: أنا لم أسرقها أيها الشاويش، كانت الدراجة هناك واقفة فحسب فاستعرتها ليركبها الطفلان في نزهة، إنهما لم يركبا أبدا مثل هذه الدراجة الجميلة، وأنت تعلم كم يساوي ركوب الدراجة في نظر الطفل، إنه كالصعود إلى السماء.
وحملق الشرطي في الطفلين الصامتين الجالسين على المقعد، وعبست فرانسي في وجهه وهي تنتفض هلعا، وقالت: كنت سأركبها في نزهة واحدة حول البناء ثم أعيدها، إنني أقول الصدق أيها الشاويش.
واستقرت نظرات الشرطي على صدر سيسي الجميل الذي لم تفسده المشدات، التي كانت تفضل أن تلبسها على خصرها، واستدار إلى الأم المنزعجة، وقال: لماذا تريدين أن تكوني بخيلة أيتها السيدة؟ دعيها تحمل الطفلين عليها في نزهة حول البناء، إنها لم تنزع سنا من أسنانك؟ (ولم يقل أسنانك، الأمر الذي اهتز له الأطفال المتجمعون طربا، وهم يكتمون الضحك.) - دعيها تلف بهما لفة وأنا مسئول عن رجوع الدراجة سالمة إليك.
وكان الشرطي ممثل القانون، فماذا تستطيع المرأة أن تصنع؟ وأعطى الشرطي الطفل الباكي خمسة بنسات وطلب منه أن يسكت، وفرق الجمع في بساطة بأن أنبأهم بأنه سيرسل في طلب عربة الشرطة؛ لتحملهم جميعا إلى مركز الشرطة إذا لم ينصرفوا فورا.
وتفرق الجميع، وهز الشرطي هراوته ومضى يحرس سيسي في كرم وشهامة هي والطفلين حول البناء، ورفعت سيسي بصرها إليه وابتسمت في عينيه، فرشق الهراوة في حزامه، وصمم على أن يجر الدراجة بدلا منها، وأخذت سيسي تخب على كعبها العالي بجواره وتفتنه بصوتها الرقيق المثير، وداروا حول البناء ثلاث دورات، والشرطي يتظاهر بأنه لا يلاحظ الابتسامات التي يخفيها الناس بأيديهم، إذ رأوا ممثلا من ممثلي القانون في كامل زيه الرسمي متورطا في عمل من هذا القبيل، وكان يتحدث في حرارة إلى سيسي، ودار معظم حديثه حول زوجته التي كانت امرأة طيبة، ولكنها كانت مريضة واهنة.
وقالت سيسي إنها فهمت ما يرمي إليه.
وتكلم الناس بعد حادث الدراجة، تكلموا كلاما كثيرا عن جوني الذي يعود إلى البيت مخمورا من حين إلى حين، وعن سيسي وكيف ينظر الرجال إليها، وقد أصبحت لديهم الآن مادة يضيفونها إلى أحاديثهم، وفكرت كاتي في الرحيل من هذا الحي؛ لأن الحال أصبحت شبيهة بحالهم في شارع بوجارت، حيث عرف أهل الحي الكثير جدا عن أسرة نولان، وبينما أخذت كاتي تفكر في البحث عن حي غير هذا الحي، وقع حادث آخر اضطرهم إلى الرحيل فورا، وكان الحادث الذي حملهم على هجر شارع لوريمر آخر الأمر حادثا جنسيا صارخا ساذجا، وكان بريئا كل البراءة إذا نظرنا إليه النظرة السليمة.
حدث ذلك في عصر يوم من أيام السبت، وكانت كاتي تؤدي عملا إضافيا في محل جورلينج، وهو مخزن كبير في ويليمسبرج، كانت تصنع القهوة والشطائر لعشاء ليلة الأحد، الذي اعتاد الرئيس إقامته للفتيات عوضا عن الأجر الإضافي، وكان جوني قد حضر إلى مقر إدارة الاتحاد ينتظر الحصول على وظيفة، ولم تكن سيسي تعمل في ذلك اليوم، فقررت أن تبقى مع الطفلين، وهي تعلم أنهما سيقبعان وحدهما رهيني البيت.
وطرقت الباب، وادعت أنها الخالة سيسي، وفتحت فرانسي الباب دون السلسلة، للتأكد من أنها خالتها قبل أن تسمح لها بالدخول، واحتشد الطفلان حول سيسي وانهالا عليها عناقا حتى كادت تختنق، كانا يحبانها وهي في نظرهما سيدة جميلة، تنبعث منها دائمأ رائحة عطرة، وتلبس ملابس جميلة وتحضر لهما هدايا مدهشة.
وأحضرت سيسي معها في ذلك اليوم صندوق سجائر من خشب الأرز له رائحة طيبة، ورزمة عديدة من ورق الزخرفة، بعضها أحمر وبعضها أبيض، وإناء مليئا بالصمغ، وجلسوا حول مائدة المطبخ وانغمسوا في زخرفة الصندوق، وحددت سيسي دوائر على الورقة بربع دولار، وقطعتها فرانسي قطعا، وعلمتها سيسي كيف تحولها إلى كئوس صغيرة من الورق، بأن تصوغ الدوائر حول طرف قلم من الرصاص، ورسمت سيسي قلبا على غطاء الصندوق بعد أن تجمع عدد كثير من الكئوس، ووضعت على أسفل كل كأس أحمر طبقة من الصمغ، وألصقت الكأس على القلب المخطط بالقلم الرصاص، وامتلأ القلب بالكئوس الحمراء، وامتلأت بقية الغطاء بالكئوس البيضاء، وعندما انتهت زخرفة الغطاء أصبح يشبه حوضا من الزهور، رصت عليه زهور القرنفل البيضاء في إحكام، ورصت في وسطه زهور القرنفل الحمراء، وامتلأت الجوانب بالكئوس البيضاء، وأحيط من الداخل بورق الزخرفة الأحمر، وأصبح الصندوق جميلا، حتى إنك لا تستطيع أبدا أن تقول إنه كان صندوق سجائر، وشغل صنع الصندوق معظم وقتهم بعد الظهيرة.
وكانت سيسي على موعد في الساعة الخامسة لتشرب نخب خطيبين في حفل عرس، واستعدت للرحيل، وتشبثت فرانسي بها مستعطفة ألا تمضي وتتركهما، وكرهت سيسي أن تترك الطفلين، ولكنها لم تكن تريد أن تخلف موعدها، وبحثت في كيسها عن شيء يتسلى به الطفلان في غيابها، ووقفا عند ركبتيها يتابعان بحثها، واختلست فرانسي النظر إلى صندوق سجائر فجذبته إلى الخارج، وكانت على غطائه صورة رجل نائم على الأريكة، تشابكت ركبتاه وتدلت قدم من قدميه في الهواء، وكان يدخن لفافة صنعت حلقة كبيرة من الدخان فوق رأسه، وفي الحلقة صورة فتاة ينسدل شعرها على عينيها، ويبرز صدرها من خلال ردائها، وكتب على الصندوق اسم «أحلام أمريكية»، وهذا أحد منتجات المصنع الذي تعمل فيه سيسي.
وهلل الطفلان للصندوق، وترددت سيسي قبل أن تعطيه لهما بعد أن أوضحت أن الصندوق يحتوي سجائر، وعليهما أن يمسكاه وينظرا إليه فحسب، وألا يفتحاه لأي سبب، وقالت إنهما يجب ألا يلمسا أختامه.
واستمتع الطفلان بعد أن رحلت سيسي بالنظر في إمعان إلى الصورة بعض الوقت، وهزا الصندوق فسمعا حفيفا فاترا يكتنفه الغموض، وقرر نيلي قائلا: إنه يحتوي على حيات لا على لفافات تبغ!
وصححت فرانسي ذلك قائلة: كلا ، إنه يحتوي على ديدان حية!
وتجادلا حول الموضوع، فقالت فرانسي إن الصندوق أصغر من أن يتسع للحيات، وصمم نيلي على أنها حيات ملفوفة كالرنجة التي تلف في إناء زجاجي، واستبد بهما الفضول حتى نسيا أوامر سيسي، وكانت أختام الصندوق ضعيفة اللصق يسهل عليهما انتزاعها، وفتحت فرانسي الصندوق ورأت صفحة رقيقة من القصدير المعتم تغطي محتوياته، ورفعت فرانسي الورقة بعناية، واستعد نيلي للزحف تحت المائدة إذا ما تحركت الحيات، ولكن الصندوق لم تكن به حيات أو ديدان أو لفافات تبغ، وإنما كانت به أشياء لا تثير فيهما أي اهتمام، وفقد فرانسي ونيلي اهتمامهما بعد أن حاولا ابتكار بعض اللعب البسيطة، فربطا محتويات الصندوق بغير مهارة في خيط، ودليا الخيط خارج النافذة، ثم أمسكا الخيط أخيرا بأن أغلقا النافذة عليه، وأخذا يقفزان فوق الصندوق العاري، كل بدوره وانهمكا في تكسيره إلى قطع صغيرة، حتى نسيا الخيط المعلق خارج النافذة.
وهكذا قدر لجوني أن يلقى مفاجأة كبيرة تنتظره؛ فعندما جاء من أقصى المدينة يسعى إلى بيته، ليأخذ صدرية نظيفة وبنيقة تلزمانه في عمله بالليل، ألقى نظرة على ما كان يتدلى من النافذة؛ فالتهب وجهه خزيا وخجلا، وأخبر كاتي بما رآه حين حضرت إلى البيت.
وضيقت كاتي الخناق على فرانسي ففهمت كل شيء، وأدانت في ذلك سيسي، وجلست كاتي في مطبخها المظلم في تلك الليلة، بعد أن وضعت الطفلين في فراشهما، وخرج جوني للعمل، جلست وحمرة الخزي تعلو وجهها وتهبط، وأخذ جوني ينجز عمله وفي أعماقه شعور مبهم بأن العالم وصل إلى نهايته.
وجاءت إيفي متأخرة في الليل، وجلست مع كاتي تتناقشان في أمر سيسي.
وقالت إيفي: هذه هي النهاية يا كاتي، النهاية التي ليس بعدها نهاية، إن ما تفعله سيسي يخصها وحدها، ولا شأن لأحد به إلى أن يصدر عنها شيء مثلما وقع، وهنا يصبح الأمر مختلفا، إن لي فتاة في مرحلة النضج، وأنت كذلك؛ ولهذا يجب ألا نسمح لسيسي أن تدخل بيوتنا مرة أخرى، إنها امرأة سيئة السلوك، ولا أمل في إصلاحها .
واستدركت كاتي قائلة: إن فيها كثيرا من الجوانب الطيبة. - تقولين ذلك بعد ما فعلت بك اليوم؟ - حسنا، أظن أنك على صواب، ولكن لا تخبري أمي، إنها لا تعرف كيف تعيش سيسي، وإن سيسي لملاك في عينها.
وأخبرت كاتي جوني حين عاد إلى البيت بأنها لن تسمح لسيسي بالدخول مرة أخرى إلى بيتهم، وتنهد جوني وقال إنه يظن أن ذلك كان هو الشيء الوحيد الذي يمكن عمله، وتكلم جوني وكاتي طوال الليل، وأقبل الصباح حين انتهيا من وضع خططهما جميعا للانتقال في نهاية الشهر.
وعثرت كاتي على مسكن صغير في شارع جراند في ويليمسبرج، وأخذت الحصالة معهم حين انتقلوا، وكانت تحتوي على ثمانية دولارات أو أكثر قليلا، وأنفقت دولارين في الانتقال، وأعادت الدولارات الباقية إلى الحصالة، حين ثبتتها بالمسامير في البيت الجديد، وجاءت ماري روملي مرة أخرى ورشت الشقة بالماء المقدس، وتكرر منهم ما كانوا يفعلونه للاستقرار، حين ينتقلون من بيت قديم إلى بيت جديد، وما يقتضيه ذلك من فتح الحساب في الحوانيت المجاورة.
وشعرت الأسرة بندم مشوب بالتسليم والإذعان، حين وجدوا الشقة الجديدة ليست في مستوى الشقة التي كانت في شارع لوريمر، فقد سكنوا في الطابق الأعلى بدلا من الطابق الأرضي، ولم تكن هناك ظلة؛ لأن حانوتا كان يشغل طابق البيت المحاذي للشارع، ولم يكن هناك حمام وكانت دورة مياه في البهو تشترك فيها أسرتان.
والميزة الوحيدة السارة هي أن السطح يخصهم، والسطح يتبع من غير اتفاق مكتوب السكان الذين يعيشون في الطابق الأعلى، كما يتبع الفناء السكان الذين يعيشون في الطابق الأول، وهناك ميزة أخرى، وهي أن أحدا لم يكن يسكن فوقهم ليحدث اهتزازات على السقف، تجعل غطاء غاز ويلسباخ يتفتت حتى يستحيل رمادا.
وأخذ جوني فرانسي إلى السطح، في حين كانت كاتي تتجادل مع الذين تولوا نقل الأثاث، ورأت فرانسي عالما جديدا كاملا، كانت الفرجة الجميلة لجسر ويليمسبرج تظهر على مسافة غير بعيدة، ولاحت ناطحات السحاب في الأفق واضحة فيما وراء نهر إيست، كأنها مدينة مسحورة صنعت من الكرتون المفضض، وبدا من بعيد جسر بروكلين كأنه صدى للجسر القريب.
وقالت فرانسي: إنه لجميل، يبدو في جمال الصور التي في الريف.
وقال جوني: إنني أعبر ذلك الجسر أحيانا حين أذهب إلى العمل.
ونظرت إليه فرانسي في تعجب، إنه يعبر ذلك الجسر المسحور، ومع ذلك لا يزال يتكلم، ويبدو كما كان دائما، ولم تستطع أن تعقل ذلك، ورفعت يدها ولمست ذراعه، لا شك أن خبرته العجيبة في عبور ذلك الجسر، خليقة بأن تجعل من جسمه شيئا آخر، وخاب أملها حين شعرت بذراعه كما كانت تشعر به دائما.
وأحاطها جوني بذراعه حين شعر بلمسة يدها، وابتسم لها وسألها: كم عمرك أيتها المغنية الأولى؟ - أكملت السادسة وبدأت السابعة. - سوف تذهبين إلى المدرسة في شهر سبتمبر. - لا! لقد قالت أمي إن علي أن أنتظر حتى السنة القادمة، حين يكبر نيلي فيمكننا أن نبدأ معا. - لماذا؟ - حتى نستطيع أن نعاون بعضنا بعضا على الأطفال الكبار، الذين قد يضربوننا لو كنا واحدا فقط. - إن أمك تفكر في كل شيء!
والتفتت فرانسي ونظرت إلى الأسطح الأخرى، وكان هناك سطح بالقرب منها يحتوي على قفص للحمام، وكان الحمام قد حبس فيه في أمان، ولكن صاحب الحمام، وهو شاب في السابعة عشرة، وقف على طرف السطح ومعه عصا طويلة من الخيزران في نهايتها خرقة، ووقف الصبي يحرك العصا في حركة دائرية، وهناك سرب آخر من الحمام يطير محوما، وتركت إحدى الحمائم السرب لتتبع الخرقة الطائرة، وخفض الفتى العصا في حرص، وتبعت الحمامة البلهاء الخرقة، فاختطفها الصبي ووضعها في القفص، وشعرت فرانسي بالأسى: لقد سرق الفتى الحمامة.
وقال جوني: وسوف يسرق شخص في الغد إحدى حمائمه.
وطفرت الدموع من عينيها، وقالت: ولكن الحمامة المسكينة قد انتزعت من أقاربها، وربما يكون لها صغار.
وقال جوني: إنني لن أبكي، ربما أرادت الحمامة أن تنأى عن أقاربها، وإذا لم يرقها القفص الجديد، فسوف تطير عائدة إلى القفص القديم حين تخرج مرة ثانية.
وهدأ قلب فرانسي.
ولم يتكلما فترة طويلة، ووقفا وقد تشابكت يداهما على طرف السطح، ينظران من وراء النهر إلى نيويورك، وقال جوني أخيرا كأنما يكلم نفسه: سبع سنين! - ماذا تقول يا أبي؟ - لقد تزوجنا أنا وأمك منذ سبع سنين. - هل كنت موجودة حين تزوجتما؟ - لا. - ولكنني كنت موجودة حين جاء نيلي. - هذا صحيح.
وعاد جوني يفكر بصوت عال: تزوجنا منذ سبع سنين، وسكنا في ثلاثة بيوت، سوف يكون هذا هو بيتي الأخير.
ولم تلاحظ فرانسي أنه قال بيتي الأخير، بدلا من بيتنا الأخير.
الباب الثالث
15
وكان البيت الجديد يشتمل على أربع حجرات، تؤدي كل منها إلى الأخرى، فسموها لذلك عربات السكة الحديد، وكان المطبخ الضيق العالي يواجه الفناء الذي يشتمل على ممر رصف بالبلاط، يحيط مربعا من الأرض الشكسة، التي تشبه الأسمنت والتي لا يمكن لنبات أن ينمو فيها.
ولكن كانت هناك تلك الشجرة تنمو في الفناء، وكانت غصونها ترتفع إلى الطابق الثاني فحسب، حين رأتها فرانسي أول مرة، وكانت تراها إذا نظرت إلى أسفل من نافذتها، وهذه الشجرة شبيهة بحشد متزاحم من الناس، على اختلاف الأحجام، يقفون باسطين المظلات اتقاء المطر.
وفي مؤخرة الفناء قائمة خشبية هزيلة لنشر الملابس، تتفرق منها صفوف ستة من حبال الغسيل ذوات البكر مؤدية إلى ست من نوافذ المطابخ، وكان صبية الجيران يحصلون على مصروفهم بتسلقها، وإعادة الحبل إلى بكرته حين ينزلق منها.
وكان من المعتقد أن الصبية يتسلقون القائمة الخشبية في منتصف الليل، وينسلون إلى الحبل ويخرجونه عن بكرته، ليضمنوا السنتات العشرة في اليوم التالي.
والحبال العامرة بالملابس كانت تبدو جميلة في اليوم المشمس الذي تهب فيه الريح، فتمتلئ الملاءات البيضاء المربعة بالهواء كأنها شراع في أحد القوارب التي توصف في القصص والروايات، على حين تأخذ الملابس الحمراء والخضراء والصفراء، تناضل مع المشابك الخشبية كأنها تنبض بالحياة.
وكانت القائمة الخشبية تستند إلى جدار من الآجر، وهذا الجدار كان جانب مدرسة الحي الخالي من النوافذ، ووجدت فرانسي حين دققت النظر أنه لم يكن هناك قالبان من الآجر متشابهين تمام التشابه، وإنما رصت القوالب في اتساق ترتاح له العين، تتخللها خطوط رفيعة من فتات الملاط الأبيض، تتألق حين تسطع عليها أشعة الشمس، وكانت فرانسي حين تتكئ بخدها عليها تستشعر الدفء وتستروح المسام التي تتخللها، وكانت هذه القوالب أول ما يستقبل المطر، فتنبعث منها رائحة الصلصال الندي التي تشبه رائحة الحياة ذاتها، وبوادر الثلج في الشتاء أرق من أن تستقر على جوانب الطرق، فتتعلق بسطح الآجر الخشن، وتبدو كأنها نسيج هفهاف من صنع الجنيات.
وثمة أربع أقدام من فناء المدرسة كانت تواجه فناء فرانسي، ويفصلها عنها سور من شبك الحديد، وحاولت فرانسي أن تنزل إلى الفناء في وقت فسحة المدرسة في المرات القليلة التي تذهب لتلعب فيها في الفناء (حين يخلو من الصبي الذي يسكن في الطابق الأرضي، والذي لا يسمح لأحد بالدخول إليه حين يكون هو فيه) وراقبت حشد الأطفال وهم يلعبون في الفناء، وكان وقت الفسحة يقتضي أن يحشد مئات الأطفال، في ذلك الفناء الصغير المرصوف بالأحجار والمحوط من كل جانب، ثم يطلق سراحهم مرة أخرى. وحدث ذات مرة أن ضاق الفناء بالألعاب، فثار الأطفال غاضبين، وأخذوا يصرخون صراخا منتظما رتيبا استمر خمس دقائق، ثم توقف فجأة، كأنما قطع بسكين حادة حين دق جرس انتهاء الفسحة، وانقضت بعد الجرس لحظة سكون كسكون القبور، تجمدت فيها الحركة ثم استحال الشغب إلى تدافع، وبدا الأطفال قلقين متهالكين على الدخول، كما كان شأنهم في الخروج، واستحال الصراخ العالي إلى ولولة ذليلة مكتومة، وهم يناضلون في سبيل العودة إلى أماكنهم.
وكانت فرانسي في فناء البيت ذات عصر، حين خرجت فتاة إلى فناء المدرسة، وخبطت مساحتي السبورة في اهتمام لتنفض عنهما غبار الطباشير، وبدا لفرانسي التي كانت تراقب عن كثب من خلال الشبيكة الحديدية، أن ذلك هو أروع عمل ابتدعه إنسان، وأخبرتها أمها أن ذلك كان عملا تخص به المدرسات تلميذاتهن «المدللات»، وأقسمت فرانسي التي فهمت أن كلمة «مدللات»، تعني الحيوانات المستأنسة التي تدللها كالقطط والكلاب والطيور، أنها حين تبلغ سن دخول المدرسة، ستموء وتنبح وتسقسق بأحسن ما تستطيع ، حتى تدخل في زمرة المدللات وتنفض مساحتي السبورة بين يديها.
وراقبت فرانسي ما يجري بعد ظهر ذلك اليوم بنظرات ملؤها الإعجاب، وانصرفت الفتاة التي نفضت المساحتين، بعد أن أحست إعجاب فرانسي بها، وصفقت المساحتين من خلف ظهرها علامة على الانتهاء، وقالت لفرانسي: أتريدين النظر إليهما عن كثب؟
وأطرقت فرانسي برأسها في خجل، وقربت البنت مساحة منهما إلى الشبيكة، فأخرجت فرانسي إصبعها لتلمس الطبقات المتعددة الألوان، التي تمتزج بطبقة من مسحوق الطباشير، وبينما هي توشك أن تلمس تلك المادة الرقيقة الجميلة، اختطفتها البنت بعيدا وبصقت في وجه فرانسي مباشرة، فأغلقت فرانسي جفنيها لتمنع عينيها، من أن تطفر منها دموع الألم والمرارة، ووقفت البنت الأخرى هناك تستطلع الأمر وتنتظر أن ترى الدموع، ولكنها اغتاظت، إذ لم تر شيئا مما توقعت، فقالت: لماذا لا تبكين أيتها الحمقاء؟ أتريدين أن أبصق على وجهك مرة أخرى.
واستدارت فرانسي وذهبت إلى «الكرار»، وجلست في الظلام وقتا طويلا، تنتظر حتى تهدأ موجات الألم التي عصفت بها.
وهذه الواقعة هي أولى الوقائع الكثيرة التي حدثت لفرانسي، والتي كانت تنزع عن قلبها غشاوة الأوهام، كلما نمت مقدرتها على تفهم الحياة، ولم تعد تحب مساحات السبورة قط.
وكان المطبخ يقوم مقام حجرة الجلوس وحجرة الطعام وحجرة الطهي، وقد فتحت في جدار منه نافذتان طويلتان، وحفرت فجوة في جدار آخر، لتشتمل على شبكة حديدية يوضع فيها الفحم، وقد صنع التجويف الذي يعلو الموقد من آجر في لون المرجان وملاط أبيض ناصع كالزبد، وللموقد إطار حجري ومدفأة اردوازية استطاعت فرانسي أن ترسم عليها بالطباشير، وبجوار الموقد غلاية ماء تستمد حرارتها من النار الموقدة، وفرانسي في كثير من الأحيان حين يصيبها البرد في يوم قارس، تدخل المطبخ وتضع ذراعيها حول الغلاية، وتسند خدها البارد في امتنان على جدارها الفضي الدافئ.
وبجوار الغلاية حوضان للغسيل صنعا من حجر رخو يعلوهما غطاء خشبي له مفصلات، ومن الممكن أن ينزع الحاجز الذي يفصل بينهما فيصبحا حوضا واحدا للحمام، ولم يكن ذلك ليجعل منهما حوض حمام جيدا ، وفي بعض الأحيان يقع على رأس فرانسي حين تجلس في الحوض، وكان قاع الحوض مليئا بالزلط والحجارة، مما يجعل فرانسي بدلا من أن تظفر بحمام منعش، تخرج منه وقد تقرح جسمها كله من الجلوس على تلك الحجارة الخشنة المبللة، وهناك أربعة صنابير للماء، ومهما تذكرت الطفلة مدى صعوبة فتحها وإغلاقها، فقد كانت تقفز فجأة من الماء والصابون، فينال ظهرها ضربة قوية من نتوءاتها البارزة، وكانت فرانسي تحمل على ظهرها أثرا دائما من وخز النتوءات يثير غضبها.
والمطبخ تتلوه حجرتان للنوم، تؤدي إحداهما إلى الأخرى، وبئر التهوية مبنية في حجرتي النوم على أبعاد تجعلها شبيهة بالنعش، ونوافذها ذات لون رمادي داكن لا سبيل إلى فتح إحداها إلا إذا استعملت إزميلا ومطرقة، ولكنك تجازى حين تفعل ذلك بلفحة من الهواء البارد الرطب، وكانت بئر التهوية تنتهي بفتحة منحدرة السقف تطل على السماء، تحمي زجاجها السميك المعتم شبكة سميكة من الحديد، وكانت الجوانب مصنوعة من ألواح مجعدة من الحديد، وكان من المنتظر أن يسمح هذا التركيب بدخول الهواء والضوء إلى حجرتي النوم، ولكن الزجاج السميك والحواجز الحديدة والقذارة التي تراكمت على مر السنين، حجبت الضوء من أن يتسلل إلى الداخل، كما كانت فتحات الجوانب تغص بالتراب والسناج ونسيج العنكبوت، ولم يكن الهواء يستطيع أن يدخل، ولكن المطر والثلج كانا يستطيعان أن ينفذا بشدة وعناد، ولا سبيل إلى تحاشيهما، وكان قاع البئر الخشبي في الأيام العاصفة يعلوه البلل والدخان، فتنبعث منه رائحة تشبه رائحة القبور.
وكانت بئر التهوية اختراعا مرعبا، يقوم مقام صندوق رنان بالرغم من إغلاق نوافذها بإحكام، فتستطيع أن تسمع شئون الناس جميعا، وتجري الفئران حول القاع، وكان خطر الحريق يهدد المكان دائما، فإذا ما ألقى سائق قطيع مخمور غائب الذهن عود ثقاب في بئر التهوية، وحسب أنه يلقي به إلى الفناء أو الشارع، فإن النار لا بد أن تلتهم البيت في لحظة، وكانت النفايات القذرة تتجمع في القاع الذي لم يكن في مقدور أحد أن يصل إليه (كانت النوافذ أصغر من أن تسمح بمرور جسم الإنسان)، فأصبح أشبه بالمخزن المخيف يلقي فيه الناس بالنفايات التي يريدون أن يتخلصوا منها، وكانت شفرات الموسى الصدئة والخرق الملوثة بالدم أكثر النفايات براءة وطهرا، وفكرت فرانسي وهي تنظر إلى بئر التهوية ذات مرة فيما قاله القسيس عن المطهر، ورأت بعين الخيال أنه يشبه بلا شك قاع بئر التهوية بصورة مكبرة، وحين تدلف فرانسي إلى البهو تمر بحجرتي النوم، مقشعرة البدن، مغمضة العينين.
والبهو أو الحجرة الأمامية خير الحجرات، تطل نافذتاها العاليتان الضيقتان على الشارع الصاخب المثير، والطابق الثالث على ارتفاع يجعل أصوات الشارع تقل وتخفت، لتستحيل صوتا تهدأ له النفس.
والحجرة مكان له احترامه ووقاره، لها بابها الخاص المؤدي إلى الردهة، وذلك الباب يوفر على الزائرين مشقة الوصول إلى البهو عن طريق المطبخ مارين بحجرتي النوم، والجدران مغطاة بورق معتم له لون بني داكن، رسمت عليه خطوط ذهبية، وللنوافذ من الداخل مصراعان صنعا من الألواح الخشبية، التي تقترب من كلا الجانبين لتصنع فتحة صغيرة.
وفرانسي تقضي ساعات كثيرة في سعادة تجذب تلك المصاريع ذات المفصلات، ثم تراقبها وهي تنطوي مرتدة مرة أخرى بلمسة من يدها، وترى في ذلك عجيبة لا يملها النظر قط، تلك المصاريع التي تستطيع أن تغطي النافذة كلها وتحجب الضوء والهواء، ثم تستطيع بالرغم من ذلك أن تنطوي على نفسها في بيتها الصغير، وتبدو للعين واجهة زهت بإطار ساذج.
وللبهو موقد منخفض بني داخل مدفأة من الرخام الأسود، ونصف الموقد الأمامي هو الذي يظهر للعين فحسب، كان شبيها ببطيخة هائلة الحجم شطرت نصفين وبرز جانبها المستدير، وكان يشتمل على نوافذ عديدة من غراء السمك، لها إطار رفيع من الحديد المنقوش.
وفي عيد الميلاد، وهو الوقت الذي تستطيع فيه كاتي أن تتحمل نفقات إشعال النار في البهو فتتوهج النوافذ جميعا، كانت فرانسي تشعر بسرور عظيم وهي تجلس هناك تنعم بالدفء، وتراقب النوافذ حين يستحيل لونها الوردي الأحمر إلى كهرماني أصفر عندما تذوي النار.
وعندما كانت كاتي تدخل وتضيء مصباح الغاز، فتنمحي الظلال ويشحب الضوء في نوافذ الموقد، كانت فرانسي تحس كأنما اقترفت بهذه الفعلة إثما عظيما.
وكان البيانو أروع شيء في الحجرة الأمامية، كان معجزة تصلي من أجلها طول حياتك، وهيهات أن تتحقق، ولكنه كان ماثلا هناك في بهو بيت نولان، معجزة مجسمة أتت بلا أمنية أو صلاة؛ ذلك أن السكان السابقين تركوا البيانو؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يتحملوا نفقات نقله.
ونقل البيانو في تلك الأيام مسألة من المسائل التي تقتضي العناء والتفكير، ولم يكن من المستطاع الهبوط بالبيانو على ذلك السلم الضيق المنحدر؛ إذ يقتضي الأمر حزمه وربطه بالحبال، ثم رفعه وإخراجه من النوافذ بمعونة بكرة ضخمة معلقة بالسقف، ويتم ذلك في كثير من الضجيج والتلويح بالأيدي ولبس الخوذ فوق رأس رئيس الحمالين، ويقتضي الأمر أيضا أن يخلو الشارع من المارة حين ينقل بيانو، ويرد الشرطي جماهير الناس إلى الوراء ولا يسع الأطفال إلا الروغان من المدرسة، وهناك دائما تلك اللحظة المشهودة حين تهتز تلك الكتلة المحزومة وهي خارجة من النافذة، وتضطرب في الهواء لحظة كأنما هي تترنح قبل أن تستوي، ثم تبدأ هبوطها البطيء المحفوف بالخطر، وينطلق الأطفال مهللين بأصوات خشنة غليظة.
وكان ذلك العمل يتكلف خمسة عشر دولارا، أي ثلاثة أضعاف ما يتكلفه نقل بقية الأثاث جميعا؛ ولذلك سألت صاحبة البيانو كاتي عما إذا كان في إمكانها أن تتركه، على أن تعنى به كاتي، وفرحت كاتي وهي تعاهدها على ذلك، وطلبت المرأة في قلق من كاتي ألا تتركه للبرودة والرطوبة، وأن تفتح أبواب غرف النوم في الشتاء حتى تتسرب بعض حرارة المطبخ إليه، وتمنع عنه الالتواء والانثناء، وسألتها كاتي: هل تستطيعين العزف عليه؟
وقالت السيدة في أسف: لا، لا أحد في الأسرة يستطيع أن يعزف، ليتني كنت أستطيع. - لماذا اشتريته إذن؟ - كان في بيت بعض الأثرياء وعرضوه للبيع بثمن بخس، وكنت أرغب كل الرغبة في اقتنائه، لا، لا أستطيع أن أعزف عليه، ولكنه كان جميلا جدا يضفي على الغرفة بأكملها جمالا وبهاء.
ووعدت كاتي بأن تتعهده خير تعهد، حتى يتسنى للمرأة أن ترسل في طلبه، ولكن ذلك لم يحدث، ولم ترسل المرأة في طلبه قط، وامتلكت أسرة نولان ذلك البيانو الجميل.
وكان البيانو صغير الحجم صنع من خشب مطلي باللون الأسود، ولكنه كان يتألق بالرغم من سواده، وكانت واجهته المغطاة بقشرة رقيقة من الخشب النفيس، قد صنعت بحيث تصور رسما جميلا محلى بحرير وردي داكن، تحت هذا الرسم المنقوش في الخشب، ولم يكن غطاؤه من النوع الذي يطوى إلى الخلف في تكسر كالأجهزة الرأسية الأخرى، وإنما كان يدار إلى الخلف فحسب، ويستند على الخشب المرسوم كدرع مطلية جميلة داكنة اللون، وكان هناك حامل للشمعة على كل جانب، فتستطيع أن تضع فيه شموعا بيضاء خالصة، وتعزف في ضوء الشموع الذي يسقط ظلالا حالمة على المفاتيح العاجية البيضاء في لون الزبد، وتستطيع أن ترى المفاتيح أيضا منعكسة على الغطاء الداكن اللون.
وكان البيانو أول شيء رأته فرانسي حين دخلت أسرة نولان الحجرة الأمامية، في تجولها الأول وهي تفحص البيت الذي ستسكنه، وحاولت أن تحيطه بذراعيها ولكنه كان أكبر من أن تستطيع ذلك، فاكتفت بأن احتضنت المقعد ذا الوشي الوردي الباهت.
ونظرت إلى البيانو والفرحة ترقص في عينيها، وكانت لاحظت بطاقة بيضاء في نافذة الطابق الذي يقع أسفل طابقها، كتب عليها «دروس للبيانو» ولاحت لكاتي فكرة.
وجلس جوني على المقعد السحري الذي يدور أو يعلو أو يهبط، بما يناسب حجم من يجلس عليه، وأخذ يعزف، ولم يستطع العزف بلا شك أو قراءة العلامات الموسيقية، ولكنه عزف قليلا من المقامات، واستطاع أن يغني أغنية ويعزف أنغاما من حين إلى حين، وكان لها في الحق وقع كأنما هو يغني متمشيا مع اللحن، وعزف مقاما صغيرا، ونظر في عيني طفلته الكبرى، وابتسم ابتسامة ملتوية، وابتسمت فرانسي لابتسامته، وقلبها ينتظر مترقبا في شوق ولهفة، وعزف المقام الصغير ثانية والتزمه، ثم غنى على صوت صداه الرقيق بصوته الصافي الحار:
إن شواطئ ماكسويلتن تبدو جميلة،
حين يطالعها الندى في باكورة الصباح (مقام - مقام)
وهناك وافتني آني لوري وبرت بوعدها (مقام - مقام - مقام - مقام).
وأشاحت فرانسي بوجهها متحاشية أن يرى أبوها دموعها، وقد خشيت أن يسألها عن سبب بكائها فلا تستطيع لذلك جوابا، كانت تحبه، وتحب البيانو، لكنها لم تجد سببا يبرر الدموع التي سالت من عينيها في سهولة ويسر.
وتكلمت كاتي، وكانت في صوتها رنة من ذلك الحنان العذب المعهود، الذي افتقده جوني في السنة الأخيرة: هل هذه أغنية أيرلندية يا جوني؟ - إنها اسكتلندية. - لم أسمعك تغنيها قبل ذلك. - نعم، لا أظن أني غنيتها، وما هي إلا أغنية أعرفها، إنني لم أغنها أبدا؛ لأنها ليست الأغنية التي يرغب الناس في سماعها وسط الضجيج حيث أعمل، فإنهم سرعان ما يسمعون أغنية «نادني في عصر يوم مطير»، فإذا أمعنوا في الشراب لا يسمعون إلا أغنية «أديلين الحلوة».
وسرعان ما استقر بهم المقام في البيت الجديد، وبدا الأثاث المألوف غريبا، وجلست فرانسي على كرسي ودهشت أن ملمسه، كان كملمسه عندما كانوا في مسكنهم بشارع لوريمر، ولكن إحساسها كان قد تغير، فلماذا لم يتغير ملمس الكرسي؟
وبدت الحجرة الأمامية جميلة بعد أن نظمها أبوها وأمها، كان هناك بساط أخضر لامع رسمت عليه ورود قرنفلية اللون، وعلقت على النوافذ ستائر مزركشة منشاة بلون الزبد، واحتلت وسط الحجرة مائدة لها سطح رخامي وثلاث قطع من المخمل الرديء الأخضر تغطي كراسي البهو، ويقوم في الركن حامل من الخيزران وضعت عليه حافظة صور مغطاة بالمخمل الرديء، تشتمل على صور للأخوات من أسرة روملي، وهن طفلات يرقدن على بطونهن فوق قطعة من الفراء، والخالات الكبيرات ينظرن في صبر ويقفن عند أكتاف أزواجهن الجالسين ذوي الشوارب الكبيرة، ووضعت كئوس تذكارية صغيرة على بعض الرفوف الصغيرة، وكانت الكئوس وردية أو زرقاء محلاة برسوم من الذهب المرصع، تمثل زهور «البنسيه» الزرقاء وورودا حمراء أمريكية جميلة، وكانت هناك عبارات مثل «اذكرني» و«الصداقة الحق» منقوشة بالذهب، وكانت الكئوس الصغيرة والأطباق هدايا تذكارية تلقتها كاتي من صديقاتها القديمات، ولم تكن تسمح لفرانسي أبدا أن تلعب بها.
وعلى الرف السفلي وضعت محارة مجعدة بيضاء في لون العظام، تبدو من الداخل ناعمة وردية اللون، وقد أحبها الطفلان كثيرا وأطلقا عليها اسما محببا هو «توتسي».
وكانت المحارة حين ترفعها فرانسي وتلصقها بأذنها تهمس منشدة صوت البحر الفسيح، وأحيانا ينصت جوني إلى المحارة ليسعد طفليه، ثم يمسكها ويبسط ذراعه طويلا على نحو تمثيلي، وينظر إليها وهو يذوب عاطفة، ويغني:
على الشاطئ عثرت على محارة،
ورفعتها إلى أذني،
واستمعت في فرح إليها وهي تغني
أغنية البحر الحلوة الصافية.
ثم رأت فرانسي من بعد البحر لأول مرة حين أخذها جوني في نزهة إلى كنارسي، وكل ما لفت نظرها فيه أنه يصدر منه صوت شبيه بالهدير الخافت الحلو، الذي ينبعث من المحارة توتسي.
16
إن حوانيت الحي جزء هام من حياة الطفل في المدينة، وصلته بها تمده بالزاد الذي يحفظ للحياة استمرارها، ويتمثل فيها الجمال الذي تصبو إليه نفسه، وتتوافر فيها الأشياء البعيدة المنال، التي لا يملك إلا أن يحلم بها ويهفو إليها.
وفرانسي تحب محل الرهن أكثر من غيره أو تكاد، لا من أجل الكنوز الهائلة المنثورة في بذخ وراء نوافذه ذوات القضبان، ولا من أجل المغامرة التي تتوهمها وهي ترى النساء المتشحات يتسللن إلى المدخل الجانبي، ولكن من أجل الكرات الكبيرة الذهبية الثلاث، التي كانت معلقة في الفضاء فوق المحل، تتألق في ضوء الشمس أو تهتز في استرخاء حين تهب الريح، كأنها تفاحات ذهبية ثقيلة، وعلى أحد الجوانب مخبز يبيع فطائر شارلوت الجميلة، تزين قممها المصنوعة من الزبد حلوى الكرز الأحمر، لميسوري الحال الذين يستطيعون أن يشتروها.
وعلى الجانب الآخر محل جولندر للطلاء، يواجهه حامل علق فيه «صحن» مشدوخ عولج على نحو مثير، وحفرت في قاعه فتحة تتدلى منها سلسلة تحمل حجرا ثقيلا، وهذا يثبت كيف كان أسمنت ميجر قويا متينا، وكان بعض الناس يقولون إن «الصحن» صنع من الحديد وطلي بالطلاء، حتى يشبه الفخار الصيني المتصدع، ولكن فرانسي كانت تميل إلى الاعتقاد بأنه «صحن» أصابه صدع، ثم عاد سليما بفعل الأسمنت العجيب.
وأكثر المحال مثارا للاهتمام، مقام في كوخ صغير موجود منذ كان الهنود يتسللون في ويليمسبرج، وقد بدا غريبا بين البيوت المستأجرة بنوافذه ذات التقاسيم الزجاجية الصغيرة، ومناضده المصفحة وسقفه الشديد الانحدار، ولهذا المحل نافذة عظيمة ذات مشربيات صغيرة، يجلس إلى مائدة وراءها رجل وقور، يصنع سجائر طويلة رقيقة لها لون بني داكن، ويبيع الأربع منها بخمسة سنتات، ويختار الورقة الخارجية بعناية من حفنة من التبغ، ويملؤها بمهارة بفتات التبغ ذي الألوان البنية المختلفة، ثم يلفها على نحو جميل جدا، فتصبح محكمة دقيقة لها طرفان مربعان، وكان الصانع من الطراز القديم الذي يهزأ بالتقدم، فرفض أن يدخل غاز الاستصباح ليضيء محله، وفي بعض الأحيان يشتغل في ضوء الشموع، حين يغزو الظلام النهار مبكرا، ويظل أمامه كثير من السجائر ينتظر اللف.
ويضع خارج محله تمثالا من الخشب يمثل رجلا هنديا واقفا على كتلة من الخشب في وضع ينم عن التهديد، ممسكا بفأس حرب في يد، وحفنة من التبغ في اليد الأخرى، لابسا حذاء مفتوحا رومانيا، وقد ارتفعت أربطته إلى ركبتيه، ومئزرا قصيرا من الريش، وقلنسوة حربية طليت كلها بالألوان الحمراء والزرقاء والصفراء المشرقة، وكان صانع السجائر يطلي التمثال بطبقة جديدة من الطلاء أربع مرات في السنة، ويحمله إلى داخل المحل في أوقات المطر، وأطلق أطفال الحي على التمثال الهندي اسم «الخالة ميمي».
ومن المحال المفضلة لدى فرانسي محل لا يبيع شيئا إلا الشاي والتوابل «البهارات»، وكان مكانا مثيرا يشتمل على صناديق مطلية بالدهان اللامع، تنبعث منها روائح غريبة خيالية، وهناك اثنا عشر صندوقا من البن قرمزية اللون عليها كلمات مثيرة، كتبت على واجهاتها بالحبر الأسود: البرازيل، الأرجنتين، تركيا، جاوة، خليط متنوع! والشاي يعبأ في صناديق أصغر حجما؛ صناديق جميلة لها أغطية تنسدل عليها، وكتب عليها: أولونج، فرموزا، برتقالي، صيني أسود، لوز مزهر، ياسمين، شاي أيرلندي. وكانت «البهارات» في صناديق صغيرة خلف مائدة الصراف، صفت أسماؤها في صف وراء الرفوف: قرفة، قرنفل، زنجبيل، توابل منوعة، جوزة الطيب، ذرور الكرى (بهار هندي)، فلفل، غلال، الساك، الصعتر، المردقوش، وكل أنواع الفلفل تطحن في طاحونة صغيرة عند بيعها.
وهناك طاحونة بن كبيرة تدار باليد، والبقول موضوعة في حوض نحاسي لامع، والعجلة الكبيرة تدار باليدين، والمسحوق الطيب الرائحة ينثال في صندوق قرمزي اللون يشبه المغرفة من الخلف.
وأسرة نولان تطحن البن في البيت، وفرانسي تحب أن ترى أمها جالسة في مرح في المطبخ، ممسكة بركبتيها طاحونة البن، وتطحن وهي تدير في غضب معصمها الأيسر، وترفع بصرها لتتحدث مع أبيها بعينين متلألئتين، على حين امتلأت الحجرة بالرائحة الزكية التي تستريح لها النفس، تنبعث من البن المطحون الطازج.
وعند بائع الشاي ميزان عجيب، له كفتان من النحاس البراق دأب على مسحهما وتلميعهما كل يوم، منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما، حتى أصبحتا رقيقتين كأنهما من الذهب المصقول، وكانت فرانسي وهي تشتري رطلا من البن أو أوقية من الفلفل، تراقب البائع وهو يضع قطعة فضية مصقولة عليها قيمة وزنها في كفة، وينقل في رقة إلى الكفة الأخرى الوزنة المعطرة، مستخدما في ذلك مغرفة فضية، وكانت تكتم أنفاسها وهي تراقبه حين تسقط المغرفة قليلا من حبات تزيد على الوزن، أو ينساب منها في رقة قدر يقل عن المطلوب، وتمر بها لحظة من الطمأنينة الهانئة حين تتعادل الكفتان الذهبيتان وتثبتان في اتزان كامل، ويخيل إليها أنه لا يمكن أن يحدث خطأ ما في العالم، حيث توزن الأشياء بهذا الميزان الدقيق.
وكان سر الأسرار لدى فرانسي هو محل الرجل الصيني ذا النافذة الواحدة، وكان هذا الرجل يحتفظ بجديلة الشعر حول رأسه، وقالت أمها إنه يفعل ذلك ليستطيع العودة إلى الصين متى أراد، وإذا ما قصها فلن يسمحوا له بالعودة، ومن عادته أنه يبدل قدميه في صمت من الأمام وإلى الخلف في خفيه الأسودين من اللباد، ويستمع في صبر إلى مطالب الزبائن بشأن قمصانهم، فلما جاءته فرانسي طوى يديه في الأكمام الواسعة لقميص معطفه المصنوع من قماش الننكين وأطرق ببصره إلى الأرض، وظنت أنه رجل حكيم متأمل يستمع بكل قلبه، ولكنه لم يفهم شيئا مما قالت؛ لأنه لم يكن يعرف من اللغة الإنجليزية إلا قدرا قليلا لا يعدو كلمتين هما: تذكرة وقميص، وينطقهما نطقا غير سليم.
ولما أحضرت فرانسي قميص أبيها المتسخ إليه أخفاه تحت مائدة الصراف، وأخذ قطعة مربعة من نسيج عجيب من الورق، وغمس فرشاة صغيرة في إناء يشتمل على الحبر الشيني، ورسم على الورقة خطوطا قليلة بالفرشاة، ثم أعطاها تلك الوثيقة السحرية، بدلا من قميص رث قذر، وبدت لها هذه المقايضة عجيبة.
وانبعثت من داخل المحل رائحة نظيفة دافئة، ولكنها خفيفة تشبه رائحة الزهور العديمة الرائحة في حجرة حارة، وكان الرجل يغسل القمصان في فجوة غامضة، ولا بد أنه يفعل ذلك في منتصف الليل؛ لأنه يقف طول اليوم من السابعة صباحا حتى العاشرة مساء في المحل، أمام منضدة الكي النظيفة، يدفع مكواة سوداء ثقيلة إلى الأمام وإلى الخلف، وهذه المكواة تشتمل من الداخل بلا شك على جهاز صغير للبنزين يحفظها ساخنة، ولم تكن فرانسي تعلم ذلك وظنت أنه سر من أسرار بني جنسه، أنه يستطيع أن يكوي بمكواة لا يسخنها أبدا على موقد، وكانت تؤمن بنظرية غامضة، هي أن الحرارة تأتي من مادة يستعملها بدلا من النشا الذي ينشي به القمصان والبنيقات.
وعندما أحضرت فرانسي التذكرة وقطعة السنتات العشرة ودفعتهما فوق مائدة الصراف، ناولها القميص بعد أن لفه وأعطاها بندقتين بقية الحساب، وأحبت فرانسي البندقتين؛ لأن لهما قشرة صلبة يسهل كسرها، بداخلها ثمر لين حلو المذاق، وبداخل الثمرة نواة صلدة لم يستطع طفل من قبل قط أن يكسرها، ويقال إن تلك النواة تشتمل على نواة أصغر منها حجما وهكذا دواليك، ويقال أيضا إن النوى سرعان ما تمعن في الصغر حتى لا تستطيع أن تراها إلا بالمجهر، وهذه النوى الصغيرة تتدرج في الصغر حتى لا يمكنك أن تراها لا بالمجهر ولا بغيره، ولكنها تكمن في البندقة دائما، ولا يمكن أن تنتهي أبدا، وهذا أول عهد فرانسي باللانهاية.
وخير الأوقات عند فرانسي حين يقوم الرجل بفك النقود، فيخرج إطارا خشبيا صغيرا ربط بقضبان رقيقة عليها كرات زرق وحمر وصفر وخضر، ويزحلق الكرات لتصعد القضبان النحاسية ويتأملها بسرعة، ثم يقرعها حتى يردها جميعا إلى مكانها معلنا «تسعة وثلاثين سنتا.» كانت الكرات الصغيرة تنبئه بمقدار النقود التي يأخذها، والمقدار الذي يدفعه.
وكانت أمنية فرانسي أن تصبح صينية وتمتلك مثل تلك اللعبة الجميلة لتعد عليها، يا للمتعة! وتأكل كل البندق الذي تريده، وتعرف سر المكواة التي تظل ساخنة دائما، بالرغم من أنها لم توضع على موقد أبدا، يا للروعة! وتطلي الرموز بطبقة طلاء خفيفة، وتدير معصمها تلك الدورة السريعة، وتصنع علامة سوداء واضحة رقيقة كجناح الفراشة! كان ذلك هو سر الشرق في بروكلين.
17
دروس للبيانو! يا لها من كلمات سحرية! وما إن استقر المقام بأسرة نولان حتى زارت كاتي السيدة التي كتب على بابها «دروس للبيانو»، وفي هذا البيت فتاتان اسمهما الآنستان تنمور، إحداهما الآنسة ليزي لتعليم العزف على البيانو، والأخرى الآنسة ماجي لصقل الصوت وتمرينه، وتتقاضيان عن كل درس خمسة وعشرين سنتا، واقترحت كاتي نوعا من المساومة مؤداه أن تقضي ساعة في تنظيف بيت الآنستين تنمور نظير درس تتلقاه كل أسبوع.
واعترضت الآنسة ليزي محتجة بأن وقتها أكبر قيمة من وقت كاتي، وحاولت كاتي إقناعها قائلة إن الوقت هو الوقت، وأخيرا أقنعت الآنسة ليزي حتى توافق على أن الساعة هي الساعة، ورتبا الأمر بمقتضى ذلك.
وحل اليوم الذي بدأ فيه الدرس الأول، وصدرت التعليمات لنيلي وفرانسي بأن يجلسا في الحجرة الأمامية أثناء الدرس، ويفتحا عيونهما وآذانهما، ووضع كرسي للمعلمة، وجلس الطفلان متجاورين على الجانب الآخر للبيانو، وأخذت كاتي في عصبية تضبط المقعد وتعيد ضبطه، وجلس الثلاثة ينتظرون.
ووصلت الآنسة تنمور في الساعة الخامسة تماما، مرتدية ملابس الخروج بالرغم من أنها جاءت من الطابق السفلي فحسب، وعلى وجهها خمار من التل، وعلى رأسها قبعة تمثل صدر طائر أحمر وجناحه، وقد طعن صدره بدبوسين من دبابيس القبعات، وحملقت فرانسي في القبعة القاسية فأخذتها أمها إلى حجرة النوم، وهمست في أذنها بأن الطائر لم يكن طائرا على الإطلاق، وإنما هو مجموعة من الريش ألصق بعضها إلى بعض وينبغي ألا تحملق فيه ، وصدقت قول أمها، ولكن عينيها ظلتا ترتدان إلى الدمية المعذبة.
وأحضرت الآنسة تنمور معها كل شيء ما عدا البيانو، كان معها ساعة منبهة من النيكل، وآلة وقت تشحن بالبطارية، ودقت الساعة الخامسة فأعدتها لتدق في الساعة السادسة، ووضعتها على البيانو، وأخذت تستغل جزءا من وقت الساعة الثمين، فخلعت قفازها الرمادي اللؤلؤي المحكم على يديها، ونفخت في كل إصبع من أصابعه، وسوته وطوته ثم وضعته على البيانو، وفكت خمارها وألقت به إلى الخلف فوق قبعتها، وطرقعت أصابعها، واختلست نظرة إلى الساعة فشعرت بالرضا حين وجدت أنها قد استنفدت ما وسعها من دقائق الساعة، وأدارت آلة الوقت واتخذت مقعدها، وبدأ الدرس.
وخلبت آلة الوقت لب فرانسي حتى عز عليها أن تنصت لما كانت تقوله الآنسة تنمور، وأن ترقب الطريقة التي تضع بها أصابع أمها على المفاتيح، وراحت تحلم أحلاما تتمشى مع دقات الآلة الرتيبة التي تريح النفس.
أما نيلي فكانت عيناه المستديرتان الزرقاوان تدوران هنا وهناك، متتبعتين القضيب المتذبذب حتى تخدرت أعصابه، وراح في غيبوبة، وارتخت عضلات فمه وتدحرج رأسه الأشقر على كتفه، وأخذت فقاعة صغيرة تدخل وتخرج من فمه، وهو يتنفس أنفاسا تختلط بلعابه، ولم تجرؤ كاتي على إيقاظه خشية أن تدرك الأنسة تنمور، أنها كانت تدرس لثلاثة نظير أجر واحد فحسب.
وأخذت آلة الوقت تواصل الدق سابحة فيما يشبه الحلم، وأخذت الساعة تدق في تذمر وضجر، والآنسة تنمور تعد: «واحد، اثنان، ثلاثة»، «واحد، اثنان، ثلاثة»، كأنها لا تثق بآلة الوقت.
وكانت أصابع كاتي المتورمة من العمل تناضل في عناء مع السلم الموسيقي الأول.
ومر الوقت وغشي الظلام الحجرة، وفجأة انطلقت الساعة المنبهة تجلجل فتردد صداها في جنبات المسكن، وقفز قلب فرانسي، ووقع نيلي من فوق كرسيه وانتهى الدرس الأول، وتعثرت الكلمات على شفتي كاتي، وهي تقول في امتنان: إنني أستطيع أن أمضي فيما علمتنيه اليوم، حتى ولو لم آخذ درسا آخر أبدا، إنك لمدرسة قديرة.
وقالت الآنسة تنمور، بالرغم من أنها سرت من المديح: سوف لا أطلب منك أجرا إضافيا عن الطفلين، وكل ما أريد هو أن تعلمي أنك لا تستغفلينني.
وصعد الدم إلى وجه كاتي، وأطرق الطفلان إلى الأرض وشعرا بالخزي، حين اكتشف وجودهما على هذا النحو، وقالت: سأسمح للطفلين بأن يبقيا معنا في الغرفة في أثناء الدرس.
وشكرتها كاتي، ووقفت الآنسة تنمور تنتظر، وأكدت لها كاتي الساعة التي ستذهب فيها لتنظيف بيتها، ولكنها ظلت واقفة تنتظر، وشعرت كاتي أنها تتوقع منها شيئا فسألتها قائلة: ماذا تريدين؟
وتورد وجه الآنسة تنمور خجلا، وقالت في كبرياء: إن السيدات حيث أعطي الدروس ... حسنا ... إنهن يقدمن لي فنجانا من الشاي بعد الدرس.
ووضعت يدها على قلبها وقالت في إبهام: تلك الدرجات من السلم!
وسألتها كاتي: هل لك في قدح من القهوة توا؟ ليس عندنا شاي.
وجلست الآنسة تنمور في ارتياح، وهي تقول: بكل سرور.
واندفعت كاتي إلى المطبخ وسخنت القهوة التي كانت معدة على الموقد دائما، وبينما هي تسخنها وضعت قطعة من السكر وملعقة على صينية صغيرة مستديرة.
وفي هذه الأثناء كان نيلي قد استغرق في النوم على الأريكة، وجلست الآنسة تنمور وفرانسي تتبادلان النظرات المتفرسة، وأخيرا سألت الآنسة تنمور: فيم تفكرين أيتها البنت الصغيرة؟
وقالت فرانسي: لا أفكر في شيء! - إنني أراك في بعض الأحيان تجلسين عند منحنى الرصيف بالساعات، ما الذي يشغل تفكيرك في مثل هذه الأوقات؟ - لا شيء، إنما أروي لنفسي الحكايات!
وأشارت الآنسة تنمور إليها في صرامة: أيتها البنت الصغيرة! إنك ستصبحين كاتبة قصة حين يشتد عودك، وكان كلامها أشبه بالأمر منه بتقرير الحال.
ووافقت فرانسي متأدبة: نعم يا سيدتي.
وأقبلت كاتي تحمل الصينية وقالت: إن هذه القهوة قد لا تبلغ في حسن الصنع ما درجت عليه.
واعتذرت قائلة: ولكنها ما يتوافر لنا في البيت.
وقالت الآنسة تنمور في ظرف: إنها طيبة جدا.
ثم حرصت على ألا تجرع القدح جرعة واحدة.
وكانت الآنستان تنمور تعيشان على الشاي الذي تتناولانه عند تلميذاتهما، وكانت الدروس القليلة كل أسبوع وأجر كل درس منها ربع دولار فحسب، لا تجعل حياتهما حياة ميسرة .
ولا يبقى لهما إلا القليل بعد دفع أجرة البيت، ومعظم السيدات يقدمن لهما الشاي الخفيف والقراقيش المعالجة بالصودا، أجل كانت السيدات يعرفن أصول اللياقة ويقدمن لهما فنجانا من الشاي، ولكنهن لم يقصدن تقديم وجبة طعام ويدفعن ربع دولار أيضا، وهكذا أصبحت الآنسة تنمور تنتظر في اشتياق الساعة التي تعطيها لأسرة نولان، فهناك القهوة التي تبعث فيها النشاط، وفطيرة أو شطيرة البولونيا التي تقيم أودها.
وكانت كاتي بعد كل درس تلقن الطفلين ما تعلمته، فتجعلهما يزاولان المران نصف ساعة كل يوم، وبمضي الوقت تعلم ثلاثتهم العزف على البيانو.
وتصور جوني، حين سمع أن ماجي تنمور تعطي دروسا في الصوت، أنه يستطيع أن يبلغ مبلغ كاتي فيما دبرت، وعرض على الآنسة تنمور أن يصلح حبلا في إفريز مكسور بإحدى نوافذ بيتها، نظير درسين في الصوت تتلقاهما فرانسي.
وأخذ جوني، الذي لم ير في حياته حبل إفريز قط، مطرقة وكماشة، وأخرج إطار النافذة كله من غلافه، ونظر إلى الحبل المقطوع، وكان ذلك هو كل ما يستطيع أن يفعله، وحاول ولكنه لم يفعل شيئا، كان متحمسا من أعماقه ولكنه لا يتقن الصنعة، حاول أن يعيد النافذة إلى مكانها ليمنع مطر الشتاء البارد من النفاذ إلى الحجرة، وبينما راح يفكر في الحبل المقطوع، إذا به يكسر لوحا من الزجاج.
وفشلت المقايضة فشلا ذريعا، واضطرت الآنستان تنمور إلى أن تحضرا الزجاج ليصلح النافذة، كما اضطرت كاتي إلى أن تقوم بالغسل للآنستين مرتين دون أن تدفعا شيئا، لتعوض لهما ما كان من فعل جوني، وألغيت الدروس التي كانت ستتلقاها فرانسي في الصوت إلى غير رجعة.
18
وانتظرت فرانسي أيام الدراسة في شوق وشغف، وكان محتاجة إلى كل الأمور التي تصورت أنها تتصل بالمدرسة، إنها طفلة وحيدة تشتاق إلى صحبة الأطفال الآخرين، وتريد أن تشرب من نافورات المياه التي في فناء المدرسة، وكانت حلوق النافورات مقلوبة حتى ظنت أنها تدر ماء الصودا، وليس الماء العادي، وسمعت أمها وأباها يتكلمان عن حجرة المدرسة ، وأرادت أن ترى الخريطة التي تجذب إلى أسفل كالستارة، بل كان أكثر ما تريده هو «أدوات المدرسة» التي تشتمل على دفتر، ولوح كتابة، وصندوق الأقلام ذي الغطاء المنزلق الذي يمتلئ بأقلام الرصاص الجديدة، ومساحة الرصاص، ومبراة صغيرة من القصدير خاصة بالأقلام الرصاص، صنعت على شكل مدفع، «ونشافة» لقلم الحبر، ومسطرة صفراء من الخشب الناعم طولها ست بوصات.
والقانون يأمر بتطعيم الأطفال قبل دخول المدارس، وكم كان ذلك شيئا مخيفا! وحاولت هيئات الصحة أن تشرح للفقراء والأميين أن التطعيم، لم يكن سوى حقن المصل غير الضار من ميكروب الجدري، لتكسب الجسم مناعة ضد الميكروبات القاتلة، لكن الأهالي لم يصدقوا ذلك، وكل ما فهموه هو أن الجراثيم ستحقن في جسم الطفل السليم، ورفض بعض الأهالي الأجانب أن يسمحوا لأطفالهم بأن يطعموا، فلم يسمح لهم بدخول المدرسة، ثم عاقبهم القانون لأنهم لم يرسلوا أطفالهم إلى المدرسة، وسألوا: «أليس هذا بلدا حرا؟»، وراحوا يناقشون ذلك قائلين: أية حرية في ذلك إذا كان القانون يفرض عليك أن تعلم أطفالك، ثم هو يعرضهم للخطر بإدخالهم المدرسة؟
وحملت الأمهات الباكيات أطفالهن مولولات إلى مركز الصحة لتطعيمهم، وكان يبدو عليهن كأنما هن يحملن أطفالهن الأبرياء إلى المجزر، وصرخ الأطفال في جنون حين وقعت أنظارهم لأول مرة على الإبرة، وألقت الأمهات المنتظرات في الحجرة الأمامية أوشحتهن على رءوسهن، وأخذن يصرخن بصوت عال كأنما يولولن على ميت.
وكانت فرانسي قد بلغت السابعة من عمرها، وبلغ نيلي السادسة، وكاتي أخرت فرانسي عن دخول المدرسة ليدخل الطفلان معا، فيستطيع كل منهما أن يحمي الآخر من شر الأطفال الكبار، وتوقفت كاتي في يوم سبت كئيب من شهر أغسطس في حجرة النوم، قبل أن تذهب إلى عملها لتكلم الطفلين، فأيقظتهما وأعطتهما التعليمات. - والآن حين تنهضان، اغتسلا جيدا، وحينما تبلغ الساعة الحادية عشرة اذهبا عند منعطف الشارع إلى مركز الصحة العام، واطلبا القائمين بالعمل هناك أن يطعماكما؛ لأنكما ستذهبان إلى المدرسة في سبتمبر.
وبدأت فرانسي ترتعد، أما نيلي فانفجر باكيا.
واستعطفت فرانسي أمها: أماه، هلا أتيت معنا؟
وقالت كاتي، وهي تخفي تأنيب ضميرها بالتظاهر بالسخط: علي أن أذهب إلى العمل، فمن ذا يقوم بعملي إن لم أقم به؟
وسكتت فرانسي ولم ترد، وأدركت كاتي أنها تتخلى عنهما، ولكن لم تكن لها حيلة في ذلك، أجل لم تكن لها حيلة في ذلك!
كان يجب عليها أن تذهب معهما حتى يستمدا من وجودها القوة والطمأنينة، ولكنها تعلم أنها لن تحتمل تلك المحنة، وكان لا بد من تطعيمهما، وإن وجودها معهما هناك أو في أي مكان آخر لن يمنع وقوع الأمر، فلماذا لا يستغنى عن واحد من ثلاثتهم، ثم قالت لنفسها إن الحياة قاسية مريرة ولا مفر من أن يعيشاها، فلتتركهما يرعيان نفسيهما ليصلب عودهما وهما لا يزالان صغيرين.
وقالت فرانسي في أمل: إن أبي سيذهب معنا إذن؟ - إن أباك في مركز الإدارة ينتظر عملا، وسوف يغيب عن البيت طول اليوم، وقد بلغتما سنا تسمح لكما بالذهاب وحدكما، ثم إن التطعيم لن يؤلمكما.
وصرخ نيلي بصوت أكثر حدة، وما كان بوسع أمه احتمال ذلك، فهي تحب الصبي حبا جما، وقد حملها على الإحجام عن الذهاب معهما أنها كانت لا تحتمل أن ترى الصبي يتألم، حتى ولو بوخزة إبرة، وكادت تقرر الذهاب معهما، ولكنها أحجمت، إنها لو ذهبت فسوف تفقد نصف يوم من أيام العمل وتضطر إلى تعويضه صباح يوم الأحد، ثم إنها خليقة بأن يحل بها المرض من بعد! وهما خليقان أن يتصرفا بدونها على نحو ما.
وأسرعت خارجة إلى عملها.
وحاولت فرانسي أن تهدئ روع نيلي المذعور، فقد أخبره بعض الصبية الكبار بأنهم سيقطعون ذراعه، حين يذهب إلى مركز الصحة، وأخذته فرانسي إلى الفناء لتزيل من عقله تلك الفكرة، وأخذا يصنعان أقراصا من الطين، ونسيا كل النسيان أن يغتسلا كما قالت لهما أمهما.
واستهواهما عمل أقراص من الطين حتى نسيا ما كان من أمر الساعة الحادية عشرة أو كادا، وأصبحت أيديهما قذرة كل القذارة من جراء اللعب في الطين.
وفتحت السيدة جاديس النافذة في الفترة ما بين الساعة العاشرة والحادية عشرة، وصاحت تقول إن أمهما طلبت منها أن تذكرهما حين تقترب الساعة من الحادية عشرة، وأنهى نيلي قرصه الأخير من الطين وبلله بدموعه، وأخذت فرانسي يده، وسار الطفلان يجران أقدامهما في خطوات بطيئة، ملتفين حول منعطف الشارع، واتخذا مكانيهما على أريكة، وكانت تجلس إلى جوارهما أم يهودية تمسك بين ذراعيها صبيا كبيرا في السادسة من عمره، وأخذت تبكي وتقبله في جبينه بحب شديد من حين إلى حين، وكانت الأمهات الأخريات يجلسن هناك وعلى وجوههن تجعيدات خطها العبوس والشقاء، ومن خلف الباب الزجاجي المغشى بالقطران حيث تجرى العملية المرعبة، كان يسمع نباح متصل يتميز بصيحات حادة، ثم يخرج طفل شاحب اللون يلف ذراعه اليسرى بشريط من الشاش الأبيض النقي، وتندفع أمه إليه تختطفه، ثم تسرع به خارج حجرة التعذيب، وهي تطلق سبابا في لغة أجنبية، وتهز قبضتها إلى الباب المغشي بالقطران.
وظلت فرانسي ترتعد، ولم تكن قد رأت قط طبيبا أو ممرضة في كل حياتها القصيرة، وجف لعابها هولا وفزعا حين رأت الملابس البيضاء، وشاهدت الآلات القاسية اللامعة التي وضعت على فوطة فوق صينية، وشمت رائحة المحاليل المطهرة، وخاصة حين رأت جهاز التعقيم يتصاعد منه البخار، وقد رسم عليه صليب أحمر في لون الدم.
ورفعت الممرضة كمها ومسحت جيدا ذراعها اليسرى، ورأت فرانسي الطبيب يأتي ناحيتها في ملابسه البيضاء ومعه الإبرة الحادة القاسية، وأخذ حجمه يزيد ويزيد، حتى خيل إليها أنه استحال إبرة ضخمة، وأغمضت عينيها تنتظر الموت، ولكن شيئا لم يحدث، ولم تشعر بشيء، ففتحت عينيها في بطء وهي لا تكاد تجرؤ على الأمل بأن الأمر قد انتهى كله، ووجدت على مضض أن الطبيب لا يزال هناك هو والإبرة الحادة وكل شيء، وكان الطبيب يحملق في ذراعها في امتعاض، ونظرت فرانسي أيضا فرأت بقعة صغيرة بيضاء على ذراع قذرة بنية داكنة اللون، وسمعت الطبيب يقول للممرضة: قذارة، قذارة، قذارة، منذ الصباح إلى المساء، أنا أعلم أنهم فقراء، ولكنهم يستطيعون أن يغتسلوا، إن الماء ليس له ثمن، والصابون رخيص، هلا نظرت إلى تلك الذراع أيتها الممرضة؟
ونظرت الممرضة ثم قرقت كالدجاجة في رعب، ووقفت فرانسي هناك تحس لهيب الخزي يحرق وجهها، والطبيب رجل من خريجي جامعة هارفارد، يمارس الطب الباطني في مستشفى الحي، وهو ملزم بأن يشتغل ساعات قليلة كل أسبوع في إحدى العيادات المجانية الثلاث، وكان سيمارس مهنته ممارسة أرقى من ذلك في بوسطون حين تنتهي فترة حصوله على شهادة الأمراض الباطنية، وكتب إلى خطيبته، وهي شخصية معروفة للمجتمع في بوسطون، يصف ممارسته للطب الباطني في بروكلين بنفس عبارات الحي قائلا: إنها أشبه ما تكون بدخول المطهر.
وكانت الممرضة من ويليمسبرج، تستطيع أن تعرف ذلك من لهجتها، وكانت بنتا لبعض المهاجرين البولنديين الفقراء، لكنها طموح، فاشتغلت بالنهار في محل للحلوى وذهبت إلى المدرسة بالليل، وأدت تمرينها في التمريض على نحو ما، وكانت تأمل في الزواج ذات يوم من طبيب، ولا تريد أن يعلم أحد أنها جاءت من الأحياء الحقيرة.
ووقفت فرانسي مطرقة الرأس بعد غضبة الطبيب، كانت فتاة قذرة، ذلك ما كان يعنيه الطبيب الذي أصبح يتكلم في هدوء، سائلا الممرضة كيف يستطيع هؤلاء الناس أن يواصلوا العيش، وإن العالم سوف يكون أفضل لو أنهم عقموا جميعا بحيث لا يستطيعون أن ينجبوا بعد، أيعني بذلك أنه كان يريد لها أن تموت؟ أتراه يفعل شيئا يؤدي إلى موتها؛ لأن يديها وذراعيها كانت قذرة من جراء أقراص الطين؟
ونظرت إلى الممرضة، وكانت كل النساء في نظر فرانسي أمهات كأمها، وخالتها سيسي وخالتها إيفي، وظنت أن الممرضة قد تقول شيئا من هذا القبيل: ربما تكون أم هذه الفتاة من العاملات، ولم تجد وقتا لغسلها جيدا في هذا الصباح.
أو ... أنت تعرف أيها الطبيب أن الأطفال يحبون اللعب في القذارة، ولكن ما قالته الممرضة حقا هو: أنت على حق، أليس هذا شيئا مريعا؟ إني أشفق عليك أيها الطبيب، ليس هناك عذر لهؤلاء الناس الذين يعيشون في القذارة.
إن الإنسان حين ينتزع نفسه من البيئة الفقيرة بالكفاح والجهد، يصبح واحدا من اثنين : إما أن ينسى بيئته بعد أن ارتفع فوقها، وإما أن يرتفع فوقها ولا ينساها أبدا، ويظل قلبه عامرا بالحب والتجاوب مع هؤلاء الذين تخلفوا وراءه في الطريق الشاق الوعر، واختارت الممرضة طريق النسيان، وبالرغم من ذلك تعلم وهي تقف هناك أنها بعد سنوات سوف يتملكها الأسى المتمثل في وجه تلك الطفلة التي تتضور جوعا، وأنها سوف تتمنى في مرارة لو أنها قالت لها كلمة تهدئ من روعها، وفعلت شيئا لخلاص روحها الخالدة، كانت تعلم أنها صغيرة ولكن تنقصها الشجاعة لتصبح غير ما كانت عليه.
ولم تشعر فرانسي بشيء قط حين وخزتها الإبرة، كانت موجات الألم بدأت تجتاح جسمها إثر كلمات الطبيب، وتطرد منه كل المشاعر الأخرى، وبينما الممرضة تربط ذراعها بقطعة من الشاش بمهارة، والطبيب يضع الآلة في جهاز التعقيم، ويأخذ منها إبرة جديدة، نطقت فرانسي قائلة: إن أخي سيأتي بعدي، وذراعه قذرة مثل ذراعي تماما، فلا تعجبا، ولا داعي لأن تخبراه بذلك، حسبكما أنكما أخبرتماني أنا.
وحملقا في تلك الطفلة الضئيلة التي نطقت على هذا النحو العجيب، وتمزق صوت فرانسي وهي تنتحب: لا داعي لأن تخبراه بذلك، ثم إن كلاكما لن يسيء إليه، فهو صبي لا يهمه كثيرا أن يكون قذرا.
واستدارت وتعثرت قدماها قليلا، ثم خرجت من الحجرة، وسمعت - والباب يغلق - صوت الطبيب المندهش يقول: لم يكن يدور بخلدي قط أنها سوف تدرك ما قلت.
وسمعت الممرضة تقول وهي تتنهد: صدقت.
وكانت كاتي في البيت وقت الغداء حين عاد الطفلان، ونظرت إلى ذراعيهما المربوطتين والأسى يفيض من عينيها، وتكلمت فرانسي في انفعال: لماذا؟ لماذا يا أمي؟ لماذا هم يضطرون إلى ... إلى ... أن يقولوا أشياء ثم يغزوا إبرة في ذراعك؟
وقالت أمها في حزم بعد أن انتهى كل شيء: إنه التطعيم، شيء مفيد جدا، يجعلك تعرفين يدك اليسرى من اليمنى، يجب عليك أن تكتبي بيدك اليمنى حين تذهبين إلى المدرسة، وهذا الجرح سوف يكون هناك ليقول لك آه، آه، ليست هذه هي اليد، استعملي اليد الأخرى!
ورضيت فرانسي بهذا التفسير؛ لأنها لم تكن تستطيع قط أن تميز يدها اليسرى من اليمنى، وتأكل وترسم الصور بيدها اليسرى، وكانت كاتي تصحح لها ذلك دائما وتنقل قطعة الطباشير أو الإبرة من يدها اليسرى إلى اليمنى، وبدأت فرانسي بعد تفسير أمها للتطعيم تفكر في أنه ربما كان شيئا رائعا، بل ثمنا زهيدا تدفعه في سبيل حل مثل تلك المشكلة الكبرى، فتستطيع أن تميز يدها اليسرى من اليمنى، وبدأت فرانسي تستعمل يدها اليمنى بدلا من اليسرى بعد التطعيم، ولم تعد تلقى في ذلك مشقة أبدا.
وخرت فرانسي صريعة الحمى في تلك الليلة، وشعرت برغبة مؤلمة في أن تحك موضع الحقن، وأخبرت أمها فانزعجت لذلك كثيرا، وأصدرت إليها أوامر مشددة. - يجب عليك ألا تحكيها مهما بلغ بك الأمر. - لماذا لا أستطيع أن أحكها؟ - لأنك إن فعلت فإن ذراعك سوف تتورم ويسود لونها وتسقط من جسدك، فلا تحكيها إذن!
ولم تقصد كاتي بذلك أن تفزع الطفلة، فقد استبد بها الفزع هي نفسها، وكانت تعتقد أن تسمم الدم خليق بأن يحدث لو أن الذراع لمست، وأرادت أن تفزع الطفلة حتى لا تحك ذراعها.
وركزت فرانسي انتباهها في الامتناع عن حك الموضع الذي يؤلمها، وأحست في اليوم التالي بوخزات الألم تسري في ذراعها، وبينما هي تستعد للنوم نظرت بحذر تحت الرباط فأصابها الفزع، وهي ترى موضع دخول الإبرة متورما أخضر اللون، داكنا متقيحا يقطر منه سائل أصفر اللون، فكيف وقع لها ذلك وهي لم تحكه، كانت تعلم أنها لم تفعل، ولكن صبرا! ربما حكته الليلة السابقة أثناء نومها، نعم لا بد أنها فعلت ذلك، وخشيت أن تخبر أمها التي كانت خليقة بأن تقول: إنني أخبرتك وأخبرتك، وبالرغم من ذلك لم تستمعي إلي، فانظري ما حدث لك.
وكانت ليلة أحد، وأبوها يعمل خارج الدار، ولم تستطع أن تنام، ونهضت من سريرها، وذهبت إلى الحجرة الأمامية وجلست على النافذة، وأسندت رأسها على ذراعيها وانتظرت أن تموت.
وسمعت في الثالثة صباحا صوت التروللي الذي يسير في شارع جراهام، وهو يصر متوقفا في المحطة عند المنعطف، ومعنى هذا أن أحدا ينزل منه، ومالت بجسمها خارج النافذة، نعم، لقد كان أباها، وسار يتهادى في الشارع بخطواته الخفيفة الراقصة يصفر لحن: «إن حبيبي هو الرجل الذي يعيش في القمر»، وبدا الشبح الذي يرتدي حلة السهرة وقبعة الدربي، ويضع تحت ذراعه لفة أنيقة طويت داخلها فوطة النادل، نعم بدا ذلك الشبح لفرانسي كالحياة نفسها، سواء بسواء، ونادته حين وصل إلى الباب ورفع بصره إليها، وأمال قبعته في ظرف، ففتحت له باب المطبخ، وسألها: ماذا تفعلين حتى ذلك الوقت المتأخر أيتها المغنية الأولى؟ إنها ليست ليلة السبت كما تعلمين؟
وهمست: كنت أجلس في النافذة أنتظر حتى تسقط ذراعي!
وكتم ضحكته، وشرحت له أمر ذراعها، فأغلق الباب المؤدي إلى حجرة النوم وأضاء مصباح الغاز، ثم خلع الرباط عن ذراعها، وشعر بالغثيان حين رأى منظر الذراع المتورمة المتقيحة، ولكنه لم يشعرها بذلك قط، نعم، لم يشعرها بذلك قط. - ما بك من شيء يا طفلتي، لا شيء على الإطلاق، كان يجب أن تري ذراعي حين طعمت، كانت أكثر تورما واحمرارا من ذراعك بكثير، بيضاء زرقاء، لا خضراء ولا صفراء، والآن انظري كيف عادت قوية صلبة؟
وكان يكذب في ظرف؛ لأنه لم يكن قد طعم قط.
وصب جوني ماء دافئا في حوض، وأضاف إليه قليلا من قطرات حامض الكربونيك، وغسل القرحة القبيحة مرة إثر مرة.
وتوجعت فرانسي حين أحست بوخزها، ولكن جوني قال إن الوخز معناه الشفاء، وغنى في همس أغنية عاطفية وهو يغسل الجرح:
إنه لا يعنيه أبدا أن يمضي في التجوال بعيدا عن داره،
ولا يعنيه أبدا أن يضرب في الأرض أو يطوف ...
وتلفت حوله يبحث عن قطعة نظيفة من القماش يستعملها رباطا، ولم يجد شيئا، فخلع معطفه وصدرية قميصه، وخلع قميصه الداخلي من فوق رأسه، وقطع منه قطعة قماش على نحو تمثيلي.
واعترضت فرانسي: قميصك الداخلي الجديد ...؟ - أوه! كان مليئا بالخروق على أي حال!
وضمد ذراع ابنته، وكانت رائحة الدفء والسجائر المأثورة عن جوني تنبعث من قطعة القماش، لكن كان فيها شيء يهدئ من روع الطفلة، ويطمئنها إلى توافر أسباب الحماية والحب. - والآن لقد أحكمت الرباط عليك أيتها المغنية الأولى، من الذي أوحى إليك بأن ذراعك ستسقط؟ - قالت أمي إنها ستسقط إذا حككتها، وإنني لم أقصد أن أحكها، ولكني أظن أنني فعلت وأنا نائمة.
وقبل خدها النحيل وقال: لا عليك من بأس، والآن اذهبي إلى فراشك.
وذهبت إلى فراشها ونامت في هدوء بقية الليل، وتوقف الألم في الصباح وشفيت الذراع تماما في أيام قلائل.
ودخن جوني سيجارا آخر بعد أن ذهبت فرانسي إلى فراشها، ثم خلع ملابسه في بطء ودس نفسه إلى جوار كاتي.
وكانت تشعر بوجوده وهي نائمة، كما أنها كانت في نوبة عاطفية من نوباتها النادرة، فألقت ذراعها على صدره، ولكنه أزاحها في رفق، ورقد على طرف الفراش بعيدا عنها، ونام متجها إلى الحائط، وطوى يديه تحت رأسه، ورقد يحملق الظلام بقية الليل.
19
وتوقعت فرانسي أن تجد في المدرسة أمورا عظيمة، أما وقد علمها التطعيم في لحظة أن تميز بين يدها اليمنى ويدها اليسرى، فقد اعتقدت أن المدرسة سوف تكشف لها عن أمور أعظم وأخطر، وظنت أنها سوف تعود من المدرسة في ذلك اليوم الأول، وقد عرفت القراءة والكتابة، ولكن كل ما عادت به إلى البيت هو أنف ينزف دما، بعد أن أصابه طفل أكبر منها سنا، وضربها على رأسها على الحافة الحجرية لحوض الماء، حين حاولت أن تشرب من حلوق النافورات، التي لم يكن ينبعث منها ماء الصودا على أي حال.
وخاب أمل فرانسي، لأن فتاة أخرى كانت تشاركها في قمطرها (الذي صنع من أجل تلميذة واحدة فحسب)، وكانت تريد قمطرا لها وحدها، وقبلت في كبرياء قلم الرصاص الذي أعطته لها العريفة في الصباح، وأرجعته في تردد لعريفة أخرى في الساعة الثالثة.
ولم يكد يمر عليها نصف يوم في المدرسة، حتى علمت أنها لن تكون أبدا تلميذة من التلميذات اللائي تدللهن المدرسات، وهذه الميزة موقوفة على عدد قليل من البنات ... البنات ذوات الشعر المجعد النظيف، و«المرايل» النظيفة الأنيقة، وأشرطة الشعر الحريرية الجديدة، وكان أولئك هن بنات التجار الموسرين في الحي، ولاحظت فرانسي كيف كانت الآنسة بريجز المدرسة يشرق وجهها حين تراهن، وتجلسهن في الأماكن المختارة في الصف الأول، وهؤلاء العزيزات لا يشاركهن أحد في مقاعدهن، وكان صوت الآنسة بريجز يرق حين تكلم هؤلاء المحظوظات القليلات، ثم يصيح صوتها كالعواء حين تكلم الحشد الكبير من التلميذات اللائي لا يغتسلن.
واختلطت فرانسي بالأطفال الآخرين اللائي على شاكلتها، وتعلمت في ذلك اليوم الأول أكثر مما توقعت، تعلمت نظام الطبقات في الديمقراطية العظيمة، وحيرها موقف المدرسة وآلمها، وكان من الواضح أن المدرسة تكرهها هي ومثيلاتها، لا لسبب إلا للحالة التي هن عليها، وكانت المدرسة تعاملهن معاملة من لا حق له في الانتساب إليها، وأنها مجبرة على قبولهن، تفعل ذلك بأقل ما يسعها من اللطف، وكانت تنفس عليهن الفتات القليل من التعليم الذي تلقي به إليهن، وتعاملهن هي أيضا معاملة طبيب مركز الصحة، كما لو كن لا يملكن حق الحياة والعيش.
وبدا كأن الأمر يقتضي أن يحتشد جميع الأطفال المنبوذين في صف واحد لمواجهة الأمور التي تقف في سبيلهم، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك، فكل طفل من هؤلاء الأطفال يكره الآخر، كما كانت المدرسة تكرههم جميعا، وقد اعتادوا أن يقلدوا عواء المدرسة حين يتحدث بعضهم إلى بعض.
وكان هناك دائما طفل سيئ الحظ تختاره المدرسة من بين الأطفال، وتتخذ منه ضحية الفداء، وهذا الطفل المسكين هو الذي توبخه المدرسة وتعذبه وتنفس به عن شقاء عنوستها، وما إن يوصم الطفل بهذه الوصمة المريبة، حتى ينقلب بقية الأطفال عليه، ويضاعفوا من العذاب الذي يلقاه من المدرسة، بل يخصون بالملق والرياء على نحو فريد أولئك الذين تقربهم المدرسة منها، وربما يظنون أنهم بذلك يقتربون من النفوذ والسلطان.
واحتشد ثلاثة آلاف طفل في تلك المدرسة المستوحشة القبيحة التي لم تتهيأ لها الأسباب إلا لألف واحد فقط، وأخذت القصص الشائنة تدور بين الأطفال، ومن هذه القصص أن الآنسة فايفر وهي مدرسة شقراء باهتة الشقرة لها ضحكة مجلجلة، كانت تهبط إلى الطابق الأرضي لتقضي بعض الوقت، تغازل مساعد الخادم في الأوقات التي تحل مكانها في ملاحظة المدرسة عريفة أخرى، مدعية أن الأمر يقتضيها الخروج إلى الإدارة، ودارت قصة أخرى على لسان الصبية الصغار الذين كانوا هم الضحايا، وتحكي القصة أن الرئيسة، وهي امرأة نصف بدينة قاسية، عضتها الأيام بنابها ترتدي ثيابا محلاة بقطع من النقود، تمضي بالصبية المشاكسين إلى مكتبها وتجعلهم يخلعون سراويلهم، حتى تستطيع أن تسلخ أعجازهم العارية بهراوة من نخيل الروطان (وكانت تضرب البنات الصغيرات فوق ثيابهن).
وكان العقاب الجسدي ممنوعا بلا شك في المدارس، ولكن كيف يتسرب الأمر إلى خارج المدرسة؟ ومن ذا الذي يبوح بالخبر؟ لا يفعل ذلك بطبيعة الحال الأطفال المضروبون، فقد كان هناك تقليد في الحي يقضي بأن الطفل الذي يقول إنه ضرب في المدرسة خليق بأن يضرب في البيت مرة ثانية؛ لأنه لم يسلك مسلكا حسنا في المدرسة؛ ولذلك كان الطفل يتلقى عقابه صامتا، تاركا الأمور تجري مجراها.
وأقبح ما في تلك القصص أنها كانت كلها هي الحقيقة الشائنة.
كانت الوحشية هي الصفة الوحيدة التي تطلق على المدارس الابتدائية، في ذلك الحي بين سنتي 1908-1909م، ولم يكن علم النفس الخاص بالأطفال قد سمع عنه في ويليمسبرج في تلك الأيام، وكانت مؤهلات التدريس يسيرة، وهي التخرج في المدرسة الثانوية ثم قضاء سنتين في مدرسة للتدريب على التعليم، وقل من المعلمات من كان لهن فن ودراية بوظيفتهن، أما الأغلبية فكن يحترفن المهنة لأن التعليم من الوظائف القليلة المفتوحة أمامهن؛ ولأن أجرهن أفضل من العمل في المصنع؛ ولأنه يمنحهن إجازة صيف طويلة ويتيح لهن معاشا حين يعتزلن، وكن يشتغلن بالتعليم لسبب واحد هو ما من رجل رغب في زواجهن، وكان محرما على السيدات المتزوجات أن يشتغلن بالتعليم في تلك الأيام، وهكذا راحت معظم المعلمات يعانين اضطرابا في الأعصاب نتيجة حرمانهن إرضاء عواطفهن المكبوتة، وكانت هؤلاء النساء العاقرات ينفسن عن سورة غضبهن بإيذاء أطفال النساء الأخريات، فيشبعن رغبتهن في ممارسة سلطانهن بطريقة ملتوية.
وأقسى المعلمات قلبا هن أولئك اللائي خرجن من بيوت تماثل بيوت الأطفال الفقراء، والظاهر أنهن كن في إحساسهن بالمرارة حيال هؤلاء الأطفال الصغار البائسين، يتمثلن على نحو ما لقين من شقاء أليم في نشأتهن الأولى.
ولم تكن كل المعلمات يسلكن هذا المسلك السيئ بلا شك، فقد كانت تفد أحيانا إلى المدرسة معلمة دمثة الخلق، تشارك الأطفال فيما يعانون وتحاول أن تساعدهم، ولكن مثل هذه المرأة لا تمكث طويلا في اشتغالها بالتعليم، فسرعان ما تتزوج وتترك الوظيفة أو تطاردها زميلاتها من المعلمات، حتى يخرجنها من الوظيفة.
وكان ما يسمى تلطفا «الخروج من الفصل» مشكلة قاسية؛ ذلك أن الأطفال نبه عليهم بأن يذهبوا إلى دورة المياه، قبل أن يغادروا البيت في الصباح ثم ينتظروا حتى ساعة الغداء، ومن المفروض أن يكون لديهم وقت لذلك في الفسحة، ولكن قليلا من الأطفال كانوا يفيدون من ذلك الوقت، فقد كان تزاحم الأطفال عادة يمنع الطفل من الاقتراب من دورة المياه، وإذا ما أسعده الحظ وذهب إلى هناك (حيث توجد عشرة مغاسل لكل خمسمائة طفل)، فإنه يجد أن الأماكن قد أخلاها من قبل التلاميذ العشرة الذين هم أكثر الأطفال شراسة في المدرسة، إذ يقفون في الممرات ويمنعون دخول القادمين جميعا، ويصمون آذانهم عن الاستعطاف المدر للشفقة الصادر من جموع الأطفال المعذبين الذين يحتشدون أمامهم، وفرض قليل منهم رسما قدره بنس وكان لا يستطيع دفعه إلا القليل، ولم يكن الزعماء يرخون قبضتهم عن الأبواب الدوارة حتى يدق الجرس بانتهاء الفسحة، وما من أحد استطاع أن يكتشف على وجه اليقين أية متعة، كانت تصيب هؤلاء من وراء هذه اللعبة الشبيهة برقصة الموت، ولم يكن يعاقبهم أحد أبدا لأن المدرسين والمدرسات لم يدخلوا قط دورة مياه الأطفال، ولم يتكلم واحد من الأطفال؛ لأن الطفل يعرف أنه مهما صغرت سنه يجب ألا يشكو، ويعلم أنه إذا وشى بأحدهم فسوف يعذبه عذابا يصل إلى حد الموت أو يكاد. وهكذا ظلت هذه اللعبة الشريرة تجري بلا انقطاع.
والطفل مسموح له نظريا أن يخرج من الفصل إذا طلب الإذن بذلك، وهناك نظام للتسلل المحتشم، فإذا ما رفع الطفل إصبعا واحدة كان معنى ذلك أنه يرغب في الخروج فترة قصيرة، وإذا رفع إصبعين كان معنى ذلك أنه يرغب في الخروج فترة أطول، ولكن المدرسات الضجرات القاسيات أكد بعضهن للبعض الآخر، أن ذلك ليس إلا حيلة يحتالها الطفل ليخرج من الفصل فترة قصيرة، وكن يعلمن أن لدى الطفل متسعا من الوقت في فترة الفسحة وفي فترة الغداء، وعلى هذا النحو قررن طريقة التصرف بينهن وبين أنفسهن.
ولاحظت فرانسي بالطبع أن الأطفال ذوي الحظوة والنظافة والأناقة، الذين يلحظون بعين العناية في الصف الأول، هم الذين يسمح لهم بالخروج في أي وقت، ولكن ذلك كان مختلفا على نحو ما.
أما بقية الأطفال فقد تعلم نصفهم أن يلائم بين قضاء حاجته وأفكار المعلمات عن مثل هذه الأمور، والنصف الآخر أصبحوا من المدمنين على بل سراويلهم.
والخالة سيسي هي التي عالجت موضوع الخروج من الفصل لفرانسي، ولم تكن قد رأت الطفلين منذ أخبرها جوني وكاتي بألا تزور البيت مرة أخرى، وشعرت سيسي بأنها تفتقدهما، وعلمت أنهما دخلا المدرسة فأرادت أن تعلم كيف تمضي بهما الحال فحسب.
وحل شهر نوفمبر، وكان العمل كاسدا، فخرجت سيسي من المصنع وأخذت تتهادى في شارع المدرسة في موعد خروج التلاميذ، وفكرت في أنه لو باح الطفلان بلقائها فسوف يبدو اللقاء كأنه مصادفة، ورأت نيلي أولا في الحشد، وقد اختطف قلنسوته صبي أكبر منه وداسها ثم جرى بعيدا، واتجه نيلي إلى صبي أصغر وفعل نفس الفعلة بقلنسوته، وأمسكت سيسي بذراع نيلي، ولكنه تملص منها، وهو يصرخ صرخة جافة وانطلق يجري في الشارع، وتحققت سيسي وهي تشعر بتوقد حاد أن نيلي يشتد عوده.
ورأت فرانسي سيسي فأحاطتها بذراعيها في قلب الشارع، وقبلتها وأخذتها سيسي إلى محل صغير للحلوى، واشترت لها ببنس قطعة من الشوكولاتة المعالجة بالصودا، ثم أجلستها تحت ظلة، وجعلتها تحكي لها كل شيء عن المدرسة، وأرتها فرانسي كتابا من كتب المطالعة ودفتر واجبات للبيت يشتمل على حروف كبيرة، وتأثرت سيسي ونظرت طويلا في وجه الطفلة النحيل، ولاحظت أنها كانت ترتعش، ورأت أنها لا ترتدي الملابس المناسبة لذلك اليوم البارد من شهر نوفمبر؛ إذ كانت تلبس رداء من القطن وسترة صغيرة ممزقة وجوربا قطنيا رفيعا، وأحاطتها سيسي بذراعها وضمتها إلى صدرها الحاني الدافئ: يا طفلتي فرانسي! إنك ترتعدين كورقة في مهب الريح!
ولم تكن فرانسي سمعت هذا التعبير قط، فأخذت تفكر في إمعان، ونظرت إلى الشجرة الصغيرة المنبثقة من الخرسانة على جانب المنزل، وكانت بعض الأوراق القليلة الجافة لا تزال متعلقة بها، وقد راحت واحدة منها تخشخش في مهب الريح، وأخذت الطفلة تنتفض كورقة الشجر، واختزنت في مخيلتها تلك العبارة، ثم مضت ترتعد وترتعد ... وسألتها سيسي: ماذا بك؟ إنك باردة كالثلج!
ولم تقل فرانسي شيئا أول الأمر، ولكن سيسي أغرتها فدفنت وجهها الملتهب من الخزي في رقبة سيسي، وهمست لها ببعض الكلمات، وقالت سيسي: يا حبيبتي! ليس عجيبا أن تشعري بالبرد، لماذا لم تطلبي أن ... - إن المدرسة لا تلتفت إلينا حين نرفع أيدينا! - هدئي روعك ولا تنزعجي لذلك، فإن ما قلت خليق بأن يحدث لأي طفلة، بل هو قد حدث لملكة إنجلترا حين كانت طفلة صغيرة. - ولكن هل كانت الملكة تشعر بمثل هذا الخزي والتأثر حيال هذا الأمر؟
وبكت فرانسي بحرقة في صمت، وطفرت من عينيها دموع الخزي والخوف، وكانت تخشى الذهاب إلى البيت لئلا توبخها أمها توبيخا مخزيا. - إن أمك لن تؤنبك، وإن مثل هذه الحادثة قد تقع لأي بنت صغيرة، لا تقولي إنني قلت لك إن أمك بللت سروالها حين كانت طفلة، وقد فعلت جدتك ذلك أيضا، إن ذلك ليس شيئا جديدا في العالم، ولست أول طفلة يحدث لها ذلك! - ولكني غدوت أكبر من أن أفعل ذلك، وإنما يفعله الأطفال الصغار، ولسوف تهينني أمي أمام نيلي. - أخبريها بصراحة قبل أن تكتشف ذلك بنفسها، وعديها بأنك لن تفعلي ذلك أبدا، وسوف لا تهينك حينئذ! - إنني لا أستطيع أن أعدها، فقد يحدث لي ذلك مرة أخرى؛ لأن المدرسات لا يسمحن لنا بالخروج. - من الآن فصاعدا سوف تسمح لك مدرستك بالخروج من الفصل في أي وقت ترغبين، أنت تصدقين الخالة سيسي، أليس كذلك؟ - نعم، ولكن كيف يتسنى لك ذلك؟ - سوف أشعل شمعة في الكنيسة من أجل ذلك.
وهدأت نفس فرانسي لذلك الوعد، وحين عادت إلى بيتها وجهت إليها كاتي شيئا من التأنيب المعتاد، ولكن فرانسي كانت قد تسلحت لذلك في ضوء ما قالته لها سيسي عن قصة البلل الذي كان يدور بين نساء الأسرة.
وفي صبيحة اليوم التالي وقبل بدء الدراسة بعشر دقائق، كانت سيسي تقف في الفصل قبالة المعلمة، وبدأت قائلة: هناك طفلة صغيرة اسمها فرانسي نولان في فصلك؟
وصححت الآنسة بريجز قائلة: فرانسيس نولان! - هل هي فتاة ذكية؟ - أ ...ج... ل. - هل هي فتاة مجتهدة؟ - أولى بها أن تكون كذلك.
وقربت سيسي وجهها من وجه الآنسة بريجز، وغضت من صوتها وزادته رقة على رقة، ولكن الآنسة بريجز ارتدت إلى الخلف لسبب ما. - لقد سألتك فقط: هل هي فتاة مجتهدة؟
وقالت المدرسة في سرعة: نعم إنها كذلك.
وكذبت سيسي قائلة: إنني أمها. - مستحيل! - بكل تأكيد. - هل من شيء تريدين أن تعرفيه عن عمل الطفلة أيتها السيدة نولان؟
وكذبت سيسي قائلة: هل خطر ببالك أبدا أن فرانسي تعاني مرضا في كليتيها؟ - كليتيها؟ - لقد قال الطبيب إنها إذا أرادت أن تذهب إلى دورة المياه، ومنعها أحد من ذلك، فإنها عرضة لأن تسقط ميتة في الحال من أثر امتلاء الكليتين. - إنك تبالغين بلا شك؟ - هل تحبين لها أن تسقط ميتة في هذه الحجرة؟ - لا أحب لها ذلك بطبيعة الحال ولكن ... - وهل تحبين أن تركبي في عربة الشرطة إلى مركز التحقيق، وتقفي بين أيدي الطبيب والقاضي، وتقولين إنك منعتها من الخروج من الحجرة؟
ولم تكن الآنسة بريجز تدري هل كانت سيسي تقول الحقيقة أم لا، فقد كان كلامها يبدو من تهاويل الخيال والأوهام، ولكن المرأة قالت هذه الأشياء المثيرة للعواطف بصوت لم تسمع المدرسة من قبل قط صوتا أهدأ منه ولا أعذب، وتصادف أن نظرت سيسي من النافذة في تلك اللحظة ورأت شرطيا بدينا يتجول في الطريق، فأشارت إليه قائلة: هل ترين ذلك الشرطي؟
وأحنت الآنسة بريجز رأسها موافقة. - إنه زوجي. - والد فرانسي؟ - ومن يكون سواه؟
وفتحت سيسي النافذة وصرخت: يا ... جوني! ... يا جوني ...
ونظر الشرطي إلى أعلى وقد تملكته الدهشة، فأرسلت له قبلة في الهواء، وظن في لمح البصر أنها مدرسة عانس دفعها الجوع العاطفي إلى الجنون، ثم أكد له غرور الرجل الفطري أنها كانت إحدى المدرسات الشابات، التي وقع بينها وبينه خصام منذ وقت طويل، ثم جمعت أطراف شجاعتها أخيرا لتبدأ معه قصة غرام، وتجاوب مع الموقف ورد عليها بقبلة في الهواء بقبضة يده الضخمة، وأمال قبعته في ظرف وسار يتهادى إلى مركز الشرطة، وهو يصفر مترنما بأغنية «في مرقص الشيطان»، وفكر بينه وبين نفسه: يا لي من شيطان بلا شك بين السيدات، أجل إني لكذلك، ولدي ستة أطفال في البيت.
وجحظت عينا الآنسة بريجز من الدهشة، فقد كان الشرطي رجلا وسيما قويا، ودخلت في تلك اللحظة إحدى البنات الصغيرات الشقراوات، وقدمت للمدرسة صندوقا من الحلوى ربط بأشرطة، وبقبقت الآنسة بريجز من السعادة، وقبلت خد الطفلة المورد الناعم كالحرير، وكان لسيسي عقل ذكي حاد كنصل السيف، فرأت في لمح البصر أين تتجه الرياح، ووجدت أن الرياح تأتي بما لا تشتهي الأطفال من أمثال فرانسي، فقالت: اسمعي، إني أظن أنك لا تعتقدين أننا نملك مالا كثيرا. - لم أعتقد ذلك أبدا بلا شك. - إننا لسنا كهؤلاء الناس الذين يعنون بمظهر ملابسهم.
وأغرتها قائلة: إن ليلة عيد الميلاد مقبلة.
وقالت الآنسة بريجز: لعلي لم أر فرانسي في كل المرات التي رفعت فيها يدها. - أين مقعد فرانسي الذي يجعلك لا ترينها جيدا؟
وأشارت المدرسة إلى مقعد مظلم خلفي. - لعلها إذا جلست على مقعد أمامي فإنك تستطيعين أن تجعليها نصب عينيك. - إن ترتيب الجلوس على المقاعد قد تم ولا سبيل إلى تغييره.
وحذرتها سيسي بلطف: إن ليلة عيد الميلاد مقبلة. - سأرى ما يمكنني فعله. - تدبري إذن الأمر ، واحرصي على أن تريه على وجهه الصحيح.
وسارت سيسي إلى الباب، ثم استدارت قائلة: وإنني أقول ذلك، لا لأن ليلة عيد الميلاد قادمة، ولكن لأن زوجي الشرطي سوف يأتي إلى هنا، ويذيقك نار الجحيم إن لم تعامليها معاملة حسنة.
ولم تعد هناك مشاكل تعترض فرانسي بعد هذا اللقاء بين سيسي والمدرسة، وكانت الآنسة بريجز ترى يد فرانسي حين ترفعها مهما بلغ بها الوجل مبلغه! بل لقد سمحت لها أن تجلس في الصف الأول فترة من الوقت، ولكن حين أقبلت ليلة عيد الميلاد ولم تصلها هدية نفيسة، نفت فرانسي مرة أخرى إلى المقعد الخلفي المظلم من الفصل.
ولم تعلم فرانسي ولا كاتي قط بزيارة سيسي للمدرسة، ولكن فرانسي لم يصبها الخزي قط على النحو المعهود، صحيح أن الآنسة بريجز لم تكن تعاملها معاملة رحيمة، إلا أنها على الأقل لا تعمد إلى مضايقتها، وكانت الآنسة بريجز بلا شك تعلم أن ما قالته المرأة شيء بعيد عن الواقع، ولكن ما الفائدة من مغامرة لا تؤمن عقباها، إنها لم تكن تحب الأطفال، ولكنها لم تكن شريرة، وما كانت لتحب أن ترى طفلة تسقط ميتة أمام عينيها.
وطلبت سيسي بعد أسابيع قليلة من إحدى البنات في محل عملها أن تكتب لها بطاقة ترسلها إلى كاتي بالبريد، وطلبت من أختها أن تنسى ما مضى وتسمح لها بأن تأتي إلى البيت، لترى الطفلين على الأقل من حين إلى حين، وتجاهلت كاتي البطاقة.
وأقبلت ماري روملي تتشفع لسيسي، وسألت كاتي: ما تلك الوحشة التي بينك وبين أختك؟
وأجابت كاتي: لا أستطيع أن أبوح بها.
وقالت ماري روملي: إن العفو نعمة غالية، ولكنها لا تكلف شيئا.
وقالت كاتي: إن لي شئوني الخاصة.
ووافقت أمها قائلة: فليكن.
وتنهدت من أعماقها ولم ترد.
ولم تسمح لسيسي بالحضور، ولكنها افتقدتها، وافتقدت سرعة بديهتها الجسور وطريقتها الصريحة في حل المشاكل، ولطف الخروج من المآزق، ولم تكن إيفي تذكر اسم سيسي أبدا حين تأتي لزيارة كاتي ، ولم تعد ماري روملي بعد تلك المحاولة الوحيدة لإصلاح الحال بينهما إلى ذكر اسم سيسي مرة أخرى.
وكانت كاتي تتلقى أنباء أختها عن طريق مذيع الأخبار الرسمي المعتمد، وهو مندوب شركة التأمين، وأسرة روملي كلها تؤمن على حياتها في شركة تأمين واحدة، ونفس مندوب الشركة هو الذي يجمع الأقساط الزهيدة من الأخوات جميعا كل أسبوع، ويحمل معه الأخبار والشائعات، كما كان بمثابة الرسول الطواف الذي يمر بأفراد الأسرة جميعا. وفي يوم من الأيام حمل الرجل النبأ، بأن سيسي وضعت طفلا آخر لم يستطع أن يؤمن عليه؛ لأنه لم يعش سوى ساعتين، وخجلت كاتي من نفسها أخيرا لقسوتها على المسكينة سيسي، وقالت للمندوب: أخبر أختي حين تراها في المرة القادمة ألا تمد في حبل القطيعة بيننا.
ونقل الرجل رسالة الصفح، وجاءت سيسي إلى أسرة نولان مرة أخرى.
20
وبدأت كاتي تكافح الحشرات والمرض من أول يوم دخل فيه الطفلان المدرسة، وكانت المعركة عنيفة قصيرة، ولكنها كللت بالنجاح.
وحشد الأطفال حشدا في المدرسة؛ مما أدى إلى أن ترعرعت الحشرات بينهم من غير ذنب جنوه، وأصبح القمل ينتقل من طفل إلى طفل، وتعرض الأطفال إلى أكثر الإجراءات إذلالا، دون أن يكون الخطأ خطأهم، وكانت ممرضة المدرسة تأتي مرة في الأسبوع وتقف وظهرها تجاه النافذة، وتصطف البنات الصغيرات في صفوف، وحين يقبلن عليها يستدرن ويرفعن ضفائرهن وينحنين، وتسبر الممرضة أغوار شعورهن بعصا رقيقة طويلة، فإذا رأت في شعر إحداهن الصؤابات أو القمل، فإنها تطلب من الطفلة أن تنتحي جانبا، وتقف البنات المنبوذات في نهاية الفحص أمام الفصل، على حين تلقي الممرضة محاضرة عن مبلغ قذارة هؤلاء البنات، وكيف يجب على البنات الأخريات أن يتجنبنهن، ثم تطرد البنات المنبوذات ذلك اليوم من المدرسة، وتعطي لهن تعليمات بأن يشترين «المرهم الأزرق» من مخزن أدوية نايب، وأن تعمل أمهاتهن على تنظيف شعورهن به، وحين يعدن إلى المدرسة فإن زميلاتهن يعمدن إلى الإمعان في تعييرهن، وكل من يلحق بها هذا العار يتبعها إلى بيتها مجموعة من الأطفال صائحين: أيتها المقملة، أيتها المقملة! لقد قالت المدرسة إنك مقملة ، أيتها المنبوذة! اذهبي إلى بيتك، اذهبي إلى بيتك، اذهبي إلى بيتك لأنك مقملة.
وقد تعطى الطفلة المصابة شهادة بالخلو من القمل في الفحص التالي، وفي هذه الحالة تعير بدورها هؤلاء اللائي يتهمن بالإصابة بالقمل، ناسية ما أصابها من تعيير وتقريع، إن الألم الذي مررن به لم ليكن ليعلمهن الرحمة والحنان، وهكذا كان يضيع عذابهن هباء.
ولم يكن في حياة كاتي المزدحمة متسع لمزيد من المتاعب والهموم، ولم تكن خليقة بأن تتقبل مزيدا من المتاعب والهموم، وفي أول يوم عادت فيه فرانسي من المدرسة إلى البيت، وأنبأت كاتي أنها جلست إلى جانب فتاة يسرح البق في دروب شعرها، أسرعت كاتي وغسلت رأسي فرانسي بقطعة من الصابون الخشن الصلب الأصفر، الذي تستعمله المرأة الغسالة، حتى شعرت فرانسي بوخز ألم البرودة والرطوبة في فروة رأسها، ثم وضعت فرشاة الشعر في الصباح التالي في وعاء به زيت الكيروسين، وأخذت كاتي تمشط شعر فرانسي بقوة وعنف، وضفرته ضفائر شدتها شدا حتى نفرت الأوردة على صدغيها، وأمرتها بأن تبتعد عن أنابيب الغاز المشتعل، ثم بعثت بها إلى المدرسة.
وانتشرت رائحة فرانسي في الفصل كله، وابتعدت شريكتها في المقعد عنها بأقصى ما تستطيع، وأرسلت المدرسة مذكرة إلى كاتي في البيت، تمنعها من أن تضع زيت الكيروسين على رأس فرانسي، وأشارت كاتي بأنها تعيش في بلد حر وتجاهلت المذكرة، وكانت تغسل رأس فرانسي بالصابون الأصفر مرة كل أسبوع، وتدهنه كل يوم بالكيروسين.
وكافحت كاتي الأمراض المعدية حين ظهر وباء التهاب الغدة النكفية في المدرسة، وصنعت كيسين من قماش الفانلة ووضعت في كل كيس رأسا من الثوم، وحاكته، ثم ربطته بخيط نظيف مشدود، وألبسته كلا من الطفلين حول رقبته تحت القميص.
وذهبت فرانسي إلى المدرسة تنبعث منها رائحة نتنة، هي مزيج من رائحة الثوم وزيت الكيروسين، وتجنبها الجميع، وكانت تحيطها دائما في الفناء المزدحم دائرة خلت من التلميذات، وأخذ الناس في عربات التروللي المزدحمة يبتعدون عن هذين الطفلين من أسرة نولان .
بيد أن ذلك أفاد الطفلين، ترى هل كان ذلك يرجع إلى أن الثوم يحتوي على تعويذة، أو تراه يرجع إلى أن الأبخرة القوية تقتل الجراثيم، أو يرجع إلى أن فرانسي نجت من العدوى لأن الأطفال الناقلين للمرض يبتعدون عنها، أو لأنها هي ونيلي يتمتع كل منهما ببنية قوية؟ لم يكن السبب معروفا، ولكن الحقيقة أثبتت أن طفلي كاتي لم يمرضا مرة واحدة قط في كل سني الدراسة التي مرت بهما، فلم يصبهما البرد قط ولم يغزهما القمل.
وأصبحت فرانسي بلا شك فتاة غريبة يتجنبها الجميع من أجل رائحتها الكريهة، ولكنها تعودت أن تكون وحيدة، وتعودت أن تمشي وحدها، وأن ينظر إليها على أنها فتاة مختلفة عن الفتيات، بيد أنها لم تعان من ذلك كثيرا.
21
وأحبت فرانسي المدرسة، بالرغم مما كان يكتنفها من وضاعة وقسوة وشقاء، وكان النظام الرتيب الذي درج عليه كثير من الأطفال، وهم يؤدون نفس الشيء يفيء عليها شعورا بالأمن والاطمئنان، وشعرت أنها جزء محدد من شيء، جزء من جماعة اجتمعوا تحت لواء واحد من أجل غرض واحد، وكان أفراد أسرة نولان يؤمنون بالفردية، ويسلكون في الحياة مسلكا خاصا بهم، ولم يكونوا ينتمون إلى طائفة بعينها من المجتمع، وكان ذلك مفيدا في تكوين الأشخاص الذين يؤمنون بالفردية، ولكنه في بعض الأحيان يصيب الطفل بالحيرة؛ ولهذا شعرت فرانسي بنوع من الأمن والحماية في المدرسة، وبالرغم من أنها تسير على نظام رتيب قبيح قاس، إلا أنها كانت تنشد مأربا وتحقق تقدما.
ولم تكن المدرسة كلها تتسم بالعبوس الذي لا فرج منه، فقد تمر بها لحظات مجيدة مشرقة تستمر نصف ساعة كل أسبوع، حين يقبل السيد مورتون إلى فصل فرانسي ليدرس الموسيقى، وكان مدرسا متخصصا يمر بكل المدارس في تلك المنطقة، وإذا ظهر حلت معه فترة من الراحة والترويح، وكان يرتدي معطفا له ذيل طويل، وربطة عنق شاخصة إلى أعلى، وهو وافر النشاط والحركة، مرح طروب، يفيض حيوية وحياة حتى لكأنه ملاك هابط من وراء السحب، كما أنه ودود في ظرف يمتزج بالحيوية، يفهم الأطفال ويحبهم فأحبوه إلى حد العبادة، وكانت المدرسات يتدلهن في حبه؛ لأنه يشيع في الحجرة روح المرح والانطلاق يوم زيارته، حيث ترتدي المدرسة خير ما عندها، ولا تمعن في الحقارة كشأنها، وفي بعض الأحيان تجعد شعرها وتتعطر، هذا هو ما كان يصنعه السيد مورتون بهؤلاء السيدات.
وكان يصل إلى المدرسة كالزوبعة، ويفتح الباب على مصراعيه ويندفع داخلا كالطائر ومن ورائه ذيل معطفه، ويقفز على المنصة وينظر حوله باسما، ويقول بصوت طروب: حسنا! حسنا!
ويجلس الأطفال يضحكون من السعادة، وتبتسم المدرسة ولا تكف عن الابتسام.
وكان يرسم على السبورة العلامات الموسيقية، ويرسم لها سيقانا صغيرة ليجعلها تبدو كأنها تجري خارج السلم الموسيقي، ويرسم علامة مستوية تشبه البيضة، وكانت العلامة الحادة تبرز بروز الأنف الرفيع كالمنقار، ويظل ينطلق بالغناء طول الوقت، مسترسلا كأنه العصفور، وتفيض سعادته في بعض الأحيان، حتى لا يستطيع أن يردها، فيقطع قفزة من قفزات الرقص لينفس عن بعضها.
ودأب على أن يعلمهم الموسيقى الجيدة دون أن يجعلهم يعلمون أنها جيدة، ويطلق كلمات خاصة من عنده على روائع الموسيقى، ويعطيها أسماء بسيطة مثل «هدهدة الطفل» و«مناجاة الليل» و«أغنية الشارع» و«أنشودة يوم مشمس»، وكانت أصواتهم الغريرة تتعالى بالصراخ مغنية مقطوعة «هاندل»، البطيئة الحركة التي لا يعرفونها إلا باسم الترتيلة.
وكان الصبية الصغار يصفرون جزءا من لحن دفوراك «سيمفونية العالم الجديد»، وهم يلعبون البلي، وحين يسألون عن اسم الأغنية يجيبون: «أوه إنها العودة إلى البيت.» ويلعبون لعبة «البوتسي» مترنمين بلحن «نشيد الجنود» من أوبرا فاوست ويسمونه «المجد».
ولم تكن الآنسة بيرنستون مدرسة الرسم التي تأتي أيضا مرة في الأسبوع محبوبة كل الحب مثل السيد مورتون، ولكنهم يعجبون بها كما يعجبون به، آه! لقد كانت من عالم آخر، عالم الملابس الجميلة ذات اللون الأخضر الهادئ والعقيق الرصين، وكان وجهها حلوا رقيقا، وهي مثل السيد مورتون تحب جمهور الأطفال المنبوذين القذرين أكثر من حبها للأطفال المحظوظين، ولم تكن المدرسات يحببنها، نعم كن يعبسن في وجهها حيث تتكلم معهن، ثم يحدقن فيها حين تولي ظهرها، ويغرن من سحرها ولطفها وما فيها من جاذبية تثير إعجاب الرجال، وكانت جياشة العاطفة تفيض أنوثة، وكن يعلمن أنها لا تقضي الليالي وحدها كما أجبرن هن على ذلك.
وكان صوتها عذبا صافيا كالنغم، ويداها جميلتين، ترسمان بسرعة بقطعة الطباشير أو بقلم من الفحم، وكان لإمساكها بالقلم سحر وهي تدير رسغها، فينثني معصمها انثناءة واحدة فترتسم تفاحة، ثم ينثني انثناءتين فيتجلى طفل جميل ممسكا بتفاحة، وكانت لا تعطي درسا في اليوم المطير، وتأخذ قطعة من الورق وقلما من الفحم، وترسم أكثر الأطفال فقرا ومسغبة في الفصل، وحين تنتهي الصورة فإنك لم تكن ترى الفقر أو المسغبة، وإنما ترى عظمة البراءة والنضج المبكر لطفل يشتد عوده سريعا، حقا إن الآنسة بيرنستون إنسانة عظيمة.
وكان هذان المعلمان الزائران ومضة تشرق ذهبا وفضة في أيام المدرسة الكئيبة الممعنة في الكآبة والقتام؛ تلك الأيام التي تمتلئ بالساعات الموحشة، حيث يجلس التلاميذ أمام المدرسة متصلبين مشدودين، وأيديهم مكتوفة خلف ظهورهم، وتروح هي تقرأ رواية خبأتها في حجرها، لو أن المدرسات جميعا من طراز الآنسة بيرنستون والسيد مورتون، لكانت فرانسي خليقة بأن تعرف حق المعرفة كيف يكون النعيم السماوي، ولكن رب ضارة نافعة؛ إذ لا بد من الظلام والقتام حتى يمكن للشمس أن تجد جوا تشرق فيه بجلالها السني.
22
يا لها من ساعة ساحرة تلك التي يعرف الطفل فيها لأول مرة أنه يستطيع قراءة الكلمات المطبوعة، لقد ظلت فرانسي فترة ليست بالقصيرة تتهجى الحروف، تلفظها، ثم تجمع الأصوات معا لتصنع منها كلمة، ولكنها نظرت ذات يوم إلى صفحة، ورأت أن كلمة «فأر» لها معنى يتبادر للذهن لأول وهلة، ونظرت إلى الكلمة وتجمعت صورة فأر رمادي في مخيلتها، ثم نظرت بعد، فلما رأت كلمة جواد سمعته يضرب الأرض، ورأت ضوء الشمس فوق فروته اللامعة، وواتتها كلمة «يجري» فجأة فأخذت تتنفس بصعوبة كأنما هي بشخصها تجري، وانقشع الحجاب الذي كان يفصل بين الصوت الواحد لكل حرف والمعنى الكامل للكلمة، وأصبحت الكلمة المطبوعة تعني شيئا للنظرة الخاطفة، وقرأت صفحات قلائل في سرعة، واستبدت بها النشوة حتى كادت تمرض، وأرادت أن تصرخ بأعلى صوتها: لقد استطاعت أن تقرأ، لقد استطاعت أن تقرأ!
ومن يومها أصبح العالم ملكها بفضل القراءة، فإنها لن تكون وحيدة مرة أخرى، ولن تفتقد الأصدقاء الحميمين، وأصبحت الكتب أصدقاءها، تختار واحدا لكل حالة تمر بها، كانت تقرأ الشعر حين تنشد الصحبة الهادئة، وتقرأ قصص الحب حين دخلت طور المراهقة، وتقرأ سيرة من السير إذا أرادت أن تستشعر أنها قريبة لإنسان، وأقسمت في ذلك اليوم الذي استطاعت أن تقرأ فيه لأول مرة أن تقرأ كتابا واحدا لكل يوم طوال حياتها المقبلة.
وأحبت الأعداد والمقادير، وابتكرت لعبة يمثل كل عدد فيها فردا في أسرة والجواب هو جماعة في أسرة لها قصة، فالرقم صفر طفل يحمل على الذراعين ولا يسبب أية متاعب، وأينما ظهر فإنك تحمله فحسب، والرقم واحد طفلة جميلة بدأت تتعلم المشي ومن السهل العناية بها، والرقم اثنان طفل ذكر يستطيع أن يمشي ويتكلم قليلا، وقد دخل حياة الأسرة (أي في المسائل الحسابية إلخ) لا يسبب إلا متاعب قليلة، والرقم ثلاثة طفل أكبر في روضة أطفال تجب العناية به قليلا، ثم الرقم أربعة فتاة في سن فرانسي ومن السهل العناية بها مثل الرقم اثنين، والأم رقم خمسة حنون رحيمة، وكانت تأتي في المسائل الحسابية الكبيرة، وتيسر كل شيء على النحو الذي يجب أن تكون عليه الأم، والأب رقم ستة أصلب من الآخرين ولكنه عادل كل العدل، ولكن رقم سبعة متوسط، كان جدا مسنا سوداوي المزاج، ليس له حساب قط، والجدة رقم ثمانية قاسية أيضا، ولكنها أسهل فهما من رقم سبعة، وأصعب الجميع هو رقم تسعة، كان صديقا، وما أعسر أن تجعله يتلاءم مع متطلبات الحياة العائلية.
وحين تضيف فرانسي مقدارا فإنها تحدد قصة قصيرة تتمشى مع النتيجة، فإذا ما كان الجواب 924 فمعنى ذلك أن الصبي الصغير والفتاة يرعاهما راع، على حين خرجت بقية الأسرة إلى الخارج، وحين يرد رقم مثل 1024، فإنه يعني أن كل الأطفال الصغار يلعبون معا في الفناء ، وكان الرقم 62 يعني أن الأب أخذ الصبي الصغير في نزهة على الأقدام، والرقم 50 يعني أن الأم أخرجت الطفل في العربة الصغيرة ليشم الهواء النقي، والرقم 78 يعني أن الجد والجدة يجلسان في البيت بجوار المدفأة في إحدى ليالي الشتاء.
وكل مجموعة من الأرقام تمثل وضعا جديدا للأسرة، ولم تكن هناك قصتان متشابهتان أبدا.
وطبقت فرانسي هذه اللعبة على الجبر؛ فكان الرمز س هو حبيبة الفتى التي دخلت حياة الأسرة وعقدتها، وكان غ هو صديق الفتى الذي يسبب القلق والانزعاج، وهكذا أصبح علم الحساب في نظر فرانسي شيئا يفيض بالحياة والإنسانية، ويشغل ساعات كثيرة وحيدة من ساعات حياتها.
23
ومضت أيام الدراسة يوما إثر يوم، بعضها ينطوي على الحقارة والوحشية وانفطار القلب، والبعض الآخر يمضي مشرقا جميلا بفضل الآنسة بيرنستون والسيد مورتون، وهناك دائما السحر الذي يكتنف تعلم الأشياء.
وخرجت فرانسي في نزهة على الأقدام في يوم سبت من شهر أكتوبر وصادفها حي غير مألوف، حيث لم يكن هناك بيوت للسكن أو حوانيت حقيرة خشنة، وإنما هناك بيوت قديمة ولا تزال قائمة حين كان واشنطن يجري هو وجيوشه مناورات عبر لونج أيلاند، وكانت البيوت عتيقة آيلة للسقوط ولكنها محاطة بأسوار من الأوتاد لها بوابات اشتاقت فرانسي أن تهزها، وهناك أزهار مشرقة من أزهار الخريف في الفناء الأمامي، وأشجار الأسفندان على منعطف الطريق بأوراقها الصفر والحمر القانية، والحي يظهر عتيقا هادئا رصينا في شمس يوم السبت، ويتسم بشيء من الحنان، هادئ، عميق، لا يعترف بالزمن، يعلوه سلام واهن عدت عليه الأيام، وشعرت فرانسي بالسعادة كأنها قد رنت مثل أليس في المرآة السحرية، نعم كانت في عالم مسحور.
ومضت في سيرها حتى صادفت مدرسة صغيرة عتيقة، يتألق الآجر القديم الذي شيدت به بلون العقيق في شمس الأصيل، ولم يكن يحيط بفناء المدرسة سور، وكانت ملاعبها من العشب لا من الأسمنت، ونظرت عبر المدرسة فوجدت ريفا يكاد يكون مكشوفا، بل مرجا مزهرا بنبات العود الذهبي، وزهرات النجيم البرية ينمو فيها البرسيم.
وخفق قلب فرانسي، إنها هي تلك المدرسة التي تريد أن تذهب إليها! ولكن كيف كان يمكن أن تلتحق بها؟ والقانون صارم يفرض على التلميذ أن يلتحق بمدرسة في حيه، فإذا أرادت أن تلتحق بهذه المدرسة فإن الأمر يقتضي أن ينتقل أبواها إلى ذلك الحي، وفرانسي تعلم أن أمها لن تنتقل من مسكنها لمجرد أن فرانسي تريد أن تنتقل إلى مدرسة أخرى، وسارت إلى البيت متباطئة تفكر في هذا الأمر.
وجلست في تلك الليلة تنتظر أباها حين يعود من عمله، وجاء جوني إلى البيت وهو يصفر لحن أغنية «مولي مالون» صاعدا السلم عدوا، وبعد أن أكل الجميع السمك والكافيار، وكفتة الكبد التي حملها إلى البيت، ذهب كل من الأم ونيلي إلى فراشهما، وظلت فرانسي تجلس في صحبة أبيها وهو يدخن سيجاره الأخير، وهمست إذن بكل ما كان من أمر تلك المدرسة فنظر إليها وهز رأسه وقال: سنرى ذلك في الغد. - إنك تعني أننا نستطيع أن ننتقل إلى جوار المدرسة. - لا، ولكن يجب أن تكون هناك طريقة أخرى، سأذهب معك إلى ذلك المكان غدا، ونرى ما يمكننا أن نفعل.
وفرحت فرانسي حتى إنها لم تستطع النوم بقية الليل، ونهضت من فراشها في الساعة السابعة، ولكن جوني ما زال يغط في نومه، فانتظرت على أحر من الجمر، وكلما رأته يتنهد في نومه جرت لترى هل استيقظ من نومه أم لا.
واستيقظ جوني قرب الظهيرة، وجلس أفراد أسرة نولان لتناول الغداء ولم تستطع فرانسي أن تأكل، وظلت تنظر إلى أبيها، ولكنه لم يفصح لها بشيء، ترى هل نسي الأمر؟ هل نسيه؟ لا، إنه لم ينس لأنه قال في غير اكتراث وكاتي تصب القهوة: أظن أنني فيما بعد سأصحب ابنتي الحبيبة في نزهة قصيرة سيرا على الأقدام.
وقفز قلب فرانسي في صدرها: إنه لم ينس، إنه لم ينس. وانتظرت إجابة أمها، ربما تعترض، أو تسأل عن السبب أو تقترح أن تذهب معهما أيضا، ولكن كل ما قالته الأم هو: حسنا.
وغسلت فرانسي «الأطباق»، ثم كان عليها أن تنزل إلى محل الحلوى لتشتري صحيفة يوم الأحد، ثم إلى محل السيجار لتشتري لأبيها سيجار الكورونا بخمسة سنتات، وكان لا بد لجوني أن يقرأ الصحيفة، أجل يقرأ كل عمود بما في ذلك باب المجتمع الذي لا يثير اهتمامه، وأسوأ من ذلك أن الأمر يقتضيه أن يعلق لأمها على كل موضوع يقرؤه، وكان يضع الصحيفة جانبا في كل مرة ويتجه إلى أمها، ويقول: إن الصحف تشتمل على أشياء مضحكة هذه الأيام، انظري إلى هذه القصة.
وفرانسي تكاد تبكي.
وحلت الساعة الرابعة، وانقضى وقت طويل منذ دخن جوني السيجار، والصحيفة ملقاة على الأرض وقد برزت صفحاتها الداخلية، وكاتي ملت سماع تحليل الأنباء فأخذت نيلي وذهبت لتزور ماري روملي.
وانطلق الأب وفرانسي يمسك كل منهما بيد الآخر، وقد لبس حلة السهرة الوحيدة التي يملكها وقبعة الدربي فبدا عظيما كل العظمة، وكان يوما رائعا من أيام شهر أكتوبر، اجتمعت شمسه الدافئة وريحه المنعشة لتنشرا عبير المحيط في كل ركن، وسارا مجتازين بعض مجموعات من المساكن ثم انثنيا إلى عطفة، فأصبحا في ذلك الحي الآخر، ولم يكن في الإمكان أن تجد مثل هذا الفارق الواضح إلا في مكان عظيم منبطح كبروكلين، وكان حيا يسكنه جيل أمريكي خامس أو سادس، في حين أنك إذا استطعت أن تثبت في الحي الذي تعيش فيه أسرة نولان، أنك ولدت في أمريكا فإن ذلك يكون شيئا فذا.
والحق أن فرانسي كانت التلميذة الوحيدة في فصلها التي ولدت لأبوين ولدا في أمريكا.
وكانت المدرسة في أول الفصل الدراسي تنادي التلميذات، وتسأل كل طفل عن نسبه، ومثل هذه الإجابات تمثل ذلك خير تمثيل: إنني بولندية أمريكية، ولد أبي في وارسو. - إنني أيرلندية أمريكية، ولد أبي وأمي في مقاطعة كورك.
وأجابت فرانسي في فخر حين نودي اسم نولان: إنني أمريكية.
وقالت المدرسة السريعة الغضب والسخط: أعلم أنك أمريكية، ولكن ما هي قوميتك؟
وأصرت فرانسي ممعنة في الفخر: أمريكية! - أخبريني من يكون أبواك وإلا بعثت بك إلى المديرة! - إن والدي أمريكيان، ولدا في بروكلين.
والتفت كل الأطفال لينظروا إلى الصبية الصغيرة التي لم يأت أبواها من الوطن القديم، وشعرت فرانسي بالفخر والسعادة حين قالت المدرسة: بروكلين؟ أظن أن ذلك يجعلك أمريكية صميمة.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: ما أروع بروكلين، فإن المرء إذا ولد فيها غدا أمريكيا بلا تفكير ولا حساب!
وحدثها أبوها عن ذلك الحي العجيب، وكيف أن الأسر التي تعيش فيه دخلت في عداد الأمريكيين منذ أكثر من مائة عام، وكيف كان أكثرهم من خلاصة الأسكتلنديين والإنجليز وأهل ويلز، وكان الرجال يعملون في صنع الصواوين وأعمال النجارة الدقيقة، ويشتغلون بالمعادن: الذهب، والفضة، والنحاس.
ووعد جوني فرانسي بأن يأخذها يوما إلى القسم الإسباني من بروكلين، حيث يعمل الرجال في صنع السجائر، ويكسب كل منهم قليلا من البنسات في اليوم، ليؤجروا بها رجلا يقرأ لهم وهم يعملون، وكان الرجل يقرأ الأدب الرفيع.
وسارا في الشارع الهادئ الذي يحمل اسم يوم الأحد، ورأت فرانسي ورقة تسقط من شجرة فقفزت إلى الأمام لتمسكها، وكان لونها أحمر قرمزيا صافيا، لها حواش ذهبية، وحملقت في الورقة متسائلة: أيقدر لها أن ترى شيئا بمثل هذا الجمال مرة أخرى؟ وأقبلت امرأة من المنعطف، تصبغ شفتيها بأحمر ثقيل وتلبس لفيعة حول عنقها من الريش، وابتسمت لجوني وقالت: هل أنت وحيد أيها السيد؟
ونظر إليها جوني لحظة قبل أن يجيب في رفق: لا يا أختاه.
واستفهمت في حدة: أواثقق أنت؟
وأجابها في هدوء: واثق.
وذهبت لحالها، وقفزت فرانسي إلى الخلف وأمسكت يد أبيها، وسألت في شغف: ترى أكانت هذه المرأة سيئة السلوك يا أبي؟ - لا. - ولكن مظهرها يدل على ذلك؟ - إن الناس السيئين قليلون جدا، إنما هناك كثير من الناس سيئو الحظ. - ولكنها كانت تصبغ جسمها جميعا و... - إنها امرأة مرت بها أيام أفضل من أيامها هذه.
وأعجبته الجملة فرددها: نعم، إنها امرأة مرت بها أيام أفضل من أيامها هذه.
وانتابته نوبة من التفكير العميق، وظلت فرانسي تقفز إلى الأمام وتجمع أوراق الشجر.
ووصلا إلى المدرسة، وأشارت فرانسي إلى المدرسة في فخر تلفت نظر أبيها ، وكانت شمس الأصيل تدفئ آجرها الملون بألوان خفيفة، وبدت نوافذها ذات التقسيمات الصغيرة ترقص طربا في ضوء الشمس، ونظر إليها جوني فترة طويلة، ثم قال: نعم، هذه هي المدرسة، هذه هي.
وهنالك حق عليه أن يترنم بها في أغنية كما كان شأنه، كلما جاشت عواطفه أو استثيرت نفسه، وأمسك قبعته الدربي البالية، ووضعها على قلبه، ووقف معتدلا شاخص البصر إلى المدرسة، وراح يغني:
أيام المدرسة يا أيام المدرسة،
أيتها الأيام القديمة العزيزة المشرقة؛
أيام النظام والقراءة والكتابة والحساب ...
وربما بدا جوني أبله في نظر أحد المارة الغرباء، وهو يقف مرتديا حلة السهرة الخضراء وقميصه النظيف، ممسكا بيد طفلة نحيلة في ثياب رثة، ويغني أغنيته التافهة دون أن يشعر بوجود في الشارع، ولكن المشهد بدا لفرانسي سليما جميلا.
واخترقا الشارع وتجولا في المرج الذي يسميه عامة الناس «الأراضي»، والتقطت فرانسي باقة من أزهار القضبان الذهبية والنجيمات البرية لتحملها معها إلى البيت، وأوضح جوني أن المكان كان في يوم من الأيام أرضا يدفن فيها الهنود موتاهم، وكيف أنه أتى إلى هناك في كثير من الأحيان وهو صبي ليبحث عن رءوس السهام، واقترحت فرانسي أن يبحثا عن بعضها، ومضيا يبحثان نصف ساعة دون أن يعثرا على شيء، وتذكر جوني أنه لم يعثر على شيء منها أيضا وهو صبي، ووجدت فرانسي في ذلك فكاهة فضحكت، واعترف أبوها بأنها ربما لم تكن مقبرة للهنود على الإطلاق، وربما اختلق أحد الناس تلك القصة، وكان جوني أكثر من صادق فيما يقول؛ لأنه هو الذي اختلق القصة كلها.
وجاء وقت العودة إلى البيت سريعا، وترقرقت الدموع في عيني فرانسي؛ لأن أباها لم يذكر شيئا بشأن إدخالها المدرسة الجديدة، ورأى أبوها الدموع فخطرت له فكرة في الحال: سأقول لك ما نفعله يا طفلتي، إننا سنتجول هنا ونختار بيتا جميلا ونأخذ رقمه، ثم أكتب خطابا إلى المديرة وأقول لها: إننا سننتقل إليه، وسأبدي رغبتي في نقلك إلى تلك المدرسة.
ووجدا بيتا أبيض اللون من طابق واحد له سطح منحدر وأزهار الأقحوان، التي ازدهرت بعد أوانها نامية في الفناء، ونقل العنوان بعناية. - هل تعلمين أن ما سنعمله خطأ؟ - هل الأمر كذلك يا أبي؟ - ولكنه خطأ يقود إلى خير أعظم. - مثل الكذبة البيضاء. - مثل الكذبة التي تنقذ شخصا؛ ولهذا يجب أن تعوضي الخطأ بأن تضاعفي ما تقدمينه من خير، يجب ألا تغيبي أو تتأخري أو تسيئي السلوك، يجب ألا تفعلي شيئا يجعلهم يرسلون خطابا إلى البيت بالبريد. - سأكون دائما طيبة يا أبي إذا استطعت أن أذهب إلى تلك المدرسة. - نعم، وسأريك الآن طريقا يقودك إلى المدرسة ويخترق متنزها صغيرا، إني أعرف جيدا أين يكون، أجل إني أعرف جيدا أين يكون.
وأشار إلى المتنزه وكيف تستطيع أن تخترقه من وسطه لتذهب إلى المدرسة. - إن ذلك خليق بأن يجعلك سعيدة؛ إذ يمكنك أن تري تغير المواسم في ذهابك وإيابك، فماذا تقولين؟
وتذكرت فرانسي شيئا قرأته لها أمها مرة، فأجابت: إن نفسي تمتلئ بالسعادة.
وكانت تعني ما تقول.
وقالت كاتي حين سمعت الفكرة: افعل ما تشاء، ولكن لا شأن لي بذلك، فإذا ما جاء الشرطي واعتقلك لإعطائك عنوانا مزيفا، فسوف أقول بأمانة: لا شأن لي بذلك، إن المدارس تتشابه من حيث السوء والجودة، وأنا لا أدري لماذا تريد البنت أن تغير المدرسة، مع أن الواجب المنزلي موجود في أي مدرسة تذهب إليها.
وقال جوني: لقد اتفقنا إذن، خذي يا فرانسي هذا البنس واجري إلى محل الحلوى، واشتري ورقة وغلافا.
وجرت فرانسي هابطة ثم عادت مسرعة، وكتب جوني مذكرة قال فيها: إن فرانسي ستذهب لتسكن مع بعض الأقارب في العنوان ... وتريد أن تنتقل من المدرسة، وأضاف أن نيلي سيظل بالبيت، ولا يحتاج إلى النقل، ووقع باسمه ووضع تحته خطا في قوة واعتداد.
وناولت فرانسي المذكرة للناظرة في الصباح التالي وهي ترتعد، وقرأتها السيدة وزامت، ثم نفذت النقل، وناولت فرانسي بطاقتها وطلبت منها أن تمضي لشأنها، وخصوصا أن المدرسة مزدحمة جدا على أي حال.
وقدمت فرانسي نفسها وأوراقها لمدير المدرسة الجديدة، وصافحها المدير وتمنى لها السعادة في مدرسته، وأخذتها العريفة إلى الفصل، وقطعت المدرسة الدرس وقدمتها إلى الفصل، وتطلعت فرانسي إلى صفوف البنات الصغيرات، وكن جميعا يلبسن ملابس رثة ولكن معظمهن نظيفات، وأعطى لها مقعدا خاصا بها وحدها، وانخرطت فرانسي سعيدة في النظام المألوف للمدرسة الجديدة.
ولم تكن المدرسة ولا الأطفال هنا بمثل ما كانت عليه الحال في المدرسة القديمة من وحشية، صحيح أن بعض الأطفال يتسمون بالحقارة والضعة، ولكنها سمة الطفولة الطبيعية وليست تآمرا ولا خبثا، وكانت المدرسات قليلات الصبر وقاسيات في كثير من الأحيان، ولكن قسوتهن لم تبلغ مبلغ الوحشية، ولم يكن هناك أيضا أي عقاب جسماني، وكان الآباء والأمهات أمريكيين راسخين في أمريكيتهم، وقد بلغوا في وعيهم الحقوق التي كفلها لهم دستورهم، مبلغا لا يسمح لهم بتقبل الظلم مستكينين، ولم يكن من الممكن أن يستغلوا أو يستذلوا شأن المهاجرين والجيل الثاني من الأمريكيين.
ووجدت فرانسي أن الشعور الجديد في تلك المدرسة يرجع غالبا إلى ملاحظها، وكان رجلا ذا شعر أبيض ضاربا إلى الحمرة، يناديه المدير نفسه بالسيد جينسون، وله أطفال كثيرون وأحفاد يحبهم جميعا ويعزهم، وكان أبا لجميع الأطفال، يصمم على أن يهبطوا إلى حجرة الفرن لتجف ملابسهم، حين يأتون إلى المدرسة مبتلين في الأيام المطيرة، ويحملهم على خلع جواربهم المبللة على حبل لتجف، ويضع الأحذية البالية الصغيرة في صف أمام الفرن.
وحجرة الفرن مكان طيب ترتاح له النفس، طليت جدرانها بالجير الأبيض، وطلي الفرن الكبير باللون الأحمر، فأصبح يبعث في النفس الراحة والاطمئنان، والنوافذ عالية، وقد أحبت فرانسي أن تجلس هناك وتستمتع بالدفء، وتراقب ألسنة اللهب البرتقالية والزرقاء، وهي تتراقص فوق قطع الفحم الصغيرة (وكان السيد جينسون يترك باب الفرن مفتوحا، حين يجلس الأطفال لتجف ملابسهم)، وفرانسي في الأيام المطيرة تخرج مبكرة وتمشي إلى المدرسة ببطء، حتى تبتل ملابسها وتستمتع بميزة تجفيفها في حجرة الفرن.
ولم يكن مسموحا للسيد جينسون أن يبقي الأطفال خارج الفصل فتجف ملابسهم، ولكنه محبوب من الجميع، ويحترمه كل شخص احتراما كبيرا، فلم يحتج أحد على ما يفعله، وسمعت فرانسي قصصا تدور في المدرسة حول السيد جينسون، سمعت أنه كان في الجامعة ويعرف أكثر مما يعرف المدير، وقالوا: إنه تزوج، وحين أنجب الأطفال قرر أنه إذا اشتغل ملاحظا للمدرسة، فإنه سوف يكسب مالا أكثر من اشتغاله مدرسا، ولكنه على أي حال محبوب ومحترم، ورأته فرانسي مرة في مكتب المدير مرتديا ثوب العمل النظيف المخطط، ويجلس واضعا ساقا فوق ساق ويتكلم في السياسة، وسمعت فرانسي أن المدير يهبط كثيرا إلى حجرة فرن السيد جينسون، ليجلس ويتحدث بضع دقائق، وهو يدخن غليونا مليئا بالطباق.
وكان الطالب الذي يسيء سلوكه لا يرسل إلى مكتب المدير ليؤنب، بل يرسل إلى حجرة السيد جينسون ليتحدث معه، ولم يكن السيد جينسون يوبخ الطفل السيئ السلوك أبدا، وإنما يحدثه عن ابنه الأصغر الذي كان راميا في فريق بروكلين، ويتكلم عن الديمقراطية والمواطنة الصالحة، وعن العالم الصالح حيث يبذل كل فرد فيه غاية جهده من أجل سعادة الآخرين، وكان الطالب المسيء يخرج بعد حديث السيد جينسون، وقد عد في زمرة الأطفال الذين لا يثيرون أية متاعب بعد ذلك.
ومن عادة الأطفال عند التخرج أن يطلبوا من المدير أن يوقع لهم في أول صفحة من دفتر توقيعاتهم من قبيل الاحترام لمركزه، ولكنهم يقدرون كلمة السيد جينسون أكثر، ويطلبون منه أن يوقع في الصفحة الثانية دائما، والمدير يوقع بسرعة بخط كبير خشن، ولكن السيد جينسون لم يكن يفعل ذلك، بل يحتفل بالتوقيع احتفالا، فيأخذ الدفتر إلى مكتبه الكبير المستدير، ويوقد المصباح فوقه، ثم يجلس ويلمع نظارته في عناية، ويختار قلما ويغمسه في الحبر، ثم ينظر إليه ويمسحه ويغمسه مرة أخرى، ثم يوقع اسمه بخط جميل كالنقش على المعدن ويجففه بعناية، وتوقيعه دائما أجمل ما في الدفتر، وإذا أوتيت الشجاعة على أن تطلب منه توقيع ابنه أيضا، فإنه يأخذ الدفتر إلى بيته ويطلب من ابنه الذي كان من فريق الدودجارز ليوقع أيضا، وهذا شيء رائع بالنسبة للصبيان، أما البنات فلم يكن الأمر يهمهن.
وخط السيد جينسون رائع كل الروعة، حتى إنه كان يكتب شهادات الدبلوم إذا طلب منه ذلك.
وكان السيد مورتون والآنسة بيرنستون يأتيان إلى تلك المدرسة أيضا، وحين يقومان بالتدريس يحضر السيد جينسون، ويحشر نفسه في كثير من الأحيان في أحد المقاعد الخلفية، ويستمتع بالدرس أيضا، وفي اليوم البارد يدعو السيد مورتون أو الآنسة بيرنستون إلى حجرته لتناول قدح من القهوة قبل ذهابهما إلى المدرسة التالية، ولديه وعاء يوضع على الغاز وأدوات لصنع القهوة وضعها فوق مائدة صغيرة، ودأب على تقديم قهوة ثقيلة سوداء ساخنة في أقداح سميكة، وكان المدرسان الزائران يحمدان له هذه الروح الطيبة.
أما فرانسي فإنها سعيدة في هذه المدرسة، حريصة على أن تكون فتاة طيبة وتتطلع كل يوم إذ تمر بالبيت الذي ادعت أنها تسكن فيه في امتنان، وتمضي في الأيام التي تهب فيها الرياح وتطير الأوراق أمام البيت، تلتقط القمامات وتضعها في صندوق النفايات القائم أمام البيت، وفي الصباح بعد أن يفرغ جامع القمامة الحقيبة المصنوعة من القنب ويلقي الحقيبة بإهمال في الممر، بدلا من الفناء، فإن فرانسي تلتقطها وتعلقها على دريئة بالسور، وكل سكان البيت يعتبرونها طفلة هادئة تعاني من عقدة غريبة، تحملها على الإسراف في طلب النظافة.
وفرانسي تحب تلك المدرسة، وتمر كل يوم بثمان وأربعين عمارة وهي في طريقها إليها، وقد أحبت المشي أيضا، وتطلب منها هذا الأمر أن تخرج في الصباح مبكرة قبل نيلي، وتعود إلى البيت بعده بكثير، ولم يكن يهمها في ذلك سوى أنها تعاني قليلا من المشقة وقت الغداء، وكان عليها أن تمر باثنتي عشرة عمارة لتعود إلى البيت، ومثلها لترجع ثانية إلى المدرسة، كل ذلك في الساعة الواحدة، وكان يتبقى وقت قليل للأكل، ولم تكن أمها توافق على أن تحمل فرانسي غداءها معها، وتحتج قائلة: إن الصلة بينها وبين بيتها وأسرتها سوف تنفصم قريبا، كما أن عودها يشتد سريعا، أما وهي لا تزال طفلة فإن الأمر يقتضي أن تتصرف تصرف الأطفال، فتعود إلى البيت وتأكل على نحو ما يأكل الأطفال: لعل الخطأ هو في ذهابها إلى مدرسة بعيدة كل هذا البعد، فما قولك؟
وجادلها الأب قائلا: ولكنها يا كاتي مدرسة جيدة. - إذن فلنتحملها بخيرها وشرها.
واستقر الرأي بالنسبة لموضوع الغداء، وكان لدى فرانسي فسحة من الوقت تبلغ خمس دقائق أو نحوها لتتناول غداءها، وهو وقت يكاد يكفي لعودتها إلى البيت لتأخذ شطيرة تأكلها، وهي في طريق عودتها إلى المدرسة، ولم تكن تعد نفسها قط مرهقة، كانت سعيدة بالمدرسة الجديدة سعادة جعلتها حريصة على أن تدفع على نحو ما ثمن هذه السعادة.
كان من الخير أنها سعت إلى دخول تلك المدرسة، فقد عرفت عوالم أخرى غير العالم الذي ولدت فيه، وأن هذه العوالم ليست صعبة المنال.
24
وكانت فرانسي تعد السنين التي تمر بعدد الإجازات لا بعدد الأيام أو الشهور، والعام بالنسبة لها يبدأ في اليوم الرابع من شهر يوليو؛ لأنه يوم الإجازة الأول بعد أن تغلق المدرسة أبوابها، فتبدأ قبل ذلك اليوم بأسبوع في جمع الصواريخ، وتنفق كل بنس يمكنها الحصول عليه من أجل لفائف الصواريخ الضخمة، وتكدسها في صندوق تحت السرير، وكانت تخرج الصندوق عشر مرات في اليوم على الأقل، وتعيد تنظيم الصواريخ، وتنظر طويلا إلى النسيج الأحمر الباهت، والساق البيضاء الملفوفة وتتعجب لصنعها، وتشم قطعة الفتيل السميكة التي تأخذها بلا مقابل في كل مرة تشتري فيها الصواريخ.
وهذا الفتيل إذا أشعل يظل يحترق ساعات، ويستخدم لإشعال الصواريخ، وترددت فرانسي في إشعال هذه الصواريخ حين أقبل اليوم العظيم، وكانت تؤثر الحصول عليها على استعمالها، وفي سنة ما اشتدت الحال بالطفلين أكثر من المألوف، ولم يستطيعا الحصول على البنسات، فراح نيلي وفرانسي يكدسان حقائب الورق، وملآها في ذلك اليوم بالماء، وطويا قممها وأغلقاها وأسقطاها من فوق السطح إلى الشارع، فكانت تقرقع قرقعة لها وقع جميل في آذانهما، تكاد تشبه قرقعة الصواريخ.
وكان المارة في الشارع يتضايقون وينظرون إلى أعلى غاضبين، حين يخطئهم كيس منها ويكاد يصيبهم على أم رأسهم، ولكنهم لم يكونوا يفعلون شيئا مسلمين بأن الأطفال الفقراء تعودوا هذا الاحتفال.
وكانت الإجازة الثالثة هي إجازة عيد جميع القديسين،
1
وسود نيلي وجهه بالسناج، ولبس قلنسوته معكوسة، وارتدى معطفه بالمقلوب، وملأ جوربا أسود طويلا من جوارب أمه بالرماد، وطاف بالشوارع مع عصبته يهز الراية السوداء التي صنعها في البيت، ويصيح بصوت خشن من حين إلى حين.
وطافت فرانسي بالشوارع في صحبة البنات الصغيرات الأخريات تحمل قطعة من الطباشير الأبيض، وراحت ترسم بسرعة صليبا كبيرا على ظهر كل من يقابلها مرتديا معطفا، وكان الأطفال يؤدون تلك الطقوس دون أن يدركوا لها معنى، إذ ذكروا الرمز ونسوا السبب، وربما كان ذلك تقليدا بقي من رواسب القرون الوسطى، حين كانت المنازل وربما الأشخاص أيضا، يعلمون بعلامة ليعرف الناس مواطن الطاعون، وربما كان سفاحو ذلك الزمن يعلمون الأشخاص الأبرياء كنوع من الفكاهة القاسية، ثم بقيت هذه العادة خلال القرون، ثم مسخت وأصبحت بدعة لا معنى لها، تمارس في أمسية عيد جميع القديسين.
وبدا يوم الانتخاب لفرانسي أعظم الإنجازات جميعا، وكان يوما يخص أهل الحي جميعا أكثر من أي يوم آخر، وفكرت فرانسي في أن الناس قد يدلون بأصواتهم في جهات أخرى من البلد أيضا، ولكن الأمر لم يكن من الممكن أن يسير على النحو الذي يسير عليه في بروكلين.
وأشار جوني لفرانسي إلى محل يبيع المحار في شارع سكولز، أنشئ في بيت ظل قائما منذ أكثر من مائة سنة، حين عمد الزعيم الكبير تاماني إلى الاختباء هناك مع رجاله الشجعان، ومحاراته المشوية شائعة في أنحاء الولاية جميعا، ولكن كان هناك شيء آخر جعل ذلك المكان مشهورا، فهو مكان الاجتماع السري لكبار ساسة دار البلدية، وزعماء الهنود الحمر يجتمعون هناك في وليمة سرية بحجرة طعام خاصة، ويقررون وهم يأكلون المحارات الغضة الناعمة من الذي سينتخب ومن الذي سيقصى.
وكانت فرانسي تمر بالمحل كثيرا، وتنظر إليه وهي مبهورة، ولم يكن له اسم على الباب، وقد خلت نوافذه إلا من وعاء يشتمل على السرخس، ونصف ستارة من القماش البني اللون، تنزلق من خلفها على قضبان نحاسية ، ورأت فرانسي مرة الباب وهو ينفتح ويدخل منه شخص، وألقت نظرة سريعة على حجرة منخفضة مضاءة بضوء خافت، ينبعث من مصابيح تغطيها ستائر حمراء، ويغشى جوها دخان السيجارة.
وانخرطت فرانسي مع أطفال الحي الآخرين في بعض مراسم الانتخاب، دون أن تدري لذلك معنى أو سببا، ووقفت في ليلة الانتخاب في الصف ويداها على كتفي الطفل الذي أمامها، وراح الناس يرقصون متمايلين في الطرقات ويغنون:
تاماني، تاماني؛
الزعيم الكبير يجلس في فسطاطه،
يحيي رجاله الشجعان الظافرين.
تاماني، تاماني.
وأخذت فرانسي تستمع باهتمام إلى المناقشات التي تدور بين أمها وأبيها حول فضائل هذا الحزب ونقائصه، والأب من الديمقراطيين المتحمسين، ولكن الأم لم يكن يعنيها الأمر؛ فقد كانت تنتقد هذا الحزب وتقول لجوني إنه يضيع صوته هباء.
وقال جوني صارخا: لا تقولي ذلك يا كاتي، إن الحزب في مجموعه يصنع الخير الكثير للناس.
وقالت كاتي متوجسة: لا أكاد أتصور ذلك. - إن كل ما يريدون هو صوت رب الأسرة، وانظري ماذا يؤدون له نظير ذلك. - اذكر لي شيئا واحدا. - حسنا! إذا أنت أردت نصيحة في أمر قانوني، فإنك لا تحتاجين إلى محام، وإنما تسألين رجل الحزب. - أعمى يقود عميانا. - ألا تصدقين ذلك، إنهم قد يصمون آذانهم في أمور كثيرة، ولكنهم يعرفون قوانين البلدية بمداخلها ومخارجها. - فلتقاض البلدية لأمر من الأمور، وانظر إلى أي مدى يساعدك تاماني.
وقال جوني بادئا من زاوية أخرى: خذي في اعتبارك الخدمات المدنية، إنهم يعلمون متى تكون امتحانات رجال الشرطة ورجال الحريق وسعاة البريد، وإنهم دائما يرشدون الناخب إذا كان يهمه الأمر. - إن زوج السيدة لافي نجح في امتحان سعاة البريد منذ ثلاث سنوات، ولا يزال يعمل سائق عربة. - آه، ذلك لأنه جمهوري، ولو كان ديمقراطيا لكانوا خليقين بأن يأخذوا اسمه ويضعوه في أول القائمة، لقد سمعت عن مدرسة أرادت أن تنتقل إلى مدرسة أخرى، وأعانها تاماني على تحقيق رغبتها. - كيف؟ اللهم إلا إذا كانت جميلة. - ليس هذا هو السبب، وقد كان ذلك منه حركة بارعة، فالمدرسات يعلمن ناخبي المستقبل ، وهذه المدرسة مثلا سوف تمتدح دائما تاماني لتلاميذها متى استطاعت إلى ذلك سبيلا! وسوف يشب كل صبي ليعطي صوته، هل فهمت؟ - لماذا؟ - لأن في ذلك ميزة.
وتهكمت كاتي قائلة: ميزة! ها ها! - وبعد، لنفرض أن لديك كلبا من الكلاب القميئة، ثم مات، ماذا تفعلين؟ - وماذا أفعل بكلب من هذا النوع أولا؟ - ألا تستطيعين أن تتخيلي أن لديك كلبا ميتا من أجل المناقشة فحسب؟ - حسنا! إن كلبي مات فماذا بعد؟ - إنك تذهبين إلى الإدارة العامة، ولسوف يحمله الصبية عنك، افرضي أن فرانسي أرادت أن تحصل على رخصة للعمل، ولكنها كانت أصغر من السن القانونية. - إنهم يحصلون لها عليها فيما أظن. - بكل تأكيد. - هل تظن أنه من الصواب أن يحصلوا على هذه الأوراق التي تبيح لأطفال صغار الاشتغال في المصانع؟ - حسنا! افرضي أن لك صبيا سيئ الخلق يهرب من المدرسة، وهو خليق أن يصبح متسكعا يتلكأ حول أركان الشوارع، ولكن القانون لا يصرح له بالعمل، أليس من الأفضل أن يحصل على أوراق عمل غير مشروعة؟
ووافقت كاتي قائلة: في هذه الحالة أجيب بنعم. - انظري إلى كل الوظائف التي يعطونها للناخبين. - أنت تعرف كيف يحصلون عليها، أليس كذلك؟ إنهم يفحصون مصنعا من المصانع، ويتجاهلون أنهم ينتهكون قوانين المصنع، ويرد المدير شرهم بطبيعة الحال بأن ينبئهم بالوقت الذي تخلو فيه عنده وظائف تقتضي شغلها، فيكون لتاماني الفضل في تدبير وظائف للناخبين. - وهناك حالة أخرى، هناك رجل له أقارب في الوطن القديم، ولكنه لا يستطيع أن يحضرهم إلى هنا نظرا لتعقيدات الإجراءات، أما تاماني فيستطيع أن يتغلب على ذلك. - بكل تأكيد، إنهم يحضرون الأجانب إلى هنا ويعملون على أن يبدءوا في استخراج الشهادات التي تثبت مواطنهم، ثم يخبروهم بأنه يجب عليهم أن يعطوا أصواتهم للحزب الديمقراطي أو يعودوا من حيث أتوا. - إن تاماني يحب الفقراء مهما قلت فيه، افرضي أن هناك رجلا مريضا لا يستطيع أن يدفع إيجار بيته، هل تظنين أن الحزب يترك صاحب البيت يطرده؟ لا يا سيدتي، لن يحدث ذلك إذا كان ديمقراطيا.
وقالت كاتي: إني لأحسب أن الملاك جميعا إذن من الجمهوريين؟ - لا، إن النظام يتمشى مع المالكين، افرضي أن هناك مالكا قدم شكوى من مستأجر لطمه على أنفه، بدلا من أن يعطيه قيمة الإيجار، فماذا يحدث؟ إن الحزب يطرد المستأجر من أجل المالك. - إن ما يعطيه تاماني للناس يكلفهم ضعف ثمنه، انتظر حتى نعطي نحن النساء أصواتنا.
وقطعت حديثها ضحكة جوني، فقالت: إنك لا تعتقد أننا سوف نفعل ذلك؟ إن هذا اليوم سيأتي، سجل كلماتي، وسوف نضع هؤلاء الساسة المنحرفين في المكان الذي ينتمون إليه؛ خلف قضبان السجون. - إذا قدر وأقبل ذلك اليوم الذي تعطي النساء فيه أصواتهن، فإنك سوف تذهبين ويدك في يدي إلى صناديق الانتخاب، وتدلين بصوتك على نحو ما أفعل.
وأحاطها بذراعه وعانقها بسرعة.
وابتسمت كاتي له، ولم تستطع فرانسي أن تلاحظ أن أمها كانت تبتسم ابتسامة جانبية، على نحو ما تفعل السيدة في الصورة المعلقة في بهو الاستماع بالمدرسة، السيدة التي يسمونها «موناليزا» (الجيوكوندا).
وكان حزب تاماني يدين الكثير من سلطانه إلى أنه كان يجمع الأطفال وهم صغار ويعلمهم مبادئ الحزب، إن أغبى زعيم من زعماء الحزب في أي حي، وإن كان يفوته أن يدرك أن الوقت يمر مهما يحدث من أمور أخرى، وأن تلميذ اليوم سوف يكون ناخب الغد؛ ولذلك كانوا يستميلون الصبية والبنات إلى جانبهم، ولم تكن المرأة تستطيع أن تدلي بصوتها في تلك الأيام، ولكن الساسة كانوا يعلمون أن نساء بروكلين يؤثرن تأثيرا كبيرا في رجالهن، وإنك إذا ربيت البنت الصغيرة على مبادئ الحزب، فإنها حين تتزوج تعمل على أن يعطي زوجها صوته للحزب الديمقراطي، وكانت جمعية ماتي ماهوني تغري الأطفال، بأن تهيئ لهم ولأهلهم سياحات كل صيف، وكانت كاتي، بالرغم من أنها لم تكن للجمعية إلا السخرية، فإنها لا تجد سببا يمنعها من استغلال هذه الميزة لقضاء وقت طيب، وفرحت فرانسي حين علمت أنهم مسافرون، كما يفرح طفل في العاشرة من عمره لم يركب في حياته سفينة قط.
ورفض جوني أن يذهب ، ولم يستطع أن يفهم لماذا أرادت كاتي الذهاب .
وكان تعليلها الغريب لذلك يكمن في قولها: أنا ذاهبة لأنني أحب الحياة.
وقال: إذا كانت هذه هي الحياة، فلن آخذها، ولو كان ثمنها كوبونات.
ولكنه ذهب على أي حال، وتصور أن الرحلة بالسفينة قد تثقف عقله، وأراد أن يكون مستعدا لتعليم أطفاله، وكان اليوم قائظ الحرارة مرهقا، واكتظ ظهر السفينة بالأطفال الذين أخذتهم نشوة الفرح، فراحوا يتسابقون صعودا وهبوطا محاولين أن يغطسوا في نهر الهدسون، وأخذت فرانسي تحملق وتحملق في المياه المتحركة، حتى أصابها أول صداع في حياتها، وأخبر جوني طفليه كيف أبحر هندريك هدسون مصعدا في ذلك النهر نفسه منذ زمن بعيد، وتحيرت فرانسي: ترى هل أصاب السيد هدسون الدوار والغثيان كما حدث لها، وجلست الأم على ظهر السفينة، وقد بدت رائعة الجمال في قبعتها المصنوعة من القش ذات اللون الأخضر في لون العشب، وردائها السويسري ذي النقط الصفراء الذي استعارته من الخالة إيفي، والناس من حولها يضحكون، فقد كانت الأم شائقة الحديث، يحب الناس الاستماع إليها.
ودخلت السفينة بعد الظهر مباشرة في أخدود تغشاه الغابات بالولاية الشمالية، وأنزل الديمقراطيون إلى البر وساروا في طريقهم، وجرى الأطفال حول الوادي يصرفون تذاكرهم، وكان كل طفل في الأسبوع الماضي، قد أعطي شريطا يشتمل على عشر تذاكر معنونة كالآتي: المقانق (السجق) - ماء الصودا - الأرجوحة الدوارة، وما إلى ذلك.
وتسلم كل من فرانسي ونيلي شريطا، ولكن نفرا من الصبية الدهاة كانوا قد أغروا فرانسي، بأن تقامر بتذاكرها في لعبة البلي، وأخبروها كيف أنها ربما تفوز بخمسين شريطا، فتستمتع بيوم عظيم في الرحلة، وكانت فرانسي لا تجيد لعبة البلي، وسرعان ما فقدت تذاكرها، ولكن نيلي كان محظوظا فحصل على ثلاثة أشرطة، وطلبت فرانسي من أمها أن تأخذ واحدة من تذاكر نيلي، وانتهزت أمها الفرصة وأعطتها درسا في لعب الورق. - كان لديك تذاكرك، ولكني ظننت أنك تستطيعين أن تكوني ذكية وتحصلي على شيء لست أهلا له، إن الناس حين يقامرون يفكرون في الفوز فحسب، ولا يفكرون في الخسارة أبدا، تذكري هذا القول: لا بد من أن تصيب الخسارة أحدا، وربما يكون هذا الأحد أنت أو الزميل الآخر، سواء بسواء، لو أنك تعلمت هذا الدرس بخسارة شريط من التذاكر، فإنك تكونين قد دفعت ثمنا قليلا نظير التعليم والعبرة.
وكانت الأم على صواب، وعلمت فرانسي أنها على صواب، ولكن ذلك لم يسعدها على الإطلاق، فقد أرادت أن تركب الأرجوحة الدوارة، كما يفعل الأطفال الصغار الآخرون، وأرادت شرابا من الصودا، ووقفت فرانسي حزينة بجوار السجق تراقب الأطفال الآخرين، وهم يأكلون ويشربون، في حين وقف رجل ليكلمها، وثوبه مثل زي رجال الشرطة، ولكنه موشى بالذهب، أكثر مما عهدته في زي رجال الشرطة الآخرين، وسألها قائلا: أليس معك تذاكر أيتها البنت الصغيرة؟
وكذبت فرانسي قائلة: إنني نسيتها.
وجذب من جيبه ثلاثة أشرطة، وقال: صدقت: أنا نفسي لم أكن ماهرا في لعبة البلي حين كنت صبيا، وكنا نعمل على تعويض بعض خسائرنا كل سنة، ولكن البنات نادرا ما كن يخسرن؛ لأنهن يتعلقن بما يملكن حتى ولو كان قليلا.
وأخذت فرانسي التذاكر منه وشكرته، وراحت تتراجع مبتعدة عنه حين سألها: هل هذه هي أمك التي تجلس هناك، وتلبس القبعة الخضراء؟
وقالت: نعم.
ثم تريثت قليلا، ولم يقل شيئا، وأخيرا سألته قائلة: لماذا؟ - هل ترتلين صلواتك كل ليلة «للزهرة الصغيرة»، وتطلبين منها أن تشبي وتصبحي في نصف جمال أمك؟ افعلي ذلك لتوك. - هذا هو أبي الذي يجلس بجوار أمي.
وانتظرت فرانسي آملة أن تسمعه يقول إن أباها كان وسيما أيضا، ولكنه حملق في جوني ولم يقل شيئا، وانطلقت فرانسي تجري.
وقد نبهت كاتي على فرانسي أن تعود إليها كل نصف ساعة أثناء اليوم، وكان جوني قد ذهب إلى برميل الجعة الصغير الذي يشربون منه بلا مقابل، حين عادت فرانسي في المرة التالية، وعمدت أمها إلى إثارتها قائلة: أنت تشبهين خالتك سيسي، تتكلمين دائما مع الرجال الذين يرتدون الزي الرسمي. - لقد أعطاني تذاكر إضافية.
وكانت كلمات كاتي التالية تبدو كلمات عارضة غير مقصودة. - إنني رأيته، ماذا كان يسألك؟ - كان يسال عنك يا أمي.
ولم تخبرها فرانسي بما قاله بشأن جمالها. - نعم، حسبت أنه كان يسأل عن ذلك.
وحملقت كاتي في يديها، كانتا خشنتين حمراوين مشققتين، من أثر سوائل التنظيف، فأخرجت من كيسها قفازا قطنيا سبق لها أن رممته، وارتدته بالرغم من أن اليوم كان حارا، وتنهدت قائلة: إنني أجهد نفسي في العمل كثيرا حتى أنسى أحيانا أنني امرأة.
وفزعت فرانسي، كان ذلك أقرب ما يكون إلى شكوى لم تسمعها ابنة من أمها، وتعجبت لماذا خجلت أمها من منظر يديها فجأة، وسمعت أمها تقول للمرأة المجاورة لها، بينما هي تقفز مبتعدة: من ذلك الرجل الذي يقف هناك، ويلبس ذلك الزي الرسمي، وينظر إلى هذه الناحية؟ - لعله الشاويش مايكل ماكشين، من المضحك ألا تعرفيه، مع أنه من الحي الذي تعيشين فيه.
واستمر يوم المرح على هذا النحو، وكان هناك برميل صغير من الجعة عند نهاية كل منضدة طويلة، سمح لكل الديمقراطيين الصالحين أن يشربوا منه بلا مقابل، واستولى المرح على فرانسي فراحت تجري وتلعب وتصرخ وتتعارك، شأنها شأن الأطفال الآخرين، وكانت الجعة تفيض كبالوعات بروكلين بعد عاصفة مطيرة، وعزفت فرقة نحاسية في غلظة أغنية «راقصو كيري» و«حينما تبتسم العيون الأيرلندية» و«إنه أنا يا هاريجان»، وعزفت مقطوعة «نهر شانون» والأغنية الشائعة بين عامة نيويورك «الطرق الجانبية في نيويورك».
وكان قائد الفرقة يعلن عن كل أغنية مختارة قائلا: إن فرقة ماتي ماهوني ستعزف الآن ...
وكانت كل أغنية تنتهي بصيحة يطلقها أفراد الفرقة معا «النصر لماتي ماهوني»، وكان المستمعون مع كل كوب يشربون من الجعة يقولون: التحيات لماتي ماهوني.
وكانت كل حادثة تقع ترسم بما يأتي: «سباق الجري لفرقة ماتي ماهوني» و«سباق الفول السوداني لفرقة ماتي ماهوني» وما إلى ذلك من أسماء، واقتنعت فرانسي قبل أن يدبر اليوم بأن ماتي ماهوني كان في الحق رجلا عظيما جدا.
وخطرت لفرانسي في وقت متأخر من العصر فكرة مؤداها، أنها يجب أن تبحث عن السيد ماهوني وتشكره بنفسها، على ما أتاح لهم من وقت ممتع، وظلت تبحث وتبحث، وتسأل وتسأل، ثم حدث شيء غريب؛ لم يكن هناك شخص واحد يعرف ماتي ماهوني، بل لم يكن أحد قد رآه، إنه لم يكن موجودا في الرحلة بلا شك، بيد أن وجوده كان يحس في كل مكان، ولكنه كان رجلا لا يرى بالعين، وقال لها أحد الرجال: من المحتمل ألا يكون هناك شخص يدعى ماتي ماهوني، وإنما كان ذلك هو الاسم الذي يطلقونه على أي رجل يرأس الحزب. وقال لها: إنني أعطي صوتي لهذا الحزب منذ أربعين سنة، وكان المرشح للمنصب دائما هو الرجل نفسه ماتي ماهوني أو رجل آخر غيره، ولكنه يحمل الاسم نفسه، إنني لا أعرف من هو يا بنيتي، وكل ما أعرفه أنني أعطي صوتي للحزب الديمقراطي.
وكانت رحلة العودة هبوطا في نهر الهدسون في تلك الليلة المقمرة رحلة مشهودة، لولا تلك المعارك الكثيرة التي نشبت بين الرجال، وشعر معظم الأطفال بالإعياء وضربة الشمس والقلق، واستغرق نيلي في النوم على حجر أمه، وجلست فرانسي على ظهر السفينة تنصت إلى أمها وأبيها وهما يتحدثان، وسألت كاتي: هل اتفق لك أن عرفت الشاويش ماكشين؟ - إني أعلم من هو؟ إنهم يسمونه الشرطي الأمين، وإن الجمعية تهتم به اهتماما كبيرا، وسوف لا أدهش لو أنه عين عضوا في الجمعية.
ومال إلى الأمام رجل يجلس بجانبهما ولمس ذراع جوني قائلا: إن ماك خليق بأن يتبوأ هذه المكانة. - وماذا تعرف عن حياته؟
وقال جوني: إن حياته تشبه قصة من قصص الكاتب ألجير،
2
لقد جاء من إيرلندا منذ خمس وعشرين سنة، لا يمتلك شيئا سوى صندوق سفر صغير يستطيع أن يحمله على ظهره، واشتغل سجانا، وأخذ يدرس بالليل، ثم التحق بالجيش، وواصل دراسته واجتاز الامتحانات حتى أصبح في النهاية شاويشا. - إني لأحسب أنه تزوج امرأة متعلمة ساعدته في الحياة؟ - لا، لم يفعل ذلك في الواقع، فإنه حين قدم إلى هنا أخذته أسرة أيرلندية، وتولت أمره حتى استطاع أن يقف على قدميه، وتزوجت ابنة الأسرة صعلوكا هرب بعد شهر العسل، واشترك في عراك أدى إلى قتله، وكانت الابنة حاملا، ولم يكن من الممكن إقناع الجيران بأنها قد تزوجت قط، وكانت الأسرة خليقة بأن تحل بها الفضيحة والعار، ولكن ماكشين تزوج الابنة ومنح اسمه للطفل ردا للجميل الذي أسدته إليه الأسرة، ولم يكن زواج حب بمعنى الكلمة، ولكنه كان طيبا جدا معها كما سمعت. - وهل أنجب منها أطفالا؟ - سمعت أنه أنجب أربعة عشر طفلا. - أربعة عشر! - ولكنه ربى أربعة فحسب، يخيل إلي أنهم ماتوا قبل أن يشتد عودهم، وقد ولدوا جميعا مرضى بالسل بعد أن ورثوه عن أمهم، التي أعدتها به إحدى البنات.
وقال جوني وهو يفكر: لقد نال من المتاعب أكثر من نصيبه، وإنه لرجل طيب. - أظن أنها لا تزال على قيد الحياة. - ولكنها مريضة جدا، وهم يقولون إنها لن تعيش طويلا. - إن هؤلاء المرضى يتشبثون بالحياة طويلا.
وفزع جوني من الملاحظة التي أبدتها زوجته، وصاح قائلا: كاتي! - أنا لا أبالي! أنا لا ألومها لأنها تزوجت صعلوكا وأنجبت منه طفلا، إن ذلك حقها، ولكني ألومها لأنها لم تتعاط الدواء اللازم في الوقت المناسب، لماذا تلقي بمتاعبها على كتفي رجل طيب؟ - ما هكذا يكون الحديث! - إنني آمل أن تموت، وأن تموت سريعا! - اصمتي يا كاتي! - نعم إنني آمل ذلك حتى يستطيع أن يتزوج مرة أخرى، امرأة مرحة سليمة تنجب له أطفالا يعيشون، إن ذلك هو حق كل رجل طيب.
ولم يقل جوني شيئا، وشعرت فرانسي بخوف مبهم ينمو في قلبها حين كانت تنصت إلى حديث أمها، ونهضت وذهبت إلى أبيها وأخذت يده في يديها وضغطت عليها بقوة، وبدت عينا جوني في ضوء القمر شاخصتين في دهشة، وجذب الطفلة إليه وأمسكها في قوة، وكان كل ما بدر منه هو: انظري كيف يسير القمر على الماء!
وبدأت الجمعية بعد الرحلة مباشرة تستعد ليوم الانتخاب، ووزع أفرادها على أطفال الحي أزرارا لامعة بيضاء رسم عليها وجه ماتي، وحصلت فرانسي على بعض منها وأخذت تحملق طويلا في ذلك الوجه، وأصبح ماتي في نظرها شخصا غامضا كل الغموض، حتى لقد حل في مخيلتها محل شيء من قبيل الروح القدس الذي لم يره أحد قط، وإن كان الناس يحسون بوجوده، وكانت الصورة تمثل وجه رجل أشقر له شعر فضي وشارب يشبه مقود الدراجة، كأنه وجه أي رجل سياسي من محترفي السياسة، وودت فرانسي لو استطاعت أن تراه بلحمه ودمه مرة واحدة فحسب.
وأثارت تلك الأزرار الأطفال كثيرا، واستخدموها في أغراض تجارية وفي الألعاب وكعملة محلية، وباع نيلي قلنسوة لصبي نظير عشرة أزرار، واستبدل جيمبي بائع الحلوى بخمسة عشر زرارا من فرانسي قطعة من الحلوى تساوي بنسا (وكان قد اتفق مع الجمعية على أن يأخذ نقودا نظير الأزرار)، وتجولت فرانسي تبحث عن ماتي، ووجدته في كل ماكن، وجدت الصبية يلعبون لعبة الرمية بوجهه، ووجدته قد انبسط على عربات النقل ممثلا حلية مصغرة، وكان ماثلا أيضا بين الفضلات التي في جيب نيلي، واختلست النظر إلى مصرف الماء فوجدته طافيا على السطح شاخص الوجه، ووجدته في الأرض الجرداء في أسفل النافذة الحديدية، ورأت فرانسي بنكي بيركنز بجوارها في الكنيسة يسقط زرارين في «الصحن» بدلا من البنسين اللذين أخذهما من أمه، ورأته يدخل بعد انتهاء القداس محل الحلوى، ويشتري أربع سجائر من حلوى كابورال نظير سنتين، وكانت فرانسي ترى وجه ماتي في كل مكان، لكنها لم تر ماتي أبدا.
وتجولت فرانسي في الأسبوع السابق للانتخاب مع نيلي، والصبية يجمعون «الوقود» الخشب اللازم للألعاب النارية الكبرى، التي سوف تشعل في ليلة الانتخاب، وساعدت على تخزين الوقود في الكرار.
واستيقظت مبكرة يوم الانتخاب، ورأت الرجل الذي أقبل، وطرق الباب، ثم قال حين رد عليه جوني: نولان؟
وأجاب جوني: نعم هو بعينه. - اذهب إلى صناديق الانتخاب في الساعة الحادية عشرة.
وبعد أن راجع اسم جوني في قائمته ناول جوني سيجارا، وقال: مع تحيات ماتي ماهوني.
ثم غادرهم وذهب إلى الديمقراطي الذي يليه، وسألت فرانسي أباها: أما كنت ستذهب دون أن يخبروك بذلك؟ - أجل، ولكنهم يفسحون لكل منا الوقت حتى ترجح كفتهم في التصويت ، وإنك لتعلمين أن كل شخص لا يأتي في جماعة، ولذا فالتنبه الفردي أضمن.
وسألت فرانسي في تصميم: لماذا؟
وتهرب جوني قائلا: هذا هكذا ...
وتكلمت الأم قائلة: سأخبرك بالسبب، إنهم يريدون أن يكونوا على بينة ممن ينتخب، وكيف ينتخب، وإنهم ليعرفون الوقت الذي يمثل فيه الرجل أمام صناديق الانتخاب، وكان الله في عونه إذا لم يتبين لهم أنه قد انتخب ماتي!
وقال جوني وهو يشعل سيجار ماتي: إن النساء لا يعرفن شيئا في السياسة.
وساعدت فرانسي نيلي في جر الخشب خارج البيت ليلة الانتخاب، وأسهما به في أكبر ألعاب نارية في الحي، ووقفت فرانسي في الصف مع الأطفال الآخرين، ورقصوا حول النار مثلما يرقص الهنود وغنوا أغنية تاماني، فلما خبت النار وأصبحت جمرا، سطا الصبية على عربات اليد التي يمكلها التجار اليهود، وسرقوا البطاطس وشووها على النار الخابية، ولم يتوافر من البطاطس قدر يكفي جميع الأطفال، ولم تنل فرانسي شيئا منها.
ووقفت فرانسي في الشارع ترقب أشباح العائدين تتمثل على ملاءة سرير، بسطت من نافذة إلى نافذة أخرى في بيت عند المنعطف، وكان هناك فانوس سحري في وسط الشارع يعكس الأشباح على الملاءة.
وأخذت فرانسي تصيح مع الأطفال الآخرين مع كل فوج من العائدين: ها هي ذي جماعة أخرى قد عادت.
وبدأت صورة ماتي تظهر في أعلى الشاشة من حين إلى حين والجمهور يحييها بصوت خشن، وانتخب في هذا العام رئيس للجمهورية من الحزب الديمقراطي، وأعيد انتخاب الحاكم الديمقراطي للولاية، ولكن كل ما علمته فرانسي هو أن ماتي ماهوني انتصر مرة أخرى.
ونسي الساسة بعد الانتخاب وعودهم، ونعموا براحة ظفروا بها حتى حلول السنة الجديدة، التي يستأنفون بحلولها العمل من أجل الانتخاب التالي، واليوم الثاني من شهر يناير هو يوم اجتماع النساء في مقر الحزب الديمقراطي، وكانت النساء في ذلك اليوم دون سواه يستقبلن في هذا الحي الذي لا مكان فيه للنساء، ويقدم لهن شراب الكرز والكعك الصغير. وظلت النساء يتوافدن على المكان طوال اليوم، ورجال حاشية ماتي يستقبلوهن في ظرف ، لكن ماتي نفسه لم يكن يظهر أبدا، وكانت النساء حين يغادرن المكان يتركن بطاقاتهن الصغيرة المزينة، وقد كتبت عليها أسماؤهن، في وعاء من الزجاج وضع على منضدة البهو.
ولم تكن سخرية كاتي من الساسة تحول دون ذهابها إلى ذلك الاجتماع كل سنة، فكانت ترتدي رداءها الرمادي النظيف المكوي المزين بالأشرطة، ومالت على عينيها اليمنى قبعتها المصنوعة من المخمل الأخضر، بل إنها كانت تعطي الكاتب الذي أقام محلا مؤقتا خارج مقر الحزب، عشرة سنتات ليصنع لها بطاقة، وكتب الرجل عليها حرم السيد جوني نولان، ونقش الحرف الأول من كل كلمة بحروف التاج، وكان ذلك المبلغ خليقا بأن يدخر في الحصالة، ولكن كاتي رأت أنه ليس عليها من حرج، في أن تكون مسرفة مرة واحدة في السنة.
وكان أفراد الأسرة ينتظرون عودتها إلى البيت، ليستمعوا إلى كل شيء عن الزيارة، وسأل جوني: كيف كانت الزيارة هذا العام؟
وقالت كاتي بطريقتها المباشرة الصادقة: كانت كشأنها دائما، نفس الحشد المعهود، وجمهرة من النساء يرتدين ملابس جديدة أراهن أنهن اشترينها خصيصا لهذه المناسبة، ولبست الساقطات بلا شك أحسن الملابس، وكان عددهن كالمعتاد ضعف عدد النساء المهذبات.
25
كان جوني ممن يميلون كل الميل مع الهوى والظن، لقد تخيل أن الحياة بالغت في النيل منه، وحكمت عليه بالبوار، فبدأ يدمن الشراب لينسى، وأصبحت فرانسي تفهمه حين يسرف في الشراب أكثر مما اعتاد؛ إذ يسير إلى البيت في خطى أكثر استقامة، ويسير في حذر، ويميل في مشيته بعض الشيء، وجوني يبدو رجلا هادئا حين يكون ثملا، أجل كان لا يصخب، ولا يغني، ولا تجيش مشاعره، وإنما يجنح إلى التفكير، والناس الذين لا يعرفونه يظنون أنه ثمل حين يكون صاحيا؛ لأنه في تلك الحالة يفيض نشوة وطربا بالغناء، والغرباء يرونه - حين يكون ثملا - رجلا هادئا مفكرا، يهتم بشئونه الخاصة، ولا يحفل بأمر أحد.
وكانت فرانسي تخشى الأوقات التي يكون فيها ثملا، لا من أجل المبادئ والأخلاق، ولكن لأن أباها لا يبدو حينئذ الرجل الذي تعرفه، فهو لا يتكلم معها أو مع أي شخص آخر، وينظر إليها نظرات الرجل الغريب، ويشيح برأسه بعيدا عن أمها حين تكلمه.
وحين يفيق من سكره تسيطر عليه فكرة أن يكون أبا لأطفاله أفضل مما كان، فيحس أنه يجب أن يعلمهم أشياء معينة ويمتنع عن الشراب فترة، وتتملكه فكرة الجد في العمل وتخصيص وقت فراغه جميعا لفرانسي ونيلي، وكانت فكرته عن التعليم هي فكرة أم كاتي ماري روملي، فأراد أن يعلم طفليه كل ما يعلمه حتى يعرفا، وهما في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، ما كان يعرفه هو في الثلاثين. وتصور أنهما يستطيعان أن يمضيا في طريق المعرفة من بعد بالتقاط ما يحصلانه منها بنفسيهما، وقدر أنهما حين يبلغان سن الثلاثين سوف يكونان على حظ من الفطنة ضعف ما بلغه هو في تلك السن، وشعر أنهما في حاجة إلى دروس في علم الجغرافيا والتربية الوطنية وعلم الاجتماع التي غابت عن ذهنه، فأخذهما إلى شارع بوشويك.
وشارع بوشويك أرقى شارع في بروكلين القديمة وأرفعها شأنا، إنه شارع واسع، تظلله الأشجار وتصطف على جانبيه منازل جميلة، بنيت على نحو يثير الإعجاب بكتل الجرانيت الكبيرة، ومنحدرات طويلة من الحجر، ويسكن فيه الساسة الكبار والأسر التي تكتنز الأموال، والمهاجرون الأثرياء الذين ارتقوا إلى الطبقة العليا بدلا من أن يظلوا يعملون في إدارة السفن، وكانوا قد حملوا أموالهم وتماثيلهم ولوحاتهم الزيتية الكئيبة، وجاءوا إلى أمريكا وأقاموا في بروكلين.
وكانت السيارات قد ظهرت واستعملها الناس، ولكن معظم هذه الأسر لا تزال تتعلق بجيادها الرشيقة وعرباتها الفخمة، وكان الأب يشير إلى كل ذلك العتاد المتنوع ويصفه لفرانسي، وأخذت فرانسي تراقبها في خشية ورهبة وهي تمضي في سيرها.
وبعض هذه العربات صغيرة أنيقة مطلية بالدهان اللامع، مبطنة بقماش «الساتان» الأبيض، ولها مظلات ذات حواف كبيرة تستعملها النساء الأنيقات الرقيقات، وبعض العربات البديعة على هيئة سلال مضفورة، على كل جانب منها أريكة جلس عليها الأطفال السعداء المحظوظون، يجرهم مهر من النوع الشتلندي، وحملقت فرانسي في المربيات اللائي بدأ على وجوههن القدرة والحزم، وهن يرافقن هؤلاء الأطفال وكأنهن ينتمين إلى عالم آخر، يلبسن الحرامل والقبعات المنشاة ويجلسن على مقعد جانبي ويقدن المهر الصغير.
ورأت فرانسي عربتين سوداوين من ذوات المقعدين، يجرهما جواد مفرد سريع الخطو يقوده شاب «غندور»، يرتدي قفازا من الجلد قلبت أطرافه إلى الخلف ليبدو كقفاز مقلاب.
ورأت عربات الأسر الرصينة تجرها أزواج من الجياد، يبدو أنها يعتمد بعضها على البعض، ولم تستهو هذه العربات فرانسي كثيرا؛ لأن كل متعهد لنقل الموتى في ويليمسبرج لديه مجموعة منها.
وأحبت فرانسي العربات الأنيقة أكثر ما أحبت، فقد كانت تبدو رائعة بعجلتيها الوحيدتين فحسب، وذلك الباب المضحك الذي يغلق من تلقاء نفسه حين يتكئ الراكب بظهره على المقعد! (وظنت فرانسي لسذاجتها أن الأبواب صنعت لتحمي الركاب من روث الجياد المتناثر في الجو)، وقالت فرانسي بينها وبين نفسها لو أنها كانت رجلا لاشتغلت بقيادة عربة من تلك العربات، ألا ما أروع أن تجلس في ذلك المقعد المرتفع، وتحت يدها غمد وضع فيه سوط متحفز! وما أروع أن تلبس مثل هذا المعطف العظيم ذا الأزرار الكثيرة، والبنيقة المخملية، والقبعة العالية المنضغطة المزينة بشريط حولها! وما أروع أن تطوي فوق ركبتيها مثل هذا الغطاء الفاخر المنظر! وراحت فرانسي تقلد صيحة السائق بصوت خافت: عربة يا سيدي؟ عربة؟
وقال جوني وقد شرد في حلمه بالديمقراطية: إن أي شخص يستطيع أن يركب عربة من هذه العربات الأنيقة إذا توافر لديه المال، وهكذا ترين أي بلد حر نعيش فيه هنا!
وسألت فرانسي: أي حرية فيه ما دام الأمر يقتضيك الدفع؟ - إنه حر على هذا النحو، إذا كان لديك النقود فإنه يسمح لك بالركوب فيها بصرف النظر عمن تكونين، أما في أوطاننا القديمة فقد كان لا يسمح لبعض الناس أن يركبوها، وإن توافر لهم المال.
وقالت فرانسي في إصرار: ألم يكن هذا البلد خليقا بأن يكون أكثر حرية لو استطعنا أن نركب العربات بلا مقابل؟ - لا! - لماذا؟
واختتم جوني في انتصار: لأن ذلك معناه شيوعية، ونحن لا نريدها هنا. - لماذا؟
وجسم جوني الرأي قائلا: لأننا نسير على الديمقراطية، وهي خير نظام يمكن أن يكون.
وكانت هناك شائعات تقول إن محافظ مدينة نيويورك المقبل سوف يأتي من شارع بوشويك في بروكلين، وأثارت الفكرة جوني وقال لفرانسي: انظري إلى أعلى وإلى أسفل هذا البناء يا فرانسي، وأشيري لي أين يسكن محافظ المستقبل.
ونظرت فرانسي ثم أطرقت برأسها، وقالت: أنا لا أعرف يا أبي!
وأعلن جوني كأنه ينفخ في النفير: إنه هناك! إن ذلك المنزل القائم هناك سوف يكون له في يوم ما عمودان عليهما مصباحان في أسفل الظلة.
وقال بلهجة خطابية: وأنى كان تجوالك في هذه المدينة الكبيرة، فعندما تلقين منزلا له مصباحان على عمودين، فاعلمي أن محافظ أكبر مدينة في العالم يسكن هناك.
وسألت فرانسي: وما حاجته إلى مثل هذين المصباحين؟
واختتم جوني كلامه في غموض وتحمس شديد لوطنه: لأن هذه هي أمريكا، وأنت تعلمين أن الحكم في بلد تقوم فيه مثل هذه الأشياء، هو حكم الشعب بالشعب للشعب، ولن يغيب مثل هذا الحكم عن وجه الأرض هنا كما يحدث في البلاد القديمة.
وبدأ يغني بصوت خافت، وسرعان ما جاشت مشاعره وبدأ يرفع صوته بالغناء، وانضمت إليه فرانسي، وغنى جوني قائلا:
أيها الخفاق في مسرى الهواء،
إنك لعلم عظيم عريق،
تحلق عاليا في السماء،
ولسوف تخفق في سلام أبد الآبدين.
3
وحملق الناس في جوني بدافع الفضول، وألقت إليه سيدة كريمة ببنس.
وكان لشارع بوشويك ذكرى أخرى عند فرانسي ترتبط برائحة الورد، فقد كان الورد ماثلا في كل مكان من شارع بوشويك، والشوارع قد أخليت من المرور، ورجال الشرطة يدفعون الجماهير إلى الأرصفة، وعبير الورد ينتشر دائما، ثم أقبل الخيالة، وهم رجال الشرطة الذين يمتطون الجياد، وسيارة كبيرة مكشوفة جلس فيها رجل وسيم بشوش، يحيط برقبته إكليل من الزهور، وكان بعض الناس يبكون فرحا وهم ينظرون إليه، وتعلقت فرانسي بيد أبيها وسمعت الناس من حولها يتكلمون: تصور! كان صبيا من بروكلين أيضا. - كان؟ إنه لا يزال يعيش أيها الأحمق في بروكلين. - صحيح؟ - صحيح، وهو يسكن هنا في شارع بوشويك.
وصاحت امرأة: انظروا إليه ! انظروا إليه! لقد قام بهذا العمل العظيم ولا يزال رجلا عاديا مثل زوجي، وكل ما في الأمر أنه يفوقه وسامة.
وقال رجل: لا بد أنه كان يرتعد بردا وهو في هذا المكان الشاهق!
وقال صبي سفيه: إني لأعجب كيف أنه لم يتجمد من البرد!
وربت رجل ممتقع الوجه كالموتى على كتف جوني، وسأله: هل تعتقد حقا يا ماك أن هناك قطبا في الشمال يبرز من قمة العالم؟
وأجاب جوني: بكل تأكيد، ألم يصعد هو إلى هناك، واستدار وعلق العلم الأمريكي فوقه؟
ثم صاح صبي صغير في تلك اللحظة: ها هو ذا مقبل! - مرحى! مرحى! مرحى!
واهتاجت مشاعر فرانسي لأصوات الإعجاب التي هزت الجمهور، حين مرت بهم السيارة حيث كانوا واقفين، وصرخت في صوت عال وقد طغت عليها النشوة والحماسة: النصر للدكتور كوك! النصر لبروكلين!
26
إن معظم الأطفال الذين نشئوا في بروكلين قبل الحرب العالمية الأولى يذكرون عيد الشكر بحنان عجيب، فهو اليوم الذي يتجول فيه الأطفال «لابسو الملابس الرثة» أو «قارعو الأبواب»، مرتدين حللا على قمتها قناع يساوي بنسا، واختارت فرانسي قناعها بعناية كبيرة، واشترت قناع رجل صيني له حبل هش وشارب كشارب الموظف العام في الإمبراطورية الصينية قديما، واشترى نيلي رأسا أبيض كالطباشير يشبه رءوس الموتى، وقد كشر عن أسنان سوداء، وأقبل الأب في آخر لحظة ومعه بوقان من القصدير يساوي كل منهما بنسا، وأعطى لفرانسي البوق الأحمر، وأخذ نيلي البوق الأخضر.
وما أشد ما لاقت فرانسي من عناء وهي تدخل نيلي في حلته! فقد لبس رداء مهملا من ملابس أمه، بعد أن قص إلى الركبة من الأمام؛ لكي يتسنى له السير في يسر، وانساب ظهر الرداء غير المقصوص القذر يجرجر من ورائه، وحشا نيلي الرداء من الأمام بأوراق الصحف ليبرز صدره، وارتدى فوق الحلة سترة مهلهلة حتى لا يتجمد من البرد، ولبس مع هذه الحلة قناع الموت ووضع فوق رأسه قبعة من قبعات الدربي التي أهملها أبوه، ولكنها كانت كبيرة جدا فلم تمسك برأسه، وإنما غاص فيها واستقرت على أذنيه.
وارتدت فرانسي صدرية من صدريات أمها الصفراء وقميصا أزرق زاهيا ومنطقة حمراء، ولبست قناع الرجل الصيني وثبتته على رأسها بذيل أحمر طوته تحت ذقنها، وألبستها أمها قبعتها الصوفية الخاصة، على غطاء رأسها؛ لأنه كان يوما باردا، ووضعت فرانسي جوزتين للإغراء في سلة عيد الفصح السابق، وانطلق الطفلان إلى الخارج.
وبدت الشوارع مزدحمة بالأطفال ذوي الأقنعة والحلل، يطلقون صفيرا يصم الآذان بأبواقهم المصنوعة من القصدير التي اشتروها ببنس، وكان بعض الأطفال أشد فقرا من أن يشتروا قناعا يساوي بنسا، فسودوا وجوههم بالفلين المحروق، وكان الأطفال الآخرون الميسورو الآباء قد ارتدوا حللا، اشتروها من المحال مثل الحلل الهندية الهشة، وحلل رعاة البقر، وأثواب من القماش الرقيق صنعت في هولندا مما تلبسه العذارى، واكتفى بعض الأطفال المستخفين بأن لفوا أنفسهم بملاءة قذرة وسموها حلة.
واندفعت فرانسي في حشد حاشد من الأطفال، وراحت تتجول معهم، وأغلق بعض أصحاب المحال أبوابهم في وجوه الأطفال، ولكن معظمهم كانوا يبيعونهم بعض الأشياء، وكان بائع الحلوى قد جمع كل قطع الحلوى المكسرة منذ أسابيع، وراح يعبئها في أكياس صغيرة ليتصدق بها على كل من جاء يستجدي، واضطر إلى أن يفعل ذلك لأنه يعيش على البنسات التي يدفعها الأطفال الصغار ولم يرغب في أن يقاطعوه، وأغرت المخابز الأطفال بأن خبزت لهم صنفا من الكعك اللين ووزعته عليهم، وكان الأطفال هم الذين يستبضعون في الحي، وكانوا خليقين بأن يتعاونوا مع المحال التي تعاملهم معاملة طيبة فحسب، وقد فطن الخبازون لذلك، واستمال الفاكهي الأطفال بالموز التالف والتفاح الذي عطب نصفه، ولم تلجأ بعض المحال التي لا تكسب شيئا من الأطفال إلى طردهم منها أو إلى إعطائهم شيئا، اللهم إلا درسا في بيان مساوئ الاستجداء، وأخذ الأطفال يجازون هؤلاء الناس بطرق شديد متكرر على أبوابهم الأمامية، ومن هنا جاء التعبير «قارعو الأبواب».
وما إن حلت الظهيرة حتى انتهى كل شيء، وكانت فرانسي قد تعبت من حلتها غير المريحة، وتجعد قناعها (وهو مصنوع من الشاش الرخيص بعد أن نشي بالنشا الثقيل ، ثم جفف على نموذج ليأخذ شكله)، وكان أحد الصبية قد أخذ بوقها المصنوع من القصدير، وكسره نصفين على ركبتيه، وقابلت نيلي قادما بأنف يسيل دما، بعد أن دخل معركة مع صبي آخر أراد أن يأخذ سلته، ولم يقل نيلي من الذي فاز ولكنه كان يحمل سلة الصبي بجوار سلته، وعادا إلى البيت ليتناولا غداء عيد شكر طيب، يشتمل على وعاء شواء وفطائر صنعت في البيت، وأمضيا العصر يستمعان إلى أبيهما، وهو يسترجع ذكريات تجواله في يوم عيد الشكر حين كان صبيا.
وكذبت فرانسي في يوم من أيام عيد الشكر أول كذبة محكمة لها، واكتشفت كذبتها، وصممت على أن تكون كاتبة.
كانت التمرينات تبدأ في فصل فرانسي في اليوم السابق لعيد الشكر، وترتل كل فتاة من أربع فتيات أنشودة من أناشيد عيد الشكر، وتمسك في يدها رمزا لهذا اليوم، وأمسكت واحدة من البنات بسنبلة من القمح الجاف، وأمسكت أخرى برجل ديك رومي، قصد بها أن تمثل الديك كله، وأمسكت بنت ثالثة بسلة من التفاح، وأمسكت الرابعة فطيرة من قرع العسل، ثمنها خمسة سنتات في حجم الطبق الصغير.
وألقيت رجل الديك الرومي والسنبلة بعد التمرينات في سلة المهملات، ووضعت المدرسة التفاح جانبا لتحمله إلى البيت، وسألت ما إذا كانت إحدى البنات تريد فطيرة القرع، وسال لعاب ثلاثين طفلة، وشعرت ثلاثون يد برغبة في أن ترتفع في الهواء ولكن يدا واحدة لم تتحرك، وبعضهن كن فقيرات، وكثيرات منهن جائعات، ولكنهن جميعا يأبين في كبرياء وشمم أن يقبلن طعام إحسان، وأمرت المدرسة حين لم ترفع واحدة يدها بإلقاء الفطيرة بعيدا.
ولم تستطع فرانسي أن تحتمل ذلك، تلك الفطيرة الجميلة تلقى وهي لم تذق في حياتها فطيرة القرع! وكان ذلك الطعام في نظرها هو طعام الناس الذين يركبون العربات المغطاة، طعام المحاربين الهنود، وكانت الرغبة في تذوقها تستبد بها، فاخترعت في لحظة كذبة وارتفعت يدها إلى أعلى.
وقالت المدرسة: إنني مسرورة لأن فتاة أرادتها.
وكذبت فرانسي في فخر: لا أريدها لنفسي، ولكني أعرف أسرة فقيرة جدا أحب أن أعطيها لها.
وقالت المدرسة: حسنا! هذه هي روح عيد الشكر الحقة!
وأكلت فرانسي الفطيرة وهي عائدة إلى بيتها ذلك العصر، ولم تستطب طعمها، ولم تدر أكان ذلك منبعثا من تأنيب ضميرها أم من نكهة الفطيرة الغريبة، وقد وجدت طعمها كطعم الصابون، ورأتها المدرسة يوم الإثنين التالي في البهو أمام الفصل، فسألتها كيف استمتعت الأسرة الفقيرة بالفطيرة.
وقالت فرانسي لها: لقد استمتعوا بها كل المتعة!
ثم أفاضت في القصة حين رأت الاهتمام يبدو على المدرسة: إن لهذه الأسرة بنتين صغيرتين لهما شعر مجعد ذهبي وعيون زرقاء واسعة.
واستزادتها المدرسة: وبعد؟ - وبعد ... وبعد ... لقد كانتا توأمين. - يا لها من قصة مثيرة للاهتمام!
واستثار ذلك خيال فرانسي، فقالت: كانت إحداهما اسمها باميلا، والأخرى اسمها كاميلا (وهذان الاسمان من الأسماء التي اختارتها فرانسي مرة لدماها الموهومة).
وقالت المدرسة في إيحاء: وكانتا فقيرتين جدا جدا. - أوه! فقيرتين جدا! لقد بقيتا ثلاثة أيام دون طعام، وكانتا خليقتين بأن تموتا كما قال الطبيب لو لم أحضر لهما تلك الفطيرة.
وعلقت المدرسة في رقة: كانت الفطيرة أصغر من أن تنقذ نفسين من براثن الموت!
وعرفت فرانسي حينئذ أنها بالغت أكثر مما ينبغي، وكرهت ذلك الذي جاش في نفسها أيا كان شأنه، وجعلها تخترع مثل هذه الأكاذيب الصارخة، وانحنت المدرسة ووضعت ذراعيها حول فرانسي، ورأت فرانسي الدموع في عينيها، فانهارت فرانسي، واستيقظ الندم في قلبها وانساب انسياب الفيضان الطاغي، واعترفت قائلة: إن ذلك كله كذبة كبيرة، لقد أكلت الفطيرة أنا نفسي. - أنا أعرف أنك فعلت ذلك.
ورجتها فرانسي، وقد تذكرت عنوان البيت الذي لا تسكنه قائلة: أرجوك ألا ترسلي رسالة إلى البيت، سوف أبقى بعد انتهاء الدراسة كل يوم لمدة ... - إنني لن أعاقبك على ما أوتيت من خيال.
وشرحت المدرسة في رقة الفرق بين الكذبة والقصة، وقالت إن الكذبة شيء تروينه لأنك وضيعة أو جبانة، أما القصة فشيء تنسجينه من حدث كان من المحتمل وقوعه، ولكنك لا تروينها كما وقعت، وإنما تروينها كما ينبغي أن تكون في رأيك.
وانزاح عن صدر فرانسي هم ثقيل لحديث المدرسة، وأصبحت فرانسي بعد ذلك تميل إلى المغالاة في الأشياء، فلم تكن تحكي الحوادث في صدق، ولكنها كانت تضفي عليها ألوانا وظلالا، وتدخل فيها عناصر الإثارة والإطناب، وكانت كاتي تضيق بهذا الاتجاه، ودأبت على تحذير فرانسي وحضها على أن تقول الصدق الصراح، وأن تقلع عن إسباغ ثوب القصة على الأشياء، ولكن فرانسي لم تكن تستطيع أن تقول الواقع الصريح دون تنميق، بل كانت تحس أنها مدفوعة إلى أن تضفي عليه شيئا من لدنها.
وكاتي تمتلك هذه النزعة نفسها، في تلوين أية حادثة، وجوني نفسه يعيش في عالم تكتنفه الأحلام والأوهام، ومع ذلك حاولا أن يخمدا هذه النزعة في نفس طفلتهما، وربما كان هناك سبب وجيه يدعوهما إلى ذلك، أو لعلهما كانا يعلمان أن موهبة الخيال عندهما أضفت على فقر حياتهما وقسوتها لونا ورديا جميلا ساعدهما على تحملها، ولعل كاتي قد ظنت أنهما لو لم يرزقا تلك الموهبة لكان تفكيرهما خليقا بأن يكون أكثر وضوحا، ولرأيا الأشياء على حقيقتها، وكانا خليقين حين يريانها على هذا النحو بأن يشعرا بالكراهية لها، ويلتمسا سبيلا إلى تحسين أحوالهما.
وكانت فرانسي تتذكر دائما ما قالته لها تلك المدرسة الرحيمة: إنك تعلمين يا فرانسي أن كثيرا من الناس خليقون بأن يظنوا أن تلك القصص التي تؤلفينها طول الوقت أكاذيب خطيرة؛ لأنها لا تصور لهم الحقيقة كما يراها الناس، وفي المستقبل حين يعرض لك حدث من الأحداث فعليك أن تقولي كيف وقع بالضبط، ولكنك حين تكتبين لنفسك فاكتبي ما تعتقدين أنه كان يجب أن يكون، قولي الحق، واكتبي القصة، وحينئذ لا يختلط عليك الأمر.
وهذه أحسن نصيحة تلقتها فرانسي، فالحقيقة والخيال كانا يمتزجان في عقلها امتزاجا شديدا، شأن كل طفل وحيد، حتى إنها لم تكن تفرق بين هذه وتلك، ولكن المدرسة ميزت بينهما تمييزا واضحا، ومنذ ذلك اليوم وفرانسي تكتب قصصا قصيرة عما كانت تراه وتحسه وتمارسه، وأصبحت بمرور الوقت تستطيع أن تقول الحقيقة دون أن تضفي عليها إلا القليل من الخيال، الذي تلون به الحقائق تلوينا طبيعيا خفيفا.
وكانت فرانسي قد بلغت العاشرة من عمرها حين وجدت لأول مرة متنفسا في الكتابة، وكل ما كتبته في تلك الفترة تافه، ولكن محاولتها في كتابة القصص كانت ذات أهمية؛ إذ هدتها دائما إلى الصراط الذي يفصل بين الحقيقة والخيال.
وكان من المحتمل أن تشب فرانسي على الكذب الخطير، لو لم تجد ذلك المتنفس في الكتابة.
27
وكان عيد الميلاد فاتنا رائعا في بروكلين، تلوح بشائره في الجو قبل أن يحل بوقت طويل، وأولى البشائر تتمثل في تنقل السيد مورتون بين المدارس، يعلم أناشيد عيد الميلاد، ولكن أول بشرى حقيقية هي ما تبدو عليه نوافذ العرض في المحال.
ولا مناص لك من أن ترتد طفلا لتعلم مبلغ ما تتحلى به نوافذ العرض بالمحال من روعة، وهي حافلة بالدمى والزلاقات وغير ذلك من اللعب، وأحست فرانسي إقبالها على تلك الروعة، وكانت فرحتها، حين يسمح لها بأن تنظر إلى اللعب من خلال النافذة الزجاجية، تكاد تداني فرحتها لو أنها امتلكت هذه اللعب حقا.
وما أعظم نشوتها حين دارت حول منعطف الشارع، ورأت محلا آخر قد امتلأ بلعب عيد الميلاد، وما أجمل النافذة وهي تتلألأ مشرقة بندف القطن، وقد نثرت عليها النجوم كالبساط المزوق، وكان في النافذة دمى لها شعور كالكتان، ودمى أخرى فضلتها فرانسي وكانت شعورها في لون القهوة الممزوجة بالكريمة، ووجوهها ملونة تلوينا متقنا غاية الإتقان، وتلبس ملابس لم ترها فرانسي في حياتها قط، وهذه الدمى صنعت واقفة في صناديق واهية من الورق المقوى، وقد اعتمدت على قطعة من الشريط تمر حول عنقها وكاحليها، كما تمر خلال ثقوب في ظهر الصندوق، وعيونها الزرقاء العميقة تحيطها رموش كثيفة، تحملق مصوبة نظراتها إلى قلب فتاة صغيرة مباشرة، والأيدي الرقيقة الشاحبة تمتد مبسوطة في ضراعة: أرجوك، هل تتفضلين وتكونين أمي؟
ولم تكن فرانسي قد امتلكت قط دمية، إلا تلك التي كانت طولها بوصتين وثمنها خمسة سنتات.
وما بالك بالزلاقات، يا لها من حلم سماوي راود الأطفال فتحقق، وكان الطفل منهم يحلم بزلاقة جديدة طليت عليها زهرة زرقاء شديدة الزرقة لها أوراق خضراء زاهية، والمزالق التي طليت باللون الأسود كخشب الأبنوس، وقضيب القيادة الناعم المصنوع من الخشب الصلب، وطلاء الورنيش اللامع يكسو كل قطعة، وما أروع الأسماء التي نقشت عليها: كم الزهرة، مانوليا، ملك الثلج، السمكة الطائرة! وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لو قدر لي أن أحصل على إحدى هذه الزلاقات، لما سألت الله شيئا آخر في حياتي.
وهناك زلاقات ذوات عجل صنعت من النيكل اللامع، ولها أشرطة من الجلد البني المتين وعجلات فضية متوثبة شدت للانزلاق، لا تحتاج إلى نفخة لتبدأ دورتها، وقد وضعت الواحدة فوق الأخرى، ونثرت عليها ندف ناصعة البياض من الثلج الصناعي، على مهد من القطن يشبه السحاب.
وهناك أشياء أخرى عجيبة لم تستطع فرانسي أن تستوعبها جميعا، ودار رأسها وزاغت عيناها من أثر كل ما رأت، أو نسجت من قصص حول اللعب المعروضة في نوافذ المحال.
وبدأت أشجار الشربين تظهر بالحي في الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد، وقد حزمت فروعها لترد ما انتشر من بهائها، ولعل ذلك لتيسير شحنها، وكان البائعون يؤجرون مكانا على منعطف الطريق أمام المحال ويمدون حبلا من عمود ليسندوا عليه الأشجار، وهم يسيرون طول اليوم رائحين غادين في ذلك الطريق ذي الجانب الواحد الحافل بالأشجار المسندة العطرة، ينفخون في أصابعهم المتصلبة الخالية من القفازات، وينظرون إلى هؤلاء الناس يقفون وقد راودهم أمل ضعيف فيهم، وطلب قليل من الناس أن تفرد لهم شجرة من تلك الأشجار ليوم عيد الميلاد، ووقف آخرون يقدرون الثمن ويفحصون الأشجار ويخمنون، ولكن أغلبهم أقبلوا ليلمسوا الأغصان وليقطفوا قبضة من إبر الشربين، إيمانا منهم بالخرافات ثم يجمعوها في أيديهم ويفركوها ليخرجوا عبيرها، وهب الهواء باردا ساكنا تفوح منه رائحة الصنوبر ورائحة اليوسفي، اللتان تنبعثان في المحال وقت عيد الميلاد فحسب، فيصبح الشارع الوضيع رائعا حقا إلى حين.
وفي هذا الحي تشيع عادة قاسية بالنسبة للأشجار التي لم تبع بعد، حين يقترب منتصف ليلة عيد الميلاد، وهناك قول بأنك إذا انتظرت حتى ذلك الوقت فإنك خليق بألا تشتري شجرة، وإنها سوف تلقى عليك إلقاء، وكان هذا القول صحيحا ينفذ حرفيا.
وقد تعود الأطفال أن يتجمعوا في مكان الأشجار التي لم تبع في منتصف ليلة عيد الميلاد المجيد، والرجل يلقي كل شجرة بدورها بادئا بأكبر شجرة، ويتطوع الأطفال بالوقوف في مواجهة الشجر الملقى، فإذا ثبت الطفل ولم يسقط تحت ثقل الشجرة تصبح من نصيبه، وإذا ما سقط فإنه يخسر فرصة الفوز بالشجرة، وكان أكثر الصبية صلابة هم الذين يختارون ليتحملوا عبء ثقل الأشجار الكبيرة التي تلقى، ويقف الآخرون في تحفز وفطنة حتى يلقى بشجرة يستطيعون أن يثبتوا لها، والأطفال الصغار ينتظرون الأشجار الضئيلة التي يبلغ طولها قدما، ويصرخون في فرح وسرور حين يظفرون بواحدة.
وفي ليلة عيد الميلاد حين كانت فرانسي في العاشرة من عمرها ونيلي في التاسعة، وافقت أمهما على أن تسمح لهما بالخروج وممارسة تجربتهما الأولى في الحصول على شجرة، وكانت فرانسي قد تخيرت شجرتها في باكورة ذلك اليوم، ووقفت بالقرب منها طول فترة العصر والمساء تصلي داعية ألا يشتريها أحد، وفرحت حين وجدت أنها لا تزال باقية حتى منتصف الليل، وهي أكبر شجرة في الحي وثمنها مرتفع جدا، فلم يستطع أن يشتريها أحد، وارتفاعها عشر أقدام، وقد جمعت أغصانها جمعا بحبل أبيض جديد، جعلها تنتهي برأس حاد عند القمة.
وأخذ الرجل هذه الشجرة أولا، وقبل أن تتكلم فرانسي خطا إلى الأمام فتى مشاكس من الحي، في الثامنة عشرة من عمره اسمه بنكي بيركينز، وطلب من الرجل أن يلقي الشجرة عليه، وكره الرجل ما بدا من شدة وثوقه بنفسه، ونظر حوله يسأل: هل من أحد يريد أن يجرب حظه بالظفر بها؟
وخطت فرانسي إلى الأمام قائلة: أنا يا سيدي.
وانفجر بائع الشجر يضحك في سخرية، وابتسم الصبية في تكلف، وقهقه قليل من البالغين الذين تجمعوا ليروا الأضحوكة.
واعترض بائع الشجر قائلا: أوه، إنك صغيرة جدا. - أنا وأخي، إننا لسنا صغيرين إذا اجتمعنا.
وجذبت نيلي إلى الأمام، ونظر الرجل إليهما فرأى بنتا نحيلة في العاشرة من عمرها، خداها غائران من الهزال والجوع، ولكن ذقنها مستدير كذقون الأطفال، ونظر إلى الصبي الصغير بشعره الأشقر، وعينيه الزرقاوين المستديرتين؛ نيلي نولان الذي تبدو عليه البراءة والثقة معا.
وصرخ بنكي قائلا: ليس من العدل أن يجتمع اثنان على ذلك.
ونصحه الرجل الذي بيده ناصية السلطان كله في تلك الساعة: أغلق فمك القذر، لقد أوتي هذان الطفلان العزيمة، تراجعوا جميعا، إن هذين الطفلين سيأتيان بالعجب مع هذه الشجرة!
وانفرج الأطفال عن ممر متعرج، ووقفت فرانسي ونيلي في طرف منه، ووقف الرجل ومعه الشجرة الكبيرة في الطرف الآخر، وبدا هذا الممر قمعا بشريا، طرفه الصغير فرانسي وأخوها، وثنى الرجل ذراعيه الكبيرتين ليلقي الشجرة الكبيرة، ولاحظ كيف يبدو الطفلان صغيرين في نهاية الممر القصير، واستغرق الرجل في التفكير لحظة.
وحز الألم في قلبه، وقال بينه وبين نفسه: رباه! لم لا أعطيهما الشجرة وأقول لهما: عيد ميلاد سعيد، وأتركهما لحال سبيلهما؟ ما قيمة الشجرة بالنسبة إلي؟ إنني لن أستطيع أن أبيعها في هذه السنة، ولن تبقى إلى السنة القادمة.
وراقبه الطفلان في جد ورصانة وقد وقف لحظة مستسلما لأفكاره واستدرك معللا: ولكن إذا ما فعلت ذلك فإن الآخرين سوف يتوقعون مني أن أسلمهم الأشجار، فإذا حلت السنة القادمة فلن يشتري مني أحد أي شجرة على الإطلاق، وهم خليقون بأن ينتظروا جميعا حتى أسلمهم الأشجار على طبق من فضة، إنني لست رجلا موسرا حتى أعطي هذه الشجرة بلا مقابل، لا لست موسرا إلى هذا الحد، أجل لم أبلغ من اليسر ما يحملني على أن أفعل شيئا من هذا القبيل، يجب أن أفكر في نفسي وفي أطفالي.
ثم انتهى إلى قرار قائلا لنفسه: بئس هذا الأمر! إن هذين الطفلين يجب أن يمارسا الحياة في هذا العالم، يجب أن يتمرسا بها، يجب أن يتعلما العطاء ويتحملا ما تأتي به الأيام، وإني لأقسم بربي إن الناس لا يعطون، بل يأخذون، ويأخذون دائما في هذا العالم الملعون.
وانفطر قلبه صائحا وهو يلقي الشجرة بكل قوته: يا له من عالم ملعون فاسد قذر!
ورأت فرانسي الشجرة تندفع من بين يديه، ومرت لحظة من تلك اللحظات التي يغيب فيها شعور الإنسان بالزمان والمكان، وتوقف العالم كله ساكنا لا يتحرك، حينما انطلق شيء قاتم بشع في الفضاء، واندفعت الشجرة نحو فرانسي ماحية من ذاكرتها كل إحساس بالحياة التي عاشتها، ولم تر شيئا، أجل لم تر شيئا إلا ظلاما مطبقا وكتلة تكبر وهي تنطلق نحوها، وترنحت فرانسي حين ارتطمت بها الشجرة، وخر نيلي على ركبتيه، ولكنها جذبته بعنف بالغ قبل أن يسقط على الأرض، وسمع صوت خفيف شديد حين استقرت الشجرة.
وأحست فرانسي أن كل شيء غدا قاتما أخضر يكتنفه الشوك، ثم شعرت بألم حاد في جانب رأسها، حيث ارتطمت بها ساق الشجرة، وأحست بنيلي وهو يرتعد.
وحين جر بعض الصبية الكبار الشجرة بعيدا، وجدوا فرانسي وأخاها واقفين، ويد كل منهما في يد الآخر، وكان الدم ينبعث من خدوش في وجه نيلي، فبدا أقرب إلى الطفولة مما كان بعينيه الزرقاوين الحائرتين وبشرته الشقراء، التي بدت للعين أكثر جلاء بالقياس إلى الدم الأحمر الصافي، ولكنهما كانا يبتسمان! ولم لا؟ ألم يفوزا بأكبر شجرة في الحي؟ وصاح بعض الصبية مهللين «مرحى! مرحى!» وصفق قليل من البالغين، ومدحهما بائع الشجرة صائحا: والآن ابتعدا عن الشر، واذهبا من هنا بشجرتكما أيها القذران!
وكانت فرانسي قد سمعت ألفاظ الوعيد والسباب منذ وعت الكلام، ولم يكن للبذاءة وفحش القول مدلولهما المألوف بين هؤلاء الناس، وإنما كانت تعبيرات انفعالية ينطق بها الأميون الذين لا يعرفون إلا كلمات قليلة ويستخدمونها كأنها لهجة من اللهجات، كانت العبارات تدل على معان كثيرة تتوقف على طريقة التعبير عنها ونغمة الحديث بها؛ ولهذا فإن فرانسي ابتسمت ابتسامة عريضة للرجل الطيب حين سمعته يرميهما بالقذرين، فقد أدركت أنه يعني حقا: مع السلامة، رعاكما الله.
ولم يكن جر الشجرة بالأمر اليسير، فقد اقتضاهما ذلك أن يشداها شبرا شبرا إلى البيت، واعترض طريقهما صبي، وجرى بجوارهما وهو يصرخ: الركوب مجانا! الجميع يركبون!
وراح يقفز على الشجرة ويجعلهما يجرانه معها، ولكنه مل اللعبة آخر الأمر وتركهما وانصرف.
وكان من الخير لهما على نحو ما أن ينفقا هذا الوقت الطويل في جر الشجرة إلى البيت، فقد ساعدهما ذلك على أن يتذوقا لذة النصر، وأشرق وجه فرانسي حين سمعت امرأة تقول: لم أر قط شجرة كبيرة كهذه!
ونادى من خلفهما رجل قائلا: أيها الطفلان! لا بد أنكما سرقتما خزانة مال لتشتريا مثل هذه الشجرة الكبيرة!
واستوقفهما الشرطي عند منعطف بيتهما، وفحص الشجرة، وعرض عليهما في وقار أن يشتريها بعشرة سنتات، أو خمسة عشر سنتا إذا ذهبا بها إلى بيته، وأوشكت فرانسي أن ينشق جنباها من الفخر بالرغم من أنها تعلم أنه يمزح، وقالت إنها لن تبيعها على الإطلاق حتى لو دفع لها دولارا، وهز رأسه وقال: إنها بلهاء لأنها لم تستغل الفرصة، ورفع السعر إلى ربع دولار، ولكن فرانسي ظلت تبتسم وتهز رأسها بالنفي.
وبدا الأمر يشبه مشهدا من مشاهد قصة عيد الميلاد، حيث كان المكان منعطف شارع، والوقت هو ليلة عيد الميلاد القارسة البرد، وشخصيات المسرحية: شرطي طيب وأخوها وهي نفسها.
وفرانسي تعرف الحوار جميعا، والشرطي يؤدي دوره أداء سليما، وفرانسي تلتقط إجاباتها في سعادة، والإرشادات المسرحية هي البسمات تنطلق بين العبارات الملقاة.
واضطر الطفلان أن يناديا أباهما ليساعدهما في جر الشجرة فوق درجات السلم الضيقة، وهبط أبوهما السلم عدوا، وشعرت فرانسي بالراحة إذ رأته يجري، هابطا مستقيم الخطى لا يضطرب؛ مما أثبت لها أنه لا يزال صاحيا وليس ثملا.
وكانت دهشة الأب لحجم الشجرة نوعا من التملق والمديح، وتظاهر بأنه يصدق أنها ليست لهما، وكانت فرانسي قد اصطنعت المزاح كثيرا حين حاولت أن تقنعه بذلك، بالرغم من أنها تعلم طول الوقت أن الأمر كله لا يعدو التظاهر بغير الواقع. وجر الأب الشجرة من الأمام ودفعتها فرانسي ونيلي من الخلف، ثم بدءوا يدفعون الشجرة الكبيرة دفعا مصعدين فوق درجات السلم الصغيرة ، واهتاجت مشاعر جوني حتى انطلق يغني غير عابئ بأن الليل قد أوغل بعض الشيء، وغنى أغنية «الليلة المباركة»، وكانت الجدران الضيقة تحمل صوته العذب الصافي لحظة ثم تردد صداه، وقد تضاعفت عذوبته وصفاؤه، وفتحت الأبواب في صرير، وتجمعت الأسر على العتبات مسرورين مندهشين لهذا الشيء، الذي لم يتوقعوه والذي زاد من اللحظات السعيدة في حياتهم.
ورأت فرانسي الآنستين تنمور واقفتين معا على باب شقتهما، وقد عقصتا شعرهما الرمادي بدبابيس الشعر، وظهر قميصا النوم المحليان بالثنيات المنشاة من تحت معطفيهما الفضفاضين، وانضم صوتاهما الحاد الرفيع إلى صوت جوني، وكذلك وقفت فلوسي جاديس وأمها وأخوها هني، الذي أوشك السل أن يقضي عليه على باب شقتهم، وكان هني يبكي، وتوقف جوني عن الاسترسال في الغناء حين رآه، وقد ظن أن الأغنية أثارت في نفسه الحزن حتى ملك عليه قلبه.
وكانت فلوسي ترتدي حلتها وتنتظر رفيقها ليأخذها إلى حفل رقص تنكري يبدأ بعد منتصف الليل مباشرة، ووقفت في الحلة التي ترتديها الراقصات في المراقص العامة، وقد ارتدت جوربا حريريا أسود لامعا، وخفين لهما كعب مستدير، وربطت رباط ساق أحمر تحت ركبتها، ووقفت تهز قناعا أسود في يدها، وابتسمت في عيني جوني ووضعت يدها على حقوها، واتكأت على كتف الباب في إغراء - أو هكذا خيل إليها - وقال جوني ليحمل هني على الابتسام دون أي شيء آخر: فلوسي، ليس لدينا ملاك نضعه على قمة شجرة عيد الميلاد هذه، ألا تتفضلين بأن تكوني هذا الملاك؟
وكانت فلوسي متحفزة كل التحفز لأن ترد عليه ردا نابيا، بأن تقول إن الريح سوف تعري سروالها إذا وقفت في مكان يرتفع كل هذا الارتفاع، ولكنها غيرت رأيها، وكان هناك شيء يحيط بالشجرة الكبيرة الشامخة التي هان شأنها بعد أن جروها؛ شيء يحيط بالطفلين السعيدين؛ شيء ينبع من تلك الأريحية النادرة التي أبداها الجيران، وكيف بدت الأنوار الهادئة في القاعات؛ مما جعل فلوسي تخجل مما همت أن ترد به على طلب جوني، وكل ما قالته: واي، ألست أولى بذلك يا جوني نولان ؟
ووقفت كاتي وحدها على أعلى درجة من السلم ، وقد شبكت يديها على صدرها، وأنصتت إلى الغناء وهي تنظر إلى أسفل، وترقب صعودهم البطيء على السلم، وكانت تفكر في عمق، وقالت بينها وبين نفسها وهي تفكر: إنهما يظنان أن هذا شيء رائع، أجل يظنان أنه شيء رائع إذ حصلا على الشجرة بلا مقابل، وراح أبوهما يلاعبهما ويغني، وقد علا البشر وجوه الجيران، إنهما يظنان أن الحظ حالفهما كل المحالفة؛ لأن العمر امتد بهما حتى أدركا عيد الميلاد مرة أخرى، إنهما لا يستطيعان أن يدركا أننا نعيش في شارع قذر، وبيت قذر، وبين أناس نصيبهم من التهذيب هزيل نحيل، إن جوني والطفلين لا يستطيعون أن يدركوا أنه مما يدعو إلى الأسى، أن نجد جيراننا يستخلصون السعادة من هذه الحمأة وتلك القذارة، إن طفلي يجب أن ينتزعا من هذه البيئة، يجب أن تتاح لهما حياة أفضل من حياتي أو حياة جوني أو حياة كل هؤلاء الناس المحيطين بنا، ولكن كيف يتأتى لهما ذلك؟ إن قراءة صفحة من تلك الكتب كل يوم وادخار البنسات في الحصالة أمر لا يكفي، أتراه يأتي بالمال؟ وهل المال خليق بأن يوفر لهما حياة أفضل؟ أجل إنه خليق بأن ييسر لهما الحياة، ولكن لا، إن المال لا يكفي لتحقيق ذلك، إن ماكجريتي يمتلك المشرب القائم عند منعطف الشارع وعنده من المال الكثير، وزوجته تلبس أقراطا من الجواهر، ولكن أطفالها لم يبلغوا في خلقهم أو ذكائهم ما بلغه طفلاي، إنهم في سلوكهم مع الآخرين وضيعون شرهون؛ لأن لديهم أشياء يفخرون بها على الأطفال المساكين، لقد رأيت ابنة ماكجريتي تأكل من صندوق من الحلوى على قارعة الطريق، وحولها عدد من الأطفال الجياع يتطلعون إليها، أجل رأيت هؤلاء الأطفال ينظرون إليها وقلوبهم تبكي، ولما أكلت من الحلوى ما يكفيها ألقت بالباقي في مصرف الماء، بدلا من أن تعطيه لهم. آه! إن المال وحده لا يكفي! إن ابنة ماكجريتي تلبس كل يوم قرصا مختلفا للشعر، يكلفها الواحد خمسين سنتا، وهذا المبلغ خليق بأن يطعمنا نحن الأربعة يوما كاملا، ولكن شعرها ناحل أحمر باهت، وإن في قلنسوة ابني نيلي ثقبا كبيرا، ولقد رثت حتى فقدت شكلها، ولكن الطفل له شعر كثيف لونه ذهبي داكن متموج، وإن ابنتي فرانسي لا تلبس قرص شعر، ولكن شعرها طويل لامع، هل يمكن للمال أن يشتري أشياء كهذه؟ لا، وهذا يدل على أنه لا بد أن يكون هناك ما هو أعظم من المال. إن الآنسة جاكسون تدرس في الملجأ وليس لديها مال، إنها تؤدي هذا العمل صدقة، وتعيش في حجرة صغيرة هناك في الطابق الأعلى، ولا تملك من الثياب إلا واحدا، لكنها تحفظه نظيفا مكويا، وإن عينيها تنظران في استقامة إلى عينيك حين تتكلم معها، فإذا أنصت إليها كنت كمن ألف المرض ثم ارتدت إليه العافية لسماع صوتها، إن الآنسة جاكسون تعرف أمورا وتفهم أشياء، فهي تستطيع أن تعيش في وسط حي قذر، وتكون أنيقة نظيفة كأنها ممثلة في مسرح، وإنك لتستطيع أن تنظر إليها، لكنها أرفع من أن تلمسها، ذلك هو الفارق بينها وبين السيدة ماكجريتي التي تملك مالا كثيرا لكنها بدينة كل البدانة، تسلك سلوكا شائنا مع سائقي عربات النقل الذين يوزعون الجعة لزوجها، إذن ما هو هذا الفارق بينها وبين الآنسة جاكسون التي لا تملك مالا؟
وجاء الرد على هذا السؤال لكاتي، وقد بلغ من بساطته أنه أصابها بومضة من الدهشة سرت في رأسها كوخزة الألم؛ التعليم! أجل إنه هو، فالتعليم هو الذي صنع الفارق! إن التعليم خليق بأن ينتشلهم من القذارة والوحل، فما البرهان؟ إن الآنسة جاكسون كانت متعلمة، أما السيدة ماكجريتي فلم تكن. آه! إن ذلك هو ما كانت أمها ماري روملي تقوله لها كل تلك السنين، لكن لم توفق إلى الكلمة الواحدة الصريحة: التعليم.
وخطرت لها تلك الأفكار عن التعليم وهي تراقب الطفلين، يناضلان في الصعود بالشجرة على السلم، وتستمع إلى صوتيهما اللذين لا يزالان يتسمان بالطفولة.
وفكرت: إن فرانسي ذكية يجب أن تذهب إلى المدرسة الثانوية، وقد تصل إلى ما بعد ذلك ، إنها تميل إلى التعليم، وسوف تكون امرأة ذات شأن في يوم ما، ولكنها سوف تبتعد عني حين تتعلم، بل إنها تعرض عني من الآن، إنها لا تحبني كما يحبني الصبي، وإني لأشعر بها وهي تنأى عني، إنها لا تفهمني، وكل ما تفهمه هو أنني لا أفهمها، ومن المحتمل أن تخجل مني ... من طريقة كلامي حين تحصل على التعليم، ولكنها ستكون ذات خلق قوي فلا تظهر شعورها وتحاول أن تعيرني، بل تأتي إلي لتراني وتحاول أن تساعدني كي أعيش حياة أفضل، وسوف أكون وضيعة معها لأنني سأشعر أنها أرقى مني، ولسوف تدرك من كنه الأشياء الشيء الكثير حين يشتد عودها، وتعرف الكثير مما يضفي على حياتها السعادة، ولسوف تكتشف أنني لا أحبها كما أحب الصبي، ولا حيلة لي في ذلك ولكنها لن تفهم، بل إني لأظن أحيانا أنها تعرف هذا الأمر الآن، إنها ستبتعد عني كلما كبرت، وسوف تكافح سريعا من أجل أن تمضي بعيدا عني، وكانت أولى خطواتها نحو البعد عني هو انتقالها إلى تلك المدرسة البعيدة، ولكن نيلي لن يتركني أبدا؛ ولهذا فإنني أحبه أكثر، إنه سيتعلق بي وسيفهمني، وإني لا أريد له أن يصبح طبيبا، بل يجب أن يصبح طبيبا، وقد يعزف على الكمان أيضا، فإن حب الموسيقى يجري في دمه، وقد ورث ذلك عن أبيه؛ ولهذا تقدم في العزف على البيانو أكثر مني أو من فرانسي، أجل، إن حب الموسيقى يجري في دم أبيه، ولكنه لم يجن من ذلك خيرا، بل لقد حطمته الموسيقى.
فلو أنه كان لا يستطيع الغناء لما سعى إلى صحبته هؤلاء الرجال الذين يدعونه إلى شرب الخمر، وما جدوى إجادته الغناء ما دام ذلك لا يفيده أو يفيدنا في شيء؟ وسوف يكون الأمر مختلفا بالنسبة للصبي، إنه سوف يتعلم ويجب علي أن ألتمس الطرق التي تحقق ذلك، وسوف لا يعيش جوني بيننا طويلا، يا إلهي! لقد أحببته كل الحب زمنا، بل أشعر أحيانا بأنني لا أزال أحبه، ولكنه تافه ... تافه، وليغفر الله لي ؛ لأنني اكتشفت ذلك.
وهكذا تصورت كاتي كل شيء في الدقائق التي أنفقوها في صعود السلم، وكان الناس وهم يتطلعون إليها، إلى وجهها الناعم الجميل الذي يفيض حيوية، لا تخطر ببالهم تلك النتائج الأليمة التي استقرت في عقلها.
ونصبوا الشجرة في الحجرة الأمامية بعد أن فرشوا ملاءة؛ لتحمي السجادة ذات الزهور القرنفلية، من أن تسقط عليها أشواك الصنوبر، ووقفت الشجرة في دلو كبير من القصدير، وقد أسندت بكسر من الآجر لتظل واقفة، وانتشرت فروعها حتى ملأت الحجرة كلها حين قطع الحبل عنها، وتدلت أغصانها على البيانو، وبدت بعض الكراسي كأنها تقف وسط الفروع، ولم يكن لديهم مال ليشتروا زينات للشجرة، أو أنوارا، ولكن الشجرة الكبيرة كانت كافية وهي تقف هناك، وكانت الحجرة باردة، والسنة التي تمر بهم سنة معسرة، فلم يستطيعوا شراء مزيد من الفحم يشعلون به موقد الحجرة الأمامية، وشاع في الغرفة جو من البرودة والنظافة والرائحة العطرة، وأخذت فرانسي في كل يوم من أيام الأسبوع الذي وقفت فيه الشجرة في الحجرة، ترتدي سترتها وقبعتها الخاصة وتذهب لتجلس تحت الشجرة، وتستمتع برائحتها، وما اكتست به من خضرة داكنة.
آه! ما أمتع ذلك الغموض الذي يحيط بشجرة عظيمة حبست داخل دلو ولو من القصدير في حجرة أمامية بمسكن من المساكن!
وبدأ عيد الميلاد في غاية من البهاء بالرغم مما هم عليه من عسر في تلك السنة، ولم يشعر الطفلان بأي نقص في الهدايا؛ لأن أمهما أعطت كلا منهما زوجا من السراويل الصوفية الطويلة، من الطراز ذي الأزرار الذي يفتح من أعلى، وقميصا صوفيا له أكمام طويلة خشنة، وأعطتهما الخالة إيفي هدية مشتركة، وهي صندوق من لعبة الدومينو، وشرح لهما أبوهما طريقة لعبها، ولكن نيلي لم يحب اللعبة، فلعب الأب وفرانسي معا وتظاهر هو بالامتعاض حين خسر اللعبة.
وأحضرت الجدة ماري روملي شيئا جميلا جدا صنعته بنفسها، جلبت لكل منهما، حرملة صنعتها بأن قطعت قطعتين صغيرتين بيضيتين من الصوف الأحمر الزاهي، وطرزت على إحداهما صليبا «بشلة» زرقاء واهية، وطرزت على الأخرى قلبا ذهبيا توج بتيجان بنية اللون، ويخترق القلب خنجر أسود تتساقط من طرفه قطرتان من الدم الأحمر الداكن، وكان الصليب والقلب صغيرين جدا، صنعا بغرز لا ترى إلا بالمجهر، ثم حاكت القطعتين البيضيتين معا ووصلتهما بخيط من خيوط المشدات، وأخذت ماري روملي الحرملتين لتباركهما عند القس قبل أن تحضرهما إلى الطفلين، وقالت وهي تزحلق الحرملة فوق رأس فرانسي: عيد ميلاد مقدس.
ثم أضافت: صحبتك الملائكة دائما!
وأعطت الخالة سيسي لفرانسي ربطة صغيرة، فتحتها فوجدت فيها صندوقا صغيرا من صناديق أعواد الثقاب، وكان صندوقا رقيقا جدا يغطيه ورق مجعد، نقش على قمته غصن مصغر من زهر الوسطار الأرجواني، وفتحت فرانسي الصندوق فوجدت به عشرة أقراص لف كل قرص منها في نسيج قرنفلي اللون، واتضح أن الأقراص ما هي إلا بنسات ذهبية زاهية، وبينت سيسي أنها اشترت من قبل مقدارا من مسحوق طلاء ذهبي اللون، وخلطته بقليل من زيت الموز، ثم ذهبت به كل بنس، وأحبت فرانسي هدية سيسي أكثر من أي هدية أخرى، وكانت تفتح الصندوق في بطء عشرات المرات في الساعة التي تسلمته فيها، وتشعر بلذة كبيرة حين تمسك الصندوق وتنظر إليه، وتراقب الورق الأزرق الكوبالتي فتظهر رقيقة الخشب الرفيعة النظيفة التي في داخله، وكانت البنسات الذهبية الملفوفة في قماش كأنه من نسيج الأحلام بدعة لا تذهب جدتها، واتفقت آراء الجميع على أن البنسات أجمل من أن تنفق، لكن فرانسي فقدت اثنين منها أثناء اليوم في مكان ما، واقترحت أمها وضع البنسات في الحصالة المصنوعة من الصفيح حتى تكون في مأمن، وقالت: إن فرانسي تستطيع أن تستردها حين تفتح الحصالة، وكانت فرانسي على يقين من أن أمها محقة في قولها إن البنسات تكون في مأمن إذا وضعت في الحصالة، على أن إسقاط هذه البنسات الذهبية في ظلام الحصالة كان أمرا يحز في النفس.
وقدم الأب لفرانسي هدية خاصة، كانت بطاقة بريد رسمت عليها صورة كنيسة، بسط على سطحها مسحوق غراء السمك، ولها بريق يفوق بريق الثلج الحقيقي، وكانت ألواح نوافذ الكنيسة مصنوعة من الورق البرتقالي اللامع على صورة مربعات صغيرة، والسحر الذي تنطوي عليه هذه البطاقة، هو أن فرانسي حين ترفعها إلى أعلى ينطلق من خلال ألواح الورق ضوء، يلقي ظلالا ذهبية على الثلج المتلألئ، كانت شيئا جميلا، وقالت لها أمها ما دام لم يكتب عليها شيء، فإنها تستطيع أن تدخرها للسنة المقبلة وترسلها بالبريد لمن تريد.
وقالت فرانسي: آه! لا.
ووضعت ذراعيها حول البطاقة وضمتها إلى صدرها، وضحكت أمها قائلة: يجب يا فرانسي أن تتعلمي كيف تستمتعين بالفكاهة، وإلا فسوف تقسو عليك الحياة كثيرا.
وقال الأب: إن عيد الميلاد يوم لا يتسع للدروس.
وانفجرت كاتي قائلة: ولكنه يوم يتسع لشرب الخمر، أليس كذلك؟
وقال جوني مستعطفا: إن كل ما شربته هو كأسان فحسب يا كاتي، لقد دعيت بمناسبة عيد الميلاد.
وذهبت فرانسي إلى حجرة النوم وأغلقت الباب، ولم يكن في استطاعتها أن تحتمل سماع أمها وهي تؤنب أباها.
ووزعت فرانسي الهدايا التي اشترتها لهم قبل العشاء مباشرة، وأعطت أمها حاملا لدبابيس القبعات، صنعته من أنبوبة اختبار تساوي بنسا اشترتها من محل كنيب للأدوية، وغطتها بشريط من الساتان الأزرق ثني من الجوانب، وحاكت على قمتها شريطا من أشرطة الأطفال، وكان يستخدم في حمل دبابيس القبعة، ويعلق على جانب صوان الملابس.
وأهدت أباها جيب ساعة صغيرا، صنعته على ملف دقت على قمته أربعة مسامير، وأخذت رباطين من أربطة الأحذية ولفتهما حول المسامير، وأصبح الجيب يتكون تدريجا من أسفل الملف إلى أعلاه وهي تلفه، ولم يكن لدى جوني ساعة، لكنه أخذ أنبوبة غسيل حديدية ووصل الجيب بها ولبسها في جيب ردائه طول اليوم، متظاهرا بأنها ساعة، وأهدت فرانسي نيلي هدية جميلة جدا، وهي رامية ثمنها خمسة سنتات تشبه حجر عين الهر الكبير أكثر مما تشبه البلية، ونيلي عنده صندوق مليء ببلي صغير مرقط بني اللون وأزرق صنع من الصلصال، ثمن العشرين منه بنس، ولكن لم يكن لديه رامية جديدة؛ لهذا لم يستطع أن يدخل في أي لعبة هامة، وراقبته فرانسي وهو يثني سبابته ويضع البلية الصغيرة فيها مسندا إياها بإبهامه، وبدا منظرها جميلا طبيعيا على ذلك النحو، وشعرت بالسعادة لأنها اشترتها له بدلا من البندقية ذات الطلقات، التي فكرت أول الأمر في شرائها له بخمسة سنتات.
ووضع نيلي البلية في جيبه، وأعلن أن لديه هدايا أيضا، وجرى إلى حجرة النوم، وزحف تحت سريره، ثم خرج ومعه حقيبة لزجة، ودفعها إلى أمه قائلا: وزعي عليهم أنت.
ووقف في ركن، وفتحت الأم الحقيبة فوجدت فيها قطعا من حلوى سكر القصب المخطط، قطعة لكل منهم، واستبدت الفرحة بالأم، وقالت إنها أجمل هدية تلقتها في حياتها، وقبلت نيلي ثلاث مرات، وحاولت فرانسي بكل صعوبة ألا تظهر غيرتها؛ لأن أمها صنعت ضجة حول هدية نيلي أكبر مما قابلت به هديتها.
وكذبت فرانسي كذبة كبيرة أخرى في ذلك الأسبوع نفسه، كانت الخالة إيفي قد اشترت تذكرتين لحضور حفل، تقيمه بعض الهيئات البروتستانتية لصالح الفقراء من جميع المذاهب، والحفل خليق بأن يشتمل على شجرة عيد الميلاد المزينة على المسرح، ومسرحية من مسرحيات عيد الميلاد، وإنشاد الأناشيد وتوزيع هدية على كل طفل، ولم تستطع كاتي أن تتخيل وجود أطفال كاثوليك في حفل من حفلات البروتستانت، ولكن إيفي حثت على التسامح وسلمت الأم أخيرا، وذهبت فرانسي ونيلي إلى الحفل.
وأقيم الحفل في بهو كبير للاستماع، وجلس الصبية على جانب والبنات على الجانب الآخر، وبدا الحفل جميلا، إلا أن المسرحية كانت دينية مملة، وبعد انتهاء المسرحية هبطت سيدات الكنيسة من الهيكل، وأعطين كل طفل هدية، وأخذت كل البنات رقع الشطرنج، وأخذ كل الصبية لعبة من لعب الورق ذات الصفوف الخمسة، وظهر سيدة على المسرح بعد فاصل غنائي وأعلنت عن مفاجأة خاصة.
وكانت المفاجأة بنتا صغيرة جميلة ترتدي ملابس غاية في الأناقة والجمال، كأنما هبطت من السماء تحمل بين يديها دمية جميلة، وطول هذه الدمية قدم، لها شعر حقيقي أصفر وعينان زرقاوان تفتحان وتغمضان ولهما رموش حقيقية، وصحبت السيدة الطفلة إلى الأمام، وقالت: هذه البنت الصغيرة اسمها ماري.
وابتسمت ماري الصغيرة وانحنت، وابتسمت لها البنات الصغيرات المتفرجات، وصفر بصوت عال بعض الصبية الذين كانوا يقتربون من سن المراهقة. - لقد اشترت والدة ماري هذه الدمية وصنعت لها ملابس تشبه ملابس ماري الصغيرة تماما.
وخطت ماري الصغيرة إلى الأمام ورفعت الدمية عالية في الفضاء، ثم جعلت السيدة تمسكها، في حين بسطت هي إزارها وحيت الحاضرين، ورأت فرانسي أن القول كان حقا؛ إذ إن الدمية كانت تلبس فستانا أزرق حريريا، ذيل بالأشرطة، وقرص شعر قرنفلي اللون، وخفين مفتوحين أسودين من الجلد، وجوربا حريريا أبيض مثنيا مرتين، تماما كما كانت تلبس ماري الجميلة، وقالت السيدة: وبعد، فإن هذه الدمية تدعى ماري، تيمنا باسم الطفلة الصغيرة الحنون التي تهديها.
وابتسمت البنت الصغيرة مرة أخرى في رقة. - وإن ماري تريد أن تمنح الدمية لفتاة صغيرة فقيرة من المتفرجات اسمها ماري.
وسرت همهمة بين البنات المتفرجات الصغيرات تشبه صفير الريح، وهي تهب فوق سنابل القمح النامية. - أتوجد بنت صغيرة فقيرة بين المتفرجات اسمها ماري؟
وساد المكان سكون عظيم، وكان هناك مائة ماري على الأقل بين المتفرجات، ولكن صفة «فقيرة» هي التي جعلتهن جميعا يلزمن الصمت لا يحرن جوابا، وما من بنت اسمها ماري خليقة بأن تقف، مهما اشتدت بها الرغبة في الحصول على الدمية، فتكون بذلك رمزا لكل البنات الفقيرات الصغيرات المتفرجات، وبدأن يتهامسن قائلات إنهن لسن فقيرات وإن لديهن في بيوتهن دمى أفضل من تلك، وملابس أجمل، وكل ما في الأمر أنهن لم يرغبن في ارتدائها فحسب، وجلست فرانسي كأنها فقدت الحس وقد هفت نفسها إلى الدمية، وقالت السيدة: ماذا دهاكن؟ أما من بنت تدعى ماري؟
وانتظرت وأعلنت مرة أخرى ... فلم تتلق جوابا ... وتكلمت في أسف: إنه من المؤلم ألا يكون بينكن طفلة تدعى ماري، ولا مناص من أن تعود ماري الصغيرة بدميتها إلى البيت مرة أخرى.
وابتسمت البنت الصغيرة، وانحنت واستدارت لتغادر المسرح ومعها الدمية.
ولم تستطع فرانسي أن تصبر على ذلك، نعم، لم تستطع ... وكان موقفها هو الموقف الذي اتخذته حين أوشكت المدرسة أن تلقي فطيرة القرع في سلة المهملات، ووقفت ورفعت يدها عالية في الفضاء ، ورأتها السيدة فأوقفت البنت الصغيرة قبل أن تغادر المسرح. - آه! لقد عثرنا حقا على طفلة تدعى ماري؛ طفلة تملكها الخجل الشديد، ولكنها تدعى ماري على كل حال، هيا يا ماري اصعدي فوق المسرح.
وسارت فرانسي، وهي تشعر بحمى من الحرج، في الممر الطويل، وصعدت إلى المسرح، وتعثرت على درجات السلم، فابتسمت البنات جميعا في سخرية، وقهقه الصبيان، وسألتها السيدة: ما اسمك؟
وهمست فرانسي: ماري فرانسيس نولان. - ارفعي صوتك وانظري إلى المتفرجين.
وواجهت فرانسي المتفرجين في شقاء، وقالت بصوت عال: ماري فرانسيس نولان.
وبدت لها الوجوه جميعا كأنها بالونات منفوخة شدت إلى خيوط سميكة، وظنت أنها لو استمرت في النظر إليها فسوف تطير الوجوه حتى تلتصق بالسقف.
وسارت البنت الجميلة إلى الأمام ووضعت الدمية بين ذراعي فرانسي اللتين اتخذتا قوسا طبيعية حولها، وكأنما كانت ذراعاها انتظرتا وكبرتا لتتحملا تلك الدمية فحسب، ومدت ماري الجميلة يدها لفرانسي لتصافحها، ولاحظت فرانسي، بالرغم من الحرج والاضطراب، اليد البيضاء الرقيقة وقد ظهرت عليها خطوط الأوردة الزرقاء الباهتة والأظافر البيضاوية التي كانت تلمع كأصداف البحر الرقيقة القرنفلية اللون.
وتكلمت السيدة، في حين سارت فرانسي تتعثر عائدة إلى مقعدها قائلة: لقد رأيتم جميعا مثالا لروح عيد الميلاد الحق، إن ماري الصغيرة بنت صغيرة غنية جدا، تتلقى في عيد الميلاد دمى كثيرة جميلة، ولكنها ليست أنانية، وقد أرادت أن تسعد ماري أخرى صغيرة فقيرة لم يسعدها الحظ مثلها؛ ولذلك منحت هذه الدمية تلك البنت الصغيرة الفقيرة التي اسمها ماري.
وتندت عينا فرانسي بدموع ساخنة، وقالت بينها وبين نفسها في مرارة: ما بالهم لا يستطيعون أن يمنحوا الدمية فحسب، دون أن يذكروا أنني فقيرة وهي غنية؟ ما بالهم لا يستطيعون أن يمنحوها دون أن يثيروا حول ذلك كل هذا المن والأذى؟
ولم يكن ذلك هو كل العار الذي لحق بفرانسي، فقد مالت البنات ناحيتها وهي تسير في الممر، وهمسوا في سخرية: شحاذة! شحاذة! شحاذة!
وكانت كلمة شحاذة تدوي في أذنيها طول الطريق وهي تسير في الممر، وكانت تلك البنات يشعرن أنهن أغنى من فرانسي، إنهن فقيرات مثلها، ولكن عندهن شيء ينقصها؛ الكبرياء. وعرفت فرانسي بذلك، لكنها لم تشعر بالندم لأنها كذبت وحصلت على الدمية بانتحال اسم مزيف، فقد دفعت كبرياءها ثمنا للكذبة والدمية معا.
وتذكرت المدرسة التي أوصتها بأن تكتب أكاذيبها بدلا من أن تقولها، وربما كان من الواجب عليها ألا تكذب في سبيل الدمية، وإنما تكتب عنها قصة، ولكن لا! لا! إن حصولها على الدمية أفضل من أية قصة تكتبها عنها، وأمالت فرانسي وجهها إلى جوار وجه الدمية حين وقفوا ختام الحفل، ينشدون جماعة نشيد «العلم المرصع بالنجوم».
وشمت فرانسي الرائحة الرقيقة الرطيبة التي تنبعث من الخزف الصيني المطلي، ورائحة شعر الدمية الرائعة التي لا تنسى، وشعرت بالنعيم لملمس الشاش الجديد الذي صنعت منه ملابس الدمية، ولمست رموش الدمية الحقيقية خدها، فانتفضت من البهجة والفرح وكان الأطفال يغنون:
على أرض الأحرار،
وفي وطن الشجعان.
وأمسكت فرانسي يد الدمية الصغيرة في قوة، وخفق شريان في إبهامها، وظنت أن يد الدمية اختلجت، فاعتقدت أنها دمية حقيقية أو كادت تكون كذلك.
وقالت لأمها إن الدمية أعطيت لها كجائزة، ولم تجرؤ على أن تقول الحقيقة؛ فقد كانت أمها تكره أي شيء يعطى من قبيل الصدقة، وهي خليقة بأن تلقي بالدمية بعيدا إذا عرفت سر الأمر، ولم يبح نيلي بسرها، وأصبحت الدمية ملكا لفرانسي، لكنها كانت تشعر بكذبة أخرى تثقل ضميرها، وكتبت في ذلك العصر قصة عن بنت صغيرة، كانت تصبو إلى دمية حتى إنها كانت على استعداد لأن تبذل روحها الخالدة للمطهر، بدلا من أن تبذلها في سبيل الخلود إذا استطاعت أن تحصل على الدمية، وكانت قصة جديدة، ولكن حين قرأتها فرانسي قالت بينها وبين نفسها: إن هذا هو عين الحق بالنسبة للبنت التي في القصة، ولكنه لا يخفف عني قط.
وفكرت في الاعتراف الذي ستبوح به يوم السبت المقبل، وصممت على أنه مهما يكن العقاب الذي يوقعه الأب فسوف تضاعفه ثلاث مرات ... لكن ذلك لم يخفف عنها.
وهنالك تذكرت أمرا! ربما تستطيع أن تصنع من الكذبة حقيقة! وكانت تعلم أن الأطفال الكاثوليك حين يثبتون في دينهم ينتظر منهم أن يستعيروا اسم قديس ويضعوه بين اسمهم ولقبهم، يا له من حل بسيط! إنها سوف تتخذ لنفسها اسم ماري حين تثبت في دينها.
وسألت فرانسي أمها في تلك الليلة بعد أن قرأت صفحة من الإنجيل وصفحة من شكسبير: أماه! هل لي أن أتخذ اسم ماري وأضعه بين اسمي ولقبي حين أثبت في ديني؟ - لا.
وغاص قلب فرانسي وقالت: لماذا؟ - لأنك حين نصرت سميت فرانسي تيمنا بابنة آندي. - أعلم ذلك. - ولكنك سميت ماري أيضا تيمنا بأمي، إن اسمك الحقيقي هو ماري فرانسس نولان.
وأخذت فرانسي الدمية معها في السرير، ونامت دون حراك حتى لا تقلقها، وكانت تستيقظ في الليل من حين إلى حين وتهمس «ماري»، وتلمس إصبعها في رقة خف الدمية الصغير جدا، وارتعدت حين شعرت بملمس الجلد الناعم اللين الرقيق.
وقدر أن تكون هذه الدمية هي أول وآخر دمية تحصل عليها فرانسي.
28
كان المستقبل في نظر كاتي قريبا، وقد ألفت أن تقول: سوف يحل بك عيد الميلاد قبل أن تدري به.
أو تقول عند بدء الإجازة: إن الدراسة ستبدأ قبل أن تدري بها.
وفي الربيع حين نبذت فرانسي سروالها الطويل، وقذفت به في فرح، حملتها أمها على أن تلتقطه مرة ثانية قائلة: سوف تحتاجين إليه ثانية أقرب مما تشعرين، وإن الشتاء سيحل قبل أن تدري به.
عم تتكلم الأم؟ إن الربيع قد بدا وشيكا، وسوف لا يقبل الشتاء مرة أخرى أبدا.
إن الطفل الصغير لا تكون لديه فكرة عن المستقبل، ويبدو له الأسبوع المقبل بعيدا في الزمن، ممتدا امتداد مستقبله، وتبدو له السنة بين عيدي الميلاد دهرا طويلا ليس له مدى، وهكذا كان شأن الزمن مع فرانسي حتى بلغت الحادية عشرة من عمرها.
لكن الأمور تغيرت ما بين عيد ميلادها الحادي عشر والثاني عشر؛ إذ أصبح المستقبل يقبل أسرع مما كان، وبدت الأيام أقل طولا ، والأسابيع تشتمل على عدد أقل من الأيام، ومات هني جاديس، ولموته صلة بذلك، فقد كانت تسمع دائما أن هني سيموت، سمعت ذلك كثيرا جدا، حتى اعتقدت أخيرا أنه خليق بأن يموت، ولكن موته سيحدث بعد وقت طويل ممتد في الطول. وبعد، فقد انقضى الوقت الطويل، وأصبح ذلك الذي كان في ضمير المستقبل، شيئا حاضرا، ثم هو خليق بأن يصبح ماضيا، وتحيرت فرانسي، ترى أيقتضي الأمر أن يموت أحد حتى يتضح ذلك في ذهن الطفل؟ ولكن لا، إن جدها روملي مات على ما تذكر، وهي في التاسعة من عمرها بعد أسبوع من أول قربان مقدس تناولته، وكان عيد الميلاد لا يزال يبدو بعيدا كل البعد حينذاك.
والآن بدت الأمور تتغير تغيرا سريعا جدا في نظر فرانسي، حتى اختلط عليها الأمر، وشب نيلي الذي كان يصغرها بعام فجأة وفاقت قامته قامتها، وانتقلت مودي دونوفان من مسكنها، ولما عادت بعد ثلاثة أشهر في زيارة لهم، وجدت فرانسي أنها تغيرت، فقد نمت مودي وأصبحت أقرب إلى المرأة في تلك الشهور الثلاثة.
واكتشفت فرانسي التي كانت تعلم أن أمها دائما على صواب، أن أمها تخطئ من حين إلى حين، وتبينت أن بعض ما تحبه كل الحب في أبيها يعد في نظر الآخرين مضحكا غاية الإضحاك، ولم تعد كفتا الميزان في محل الشاي تبرقان بريقهما المعهود، ووجدت الصناديق متأكلة، حقيرة المنظر.
وتوقفت عن مراقبة السيد توموني، وهو عائد إلى بيته في ليالي السبت بعد قضاء رحلاته القصيرة في نيويورك، وخطر ببالها فجأة أن من البلاهة أن يعيش هذه العيشة، فيمضي إلى نيويورك ويعود إلى بيته مشتاقا إلى مكان إقامته في نيويورك، إن لديه ما يكفيه من المال، فما باله لا ينتقل إلى نيويورك ويعيش فيها ما دام يحبها إلى هذا الحد؟
كان كل شيء يتغير، واستبد الفزع بفرنسي، فقد أخذ عالمها يتوارى ويغيب، ترى ما الذي يحل محله؟ ولكن ما الذي تغير فيه؟ لقد دأبت على قراءة صفحة من الإنجيل وصفحة من شكسبير كل ليلة شأنها دائما، وجرت على أن تعزف على البيانو كل يوم ساعة، وتضع البنسات في الحصالة المصنوعة من القصدير، لقد كان حانوت النفايات لا يزال قائما هناك، والحوانيت جميعا هي هي، وما من شيء يتغير، وإنما هي التي كانت تتغير.
وحدثت أباها بذلك، فجعلها تخرج لسانها، وجس معصمها ثم هز رأسه في حزن، وقال: إنك تمرين بدور خطير، خطير جدا. - وما هو؟ - إنه النمو؟
لقد أفسد النمو أمورا كثيرة، أفسد اللعبة الجميلة التي كانوا يلعبونها إذا خلا البيت من الطعام، وكانت كاتي والطفلان حين ينفد المال ويقل الطعام يتظاهرون بأنهم رواد يستكشفون القطب الشمالي، ثم هبت عليهم عاصفة ثلجية حبستهم في كهف، ولم يكن عندهم من الزاد إلا أقل القليل، واقتضاهم الأمر أن يدخروه أطول مدة ممكنة حتى يأتيهم المدد، وقسمت الأم ما كان في الصوان من طعام، وسمته حصص التموين، وكانت تقول حين يظل الطفلان جائعين بعد أن يصيبا وجبتهما: تشجعوا يا رجالي، إن النجدة في الطريق إلينا.
وكانت إذا واتاها بعض المال واشترت قدرا من البقالة، فإنها تشتري فيما تشتريه كعكة صغيرة كنوع من الاحتفال، وترشق بها علما يساوي بنسا، وتقول: لقد تحقق لنا ما نريد يا رجال، وبلغنا القطب الشمالي.
وسألت فرانسي أمها يوما بعد أن واتتهم نجدة من هذا القبيل: إن المستكشفين حين يجوعون ويقاسون على ذلك النحو، يفعلون ذلك لسبب ينتهي إلى غاية عظمى؛ ذلك أنهم يستكشفون القطب الشمالي، ولكن أية غاية كبرى نخرج بها حين نجوع على هذا النحو!
وبدأ الإعياء على كاتي فجأة، وقالت شيئا لم تفهمه فرانسي في ذلك الوقت، قالت: إنك لتلمسين العبرة في ذلك.
وأفسد النمو المسرحي في نظر فرانسي، ليس المسرح بالمعنى الدقيق للعبارة، بل المسرحيات؛ فقد وجدت فرانسي أنها أخذت تشعر بالسخط من طريقة وقوع الأحداث في وقتها.
وكانت فرانسي تحب المسرح حبا جما، ورغبت ذات مرة في أن تكون عازفة على أرغن اليد، ثم أرادت أن تكون مدرسة، فلما تناولت أول قربان مقدس لها أرادت أن تكون راهبة، وحين بلغت الحادية عشرة رغبت في أن تكون ممثلة .
وأطفال ويليمسبرج إذا غاب عنهم كل شيء، فإن المسرح لا يغيب عنهم، كان في حيهم في تلك الأيام عدد كبير من الفرق الجيدة، مثل: فرقة بلاني وفرقة كورس بايتون ومنتدى فيليب، وكان منتدى فيليب قائما عند المنعطف بالضبط، وفرانسي تذهب إلى هناك عصر كل يوم من أيام السبت، حين تستطيع أن تنتزع من أمها قطعة من فئة العشرة سنتات (إلا حين يغلق المسرح أبوابه في فصل الصيف) وكانت تجلس في أعلى المسرح وتنتظر في الصف دائما ساعة، قبل أن يبدأ العرض لتحصل على مقعد في أول صف.
وقد شغفت ببطل الفرقة هارولد كلارنس، فكانت تنتظره عند باب المسرح بعد حفلة يوم السبت النهارية، وتتبعه إلى بيته الوضيع المصنوع من الحجر البني، حيث يعيش حياة عادية في حجرة حقيرة الأثاث، وكان يمشي في الشارع بخطى متصلبة مثل الممثلين القدامى، ووجهه يبدو متوردا كوجوه الأطفال، وكأنما لا يزال يحمل أثر دهان الشباب، وكان يمشي في خطى متصلبة خلي البال، لا ينظر إلى اليمين أو إلى اليسار، ويدخن سيجارا وجيه المنظر يلقيه قبل أن يدخل البيت؛ لأن صاحبة البيت لا تسمح للرجل العظيم بأن يدخن في حجراتها، وتقف فرانسي على منعطف الشارع تتأمل بعين الخيال والأحلام عقب السيجار المهمل، وتنزع عنه حلقة الورق وتلبسها في إصبعها أسبوعا، متظاهرة بأن تلك الحلقة ما هي إلا خاتم خطبتها له.
ومثل هارولد وفرقته في يوم من أيام السبت مسرحية «حبيبة راعي الكنيسة»، وفيها وقع راعي كنيسة القرية الوسيم في غرام جيري مورهاوس بطلة الفرقة، واضطرت البطلة - لسبب ما - أن تبحث عن عمل في محل بقالة، وكانت هناك امرأة شريرة تحب راعي الكنيسة الشاب الوسيم أيضا، وخرجت لتنال من البطلة، ودخلت المحل تتبختر مزهوة بفرائها غير المألوفة للقرية وجواهرها العجيبة، وطلبت في كبرياء وعظمة رطلا من البن، ومرت لحظة رهيبة حين لفظت الكلمات الخطيرة «اطحنيه!»، وزمجر المتفرجون، وكانت الفكرة أن البطلة الرقيقة الجميلة ليست من القوة، بحيث تستطيع أن تدير العجلة الكبيرة، وأن عملها أيضا يقتضي أن تكون قادرة على طحن البن، وناضلت بقدر ما تستطيع، لكنها لم تقو على أن تدير العجلة دورة واحدة، وأخذت تستعطف المرأة الشريرة، مبينة أنها في أشد الحاجة للاحتفاظ بوظيفتها، لكن الشريرة رددت: «اطحنيه!» فلما بدا موقفها ميئوسا منه دخل هارولد الوسيم المحل بوجهه المتورد يرتدي مسوحه، ولما تبين الموقف ألقى قبعته الكهنوتية الواسعة على المسرح في حركة تمثيلية طبيعية، وتقدم بخطواته المتصلبة إلى الآلة وطحن البن. وهكذا أنقذ البطلة، وعم المتفرجين سكون رهيب حين انتشرت على المسرح رائحة البن الطازج المطحون، ثم ساد المكان هرج ومرج ... بن حقيقي! الواقعية تتمثل على المسرح! وكان كل شخص قد رأى بنا مطحونا آلاف المرات، ولكن حدوث ذلك فوق خشبة المسرح يعد قلبا للأوضاع المألوفة، وصرت الشريرة على أسنانها، وقالت: لقد هزمت مرة أخرى!
وعانق هارولد جيري ووجهها شاخص إلى النظارة، وأسدل الستار، ولم تشارك فرانسي أثناء الاستراحة الأطفال الآخرين في إزجاء وقت الفراغ في البصق على أغنياء القوم الجالسين في المقاعد الأمامية، التي يبلغ ثمن المقعد منها ثلاثين سنتا، بل أخذت تفكر في الموقف الذي أسدل عليه الستار، إنه لتوفيق عظيم أن يدخل البطل في الوقت المفضل يطحن البن، ولكن ماذا كان يحدث لو أنه لم يأت؟ كانت البطلة خليقة بأن تطرد من عملها، حسنا جدا، وماذا بعد؟ إنها سوف تخرج باحثة عن عمل آخر حين يشتد بها الجوع، وسوف تمسح البلاط كما تفعل أمها، أو تبتز الأموال من مغازلة الرجال، شأنها شأن فلوسي جاديس، إن عملها في محل البقالة أمر ضروري؛ لأن المسرحية قالت هذا فحسب.
ولم ترض فرانسي عن المسرحية التي شاهدتها في السبت التالي أيضا، فليكن؛ فقد عاد الحبيب الذي غاب طويلا إلى البيت في أنسب وقت ليدفع الرهن، ولكن ماذا كان يحدث لو عجز عن أن يدفعه؟ إن صاحب البيت خليق بأن يمهلهم ثلاثين يوما لإخلاء الشقة، ذلك هو ما يحدث في بروكلين على الأقل، وقد يهتدون إلى حل في ذلك الشهر، ولكن إذا لم يحدث ذلك واقتضاهم الأمر أن يخرجوا من البيت فعليهم أن يتدبروا الأمر ما وسعهم، فتذهب البطلة الجميلة وتحصل على عمل في المصنع، ويذهب أخوها المرهف الحس ليتجول في الشوارع ويبيع الصحف، وتقوم أمها بتنظيف البيت أثناء النهار، ولكنهم سيعيشون على أية حال. وقالت فرانسي عابسة بينها وبين نفسها: أجل سيعيشون أيتها الحمقاء، فالموت لا يأتي إلا بعد جهاد طويل.
ولم تستطع فرانسي أن تفهم لماذا لم تتزوج البطلة الرجل الشرير، إن هذا خليق بأن يحل مشكلة الإيجار، ثم إن الرجل الذي أحبها بلا شك كل ذلك الحب، حتى ارتضى لنفسه أن يعاني صنوف العناء جميعا لأنها لم تقبل أن تتزوجه؛ خليق بألا تتجاهله؛ لأنه على الأقل كان حاضرا بين يديها، حين غاب البطل وراء شيء لا يستطيع تحقيقه.
وألفت هي الفصل الثالث لتلك المسرحية، وأخذت تفرض الفروض متسائلة: ما الذي كان يحدث لو أن الأمر كيت وكيت، وكتبت هذه الفروض في حوار فأنست في كتابته سهولة عجيبة؛ لأن الأمر يقتضيك في كتابة قصة أن تعلل لم كان الناس هكذا؟ ولكنك حين تكتب الحوار فالأمر لا يقتضيك أن تفعل ذلك؛ لأن ما يقوله هؤلاء الناس يفسر لم كانوا هكذا! ولم تجد فرانسي مشقة في الاسترسال في الحوار، وغيرت رأيها مرة أخرى بشأن المهنة التي تنتوي أن تمارسها، واستقر رأيها على ألا تكون ممثلة بحال، بل ستكون كاتبة من كتاب المسرح.
29
وسيطر على جوني في صيف تلك السنة نفسها وهم بأن طفليه يشبان، وهما يجهلان المحيط العظيم الذي يغسل شواطئ بروكلين، وأحس جوني أن الواجب يقتضيه أن يركبوا البحر في سفينة، وقرر أن يأخذ الطفلين في زورق للتجديف عند كانارسي، ثم ينفقوا وقتا في صيد السمك من أغوار البحر. ولم يكن جوني قد مضى قط لصيد السمك أو ركب زورقا من زوارق التجديف، لكن اختمرت في رأسه تلك الفكرة.
وتملكت الفكرة جوني تملك السحر، وتداعت الفكرة عنده بمنطق لا صاحب له سواه، وانتهت بأن يصطحب معه في هذه الرحلة تيلي الصغيرة، وكانت تيلي الصغيرة طفلة في الرابعة من عمرها، ابنة لبعض الجيران الذين لم يلقهم جوني على الإطلاق، والحق أنه لم يكن قد رأى تيلي الصغيرة قط، ولكن راودته الفكرة بأن الواجب يقتضيه أن يفعل شيئا من أجلها مراعاة لما عانته من أخيها جاسي، وارتبط ذلك كله بنزوة الذهاب إلى كانارسي.
وكان جاسي، وهو في السادسة من عمره، أسطورة قاتمة في الحي، كان طفلا قوي المراس، متشيطنا، نمت شفته السفلى أكثر من المألوف، وقد ولد ككل الأطفال، وأرضعته أمه من ثدييها الكبيرين، وإلى هنا انقطع الشبه بينه وبين أي طفل آخر، حيا كان أو ميتا، فقد حاولت أمه أن تفطمه حين بلغ الشهر التاسع من عمره، لكن جاسي لم يحتمل ذلك، أما وقد حرم الثدي فقد رفض «البزازة» والطعام والماء، ونام في مهده وأخذ يصيح، واستأنفت أمه رضاعته خشية أن يتضور جوعا، ورضع راضيا، رافضا كل الأطعمة الأخرى، وعاش على لبن أمه حتى بلغ الثانية من عمره تقريبا، ثم انقطع لبن أمه لحملها، وتبرم جاسي وصبر على ذلك تسعة أشهر أخرى، ورفض لبن البقر في أي شكل يقدم له، وألف شرب القهوة الصرف.
وولدت تيلي الصغيرة، وفاض لبن الأم غزيرا مرة أخرى، وانتابت جاسي تشنجات هيستيرية حين رأى الطفلة ترضع لأول مرة، ورقد على الأرض يصرخ ويخبط رأسه، ورفض الأكل أربعة أيام وأبى الذهاب إلى دورة المياه، وشحب لونه؛ فارتاعت أمه وظنت أنه لا ضرر من أن ترضعه من ثديها مرة أخرى، وكان هذا خطأها الكبير؛ إذ غدا جاسي كمدمن المخدرات الذي حصل على المخدر بعد طول حرمان، فأبى أن يعود إلى الحرمان، ومن يومها استنفد لبن أمه جميعا، واضطرت تيلي الصغيرة - الطفلة العليلة - أن ترضع من البزازة.
وكان جاسي قد بلغ الثالثة من عمره حينذاك، وبدا أكبر من سنه، ويلبس كالأطفال الآخرين سروالا حتى الركبتين وحذاء ثقيلا مدعما بقطعتين من النحاس في كل فردة، وبمجرد أن يرى أمه تفك أزرار ردائها يجري إليها، ويقف وهو يرضع من ثديها، وقد وضع مرفقه على ركبة أمه ولف قدما على قدم في سرور، وعيناه تتجولان في الحجرة، ووقوفه للرضاعة ليس عملا فذا؛ لأن ثديي أمه ضخمان يكادان حين تطلقهما يستقران على حجرها، ومنظر جاسي في الحق بشع وهو يرضع على هذا النحو، كان يشبه رجلا يضع قدمه على حافة بار، ويدخن سيجارا غليظا باهت اللون.
واكتشف الجيران أمر جاسي وتهامسوا في شأن حالته المرضية، وتضايق أبو جاسي حتى إنه لم يكن ينام مع زوجته، وقال إنها تربي مسخا بشعا، وأخذت المرأة المسكينة تفكر وتفكر التماسا لطريقة تفطم بها جاسي، وقررت أنه أضحى أكبر من أن يرضع، فقد اقترب من السنة الرابعة، وخشيت أن أسنانه الثانية قد لا تظهر على نحو مستقيم.
وأخذت في يوم من الأيام علبة طلاء الموقد الأسود والفرشاة، وأغلقت على نفسها باب حجرة النوم، حيث طلت في غزارة ثديها الأيسر بطلاء الموقد الأسود، ورسمت في منطقة الحلمة بقلم شفتيها الأحمر فما قبيحا، واسعا له أسنان مخيفة، وأقفلت رداءها بالأزرار وذهبت إلى المطبخ، وجلست في مقعدها الهزاز بجوار النافذة، وألقى جاسي حين رآها كعوب النرد التي يلعب بها تحت حوض الغسيل، وهرع إليها ليرضع، ووضع قدما على الأخرى، وارتكز بمرفقه على ركبتها وانتظر.
وقالت له أمه مغررة به: أتريد أن ترضع يا جاسي؟ - نعم. - حسنا، انعم بالرضاعة يا جاسي!
وفتحت رداءها فجأة ورفعت ثديها البشع المنظر في وجهه، وشل جاسي من الخوف لحظة، ثم جرى مهرولا يصرخ واختبأ تحت السرير، وبقي هناك أربعا وعشرين ساعة، وخرج أخيرا وهو يرتعد، وعاد ثانية إلى شرب القهوة الصرف، وأصبح ينتفض كلما اتجهت عيناه نحو صدر أمه، وهكذا فطم جاسي.
وأذاعت الأم خبر نجاحها في كل أنحاء الحي، وبذلك سنت بدعة جديدة في الفطام عرفت ب «تخويف الطفل بجاسي».
وسمع جوني القصة، وأقصى جاسي من مخيلته في سخرية وتهكم، ولكنه كان يهتم بالصغيرة تيلي، وفكر في أنها حرمت شيئا عظيما قد يعوق نموها، وتوهم أن نزهة في قارب على شاطئ كانارسي، قد تزيل من نفسها بعض الضر الذي أصابها به أخوها الشاذ، وبعث بفرانسي لتسأل هل يمكن لتيلي الصغيرة أن تصحبهم في رحلتهم، ووافقت الأم المتعبة في سعادة.
وانطلق جوني والأطفال الثلاثة يوم السبت إلى كارناسي، وكانت فرانسي في الحادية عشرة من عمرها ونيلي في العاشرة وتيلي الصغيرة قد جاوزت الثالثة، وارتدى جوني حلة السهرة الرسمية وقبعته الدربي وبنيقة نظيفة وصدرية، وارتدى نيلي وفرانسي ملابس كل يوم، أما تيلي الصغيرة فقد ألبستها أمها احتفاء بهذا اليوم رداء رخيصا، ولكنه جميل مزركش بالمخرمات، وقد زين بشريط لونه وردي داكن.
وجلسوا في المقاعد الأمامية في عربة التروللي، وتصادق جوني مع السائق، وأخذا يتكلمان في السياسة، وهبطوا من العربة عند المحطة الأخيرة، وكانت هي كانارسي، وشقوا طريقهم إلى رصيف مرفأ صغير حيث وجدوا كوخا صغيرا، ورأوا قاربين من قوارب التجديف المشيدة من كتل الخشب، يهتزان صاعدين هابطين على الحبال المتآكلة التي تربطهما برصيف المرفأ.
وكتب على لافتة فوق الكوخ: «أدوات صيد السمك وقوارب للإيجار».
وكتب على لافتة من تحتها أكبر حجما: «هنا يباع السمك الطازج».
وتفاوض جوني مع الرجل وتصادق معه كعادته، ودعاه الرجل إلى الكوخ ليشرب كأسا من الخمر، زاعما أنه لا يشربها إلا في المساء.
وخرج جوني ومعه سنارة لصيد السمك وعلبة صدئة من القصدير ملئت بدود يكمن في الطين، وفك الرجل الودود حبل أحسن قوارب التجديف حالا، ووضعه في يد جوني، وتمنى له حظا سعيدا، وعاد إلى كوخه.
ووضع جوني أدوات الصيد في قاع القارب، وساعد الأطفال على النزول إلى القارب، ثم ربض على رصيف المرفأ والحبل في يده، وأخذ يشرح ما يتصل بالقوارب قائلا، وهو لم يركب قاربا قط إلا مرة واحدة في رحلة للنزهة: إن هناك دائما طريقتين للنزول إلى القارب، إحداهما صحيحة والأخرى خاطئة، والطريقة الصحيحة هي أن تدفع القارب دفعة، ثم تقفز إليه قبل أن ينساب في البحر هكذا ...
ورفع قامته ودفع القارب بعيدا عنه وقفز ... فسقط في الماء، وحملق الأطفال المذعورون فيه، لقد كان أبوهم يقف أمامهم على الرصيف منذ لحظة، وهو الآن تحت أقدامهم في الماء، وغمرته المياه حتى رقبته، إلا أن شاربه الصغير المدهون وقبعته الدربي ظلا خارج الماء، وبقيت قبعته مستقيمة على جبهته، وحملق جوني في الأطفال لحظة، وقد دهش مثلهم ثم قال: فليحذر أي منكم أيها الأطفال الملاعين أن يعمد إلى الضحك.
وتسلق إلى القارب وأوشك أن يقلبه، ولم يجرؤ الأطفال على الضحك بصوت عال، لكن فرانسي كتمت الضحك بشدة في أعماقها، حتى إن ضلوعها آلمتها، وخشي نيلي أن ينظر إلى أخته وعرف أنه سوف ينفجر ضاحكا إذا التقت عيناه بعينيها، ولم تقل الصغيرة تيلي شيئا، وأصبحت بنيقة جوني وقبعته خليطا مبتلا كالورق المنقوع، فخلعهما وألقى بهما على سطح القارب، وجدف نحو البحر مترنحا ولكنه التزم الصمت في وقار، ولما وصل إلى بقعة ظن أنها المكان المناسب، أعلن أنه سيلقى المرساة، وشعر الأطفال بخيبة أمل حين اكتشفوا أن تلك العبارة الشاعرية، لم تكن تعني سوى إلقاء قطعة من الحديد ربطت على حبل القارب.
وراقب الأطفال الأب مذعورين وهو يسلك في اشمئزاز دودة مختلطة بالطين في الشص، وبدأ صيد السمك، وكان قوامه إطعام الشص ورميه في حركة مثيرة، ثم الصبر عليه لحظة وجذبه خاليا من الدودة والسمك، ثم استئناف العمل كله مرة أخرى.
وغدت الشمس زاهية شديدة الحرارة، وجفت حلة جوني الرسمية لتصبح شيئا متصلبا متغضنا ضاربا إلى الخضرة، وبدأ الأطفال يصابون بضربة شمس مفاجئة، وأعلن الأب بعد فترة طويلة، خيل للأطفال أنها ساعات، أنه قد حان وقت الأكل، فشعروا بارتياح شديد وسعادة كبيرة، ولف جوني سنارة الصيد ووضعها بعيدا، وجذب المرساة وجدف متجها نحو رصيف المرفأ، وبدا القارب كأنه يلف في دائرة؛ مما جعل رصيف المرفأ يغدو أكثر بعدا، ووصلوا أخيرا إلى الشاطئ، وقد بعدوا عن المرفأ بضع مئات من الياردات، وربط جوني القارب وطلب من الأطفال أن ينتظروا فيه ومضى إلى الشاطئ، وقال: إنه سيقدم لهم غداء طيبا.
وعاد بعد لحظة يمشي مترنحا يحمل «سجقا» ساخنا وفطيرة التوت وكعكة الشليك، وجلسوا يأكلون في القارب المترنح الذي ربط إلى رصيف المرفأ المتآكل، ينظرون إلى المياه الخضراء الطينية التي تنبعث منها رائحة السمك الفاسد، وكان جوني قد شرب قليلا من كئوس الخمر على الشاطئ، جعلته يأسف على أنه صرخ في وجه الأطفال، وقال لهم: إنه يمكنهم أن يضحكوا ما شاءوا على وقوعه في الماء، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحملوا أنفسهم على الضحك بوجه ما، فقد مضى أوان ذلك، وظنت فرانسي أن أباها يبتهج كل الابتهاج، وقال: هذه هي الحياة بعيدا عن الزحام الهائج الصاخب. آه! ليس هناك أجمل من ركوب البحر في مركب.
وختم كلامه بغموض قائلا: إننا نخرج بأنفسنا من كل ذلك.
وجدف جوني إلى البحر مرة أخرى بعد أن فرغوا من غدائهم العجيب، وتساقط العرق غزيرا من تحت قبعته الدربي، وذاب الدهان الذي على أطراف شاربه، فأحال شاربه النظيف المسوى إلى شعر أشعث فوق شفته العليا، ولكنه شعر بالسعادة وأخذ يغني في إشراق وهو يجدف: إننا نبحر ... ونبحر ... على مشارف البحر الطامي.
وأخذ يجدف ويجدف ملتزما دائرة، ولم ينطلق أبدا إلى البحر، وأخيرا تقرحت يداه حتى مل التجديف، وأعلن بطريقة تمثيلية أنه سوف يجدف نحو الشاطئ، وأخذ يجدف ويجدف، ثم استطاع أخيرا أن يضيق الدوائر شيئا فشيئا، حتى اقتربت هذه الدوائر من الرصيف، ولم يلحظ قط أن أجسام الأطفال الثلاثة قد غدت في لون البازلاء الخضراء، في المواضع التي لم تستحل إلى حمرة الجزر بفعل أشعة الشمس، ولو لاحظ هذا لأدرك أن السجق وفطيرة التوت وكعكة الشليك والديدان التي تتلوى في الشص، لم تفد الأطفال فائدة كبيرة.
فلما بلغ المرفأ قفز إلى الرصيف وفعل الأطفال مثله، وبلغوا جميعا الرصيف ما عدا تيلي الصغيرة فقد سقطت في الماء، وألقى جوني نفسه منبطحا على الرصيف وأمسك بها وانتشلها من الماء، ووقفت تيلي الصغيرة هناك، وقد ابتل رداؤها ذو المخرمات ولكنها لم تقل شيئا، وخلع جوني سترة حلته الرسمية، وركع على ركبتيه ولف الطفلة بها، بالرغم من أنه كان يوما قائظ الحرارة، وتدلت أكمام السترة تجرجر على الرمل، ثم حملها جوني بين ذراعيه وسار في خطوات بطيئة صاعدا هابطا المرفأ، وهو يربت ظهرها مواسيا ويغني لها أغنية من أغاني الأطفال، ولم تفهم تيلي الصغيرة شيئا مما حدث طوال اليوم، لم تفهم لماذا وضعت في قارب، ولماذا سقطت في الماء، أو لماذا يحدث الرجل مثل هذه الضجة حولها، ولم تقل شيئا.
ووضعها جوني على الأرض حين شعر أنها هدأت، وذهب إلى الكوخ حيث يجد خمرا يحتسيها، واشترى من الرجل ثلاث سمكات من سمك موسى نظير ربع دولار، وخرج بالسمك المبلل وقد لفه في صحيفة، وقال لطفليه: إنه وعد أمهما بأن يعود إلى البيت بالسمك الطازج الذي يصطاده، وقال الأب: إن أهم شيء أن أعود إلى البيت بسمك من كانارسي، يستوي في ذلك أن أكون أنا الذي اصطدته أم غيري، والعبرة هي أننا خرجنا لصيد السمك وعدنا إلى البيت بسمك.
وأدرك طفلاه أنه يريد من أمهما أن تعتقد أنه هو الذي صاد السمك، ولم يكن الأب يطلب منهما أن يكذبا، وإنما أرادا ألا يكونا حريصين على قول الحقيقة بحذافيرها، وفهم الطفلان ما يريده أبوهما.
وركبوا إحدى عربات التروللي التي تشتمل على مقعدين يواجه كل منهما الآخر، واصطفوا صفا عجيبا، يجلس في أوله جوني بسرواله الأخضر المغضن، الذي تصلب بفعل ماء البحر الملح، وظهر قميصه الداخلي مليئا بالثقوب الكبيرة، وعلى رأسه قبعته الدربي، وعلى شفته العليا شارب أشعث، وتليه الصغيرة تيلي وقد غطست في معطفه، والمياه الملحة تقطر من تحته، لتصنع على الأرض بركة صغيرة من الماء الملح، ثم تليهما فرانسي ونيلي بوجهيهما المحمرين بلون الآجر، وقد جلسا ثابتين كل الثبات محاولين ألا يسقطا إعياء.
وركب الناس العربة وجلسوا قبالتهم وهم يحملقون فيهم متعجبين، وقد جلس جوني معتدل القامة والسمك في حجره، محاولا ألا يفكر في الثقوب التي تملأ قميصه الداخلي الظاهر للعيون، ونظر من فوق رءوس الركاب متظاهرا بأنه يقرأ إعلانا عن أقراص مسهلة.
وتزايد عدد الركاب وازدحمت العربة، لكن واحدا لم يجلس إلى جوارهم، وأخيرا شقت سمكة طريقها خارج اللفافة المبتلة، ووقعت على الأرض حيث رقدت في التراب وقد غشاها الغبار، وكان ذلك أكثر مما تحتمله الصغيرة تيلي، فنظرت في عيني السمكة البراقتين ولم تقل شيئا، ولكنها تقيأت في سكون كل ما في جوفها فوق سترة جوني الرسمية، ونفض نيلي وفرانسي ما في جوفهما أيضا، وكأنهما ينتظران تلك الإشارة، وجلس جوني هناك وفي حجره سمكتان عاريتان وسمكة ثالثة ترقد عند قدميه، وظل يحملق في الإعلان، ولم يكن يعرف ما يفعله غير ذلك.
وأخذ جوني تيلي إلى بيتها بعد أن انتهت الرحلة المريعة، وهو يشعر أنه مطالب ببيان ما حدث، لكن أمها لم تعطه أبدا فرصة للإيضاح، وأخذت تصرخ حين رأت طفلتها المبتلة الملوثة، وخطفت المعطف من فوقها وقذفت به في وجه جوني، وسمته المفسد الأكبر، وحاول جوني مرارا أن يوضح لها الأمر، لكنها لم تستمع له، ولم تقل تيلي الصغيرة شيئا، وأخيرا قال جوني كلمة عارضة: سيدتي، أعتقد أن ابنتك الصغيرة قد فقدت النطق.
واستولت على الأم نوبة عصبية حادة، وصرخت في وجه جوني: أنت الذي فعلت ذلك، أنت الذي فعلت ذلك. - ألا تستطيعين أن تحمليها على أن تقول شيئا؟
وأمسكت الأم بالطفلة وأخذت تهزها وتهزها، وصرخت: تكلمي! قولي شيئا!
وفتحت تيلي الصغيرة أخيرا فمها، وابتسمت في سعادة وقالت: شكرا!
وأعطت كاتي زوجها جوني درسا قاسيا، وقالت إنه لا يصلح لأن يكون أبا لأطفال. وكان الطفلان تتناوبهما القشعريرة ونوبات من الحرارة، بفعل ضربة الشمس الشديدة التي نزلت بهما، وكادت كاتي تبكي حين رأت التلف البالغ الذي أصاب حلة جوني الوحيدة، وإنها خليقة بأن تنفق دولارا لإزالة الأوساخ التي علقت بها وتنظيفها بالبخار وكيها، وأدركت أنها لن تعود إلى حالتها الأولى قط، أما السمك فقد اتضح أنه بلغ من الفساد مبلغا كبيرا، وأن الأمر يقتضي أن يلقى به في صندوق القمامة.
وذهب الطفلان إلى فراشهما، وقد تملكتهما نوبات من القشعريرة والحمى والغثيان، ودفنا رأسيهما تحت الأغطية يضحكان في صمت ويهزان سريرهما، حين يذكران منظر أبيهما وهو يقف في الماء.
وجلس جوني إلى نافذة المطبخ حتى أوغل الليل، محاولا أن يتبين كيف صارت الأمور جميعا على ذلك النحو الخاطئ، لقد غنى أغنيات كثيرة عن السفن وركوب البحر والسفينة تتمايل يمنة ويسرة، وتحير لم لم تكن الرحلة على نحو ما يقال في الأغنية، فيعود الأطفال مسرورين وقد تغلغل في قلوبهم حب البحر، ويعود هو وقد امتلأ وفاضه بالسمك، لماذا؟ أوه ... لماذا لم تكن الرحلة على نحو ما تردد الأغنية، لماذا تقرحت يداه وتلفت حلته وأصيب الأطفال بضربة الشمس، وتعفن السمك وحدث الغثيان؟ لماذا لم تفهم أم تيلي الصغيرة نيته وتتغاضى عن النتيجة؟ لم يستطع أن يتبين هذا، أجل لم يستطع أن يتبينه، فقد خدعته أغاني البحر.
30
وكتبت فرانسي في مفكرتها في ذلك الصيف، الذي بلغت فيه الثالثة عشرة من عمرها. «اليوم، إنني امرأة.»
ونظرت إلى الجملة وحكت بغير وعي لدغة بعوضة أصابت ساقها العارية، ونظرت إلى ساقها الطويلة الرقيقة التي لم تستقر على شكل بعد، وحذفت الجملة وبدأت من جديد. «قريبا سأصبح امرأة.» ونظرت إلى صدرها الذي كان مستويا كأرض الحمام، ونزعت الصفحة من المفكرة، وبدأت صفحة جديدة.
وكتبت وهي تضغط بشدة على قلمها: «إن التعصب هو سبب اشتعال الحرب، وتقتيل الآمنين من المواطنين، وإقامة المصالب والمشانق والقصاص بلا محاكمة قانونية، وحمل الناس على أن يقسوا على الأطفال الصغار، وبعضهم على بعض، إنه المسئول عن معظم الفساد والحقد والفزع وتحطيم قلب العالم وتعذيب روحه.»
وقرأت الكلمات بصوت عال، فرنت رنين كلمات انبعثت أصداؤها من صندوق من القصدير، وأغلقت المفكرة ووضعتها جانبا.
وكان يوم السبت في ذلك الصيف خليقا بأن يسجل في يومياتها كأسعد أيام حياتها؛ فقد رأت اسمها لأول مرة مطبوعا، وكانت المدرسة قد أصدرت مجلة في نهاية العام، حيث نشرت فيها أحسن قصة كتبت في حصة الإنشاء من كل صف، ووقع الاختيار على موضوع فرانسي المسمى «موسم الشتاء» كأحسن أعمال الصف السابع، وكان ثمن المجلة عشرة سنتات، واضطرت فرانسي إلى الانتظار حتى يوم السبت لتشتريها، وأغلقت المدرسة أبوباها لحلول إجازة الصيف في اليوم السابق ليوم السبت ، وقلقت فرانسي خشية ألا تحصل على المجلة، ولكن السيد جونسون قال لها إنه سوف يعمل بالمدرسة يوم السبت، وإنه سوف يعطيها نسخة من المجلة إذا أحضرت معها السنتات العشرة.
ووقفت فرانسي في وقت مبكر من العصر أمام بيتها ممسكة بالمجلة، وقد فتحتها عند الصفحة التي كتبت فيها قصتها، وكانت تأمل في أن يمر بها عابر سبيل يمكنها أن تريها له.
وأطلعت أمها على القصة وقت الغداء، ولكن اضطرت أن تعود إلى العمل، ولم يكن لديها وقت لقراءتها، وذكرت فرانسي خمس مرات على الأقل أثناء الغداء أن لها قصة نشرت، وقالت أمها أخيرا: نعم، نعم، إني أعلم هذا، وقد تنبأت لك به كله، ولسوف تنشر لك قصص كثيرة، وتعتادين ذلك، ولكن لا تشغلي بالك بها، فإن أمامك أطباقا تقتضي الغسل.
وكان الأب في مركز الاتحاد العام، ولن يقدر له أن يرى القصة حتى يوم الأحد، ولكن فرانسي تعلم أنه سيسر بها، ووقفت في الشارع وقد وضعت تحت إبطها مبعث مجدها، ولم تستطع أن تتخلى عن المجلة ولو للحظة واحدة، وأخذت تلقي نظرة من حين إلى حين على اسمها المكتوب بالحروف المطبوعة، وتشعر بسعادة لا تفتر أبدا.
ورأت فتاة تدعى جوانا تخرج من بيتها على بعد قليل من مسكنها، وكانت جوانا قد أخذت طفلها في عربته ليشم الهواء الطلق، وشهقت بعض الزوجات اللائي وقفن للثرثرة على جانب الطريق أثناء تسوقهن رائحات غاديات: أترين؟! إن جوانا لم تتزوج بعد ... إنها فتاة جميلة قاست من المتاعب في حياتها ... إن ابنها ليس شرعيا ... «ابن سفاح». كانت هذه هي العبارة التي يستعملنها في الحي، وشعرت هؤلاء النسوة الشريفات أن جوانا ليس من حقها أن تتصرف كأم لها كبرياؤها، وتخرج طفلها في ضوء النهار، وشعرن أنه كان يجب عليها أن تخفيه في مكان مظلم.
وأحست فرانسي برغبة في استطلاع أمر جوانا والطفل، لا سيما أنها سمعت أمها وأباها يتكلمان عنها، وحملقت في الطفل حين مرت العربة بها، وكان شيئا صغيرا جميلا يجلس سعيدا في عربته، ربما كانت جوانا فتاة سيئة الخلق، لكنها بلا شك تعتني بطفلها الذي يبدو أكثر نظافة وجمالا وأناقة من أطفال النساء الشريفات. وكان الطفل يلبس قبعة موشاة ورداء نظيفا أبيض و«مريلة»، وكان غطاء العربة نظيفا عليه رسوم جميلة طرزت باليد.
وكانت جوانا تشتغل في مصنع وأمها ترعى طفلها، وشعرت الأم بعار شديد حتى إنها لم تكن تخرج بالطفل من البيت؛ ولذلك لم يتنزه الطفل في الهواء الطلق إلا في نهاية الأسبوع حين تخلو جوانا من العمل. أجل، لقد قررت فرانسي أنه طفل جميل، يشبه جوانا تماما، وتذكرت كيف وصفها أبوها في اليوم الذي كانت أمها تتكلم عنها: إن لها بشرة كأكمام زهرة المانوليا (ولم يكن جوني قد رأى زهرة المانوليا قط)، وإن شعرها أسود سواد جناح الغراب الأسحم (ولم يكن قد رأى مثل هذا الطائر)، وإن عينيها عميقتان داكنتان كينابيع الغابة، (ولم يكن رأى غابة قط)، ولكنه وصف جوانا وصفا دقيقا، لقد كانت فتاة جميلة.
وأجابت كاتي: نعم قد تكون كذلك، ولكن أي خير جلبه لها جمالها؟ إن جمالها لعنة عليها، وقد سمعت أن أمها لم تتزوج أبدا، وأنجبت طفليها على هذا النحو، وإن ابنها الآن محبوس في سجن «سنج سنج»، وابنتها أنجبت ذلك الطفل، إن الفساد يجري في دم سلالتهما من الجد إلى الحفيد، وما من جدوى ترجى من العطف عليهما.
وأضافت في تنزه عن الغرض، وهي صفة كانت تقدر عليها قدرة عجيبة في بعض الأحيان: لا شك أن هذا الأمر لا يعنيني، ولست بحاجة إلى أن أتخذ حياله هذا الموقف أو ذاك، وما من داع يدعوني إلى الخروج من داري والبصق على الفتاة لأنها أخطأت، كما أنني لست بحاجة إلى أن أوويها في بيتي وأتبناها لأنها أخطأت، لقد عانت كثيرا من الآلام لتخرج ذلك الطفل إلى العالم، كما لو كانت تزوجت سواء بسواء، ولسوف تتلقى درسا من ذلك الألم والعار إذا كانت فتاة طيبة في جوهرها، أما إذا كانت بطبيعتها فتاة سيئة فلن تهمها المعاملة السيئة التي تلقاها من الناس ؛ ولهذا فإنني لو كنت مكانك يا جوني لما شعرت بالأسف الكثير من أجلها.
واستدارت فجأة إلى فرانسي، وقالت: لتكن جوانا عبرة لك.
وراقبت فرانسي عصر ذلك اليوم من أيام السبت جوانا، وهي تسير صاعدة هابطة وتحيرت متسائلة، على أي نحو تكون مثل تلك الفتاة عبرة لها؟ وبدت جوانا فخورا بطفلها، هل كانت العبرة تكمن في ذلك؟ كانت جوانا في السابعة عشرة من عمرها فحسب، أليفة أنيسة تريد من كل شخص أن يكون أليفا وأنيسا معها، وكانت تبتسم إلى النساء الشريفات الصارمات، لكن ابتسامتها تموت على شفتيها حين تراهن يقابلنها بالعبوس، وتبتسم للأطفال الصغار وهم يلعبون في الشارع، وبعضهم يبتسم لها، وابتسمت لفرانسي، وأرادت فرانسي أن تبتسم لها ولكنها أحجمت، ترى أكانت العبرة في أن الأمر يقتضيها ألا تعامل بالود فتيات على شاكلة جوانا؟
وبدت الزوجات الشريفات وقد امتلأت أذرعهن بحقائب الخضراوات، ولفائف اللحم البنية اللون كأنما لا ينتظرهن إلا عمل قليل ذلك العصر، فأخذن يجتمعن في «شلل» صغيرة ويتهامسن، ويتوقف الهمس حين تمر جوانا بهن، ليبدأ مرة أخرى حين تبتعد.
وكانت جوانا في كل مرة تمر فيها يزداد خداها توردا ويزداد رأسها شموخا، ويضرب إزارها الهواء بعنف من خلفها في مزيد من الجرأة والتحدي، وبدت كأنها تزداد جمالا وكبرياء كلما مشت، وكانت تتوقف أكثر مما يقتضيه الأمر لتحكم غطاء الطفل، وجنت عقول النساء وهي تلمس خد الطفل وتبتسم له في حنان، وكيف تجرؤ على ذلك! وفكرن كيف تبلغ بها الجرأة أن تتصرف كما لو كان لها الحق في أن تفعل ذلك؟
ومعظم هؤلاء النساء الشريفات نشأن أطفالهن بالصراخ والضرب، والكثيرات منهن يكرهن أزواجهن الذين ينامون إلى جوارهن بالليل، ولم يعدن يشعرن بمتعة كبيرة معهم، وكن يتحملن في صرامة المعاشرة الزوجية معهم، وهن يصلين طول الوقت ألا تكون النتيجة طفلا آخر، وجعل هذا الاستسلام المرير الرجل فظا متوحشا، وأصبحت المعاشرة الزوجية في نظر بعضهم رجالا ونساء أمرا وحشيا، كلما عجلوا بنهايتها كان ذلك أفضل لهم، وكرهوا هذه الفتاة لأنهم شعروا أن شأنها مع أبي طفلها لم يكن كشأنهم.
واكتشفت جوانا كراهية النساء لها، لكنها لم تضعف حيال ذلك ولم تسلم بالأمر وتأخذ الطفل داخل البيت، وكان لا بد أن يحدث شيء، وانفجرت النساء أولا، وقد عجزن عن تحمل الأمر أكثر من ذلك، وكان عليهن أن يفعلن شيئا في هذا الشأن، وصاحت امرأة متوترة الأعصاب حين مرت بهن جوانا في المرة التالية: ألا تشعرين بالخزي من نفسك؟
وسألت جوانا: لماذا؟
وأشعل هذا السؤال غضب المرأة، وقالت لامرأة ثانية: إنها تسأل لماذا؟ سأقول لها لماذا ... لأنك عار وفضيحة، إنه ليس من حقك أن تستعرضي نفسك في الشوارع ومعك ابن السفاح، حيث يراك الأطفال الأبرياء.
وقالت جوانا: أعتقد أن هذا بلد حر. - ليس حرا لأمثالك، اغربي عن هذا الشارع، اغربي عن هذا الشارع. - حاولي أن تحمليني على ذلك!
وأمرتها المرأة المتوترة الأعصاب قائلة: اغربي عن هذا الشارع أيتها العاهرة!
وارتعش صوت الفتاة وهي تجيب: حاسبي نفسك على ألفاظك.
وقاطعتها امرأة أخرى: لسنا بحاجة لأن نحاسب أنفسنا على ما نقول لامرأة ليس من حقها أن تمشي في الشارع.
وتوقف رجل لحظة كان مارا ليهدئ الجو، ولمس ذراع جوانا قائلا: انظري يا أختاه، لماذا لا تدخلين إلى بيتك حتى تهدأ هذه النفوس الثائرة! إنك لن تستطيعي الانتصار عليهن.
وانتزعت جوانا ذراعها عنه، وقالت: انصرف لشأنك. - إن قصدي شريف يا أختاه ... معذرة.
ومضى لشأنه، وقالت المرأة المتوترة الأعصاب في إغراء: لم لا تذهبين معه؟ فقد تظفرين منه بربع دولار؟
وضحكت الأخريات، وقالت جوانا بصوت هادئ: إنكن جميعا غيارى.
وقالت المرأة التي تحاورها: إنها تقول إننا غيارى، غيارى من أي شيء يا أنت؟
وقالت «أنت» كأنما كان هذا هو اسم الفتاة.
وقالت للمرأة المتوترة الأعصاب: غيارى، لأن الرجال يحبونني، هذا هو السبب، لقد حالفك الحظ لأنك تزوجت من قبل، ولست خليقة بأن تحصلي على رجل على نحو آخر، إني أراهن أن زوجك يبغضك، ويعاشرك رغما عنه، إني أراهن أن تلك هي حاله تماما.
وصرخت المرأة المتوترة الأعصاب، وقد تملكتها نوبة عصبية: أيتها العاهرة! أيتها العاهرة!
ثم التقطت حجرا من مصرف الماء، وألقته على جوانا وقد دفعتها غريزة كانت، ولا تزال تتملك النفوس.
وكان ذلك إشارة للنساء الأخريات، فبدأن يلقين الحجارة عليها، وألقت عليها امرأة أكثر مجونا من الأخريات كرة من روث الجياد، وأصابت بعض الحجارة جوانا، لكن حجرا حاد الطرف أخطأ جوانا وأصاب جبين الطفل، وانساب على الفور خيط رفيع صاف من الدم على وجه الطفل ولوث «مريلته» النظيفة، وصاح الطفل صيحات متقطعة، ورفع ذراعيه لأمه لتحمله.
وتوقفت بعض النساء عن إلقاء مزيد من الحجارة، وأسقطوها في هدوء في المصرف مرة أخرى، وانتهى العراك كله، وشعرت النساء فجأة بالخزي، فلم يكن قصدهن إيذاء الطفل، وإنما أردن أن يطردن جوانا من الشارع، وتفرق شملهن وعدن إلى بيوتهن في هدوء، واستأنف بعض الأطفال، الذين كانوا واقفين هناك ينصتون، لعبهم وكأن شيئا لم يحدث.
وحملت جوانا التي كانت تبكي، طفلها من العربة، واستمر الطفل في الصياح بصوت خفيض، كأنما لم يكن له حق في البكاء بصوت عال، وضغطت جوانا خدها على وجه الطفل واختلطت دموعها بدمه، لقد انتصرت النساء، وحملت جوانا طفلها إلى البيت، غير عابئة بتركها العربة واقفة في وسط الممر الجانبي.
وكانت فرانسي قد رأت كل شيء ... رأت كل شيء ... وسمعت كل كلمة، وتذكرت كيف أن جوانا ابتسمت لها، وكيف أنها أشاحت بوجهها عنها دون أن ترد ابتسامتها، لم لم ترد ابتسامتها؟ لم لم ترد ابتسامتها؟ إنها سوف تتعذب، سوف تتعذب بقية حياتها كلما تذكرت أنها لم ترد ابتسامتها.
وبدأ بعض الصبيان الصغار يلعبون لعبة المحاورة حول العربة الفارغة، ويمسكونها من جانبيها ويشدونها وهم يطاردون بعضهم بعضا، وفرقتهم فرانسي، وجرت العربة إلى باب بيت جوانا ثم أوقفتها، وكان العرف يقضي بألا يمس أحد أي شيء يقف خارج باب البيت الذي ينتمي إليه هذا الشيء.
وكانت فرانسي لا تزال تمسك بالمجلة التي تشتمل على قصتها، ووقفت بجوار العربة ونظرت إلى اسم القصة مرة أخرى «موسم الشتاء بقلم فرانسيس نولان»، وأرادت أن تفعل شيئا، أرادت أن تضحي بشيء لتكفر عن عدم ابتسامتها لجوانا، وفكرت في قصتها وكانت فخورا بها، مشغوفة كل الشغف بأن تريها لأبيها وخالتيها إيفي وسيسي، وأرادت أن تحتفظ بها دائما لتنظر إليها حتى يسري في كيانها ذلك الشعور الدافئ الممتع الذي تحسه حين تنظر إليها، وما كان لديها من وسيلة تحصل بها على نسخة أخرى من المجلة، لو أنها تخلت عن النسخة التي معها، ودست المجلة تحت وسادة الطفل وتركتها مفتوحة عند الصفحة التي كتبت فيها قصتها.
ورأت بعض قطرات صغيرة من الدم على وسادة الطفل البيضاء الناصعة، ومرة أخرى رأت الطفل وخيط الدم الرفيع ينساب على وجهه، وكيف كان يرفع ذراعيه لتحمله أمه، واستولت على قلب فرانسي موجة من الألم، لم تتركها إلا بعد أن حلت بها الدهشة وانتابتها موجة أخرى، ثم توقفت، وانحسرت، وشقت فرانسي طريقها هابطة إلى مخزن المؤن في بيتها، حيث جلست في أظلم ركن على كوم من أكياس الخيش، وانتظرت هناك، على حين راحت موجات الألم تعصف بها، وكانت ترتعد كلما انحسرت موجة لتحل محلها موجة جديدة، جلست هناك مشدودة الأعصاب تنتظر حتى يتوقف سيل تلك الموجات، وكانت خليقة بأن تموت إذا لم تتوقف، أجل كانت خليقة بأن تموت.
وخفت حدة موجات الألم بعد فترة، وطالت المدة بين كل موجة وأخرى، وبدأت فرانسي تفكر، لقد أصبحت الآن تتلقى العبرة من جوانا، ولكنها ليست العبرة التي عنتها أمها.
وتذكرت جوانا تمر ببيتها أحيانا كثيرة وهي عائدة من المكتبة إلى بيتها ليلا، وتراها هي والصبي واقفين متلازمين في الممر الضيق، وترى الصبي وهو يربت في حنان شعر جوانا الجميل، وترى كيف ترفع جوانا يدها لتلمس خده، ويبدو وجه جوانا هادئا حالما في ضوء مصباح الشارع، هل صحيح أن العار والطفل خرجا من تلك البداية؟ لماذا؟ لماذا؟ إن البداية كانت تبدو غاية في الحنان والصواب، فلماذا إذن ...؟
وفرانسي تعلم أن إحدى النساء اللائي قذفنها بالحجارة أنجبت طفلا بعد ثلاثة أشهر فحسب من زواجها، وكانت عندئذ طفلة ضمن الأطفال الواقفين عند منعطف الشارع، يرقبون الجمع وهم خارجون إلى الكنيسة، ورأت بروز الحمل من تحت الخمار العذري للعروس، وهي تخطو إلى العربة المستأجرة، رأت يد الأب، وهي تمسك العريس وتشد أزره، وكان العريس حزينا كل الحزن، تظهر الهالات السوداء تحت عينيه.
ولم يكن لجوانا أب ولا رجال من ذوي القربى، لم يكن هناك أحد ليمسك بيد رجلها في الطريق إلى الهيكل ويشد أزره، وقررت فرانسي أن ذلك هو جريمة جوانا؛ ليس لأنها فتاة سيئة الخلق؛ ولكن لأنها لم تكن من الذكاء وسعة الحيلة بحيث تأخذ رجلها إلى الكنيسة.
ولم تجد فرانسي طريقا إلى معرفة القصة بأكملها، وكان رجل جوانا في الواقع يحبها ويريد الزواج منها، بعد أن أصابته المشاكل كما يقول الناس، وله أسرة تتألف من أم وثلاث أخوات، وأخبرهن أنه يريد الزواج بجوانا فاقتلعوا الفكرة من رأسه، وقلن له لا تكن أبله فهي ليست فتاة طاهرة الذيل، وأسرتها كلها ليست طاهرة الذيل، ثم كيف تعلم أنك أنت أبو الطفل، إنها ما دامت قد استسلمت لك، فقد استسلمت للآخرين، إن كيد النساء عظيم، ونحن نعلم ذلك؛ فإننا نساء. إنك رجل طيب رحيم القلب؛ ولذلك تصدق كلمتها لك بأن طفلها منك، إنها تكذب، لا تنخدع يا بني، لا تنخدع أيها الأخ، إذا كان لا بد لك أن تتزوج، فتزوج فتاة طاهرة لا تستسلم لك إلا بعد أن يعقد زواجكما القسيس، وإذا تزوجت هذه الفتاة فلن تكون ابني، ولن تكون أخانا، فهيهات أن تتأكد أن هذا الطفل من صلبك، وسوف يشغل بالك، وأنت تمارس عملك وتتحير من هو الرجل الذي يتسلل إلى فراشك بجانبها بعد أن تغادرها في الصباح، أوه! أجل، يا بني، يا أخانا، إن ذلك ما تفعله النساء، إننا نعلم؛ فنحن نساء نعرف كيف يفعلن ما يفعلن، إن كيدهن عظيم.
واستسلم الفتى لمنطقهن حتى اقتنع وأعطته النساء من أهله المال، وحصل على عمل ومسكن في جيرسي، ولم يخبرن جوانا أين هو، فلم تره مرة أخرى، ولم تتزوج جوانا وأنجبت الطفل.
وكانت موجات الألم العاصفة بفرانسي قد توقفت أو كادت، حين اكتشفت لهولها أن ضرا قد ألم بها، وضغطت بيدها على قلبها تحاول أن تمس حافته البارزة من تحت لحمها، وكانت قد سمعت أباها يغني أغاني كثيرة عن القلب، القلب الذي ينفطر، والقلب الذي يتوجع، والقلب الذي يرقص، والقلب المثقل بالهموم، والقلب الذي يقفز فرحا، والقلب المليء بالأسف، والقلب الذي يتحول، والقلب الذي يقيم على العهد، وآمنت حقا أن القلب يفعل هذه الأشياء، وشعرت بالفزع حين فكرت أن قلبها قد تحطم بين ضلوعها حزنا على طفل جوانا، وأن الدم قد أخذ الآن يفيض من قلبها وينساب من جسدها.
وصعدت السلم إلى الشقة ونظرت في المرآة، ورأت هالات سوداء تحت عينيها وشعرت بصداع شديد، ورقدت على أريكة قديمة من الجلد في المطبخ، وانتظرت حتى تعود أمها إلى البيت.
وأخبرت أمها بما حدث لها في مخزن المؤن، ولم تذكر شيئا عن جوانا، وتنهدت كاتي وقالت: أهكذا سريعا؟ إنك بلغت الثالثة عشرة فحسب، إنني لم أكن أحسب أنها ستوافيك قبل سنة أخرى، لقد وافتني وأنا في الخامسة عشرة. - إذن ... إذن ... إن كل ما حدث شيء طبيعي؟ - إنه شيء طبيعي يدرك كل النساء. - إنني لست امرأة؟ - إنه يعني أنك تغيرت من فتاة إلى امرأة. - هل تظنين أنها ستنقطع؟ - بعد أيام قلائل، ولكنها ستعاودك بعد شهر. - وإلى متى تستمر معي؟ - إلى وقت طويل حتى تبلغي الأربعين، بل الخمسين.
وتفكرت قليلا ثم قالت: كانت أمي في الخمسين من عمرها حين ولدتني! - أوه! هل لها علاقة بإنجاب الأطفال؟ - نعم، تذكري دائما أن تكوني فتاة طاهرة، فإنك تستطيعين الآن إنجاب طفل.
وطافت صورة جوانا والطفل بعقل فرانسي كالبرق، وقالت الأم: لا تدعي الصبيان يقبلوك. - هل تنجبين طفلا على ذلك النحو؟ - لا، ولكن إنجاب الطفل كثيرا ما يبدأ بقبلة.
وأضافت: تذكري جوانا.
ولم تكن كاتي قد علمت شيئا عن مشهد الشارع، وتصادف أن قفزت صورة جوانا إلى مخيلتها، ولكن فرانسي شعرت أن أمها قد وهبت بصيرة قوية تدعو إلى الدهشة، ونظرت إلى أمها نظرة جديدة من الاحترام والتقدير.
تذكري جوانا ... تذكري جوانا، لم تستطع فرانسي أن تنساها أبدا، ومن ذلك اليوم كانت كلما تذكرت النساء اللائي قذفنها بالحجارة تكره النساء، وتخاف منهن من أجل أساليبهن المنحرفة الضالة، ولا تثق بغرائزهن، وبدأت تكرههن من أجل خيانة بعضهن بعضا، وقسوة بعضهن على بعض، ولم تجرؤ واحدة من النساء كلهن اللائي قذفن جوانا بالحجارة، أن تفوه بكلمة في صف الفتاة خشية أن يتلطخن بعارها، وكان الرجل المار بالطريق هو الإنسان الوحيد الذي كلمها بصوت عطوف.
وهناك شيء واحد يجمع بين معظم النساء، ذلك هو الألم العظيم الذي يقاسينه حين يلدن أطفالهن، وهذا خليق بأن يوجد رابطة تربط بينهن جميعا، أجل، إنه خليق بأن يحملهن على حب بعضهن البعض، وحماية بعضهن البعض ضد عالم الرجل، ولكن الأمر لم يكن كذلك، بل كان يبدو أن آلام الولادة العظيمة تجفف قلوبهن وأرواحهن، فلا يتحدن معا إلا لامتهان امرأة أخرى ... سواء برميها بالحجارة أو بالنيل منها بثرثرتهن، وهذا فيما يظهر هو الولاء الوحيد الذي يشعرن به.
أما الرجال فكانوا يختلفون عن النساء، وربما يكره بعضهم بعضا، ولكنهم يتحدون معا ضد العالم وضد أي امرأة توقع أحدهم في حبائلها.
وفتحت فرانسي المفكرة التي اعتادت أن تسجل فيها يومياتها، وتركت سطرا تحت الفقرة التي كتبتها عن عدم التسامح، وكتبت: «لن أتخذ من النساء صديقة لي ما حييت، ولن أمنح ثقتي أبدا لامرأة أخرى، وقد أستثني من ذلك أمي وخالتي إيفي وسيسي في بعض الأحيان.»
31
ووقع حادثان عظيما الأهمية في السنة التي بلغت فيها فرانسي الثالثة عشرة من عمرها، فقد اشتعلت نار الحرب في أوروبا، ووقع جواد في غرام الخالة إيفي.
وكان زواج إيفي والجواد درامر عدوين لدودين منذ ثماني سنوات، وكان رجلا وضيعا في معاملته للجواد، يرفسه ويلطمه ويسبه ويجذب قرطمته
4
بشدة، وكان الجواد وضيعا في معاملته للعم ويلي فليتمان، والجواد يعرف الطريق ويقف من تلقاء نفسه عند كل مكان يوزع فيه اللبن، وقد اعتاد أن يستأنف المسير بمجرد أن يركب فليتمان العربة، ثم أصبح أخيرا يستأنف المسير لحظة نزول فليتمان ليوزع اللبن، ويخب الجواد مسرعا؛ مما كان يضطر فليتمان في كثير من الأحيان أن يجري خلفه مسافة لا يستهان بها ليلحق به.
ومن عادة فليتمان أنه يوزع اللبن وقت الظهيرة، ويعود إلى البيت لتناول الغداء، ثم يأخذ الجواد والعربة إلى الحظيرة حيث يقتضيه الأمر أن يغسل درامر والعربة، ولهذا الجواد حيلة وضيعة، إذ كثيرا ما يبول على فليتمان وهو يغسل ما تحت بطنه، وكان الزملاء الآخرون يقفون هناك ينتظرون حتى يفعل الجواد فعلته، فيستمتعون بلحظات سعيدة من الضحك، ولم يكن فليتمان يتحمل ذلك فتعود أن يغسل الجواد أمام بيته، وكل ذلك يحدث على ما يرام في الصيف، ولكنه شيء قاس على الجواد في الشتاء، وكثيرا ما تهبط إيفي في أيام البرد القارسة، وتخبر ويلي بأنه من الوضاعة أن يغسل درامر في الجو البارد وبالماء البارد أيضا، وكأنما كان الجواد يعرف أن إيفي تتكلم من أجله فيصهل مسترحما، وهي تجادل زوجها، ويضع رأسه على كتفها.
وأخذ درامر في يوم بارد زمام الأمور في يديه، أو كما قالت الخالة إيفي بين قدميه، واستمعت فرانسي في بهجة، على حين راحت الخالة إيفي تحكي القصة لأسرة نولان، وما من أحد يستطيع أن يحكي قصة كما تحكيها إيفي، إنها تمثل كل أجزائها حتى ما يخص الجواد، وتشرح على نحو مسل فكه ما تظن أنه يدور في نفس كل فرد في ذلك الوقت، وقد حدثت القصة على هذا النحو كما وصفت إيفي:
كان ويلي يقف في الشارع يغسل الجواد المنتفض بالماء البارد والصابون الأصفر الخشن، وإيفي تقف في النافذة تراقبه، ومال ويلي تحت الجواد يغسل بطنه، وشد الجواد عضلاته، وظن فليتمان أن الجود سيبول عليه مرة أخرى، وكان ذلك فوق احتمال الرجل الضئيل التافه المضنى، فانسحب من تحت الجواد ولطمه على بطنه، ورفع الجواد رجلا ورفس ويلي في رأسه بعزم، وتدحرج فليتمان تحت الجواد ورقد فاقد الوعي.
ونزلت إيفي مسرعة، وصهل الجواد في سعادة حين رآها، لكنها لم تعره اهتماما، ولما نظر من فوق كتفه ورأى إيفي وهي تحاول أن تجر فليتمان من تحته بدأ يمشي، وربما أراد أن يساعد إيفي بأن يجر العربة بعيدا عن الرجل الفاقد الوعي، أو ربما أراد أن يختم فعلته ويجر العربة فوقه، وصاحت إيفي قائلة: «وي! قف حيث أنت» وتوقف درامر في الوقت المناسب تماما.
وذهب صبي إلى رجل من رجال الشرطة انطلق ليحضر رجال الإسعاف، ولم يستطع طبيب الإسعاف أن يكتشف ما إذا كان فليتمان قد أصيب بكسر في الجمجمة أم ارتجاج بالمخ، وحمله إلى مستشفى جرينبوينت.
وهكذا اقتضى الأمر أن يعاد الجواد والعربة المملوءة بزجاجات اللبن الفارغة إلى الحظيرة، ولم تكن إيفي قد قادت جوادا قط، ولكن ذلك لم يكن سببا في أنها لا تستطيع، ولبست معطفا من معاطف زوجها القديمة ولفت وشاحا حول رأسها، وصعدت إلى المقعد والتقطت العنان وصاحت: «اذهب إلى البيت يا درامر»، وأدار الجواد رأسه إلى الخلف ليصوب إليها نظرة حب، ثم بدأ يخطو في سعادة.
ومن حسن التوفيق أن الجواد يعرف الطريق، فلم تكن إيفي تعرف شيئا عن مكان الحظيرة، لكنه كان جوادا ذكيا، يتوقف عند كل تقاطع، وينتظر حتى تنظر إيفي في طول الشارع المتقاطع وعرضه، فإذا وجدته خاليا تقول «هيا يا فتى»، وإذا ما رأت عربة أخرى قادمة، فإنها تقول «انتظر لحظة يا فتى»، ووصلا على ذلك النحو إلى الحظيرة دون أن يحدث لهما مكروه، ودخل الجواد في فخر إلى مكانه المعتاد من الصف، ودهش السائقون الآخرون وهم يغسلون عرباتهم حين رأوا امرأة تقوم بدور السائق، وأحدثوا ضجة واضطرابا في المكان، حتى إن رئيس الحظيرة جاء مهرولا، وأخبرته إيفي بما حدث.
وقال الرئيس: توقعت أن يحدث هذا، فإن فليتمان لم يحب الجواد قط، وكذلك كان الجواد، حسنا! إن علينا أن نستخدم رجلا آخر.
وسألته إيفي، وقد خشيت أن يفقد زوجها عمله، عما إذا كانت تستطيع أن تتولى عمله أثناء وجوده بالمستشفى، وحاجت بأن اللبن يوزع في الظلام ، ولن يكتشف الأمر أحد أبدا، وضحك الرئيس منها، فأنبأته بمبلغ حاجتها إلى الاثنين والعشرين دولارا التي يتقاضونها في الأسبوع، وأخذت تستعطفه في حرارة، وكانت تبدو صغيرة جميلة نشطة رشيقة حتى سلم بالأمر أخيرا، وأعطاها قائمة بأسماء الزبائن وأخبرها بأن الصبية سوف يحملون العربة لها، وقال: إن الجواد يعرف الطريق، والعمل لن يكون صعبا، واقترح أحد السائقين أن تأخذ كلب الحظيرة معها ليصحبها ويحميها من لصوص اللبن، ووافق الرئيس على ذلك، وأخبرها بأن تعود إلى الحظيرة في الثانية صباحا، وكانت إيفي أول امرأة توزع اللبن في الطريق العام.
وقامت بعملها خير قيام، وأحبها زملاؤها في الحظيرة، وقالوا: إنها كانت في عملها أفضل من فليتمان، وبالرغم من واقعيتها في عملها كانت رقيقة تفيض أنوثة، وأحب الرجال صوتها الخفيض وأسلوبها الهامس في الحديث، وكان الجواد سعيدا كل السعادة، يتعاون معها ما وسعه ذلك، فيقف من تلقاء نفسه عند كل بيت يوزع عليه اللبن، ولا يستأنف المسير أبدا، حتى تجلس آمنة على المقعد.
واعتادت أن تأخذه إلى بيتها، وهي تتناول غداءها كما كان فليتمان يفعل، وكان الجو قارس البرد فتناولت دثارا قديما، وألقت به على الجواد حتى لا يصيبه البرد وهو ينتظرها، وكانت تحمل الشوفان الخاص بالجواد إلى الطابق الأعلى، وتسخنه بضع دقائق في الموقد قبل أن تطعمه، واعتقدت أن الشوفان البارد لا يثير «الشهية»، وكان الجواد يستطيب الشوفان الساخن، وبعد أن يلوكه بين أسنانه تناوله نصف تفاحة أو قطعة من السكر.
ورأت إيفي أن الجو من البرودة بحيث لا يطيق الجواد أن تغسله على قارعة الطريق، فكانت تأخذه إلى الحظيرة لتغسله هناك، ورأت أن الصابون الأصفر قاس عليه، فأحضرت له قطعة من الصابون الناعم ومنشفة كبيرة قديمة لتجففه بها، وعرض عليها رجال في الحظيرة أن يغسلوا الجواد والعربة من أجلها، ولكنها أصرت على غسل الجواد بنفسها، وتقاتل رجلان أيهما يغسل لها العربة، وحسمت إيفي الأمر بأن جعلت أحدهما يغسلها يوما والآخر يوما.
وكانت تسخن الماء الذي تغسل به درامر على موقد الغاز في مكتب الرئيس، ولم تفكر أبدا في أن تغسله بالماء البارد، وتعودت أن تغسله بالماء الدافئ والصابون المعطر، وتجففه في عناية بالمنشفة جزءا جزءا، ولم يرتكب الجواد قط فعلا نابيا معها وهي تغسله، بل كان ينخر ويصهل في سعادة أثناء غسله، وتترجرج بشرته من النشوة والسعادة حين تحك إيفي المنشفة بجسمه لتجففه، وكان يضع رأسه الكبير على كتفها الصغيرة حتى تجفف ما حول صدره، لم يكن هناك شك في الأمر، لقد كان الجواد مدلها بحب إيفي.
ورفض الجواد حين شفي فليتمان وعاد إلى عمله أن يترك الحظيرة وهو على مقعد العربة، واضطروا أن يعطوا فليتمان جوادا آخر ويعينوا له طريقا آخر، ولكن درامر رفض أن يخرج مع أي سائق آخر أيضا، وأوشك الرئيس أن يقرر بيعه حين لاحت له فكرة، وكان من بين السائقين شاب مخنث، في كلامه لثغة، فأقامه على عربة فليتمان، وبدا على درامر الرضا، وقبل أن يخرج مع السائق الذي يشبه النساء.
وهكذا قام درامر بواجباته المنتظمة مرة أخرى، ولكنه في ظهيرة كل يوم يستدير في الشارع الذي تسكن فيه إيفي ويقف أمام بيتها، ولا يعود إلى الحظيرة حتى تنزل إيفي وتعطيه قطعة من التفاح أو السكر وتربت أنفه وتودعه.
وقالت فرانسي بعد أن سمعت القصة: إنه لجواد مضحك.
وقالت الخالة إيفي: قد يكون جوادا مضحكا، ولكنه بلا شك يعرف ما يريد.
32
وبدأت فرانسي تكتب يومياتها عندما بلغت الثالثة عشرة من عمرها، واستهلتها بما يأتي:
15 ديسمبر:
اليوم أستقبل عامي الثالث عشر، ترى ماذا تخبئه لي هذه السنوات، لست أدري!
ولم تأت هذه السنة إلا بالقليل على ما نتبينه من أن ما سجلته، قد أصبح على فترات متباعدة كلما أوغلت السنة، وكانت قد تأهبت لأن تبدأ يومياتها؛ لأن بطلات الروايات كن يكتبن يومياتهن ويملأنها بالأفكار الخصيبة التي تفيض بالشجن، وظنت فرانسي أن يومياتها ستكون على ذلك النحو، ولكن ما سجلته فيها كان عاديا، ما عدا بعض الملاحظات العاطفية عن الممثل هارولد كلارنس، وكانت قرب نهاية السنة تقلب الصفحات، وتقرأ فقرة من هنا، وفقرة من هناك.
8 يناير:
إن لدى جدتي ماري روملي صندوقا منقوشا جميلا، صنعه جدها الأكبر في النمسا منذ أكثر من مائة سنة، وإن لديها أيضا رداء أسود، وقميصا أبيض، وحذاء بداخله جورب، وكانت تلك هي الملابس التي ستدفن بها؛ لأنها لم ترغب في أن تدفن بالكفن. وقال العم ويلي فليتمان: إنه يرغب في أن تحرق جثته ويبعثر رمادها من فوق تمثال الحرية، وكان يظن أنه سيكون طائرا في الحياة الأخرى، ويرغب في أن يبدأ بداية طيبة، وقالت إيفي إنه طائر بالفعل ... هو الوقواق، وأنبتني أمي لأنني ضحكت، ترى هل حرق الجثث أفضل من دفنها؟ لست أدري.
10 يناير:
إن أبي مريض اليوم.
21 مارس:
سرق نيلي نبات الصفصاف من حديقة ماك كارين وأعطاه لجريتشن هان، وقالت أمي إنه أصغر سنا من أن يفكر في البنات طويلا، وإن الوقت ما زال أمامه كافيا ليشغل باله بهن.
2 أبريل:
لم يذهب أبي إلى العمل ثلاثة أيام، وإنه يعاني من مرض ما في يديه؛ لأنهما ترتعشان كثيرا، حتى إنه لا يستطيع أن يمسك شيئا.
20 أبريل:
إن الخالة سيسي تقول إنها ستلد طفلا، لا أصدق ذلك لأن بطنها من الأمام ليس بارزا، ولقد سمعتها تقول لأمي إنها تحمله من الخلف، لست أدري؟
8 مايو:
إن أبي مريض اليوم.
9 مايو:
ذهب أبي إلى العمل الليلة، ولكنه عاد إلى البيت يقول إن القوم لا يحتاجون إليه.
10 مايو:
أبي مريض، لقد تتابع عليه كابوس وراء الآخر في أثناء النهار وأخذ يصرخ، اضطررت إلى إحضار الخالة سيسي.
12 مايو:
لم يذهب أبي للعمل منذ أكثر من شهر، أراد نيلي أن يستخرج أوراقه ليشتغل ويترك المدرسة، لكن أمي رفضت.
15 مايو:
اشتغل أبي الليلة، وقال إنه سيتولى الأمور من اليوم، وأنب نيلي من أجل استخراجه الأوراق للشغل.
17 مايو:
عاد أبي إلى البيت مريضا، وكان بعض الصبية يتبعونه في الشارع ويسخرون منه، إني أكره الصبية.
20 مايو:
حصل نيلي على عمل لبيع الصحف، إنه لا يدعني أساعده في بيع الصحف.
28 مايو:
لم يقرص كارني خدي هذه المرة، أظن أنني كبرت على بيع النفايات.
30 مايو:
قالت الآنسة جاردنر إنهم سينشرون موضوع الإنشاء الذي كتبته بعنوان: «موسم الشتاء» في المجلة.
2 يونيو:
عاد أبي إلى البيت مريضا اليوم، ولم نجد مناصا أنا ونيلي من أن نساعد أمي لنصعد بأبي فوق السلم، كان أبي يبكي.
4 يونيو:
حصلت على درجة جيد في موضوع الإنشاء اليوم، وكان علينا أن نكتب عن «طموحي»، أخطأت في كلمة واحدة صححتها لي الآنسة جاردنر.
7 يونيو:
جاء بأبي إلى البيت اليوم رجلان، لقد كان مريضا، وكانت أمي خارج البيت، وضعت أبي في الفراش وأعطيته قهوة صرفا، وقالت أمي حين عادت إلى البيت إنني أصبت في ذلك.
12 يونيو:
أعطتني الآنسة تنمور اليوم مقطوعة لشوبير، إن أمي تسبقني، فقد أخذت مقطوعة نجم الليل من أوبرا تانهاوزر، ويقول نيلي إنه يسبقنا نحن الاثنتين، فهو يستطيع أن يعزف مقطوعة ألكسندر من موسيقى الراجتيم دون أن ينظر في العلامات الموسيقية.
20 يونيو:
ذهبنا إلى المسرح، ورأينا مسرحية فتاة الغرب الذهبي، وكانت أجمل مسرحية رأيتها، وخاصة طريقة انسياب الدم من السقف.
21 يونيو:
تغيب أبي عن البيت ليلتين، ولم نعرف أين كان، وعاد إلى البيت مريضا.
22 يونيو:
قلبت أمي حشيتي اليوم، ووجدت يومياتي وقرأتها، وجعلتني أحذف كلمة مخمور من كل مكان وأكتب بدلا منها مريض، ومن حسن التوفيق أنني لم أكتب شيئا يسيء إلى أمي.
ولو قدر لي أن يكون لي أطفال فسوف لا أقرأ يومياتهم أبدا؛ لأنني أعتقد أن من حق الطفل أيضا أن يكون له أشياء خاصة به، وإني لآمل أن تفهم أمي هذه الإشارة إذا تصادف أن وقعت عيناها على يومياتي مرة أخرى وقرأتها.
23 يونيو:
يقول نيلي إن له فتاة، وتقول أمي إنه أصغر من ذلك، لست أدري.
25 يونيو:
حضر الليلة العم ويلي والخالة إيفي وسيسي وزوجها جون، وشرب العم ويلي كثيرا من الجعة وبكى، وقال إن الجواد الجديد الذي أخذه والذي يدعى بيسي فعل ما هو أسوأ من أن يبول عليه ، وأنبتني أمي لأنني ضحكت.
27 يونيو:
ختمنا اليوم الإنجيل ، وحق علينا الآن أن نبدأ تلاوته من جديد وقد قرأنا شكسبير أربع مرات من قبل.
أول يوليو:
إن عدم التسامح ...
ووضعت فرانسي يدها على ما سجلت في ذلك اليوم لتخفي الكلمات التي تلي هذه العبارة، وظنت لحظة أن موجات الألم سوف تجرفها مرة أخرى، ولكن هذا الشعور ولى، وقلبت الصفحة وقرأت ما سجلته في يوم آخر.
4 يوليو:
أحضر الشاويش ماكشين أبي إلى البيت اليوم، ولم يكن أبي قد قبض عليه كما ظننا أول الأمر، ولكنه كان مريضا، وأعطى السيد ماكشين لي ولنيلي ربع دولار، ولكن أمي حملتنا على أن نرده إليه.
5 يوليو:
أبي لا يزال مريضا، ترى أيعود إلى عمله؟ لست أدري!
6 يوليو:
بدأنا نلعب لعبة القطب الشمالي اليوم.
7 يوليو:
لعبة القطب الشمالي.
8 يوليو:
لعبة القطب الشمالي.
9 يوليو:
لعبة القطب الشمالي، لم تأت النجدة المتوقعة.
10 يوليو:
فتحنا الحصالة اليوم، وكان بها ثمانية دولارات وعشرون سنتا، وقد استحالت بنساتي الذهبية إلى اللون الأسود.
20 يوليو:
أنفقنا كل المال الذي كان في الحصالة، أخذت أمي بعض الملابس لتغسلها للسيدة ماكجريتي، وساعدت أمي في الكي، لكني أحرقت سروال السيدة ماكجريتي وأحدثت به ثقبا، ولم تسمح لي أمي بالكي مرة أخرى.
23 يوليو:
حصلت على عمل في مطعم هندلر فترة الصيف فحسب، كنت أغسل الأطباق أثناء زحمة الغداء والعشاء، وأستخدم مسحوق الصابون الذي أفرغه من برميل، وفي يوم الإثنين كان يقبل رجل ويجمع ثلاثة براميل من بقايا الدهن، ويعيد برميلا واحدا مليئا بالصابون الناعم يوم الأربعاء، ما من شيء يضيع هباء في هذا العالم، وكنت أحصل على دولارين كل أسبوع علاوة على ما أصيبه من طعام، ولم يكن عملا شاقا ولكنني لا أحب ذلك الصابون.
24 يوليو:
قالت أمي إنني سوف أغدو امرأة قبل أن أدرك ذلك، لست أدري.
28 يوليو:
إن فلوسي جاديس وفرانك سوف يتزوجان بمجرد أن يحصل فرانك على علاوة، فرانك يقول إن معالجة الرئيس ويلسون للأمور سوف تدخلنا في الحرب قبل أن ندري، ويقول إن الدافع إلى زواجه هو الرغبة في أن تكون له زوجة وأطفال، حتى لا يضطر إلى الذهاب للقتال حين تنشب الحرب، ولكن فلوسي تقول إن هذا الكلام ليس صحيحا، فإنها حالة حب حقيقي، لست أدري! ولكني أذكر كيف دأبت فلوسي على مطاردته منذ سنوات، حين كان يغسل الجواد.
29 يوليو:
إن أبي ليس مريضا اليوم، وسيذهب ليحصل على عمل، وقال إن أمي يجب أن تتوقف عن غسل ملابس السيدة ماكجريتي، وإن علي أن أترك عملي، ويزيد: إننا سنكون أغنياء، وسوف نذهب جميعا لنعيش في القرية لست أدري!
10 أغسطس:
سيسي تقول إنها ستنجب طفلا في القريب العاجل، لست أدري! فإن بطنها مستو كالفطيرة.
17 أغسطس:
إن أبي يعمل منذ ثلاثة أسابيع، وإننا نتناول عشاء ممتازا.
18 أغسطس:
أبي مريض.
19 أغسطس:
إن أبي مريض لأنه فقد عمله، ولقد رفض السيد هندلر أن يعيدني إلى العمل بالمطعم، وقال إنني لا يعتمد علي.
أول سبتمبر:
حضرت الخالة إيفي والعم ويلي الليلة، وغنى ويلي أغنية فرانكي وجوني ودس فيها كلمات قبيحة، ووقفت الخالة إيفي على كرسي ولطمته على أنفه، وأنبتني أمي لأني ضحكت.
10 سبتمبر:
بدأت سنتي الأخيرة في المدرسة، وقالت لي الآنسة جاردنر إنني لو واظبت على الحصول على درجة ممتاز في الإنشاء، فإنها قد تسمح لي بأن أكتب مسرحية ليوم التخرج، ولدي فكرة رائعة جدا، قوامها فتاة تلبس ثوبا أبيض وشعرها يسترسل على ظهرها وهي ترمز إلى القدر، وتخرج بنات أخريات إلى المسرح، ويقلن ماذا يردن من الحياة، فينبئهن القدر بمصيرهن في الحياة، وفي النهاية تأتي فتاة في رداء أزرق، وتبسط ذراعيها وتقول: «هل الحياة تستحق أن نعيشها إذن؟» فيجيبها المنشدون قائلين: «أجل!» ولكن المسرحية ستكون كلها بالشعر، وأخبرت أبي عنها ولكن المرض كان قد أثقل عليه فلم يفهمها، مسكين أبي!
18 سبتمبر:
سألت أمي عما إذا كنت أستطيع أن أقص شعري فرفضت، وقالت إن الشعر تاج المرأة، هل كان ذلك يعني أنها تتوقع أن أكون امرأة سريعا؟ إنني أود ذلك لأني أريد أن أكون سيدة نفسي وأقص شعري حين أريد.
24 سبتمبر:
اكتشفت الليلة وأنا أستحم أنني أستحيل امرأة متكملة الأنوثة، لقد آن الأوان.
25 أكتوبر:
إنني سوف أسعد حين تمتلئ هذه المفكرة؛ لأنني أصبحت أمل الاحتفاظ باليوميات، ما من شيء هام يحدث أبدا.
ولم يكن قد بقي من المفكرة إلا صفحة خالية واحدة. حسنا، إنها كلما ملأت الصفحة سريعا انتهى احتفاظها باليوميات سريعا، وسوف لا تشغل بالها بها من بعد، وغمست قلمها في المداد.
2 نوفمبر:
إن الجنس يدخل في حياة كل فرد بلا استثناء، ويكتب الناس مقالات في ذمه، ويدعو القسيس إلى النفور منه، بل إنهم يسنون القوانين ضده، ولكنه يمضي في سبيله غير عابئ، وليس للبنات في المدرسة من حديث إلا الجنس والفتيان، وإنهن شديدات الرغبة في استطلاع أمره واكتشاف كنهه، هل أنا على غرارهن متطلعة إلى الجنس؟
ودرست العبارة الأخيرة، وعمق الخط الذي يرتسم على الطرف الداخلي لحاجبها الأيمن وحذفت العبارة، وكتبتها مرة أخرى على النحو التالي: «إني تواقة إلى معرفة الجنس.»
33
نعم، كانت لدى الأطفال المراهقين في ويليمسبرج رغبة شديدة في استطلاع أمور الجنس، وكانوا يتحدثون عنه كثيرا ويصطنعون ألعابا تفصح عن هذه النزعة.
ويسود الحي تكتم شديد حول الجنس، ولا يعرف الوالدان حين يسألهما الأطفال في هذا الصدد كيف يجيبان عن ذلك؛ لأن هؤلاء القوم لم يكونوا يعرفون الكلمات الصحيحة التي يستخدمونها، وكان لكل زوجين كلماتهما الخاصة السرية يطلقانها على الأشياء التي يتهامسان بها في الفراش في هدأة الليل، وكان هناك قليل من الأمهات الجريئات اللائي استطعن أن يجهرن بهذه الكلمات ويقلنها لأطفالهن، وكان الأطفال إذا كبروا يعمدون هم أيضا إلى ابتكار كلمات لا يستطيعون أن يقولوها لأطفالهم بدورهم، وهكذا دواليك.
ولم تكن كاتي نولان هيابة لا عقليا ولا جسميا، فكانت تعالج كل مشكلة ببراعة فائقة، ولم تكن تتطوع بالإدلاء بمعلومات عن الجنس، ولكنها كانت تجيب حين تسألها فرانسي الأسئلة بأحسن ما تستطيع من البيان، وذات مرة اتفقت فرانسي ونيلي، حين كانا طفلين صغيرين، أن يسألا أمهما بعض الأسئلة ووقفا أمامها يوما، وكانت فرانسي هي المتكلمة . - أمي: من أين أتينا؟ - لقد وهبكما الله لي .
وكان الأطفال الكاثوليك على استعداد لأن يقبلوا ذلك، ولكن السؤال الثاني كان أوقع. - كيف وهبنا الله لك؟ - لا أستطيع أن أشرح ذلك؛ لأنه يقتضيني أن أستخدم طائفة من الكلمات الكبيرة التي يعز عليكما فهمها. - قولي الكلمات الكبيرة، وانظري هل سنفهمها أم لا. - إذا فهمتماها ما كنت خليقة بأن أقولها. - قوليها في بعض كلمات تؤدي معناها، قولي لنا كيف يأتي الأطفال. - لا، إنكما أصغر من أن تزنا ذلك، ولو قلت لكما لدرتما هنا وهناك تخبران سائر الأطفال بما تعرفان، فتأتي أمهاتهم إلي ويقلن لي: إنك سيدة قذرة، فينشب بيننا العراك. - إذن خبرينا لم تختلف البنات عن الفتيان؟
وفكرت الأم لحظة، ثم قالت: الخلاف الجوهري هو أن البنت الصغيرة تجلس حين تذهب إلى دورة المياه، أما الصبي الصغير فيقف.
وقالت فرانسي: ولكني أقف يا أمي حين أشعر بالخوف في دورة المياه المظلمة!
واعترف نيلي الصغير: وأنا أجلس حين ...
وقاطعتهما أمهما قائلة: حسنا، في كل امرأة شيء من الرجل، وفي كل رجل شيء من المرأة، وانتهت المناقشة عند ذلك الحد؛ لأن رد أمهما كان شديد الإلغاز في نظر الطفلين، حتى قررا ألا يسترسلا في الأمر.
وذهبت فرانسي إلى أمها تخبرها برغبتها في استطلاع الجنس حين بدأت - كما كتبت في يومياتها - تتحول إلى امرأة، وقالت لها كاتي في بساطة وصراحة كل شيء وما كانت تعرفه هي، وكانت كاتي في شرحها لها تستخدم كلمات تعد قبيحة، ولكنها استخدمتها في شجاعة بلا تردد؛ لأنها لم تكن تعرف كلمات أخرى تؤدي معناها، ولم يكن أحد أخبرها قط بالأشياء التي قالتها لابنتها، ولم يكن في تلك الأيام كتب ميسورة لأناس مثل كاتي، تستقي منها المعلومات الصحيحة عن الجنس، ولم يكن في شرح كاتي شيء خارج بالرغم من الكلمات الصريحة والعبارات الخالية من التكلف التي كانت تستخدمها.
وكانت فرانسي أسعد حظا من معظم أطفال الحي، فقد فهمت كل ما كانت تحتاج إلى معرفته في الوقت الذي كان يجب أن تعرفه، ولم تكن بحاجة أبدا إلى أن تتسلل في الممرات المظلمة مع البنات الأخريات، وتتبادل معهن الأسرار الآثمة، ولم يضطرها الأمر قط إلى أن تعلم الأمور على نحو مشوه.
وإذا كان الجنس الطبيعي سرا في الحي، محاطا بأشد الكتمان، فقد كان الجنس الإجرامي كتابا مفتوحا، وكان شيطان الجنس الذي يتسلل في كل أنحاء المدينة الفقيرة المزدحمة المتخمة كابوسا مرعبا يجثم على صدور الآباء والأمهات، والظاهر أنه كان في كل حي شيطان من هذا القبيل، وظهر شيطان في ويليمسبرج في ذلك العام الذي بلغت فيه فرانسي الرابعة عشرة من عمرها، وأخذ منذ وقت طويل يتحرش بالبنات الصغيرات ويزعجهن، ولم يقبض عليه قط، بالرغم من أن رجال الشرطة كانوا دائمي البحث عنه، ومن أسباب ذلك أن الآباء حين تقع ابنتهم فريسة له يكتمون السر حتى لا يعرف أحد شيئا، ويفرق ما بين الطفلة وسائر الأطفال، وينظر إليها كأنما هي شيء معزول، الأمر الذي جعل استئنافها لحياة الطفولة الطبيعية مع أترابها شيئا مستحيلا.
وفي يوم ما، قتلت فتاة صغيرة من منطقة فرانسي السكنية، ولم يكن بد من أن ينكشف الأمر للجميع، وكانت القتيلة طفلة صغيرة في السابعة من عمرها حسنة السلوك مطيعة، فلما تأخرت عن العودة من المدرسة إلى البيت لم تقلق أمها، وظنت أن الطفلة وقفت تلعب هنا أو هناك، لكنهم خرجوا بعد العشاء يبحثون عنها ويسألون زميلاتها، ولم تكن واحدة منهن قد رأت الطفلة منذ خروجها من المدرسة.
وسرت موجة من الخوف في الحي، ونودي الأطفال لمغادرة الشارع، وحبسن في البيوت داخل الأبواب المغلقة، وجاء ماكشين ومعه ستة من رجال الشرطة، وبدءوا يفتشون الأسطح ومخازن المؤن.
وعثر على الطفلة أخيرا أخوها الفظ الأحمق الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عاما، وكانت جثتها الصغيرة ترقد في عربة من عربات الدمى التي سقطت حشيتها في مخزن للمؤن في بيت من البيوت المجاورة، ولقد ألقي رداؤها الممزق وملابسها الداخلية وحذاؤها وجوربها الأحمر الصغير على كوم من الرماد، وسئل الأخ، وكان مضطربا يتلجلج في الإجابة، وقبضوا عليه من قبيل الشك، ولم يكن ماكشين غبيا، فقد قبض عليه للتعمية حتى لا يجد القاتل ما يريبه، وكان ماكشين يدرك أن القاتل سوف يشعر بالأمان، فيضرب ضربة أخرى، وفي هذه المرة سيكون رجال الشرطة له بالمرصاد.
وشمر الآباء والأمهات عن ساعد العمل، فأخبروا أطفالهم عن الشيطان وعما يأتيه من أفعال بشعة، غير عابئين بتخير الألفاظ المناسبة، وحذرت البنات الصغيرات بألا يأخذن الحلوى من الغرباء، ولا يتكلمن مع رجل غريب، وأخذت الأمهات ينتظرن أطفالهن على البوابات حين تنصرف المدرسة، وهجرت الشوارع كأنما قاد الزمار الأرقط كل الأطفال إلى جبل بعيد، وعم الفزع والرعب كل أنحاء الحي، واستبد القلق بجوني خوفا على فرانسي، حتى إنه أحضر إلى البيت غدارة.
وكان لجوني صديق اسمه برت يعمل حارسا ليليا للمصرف القائم بمنعطف الشارع، وكان برت في الأربعين من عمره، متزوجا من فتاة في نصف عمره، يغار عليها بجنون، ويشك في أنها تتخذ لنفسها عشيقا بالليل حين يكون في حراسة المصرف، واختمرت الفكرة في رأسه حتى انتهى إلى أنه سوف يستريح لو تحقق ذلك الشك، وكان يؤثر أن ينفطر قلبه بظهور الحقيقة، على أن تتحطم روحه في جحيم الشك، وهكذا يتسلل إلى بيته في أوقات شاذة أثناء الليل، ويأخذ مكانه في حراسة المصرف صديقه جوني نولان، وكانت بينهما إشارات معينة، فبرت أثناء الليل حين يعصف به عذاب الشك ويضطر إلى الذهاب إلى بيته، يطلب من الشرطي المكلف بنوبة الحراسة أن يدق جرس نولان ثلاث مرات، فإذا كان جوني بالبيت حين يسمع الإشارة يقفز من الفراش كرجل المطافئ، ويرتدي ملابسه عجلا ويجري إلى المصرف، كما لو كانت حياته تتوقف على ذلك.
ورقد جوني، بعد أن تسلل برت، على أريكته الضيقة، وأحس بالمسدس الصلب من خلال الوسادة الرقيقة، ورجا أن يحاول أحد اللصوص سرقة المصرف حتى يستطيع أن ينقذ المال ويصبح بطلا، ولكن ساعات الليل التي تولى فيها الحراسة مضت جميعا دون وقوع حادث، بل إنه لم يستمتع أيضا بنشوة ضبط الحارس لزوجته متلبسة بالجريمة الوهمية، فقد كانت المرأة دائما غارقة في النوم العميق وحدها ، حين يتسلل زوجها إلى داخل شقتهما.
وذهب جوني حين سمع قصة اغتصاب الطفلة وقتلها إلى المصرف ليقابل صديقه برت، وسأله عما إذا كانت لديه بندقية أخرى. - بكل تأكيد، ولم؟ - أريد أن أستعيرها يا برت! - لماذا يا جوني؟ - إن الرجل الذي قتل البنت الصغيرة في منطقتنا لا يزال طليقا. - إني لآمل أن يقبضوا عليه يا جوني، إني متأكد أنهم سيمسكونه. - إن لي ابنة. - نعم، نعم، إني أعرف يا جوني. - لهذا أرغب أن تعيرني بندقية! - إن ذلك يخالف قانون سوليفان. - وإن مغادرتك للمصرف في أثناء الحراسة وتركي هنا يخالف قانونا آخر، فما أدراك؟ ربما أكون لصا؟ - أوه حاشا يا جوني! - إني أدرك أننا إذا خرقنا قانونا، فلا بأس من أن نخرق قانونا آخر. - صدقت، صدقت، سأعيرك غدارة.
وفتح أحد أدراج المكتب وأخرج غدارة. - والآن سأشرح لك، حينما تريد أن تقتل شخصا فإنك تصوب نحوه هكذا (وصوب الغدارة نحو جوني) ثم تشد ذلك الزناد. - نعم إني أفهم، دعني أجربها. (وصوب جوني الغدارة نحو برت)، وقال برت: مما لا شك فيه أنني أنا نفسي لم أطلق ذلك الشيء الملعون أبدا.
وقال جوني موضحا: هذه أول مرة في حياتي أمسك فيها غدارة بيدي.
وقال الحارس في هدوء: احترس إذن، فإنها محشوة بالرصاص.
وارتعد جوني ووضع الغدارة جانبا في عناية، ثم قال: لا أدري يا برت، كان من الممكن أن يقتل أحدنا الآخر.
وتراجع الحارس قائلا: يا إلهي! إنك لعلى حق.
وقال جوني متفكرا: إن هزة واحدة من الإصبع تقتل رجلا. - جوني، أتراك تفكر في قتل نفسك؟ - لا، إن الخمر تتكفل بذلك ...
وبدأ جوني يضحك، ولكنه توقف عن الضحك فجأة، وقال برت حين رحل جوني ومعه الغدارة: وأرجوك أن تنبئني عندما تقبض على المجرم الآثم.
ووعده جوني قائلا: سأفعل. - نعم، إلى اللقاء. - إلى اللقاء يا برت.
وجمع جوني أسرته حوله، وأخذ يشرح ما عرفه عن الغدارة، وحذر فرانسي ونيلي من أن يلمساها، وشرح الأمر على نحو تمثيلي قائلا : هذه الفوهة الصغيرة تحمل الموت لخمسة أشخاص.
واعتقدت فرانسي أن الغدارة تشبه إصبعا غريبة ضخمة تشير إلى الموت وتأمره بالمجيء عدوا، وشعرت بالسعادة حين وضع أبوها الغدارة تحت الوسادة بعيدا عن الأعين.
وبقيت الغدارة تحت وسادة جوني شهرا دون أن يمسها أحد، ولم تقع أية حادثة اغتصاب للبنات في الحي من بعد، وخيل للقوم أن الشيطان قد ولى عنهم، وبدأت أعصاب الأمهات المشدودة ترتخي وتهدأ، لكن القليلات منهن أمثال كاتي دأبن على مراقبة الباب ومدخل البيت، حين يعرفن أن موعد رجوع الأطفال من المدرسة قد حل، وكان من عادة القاتل أن يتربص لضحاياه في مداخل البيوت المظلمة، ووجدت كاتي أن الحرص لن يكلفها شيئا.
ولما أخلد معظم الناس إلى الطمأنينة والأمان، ضرب الرجل المنحرف ضربة أخرى.
كانت كاتي في عصر يوم من الأيام تنظف ردهات البيت الثاني بعيدا عن بيتها، حين سمعت أصوات الأطفال في الشارع، فعرفت أن المدرسة قد انصرفت، وتساءلت: أمن الضروري أن تعود إلى بيتها وتنتظر فرانسي في مدخل البيت، كما كانت تفعل منذ حادث القتل؟ وكانت فرانسي قد أوشكت على الرابعة عشرة، وبلغت من العمر ما يؤهلها لرعاية نفسها، كما أن القاتل عادة يهاجم البنات الصغيرات، في سن السادسة أو السابعة، وربما قبض عليه في حي آخر ووضع في أمان في السجن ... ولكن ... وترددت قليلا ثم قررت أن تعود إلى البيت؛ إنها تحتاج إلى قطعة جديدة من الصابون خلال تلك الساعة، وسوف تضرب عصفورين بحجر واحد إذا ذهبت إلى البيت الآن.
ونظرت في طول الشارع وعرضه وشعرت بالقلق؛ إذ لم تر فرانسي وسط الأطفال، ثم تذكرت أن فرانسي تذهب إلى مدرسة بعيدة وترجع متأخرة بعض الوقت، وقررت كاتي حين وصلت إلى شقتها أن تسخن القهوة وتشرب منها فنجانا، فتكون فرانسي قد وصلت إلى البيت وتهدأ نفسها، وذهبت إلى حجرة النوم لترى هل الغدارة لا تزال في مكانها تحت الوسادة، وكانت بطبيعة الحال هناك، واتهمت نفسها بالبله ببحثها عنها، وشربت القهوة وأخذت قطعة الصابون الأصفر، وتهيأت للعودة إلى عملها.
ووصلت فرانسي إلى بيتها في وقتها المعتاد، وفتحت باب المدخل وحملقت في طول الممر الضيق وعرضه، ولما لم تر شيئا أغلقت الباب الخشبي الثقيل خلفها، فأظلم الممر تماما، وسارت في الممر القصير متجهة إلى السلم، وبينما هي تضع قدمها على أول درجة رأته أمامها ...
وخطا إلى الأمام خارجا من فجوة تحت السلم لها مدخل إلى مخزن المؤن، وسار في هدوء ولكنه كان يثب في خطواته، وهو نحيل ضئيل الجسم يرتدي حلة داكنة مهلهلة ليس لها بنيقة، وقميصها مفتوح، وشعره الكث الغزير ينمو على جبينه ويكاد يصل إلى حاجبيه، وأنفه مقوس وفمه رفيع كأنه خط معقوف، ورأت فرانسي بالرغم من غبشة الظلام أن نظرات عينيه كانت مخضلة، وتقدمت خطوة أخرى، ثم تحجرت قدماها حين رأته أكثر وضوحا، ولم تقو على أن ترفعهما لتخطو الخطوة التالية، وتشبثت يداها بحاجز السلم، وحاولت أن تصرخ وتنادي أمها، لكن حلقها غص فلم تخرج منه إلا أنفاسها، وكان ما اعتراها أشبه بحلم مفزع، تحاول أن تصرخ لكنها لا تستطيع أن تخرج صوتا، ولم تستطع أن تتحرك! نعم لم تستطع أن تتحرك! وآلمتها يداها من القبض على حاجز السلم، وها هو ذا الرجل يتجه الآن إليها وهي لا تستطيع أن تجري! نعم لا تستطيع أن تجري! وقالت مبتهلة: يا إلهي! هلا أقبل أحد من السكان فأنقذني!
وفي تلك اللحظة كانت كاتي تهبط السلم في هدوء، وفي يدها قطعة الصابون الأصفر، ونظرت إلى أسفل حين وصلت إلى الدرجة العليا من آخر قلبة في السلم، ورأت الرجل متجها إلى فرانسي، وأبصرت فرانسي متجمدة على حاجز السلم وقد شلت حركتها، ولم تصدر كاتي أي صوت، ولم يرها أحد منهما، واستدارت في هدوء وجرت صاعدة قلبة السلم إلى شقتها، وكانت يداها ثابتتين حين أخذت المفتاح من تحت الحصيرة وفتحت الباب، وقضت بعض اللحظات الثمينة غير واعية تماما بما تفعل، وهي تضع قطعة الصابون الأصفر على غطاء حوض الغسيل، وأخذت الغدارة من تحت الوسادة ووضعتها تحت «مريلتها» وهي مصوبة، وارتعشت يدها في تلك اللحظة، فوضعت يدها الأخرى تحت «مريلتها»، وأسندت الغدارة بكلتا يديها، وجرت هابطة السلم وهي تحمل الغدارة على هذا النحو.
ووصل القاتل إلى أسفل السلم ولف حوله، ثم قفز الدرجتين وألقى ذراعه في حركة سريعة كالهر حول رقبة فرانسي، وضغط براحته على فمها ليحول بينها وبين الصراخ، ووضع ذراعه الأخرى حول خصرها وحاول أن يخلص يديها من حاجز السلم.
وسمع صوت، فنظرت فرانسي إلى أعلى ورأت أمها تجري هابطة تلك القلبة الأخيرة من السلم، وكانت كاتي تجري وهي تتعثر، وقد عجزت عن أن تحتفظ بتوازنها كاملا؛ لأن يديها الاثنتين كانتا تحت «المريلة» قابضتين على الغدارة، ورآها الرجل، ولم يستطع أن يتبين أنها تحمل غدارة، وأرخى قبضته في تردد وتراجع إلى الوراء هابطا الدرجتين، شاخصا بعينيه المخضلتين إلى كاتي، ووقفت فرانسي ويدها لا تزال تمسك بحاجز السلم في شدة، ولا تستطيع أن تفتح أصابع يدها، وهبط الرجل الدرجتين وأسند ظهره إلى الحائط، وبدأ يزحف متجها إلى باب مخزن المؤن، وتوقفت كاتي وركعت على درجة من درجات السلم، ودفعت «مريلتها» بما تحتها بين عمودي الحاجز وحملقت فيه ثم شدت الزناد.
ودوى صوت انفجار شديد، وانبعثت رائحة شياط الثوب من الثقب الذي احترق في «مريلة» كاتي، وانقلبت شفة الرجل المنحرف لتكشف عن أسنان قذرة متكسرة، ووضع يديه على معدته وسقط على الأرض، وابتعدت يداه عن جسمه وهو يخبط الأرض، وسال الدم فغطى جسمه، وامتلأ الممر الضيق برائحة الدخان.
وانطلقت صرخات النساء، ودوى صوت الأبواب وهي تفتح بشدة، ووثبت الأقدام تجري في الممرات، وبدأ الناس في الشوارع يندفعون كالسيل إلى الردهة، وازدحم مدخل الباب في لحظة بالكتل البشرية، حتى استحال على أي شخص أن يدخل أو يخرج.
وأمسكت كاتي بيد فرانسي وحاولت أن تجرها لتصعد بها فوق السلم، ولكن يد الطفلة تجمدت على العمود، ولم تستطع أن تفتح أصابعها، وضربت كاتي حين يئست من فتح أصابعها معصم فرانسي بطرف الغدارة الغليظ، فارتخت عضلات الأصابع المتشنجة في النهاية، وجرت كاتي فرانسي فوق درجات السلم وفي ردهات الشقق، وظلت تلقى النساء خارجات من شققهن، وهن يصرخن قائلات: ماذا حدث؟ ماذا حدث؟
وقالت لهن كاتي: إن كل شيء على ما يرام الآن، إن كل شيء على ما يرام الآن!
وظلت فرانسي تتعثر وتسقط على ركبتها، فاضطرت كاتي أن تجرها على ركبتها طول الردهة الأخيرة، وأدخلتها الشقة، ووضعتها على الأريكة في المطبخ، ثم أغلقت الباب بالسلسلة، وبينما هي تضع الغدارة بعناية بجوار قطعة الصابون الأصفر، لمست يداها مصادفة فوهة الغدارة، فارتاعت حين وجدتها ساخنة، ولم تكن كاتي تعرف شيئا عن الغدارات، ولم تكن أطلقت غدارة من قبل، فاعتقدت أن السخونة قد تجعلها تنطلق من تلقاء نفسها، ففتحت غطاء حوض الغسيل وألقت الغدارة في الماء، حيث كانت بعض الملابس القذرة قد نقعت، وألقت قطعة الصابون وراءها، وقد ارتبط في ذهنها وجود قطعة الصابون بالحادث كله، وذهبت إلى فرانسي وقالت: هل أصابك سوء يا فرانسي؟
وقالت وهي تئن: لا يا أمي، ولكن جسمه لامس جسمي.
ودق الناس الباب يريدون أن يعرفوا ماذا حدث، وتجاهلتهم كاتي وتركت الباب مغلقا، وأعطت فرانسي قدحا من القهوة الصرف المغلية لتشربه، ثم أخذت تذرع الحجرة جيئة وذهابا، وأصبحت ترتعد، فقد كانت لا تدري ماذا تفعل بعد ذلك.
وكان نيلي يتسكع في الشارع حين دوى صوت الطلقة، فشق طريقه إلى مدخل البيت أيضا، حين رأى الناس يتزاحمون عليه وصعد السلم ونظر من أعلى إلى أسفل، وكان الرجل المنحرف قد تكوم حيث سقط، بعد أن مزقت النساء المتزاحمات سرواله عن جسمه، وداس فوق لحمه كل من استطاع أن يقترب منه وهرسه بكعبه، وكان البعض الآخر يرفسونه ويبصقون عليه، لكن الجميع انهالوا عليه بالسباب البذيء صارخين، وسمع نيلي اسم أخته يتردد على الأفواه: فرانسي نولان. - أجل، فرانسي نولان. - أواثق أنت؟ فرانسي نولان؟ - نعم، لقد رأيت بعيني. - ذهبت أمها و... - فرانسي نولان؟
وسمع صوت ناقوس عربة الإسعاف، وظن نيلي أن فرانسي قد قتلت، فقفز يقطع درجات السلم جريا وهو ينشج باكيا، ودق الباب صارخا: دعيني أدخل يا أمي! دعيني أدخل!
وفتحت كاتي له الباب ليدخل ، وأخذ يصرخ بصوت عال حين رأى فرانسي نائمة على الأريكة، وبدأت فرانسي تصرخ أيضا.
وصاحت كاتي: لا تصرخا! لا تصرخا!
وأخذت تهز نيلي، حتى لم يبق فيه جهد للنشيج: امض مسرعا وأحضر أباك، ابحث عنه في كل مكان حتى تجده.
ووجد نيلي أباه في مشرب ماكجريتي، وكان جوني على وشك أن يتهيأ ليشرب الخمر في تمهل طوال فترة العصر الطويلة، وألقى كأسه حين سمع قصة نيلي وانطلق يجري معه، ولم يستطيعا دخول البيت، فقد كانت عربة الإسعاف تقف أمام الباب، وأربعة من رجال الشرطة يشقون طريقهم بصعوبة وسط الجمهور، ليفسحوا طريقا يدخل منه طبيب الإسعاف.
ودخل جوني ونيلي من باب مخزن المؤن المجاور للفناء، وساعد كل منهما الآخر ليتسلق السور فأصبحا في فناء بيتهما، وصعدا فوق سلم الطوارئ، وصرخت كاتي حين رأت قبعة جوني الدربي تبرز من النافذة، وجرت في البيت مذعورة تبحث عن الغدارة، لكنها لحسن حظ جوني نسيت أين ألقت بها.
وجرى جوني إلى فرانسي، ورفعها عاليا بين ذراعيه بالرغم من كبرها، كما لو أنها طفلة صغيرة، وأخذ يهزها رواحا وجيئة، ثم طلب منها أن تذهب وتنام، ولكن فرانسي ظلت تهذي، وهو يحاول أن يهدئ من روعها.
وسأل جوني: هل نالها سوء؟
وقالت كاتي عابسة: لا، أنا التي نلته. - هل أطلقت عليه الرصاص من الغدارة؟ - وبأي شيء سواها كنت أفعل ذلك؟
وكشفت له عن الثقب الذي في «مريلتها». - هل صوبت عليه جيدا؟ - فعلت خير ما في وسعي. - إنه شيء سيئ جدا أن يحدث لها ذلك، إنها من النوع الذي لا ينسى، وقد لا تتزوج أبدا حين تتذكر أن هذا الرجل الدنس قد لامس جسمها.
ووضع جوني فرانسي ثانية على الأريكة، وأتى بحامض الكربوليك، ومس جسم فرانسي بالحامض المركز القوي، ورحبت فرانسي بالألم الحارق الذي أصابها به الحامض، وقد شعرت أن الدنس الذي حل بساقها من لمسة الرجل قد طهرته النار.
ودق شخص على الباب، فظلوا صامتين لا يردون، ورغبوا عن دخول الناس إلى بيتهم في ذلك الوقت، وصاح صوت أيرلندي قوي قائلا: افتحوا الباب. إننا رجال القانون.
وفتحت كاتي البيت، ودخل شرطي يتبعه طبيب الإسعاف الباطني يحمل حقيبة، وأشار الشرطي إلى فرانسي: أهذه هي الطفلة التي حاول أن ينالها؟ - نعم. - إن الطبيب سيفحصها طبيا.
واعترضت كاتي: أنا لا أسمح بذلك.
وأجاب في هدوء: إنه القانون.
وأخذت كاتي والطبيب فرانسي إلى حجرة النوم، حيث اضطرت الطفلة المذعورة أن تستسلم للفحص المهين، وقام الطبيب المرح الرشيق بفحص دقيق سريع، ثم اعتدل وبدأ يعيد آلاته إلى الحقيبة، وقال: إنها على ما يرام؛ ذلك أنه لم يقربها قط.
وأخذ معصمها الوارم في يده، وقال: كيف حدث ذلك؟
وشرحت كاتي قائلة: إنني اضطررت إلى أن أضربها بالغدارة لأحملها على إرخاء قبضتها من حول عمود الحاجز.
ولاحظ ركبتها المتقرحة. - وما هذا؟ - لقد اضطررت إلى أن أجرها على ركبتها طول الردهة.
ثم رأى الحرق الملتهب فوق كعبها مباشرة. - وما هذا أيضا؟ - إن والدها غسل هذا الموضع الذي لمسه الرجل بحامض الكربوليك.
وانفجر الطبيب قائلا: يا إلهي! أحاولت أن تصيبها بحرق من الدرجة الثالثة!
وفتح الحقيبة مرة أخرى، ووضع محلولا مبردا على الحرق، وربطه برباط نظيف، وقال ثانية: يا إلهي! لقد صنعتما بها أنتما الاثنان أكثر مما فعله المجرم.
وسوى رداء فرانسي وربت خدها في رفق، وقال: سوف تكونين على ما يرام يا فتاتي الصغيرة، سأعطيك شيئا يجعلك تنامين، وحين تستيقظين تذكري أنك رأيت حلما مزعجا فحسب، أجل لم يكن الأمر كله سوى حلم مزعج، أسمعت؟
وقالت فرانسي في امتنان: نعم يا سيدي.
ورأت مرة أخرى الإبرة الحادة، وتذكرت حدثا وقع منذ وقت بعيد فقلقت! ترى هل كانت ذراعها نظيفة، هل سيقول ...
وقال وهو يخرج الإبرة: إنها فتاة شجاعة.
وفكرت فرانسي في شرود: غريبة! إنه في صفي!
واستغرقت في النوم مباشرة بعد أن حقنت تحت جلدها.
وخرج الطبيب وكاتي إلى المطبخ، وجلس جوني والشرطي إلى المائدة، وكان الشرطي يمسك بجزء من قلم بين أصابعه الكبيرة، ويدون في أسى ملاحظات مقتضبة في دفتر صغير، وسأل الشرطي: هل الطفلة على ما يرام؟
وقال الطبيب له: إنها بخير، وكل ما في الأمر أنها تعاني من الصدمة والالتهاب، اللذين أصابها بهما أبواها.
وغمز بعينه إلى الشرطي، وقال لكاتي: تذكري حين تستيقظ أن تقولي لها إنها رأت حلما سيئا، لا تتحدثي عن الأمر بشيء غير ذلك.
وسأل جوني: كم تطلب أيها الطبيب؟ - لا شيء يا ماك، إن البلدية هي التي تتكفل بذلك.
وهمس جوني: أشكرك!
ولاحظ الطبيب يدي جوني المرتعشتين، فجذب زجاجة من جيب خاصرته، ودفع بها إلى جوني: خذها.
ونظر جوني إليه، وأصر الطبيب قائلا: هيا اشرب يا ماك!
وجرع جوني من الزجاجة وهو يشكره في امتنان جرعة كبيرة، وأعطى الطبيب الزجاجة لكاتي: أنت أيضا أيتها السيدة يبدو أنك في حاجة إلى شيء منها.
وشربت كاتي جرعة كبيرة، وأفصح الشرطي قائلا: ماذا تظنيني؟ يتيما؟
ولم يبق بالزجاجة إلا القليل حين أعاده الشرطي إلى الطبيب، وتنهد الطبيب وأفرغها في جوفه، وتنهد الشرطي أيضا والتفت إلى جوني: وبعد، أين تضع الغدارة؟ - تحت وسادتي. - أحضرها، إن علي أن آخذها إلى دار الشرطة.
وذهبت كاتي إلى حجرة النوم لتنظر تحت الوسادة، ونسيت كيف تخلصت من الغدارة، وعادت والقلق يرتسم على وجهها: عجبا! إنها ليست هناك!
وضحك الشرطي: هذا شيء طبيعي، إنك أخذتها لتقتلي الوغد.
ومر وقت طويل حتى تذكرت كاتي أنها ألقتها في حوض الغسيل، فذهبت وانتشلتها من الماء، وجففها الشرطي وأخرج منها الرصاص وسأل جوني سؤالا: هل لديك ترخيص بهذه الغدارة يا ماك؟ - لا. - هذا يخالف القانون. - إنها ليست غدارتي. - من أعطاها لك؟ - لا ... لا أحد.
ولم يكن جوني يريد أن يوقع الحارس في المتاعب. - كيف حصلت عليها إذن؟ - وجدتها ... أجل وجدتها قرب البالوعة. - وقد عمرت وشحمت جميعا. - هذا هو الحق. - أهذه هي قصتك؟ أليست لديك أقوال أخرى؟ - كلا هذه هي قصتي وليست لدي أقوال أخرى. - هذا لا بأس به، بالنسبة لي يا ماك، ولكن حاول أن تثبت على هذه القصة.
وصاح سائق عربة الإسعاف من مدخل البيت، بأنه عاد بعد أن ذهب بالرجل إلى المستشفى، واستعد الطبيب للرحيل.
وسألت كاتي: المستشفى؟ أنا لم أقتله إذن؟
وقال الطبيب: ليس تماما، وسوف نجعله يقف على قدميه حتى يستطيع أن يسير إلى الكرسي الكهربائي بنفسه.
وقالت كاتي: أنا آسفة، لقد قصدت أن أقتله.
وقال الشرطي: إنني حصلت على أقواله قبل أن يذهب إلى المستشفى، واعترف أنه هو الذي قتل تلك الطفلة الصغيرة في أسفل العمارة، وأنه مسئول عن فعلتين أخريين أيضا، إنني حصلت على أقواله وتوقيعه هو والشهود.
وربت جيبه قائلا: لن أعجب إذا نلت ترقية على ذلك حين يسمع بها المأمور.
وقالت كاتي في اكتئاب: أرجو ذلك، أرجو أن ينال شخص بعض الخير مما حدث.
وكان الأب في البيت حين استيقظت فرانسي في صباح اليوم التالي، وقال لها إن الأمر كله كان حلما، وبدا لها الحادث فعلا بمرور الأيام كأنه حلم، ولم يترك صورا قبيحة في ذاكرتها، وطمس الرعب الذي أصاب جسمها حسها وشعورها، ولم يستغرق الفزع الذي عانته على السلم إلا ثلاث دقائق لكنه كان بمثابة المخدر لأعصابها، ولم تكن الأحداث التي تبعته واضحة في عقلها بسبب المهدئ الذي لم تتعوده، بل إن القضية التي عقدت في المحكمة حيث ذهبت لتدلي بقصتها، بدت كأنها جزء من مسرحية خيالية لعبت فيها دورا قصيرا.
ورفعت قضية في المحكمة، لكنهم أخبروا كاتي من قبل أنها لم تكن سوى إجراء شكلي، وتذكرت فرانسي القليل عنها، اللهم إلا أنها حكت قصتها، وكذلك فعلت كاتي، ولم يكن الأمر يحتاج إلا لكلمات قليلة.
وأدت فرانسي الشهادة قائلة: كنت عائدة إلى البيت من المدرسة، وحينما دخلت إلى الردهة، ظهر هذا الرجل وأمسكني قبل أن أصرخ، وبينما كان يحاول أن يجرني من فوق السلم هبطت أمي.
وقالت كاتي: كنت أهبط السلم حين رأيته يجر ابنتي، فجريت صاعدة وأتيت بالغدارة (ولم يستغرق ذلك وقتا طويلا)، وجريت هابطة السلم وأطلقت عليه الرصاص، وهو يحاول أن يتسلل إلى مخزن المؤن.
وتساءلت فرانسي: ترى أيقبضون على أمها لأنها أطلقت الرصاص على رجل؟ ولكن لم يحدث ذلك ، وانتهت القضية بأن صافح القاضي أمها، وصافحها هي أيضا.
وحدث شيء طريف في تناول الصحف للحادث، فقد حصل على حقائق القصة مخبر صحفي سكير، وهو يقوم كعادته كل ليلة باتصالاته بمراكز الشرطة ليستقي الأخبار الواردة في دفتر الأحوال، ولكنه خلط بين اسم نولان واسم الشرطي الذي تولى الحادث، ونشر نصف عمود في صحيفة بروكلين، قال فيه: إن السيدة أوليري من أهل ويليمسبرج أطلقت الرصاص على رجل كان يتعسس في ردهة بيتها، وفي اليوم التالي خصصت صحيفتان من صحف نيويورك مساحة من بضعة أسطر، روت فيها أن السيدة أوليري من ويليمسبرج قد أطلق عليها الرصاص رجل كان يتعسس في ردهة بيتها.
وانطوى الحادث كله أخيرا في زوايا النسيان، ولعبت كاتي دور البطلة إلى حين في الحي، ولكن مرت الأيام، ونسي أهل الحي الرجل القاتل المنحرف، ولم يتذكروا سوى أن كاتي نولان أطلقت الرصاص على رجل، وكانوا حين يتكلمون عنها يقولون إنها ليست من النساء اللائي يمكن للمرء أن يدخل في عراك معهن، فإنها خليقة بأن تطلق الرصاص على شخص بمجرد أن تنظر إليه.
ولم تختف قط الندبة التي أحدثها حامض الكربوليك في ساق فرانسي، ولكنها أخذت تتضاءل حتى أصبحت في حجم قطعة العشرة السنتات، واعتادتها فرانسي بمرور الوقت، وقلما كانت تلحظها بعد أن اشتد عودها.
أما جوني، فقد غرم خمسة دولارات لمخالفته قانون سوليفان وإحرازه غدارة دون ترخيص، ثم وقع المحظور! لقد هربت زوجة الحارس أخيرا مع رجل إيطالي يكاد يقاربها في العمر.
وجاء الشاويش ماكشين بعد بضعة أيام ليسأل كاتي، ورآها تحمل صفيحة من القمامة لتلقي بها عند المنعطف فتحرك قلبه شفقة عليها، وساعدها في حمل الصفيحة فشكرته كاتي وهي تشخص إليه، وتذكرت أنها رأته مرة في رحلة ماتي ماهوني يوم سأل فرانسي هل كاتي هي أمها، وكانت رأته مرة أخرى حين أحضر جوني إلى البيت في اليوم الذي لم يستطع فيه الوصول إلى البيت وحده، وسمعت كاتي أن زوجة ماكشين كانت حينذاك نزيلة إحدى المصحات التي يعزل بها مرضى السل غير القابلين للشفاء، ولم يتوقع الناس لها حياة طويلة، وتساءلت كاتي: «ترى أيتزوج مرة أخرى بعد؟» وأجابت عن سؤالها: «سيفعل بلا شك، إنه رجل وسيم مستقيم، له مركزه؛ وسوف تختطفه امراة من النساء.» وخلع قبعته وهو يحدثها: إني بالأصالة عن نفسي وعن رجال مركز الشرطة يا سيدة نولان نشكرك على مساعدتك لنا في القبض على القاتل.
وقالت كاتي الكلمة التقليدية: مرحبا بك. - وإن الرجال يرسلون لك هذه المكافأة ليظهروا تقديرهم لك.
ومد لها يده بمظروف، وسألت: أهو مال؟ - نعم! - احتفظ به! - سوف تحتاجين إليه بلا شك، فإن رجلك لا ينتظم في العمل وطفليك يحتاجان إلى ما يصلح أحوالهما. - إن هذا ليس من شأنك أيها الشاويش ماكشين، وإنك لترى أنني أجهد نفسي في العمل، ونحن لا نريد شيئا من أحد. - كما تشائين.
وأعاد المظروف إلى جيبه، ونظر إليها طول الوقت نظرة ثابتة، وقال بينه وبين نفسه: هذه امرأة ممشوقة القوام، لها وجه أبيض جميل، وشعر أسود مجعد، ولكنها أوتيت من الشجاعة والعزة قدر ست نساء.
وواصل أفكاره: وأنا رجل في منتصف عمري في الخامسة والأربعين وهي لم تتجاوز طور الشباب (وكانت كاتي قد بلغت الحادية والثلاثين، ولكنها تبدو أصغر من سنها كثيرا)، ولقد حالفنا نحن الاثنين الحظ العاثر في زواجنا.
وكان ماكشين يعلم كل شيء عن جوني، ويعلم أنه لن يعيش طويلا إذا استمرت حياته على ما هي عليه، ولم يحمل لجوني إلا الشفقة، ولا لزوجته مولي إلا العطف، وهو ليس خليقا بأن يضر واحدا منهما كما أنه لم يخن زوجته المريضة قط، وسأل نفسه: ولكن هل الأمل الذي يراودني يصيب بالضر أحدهما؟ سوف أنتظر بلا شك ... ترى كم سنة سأنتظر؟ سنتين؟ خمسا؟ آه لا بأس؟ إنني انتظرت وقتا طويلا دون أمل في السعادة، ولا شك أنني أستطيع أن أمد في حبال صبري بعض الشيء.
وشكرها مرة أخرى وودعها في شيء من التكلف، وفكر وهو يمسك يدها مصافحا قائلا بينه وبين نفسه : لتصبح زوجتي في يوم ما إن شاء الله وشاءت هي.
ولم تستطع كاتي أن تعرف الأفكار التي تراوده (ترى أكانت تستطيع؟) ... ربما ... لأن شيئا دفعها إلى أن تناديه قائلة: آمل أن تنال في المستقبل من السعادة ما أنت جدير به أيها الشاويش ماكشين.
34
وتساءلت فرانسي حين سمعت خالتها سيسي تقول لأمها إنها ستحصل على طفل: لماذا لم تقل سيسي إنها ستنجب طفلا، شأنها شأن جميع النساء؟ وتبينت أن هناك سببا دعا سيسي إلى أن تقول إنها ستحصل على طفل بدلا من أن تنجبه.
وسيسي تزوجت ثلاثة رجال، وأضحت تمتلك عشرة شواهد قبور صغيرة في مكان صغير من مقبرة القديس جون في سايبريس هيلز، وكتب على كل شاهد تاريخ الوفاة وهو نفسه تاريخ الميلاد، وكانت سيسي قد بلغت الخامسة والثلاثين حينذاك، واستبدت بها رغبة يائسة في أن يكون لها طفل، وتكلم جوني وكاتي معا عن ذلك الأمر كثيرا، وخشيت كاتي أن تخطف سيسي طفلا في يوم ما.
وأرادت سيسي أن تتبنى طفلا، لكن زوجها جون رفض قائلا في عبارته المعهودة: لن أعول لقيطا من صلب رجل آخر! هل فهمت؟
وسألته سيسي في مداهنة: ألا تحب الأطفال يا حبيبي؟
وأجابها قائلا وهو يعيب نفسه دون قصد: أحب الأطفال بلا شك، ولكن يجب أن يكونوا أطفالي أنا، وليسوا أطفال رجل آخر.
وكان جون في معظم الأحوال عجينة لينة في يد سيسي، ولكنه في ذلك الأمر بالذات يرفض أن ينساق في طريقها، ويصر دائما على أنه لو أصبح لهما طفل، فلا بد أن يكون ابنه هو، وليس ابن رجل آخر، وعلمت سيسي أنه يعني ما يقول، بل إنها كانت تكن له نوعا من الاحترام من أجل موقفه ولكنها كانت مضطرة إلى أن يكون لها طفل يعيش.
واكتشفت سيسي بمحض المصادفة أن فتاة جميلة في السادسة عشرة من عمرها، تعيش في ماسبيث قد تورطت من رجل متزوج حملت منه، وحبسها أهلها، وهم من أهل صقلية جاءوا أخيرا من العالم القديم، في حجرة مظلمة حتى لا يتسنى للجيران أن يقع بصرهم على عارها، وهو يتكشف يوما بعد يوم، وتركها أبوها تعيش على طعام مكون من الخبز والماء فحسب، وكانت له نظرية في أن ذلك خليق بأن يضعفها؛ فتموت هي وطفلها ساعة الوضع، ولم يترك الأب مالا بالبيت حين يخرج إلى عمله في الصباح، حتى لا تطعم الأم الحنون ابنتها لوسيا في غيابه، وكان يحضر كل مساء حين يعود إلى البيت حقيبة مليئة بالأطعمة، ويحرص على ألا يتسرب شيء من الطعام ويدخر للفتاة، وكان يعطي الفتاة بعد أن تفرغ الأسرة من طعامها نصيبها اليومي المقرر، وهو نصف رغيف من الخبز وإبريق ماء.
وصدمت سيسي حين سمعت بهذا التجويع وتلك القسوة ودبرت أمرا، وظنت إذ رأت ذلك منهم أن الأسرة سوف ترحب بالتخلص من الطفل عند ولادته، وقررت أن ترى هؤلاء الناس، فإذا بدت عليهم أمارات الصحة والعافية، فسوف تعرض عليهم أن تأخذ الطفل.
ورفضت الأم أن تسمح لها بدخول البيت حين مضت لزيارتهم، وعادت إليها سيسي في اليوم التالي، وقد ثبتت شارة على معطفها، وطرقت الباب وأشارت إلى الشارة حين انفرج الباب عن شق ضيق، وطلبت الدخول في صرامة، وسمحت لها الأم المرتاعة بالدخول، وظنت أنها من إدارة الهجرة، ولم تكن الأم تعرف القراءة ولا الكتابة، وإلا لقرأت كلمات الشارة التي تقول: «مفتش الدواجن» وبدأت سيسي الهجوم، وانتاب الفتاة الحامل شعور بالرعب والتحدي، وبدت أيضا نحيلة جدا من جراء الحرمان من الأكل، وهددت سيسي أم الفتاة بالقبض عليها إذا لم تحسن معاملتها، وتكلمت الأم بلغة إنجليزية ركيكة والدموع تنهمر من عينيها عن العار الذي سيلحق بهم، وما يفكر فيه الأب من تجويع الفتاة وجنينها حتى يدركهما الموت، وتكلمت سيسي مع الأم وابنتها لوسيا طول النهار، وعمدت في معظم كلامها إلى التمثيل الصامت، واستطاعت سيسي في النهاية أن تفهمها أنها مستعدة لتأخذ الطفل منهما فور ولادته، وغمرت الأم، بعد أن فهمت أخيرا، يد سيسي بقبلات الشكر والامتنان، وأصبحت سيسي منذ ذلك اليوم صديقة الأسرة تحبها أشد الحب وتثق بها كل الثقة.
ونظفت سيسي شقتها بعد أن خرج جوني إلى عمله في الصباح، وطهت قدرا من الطعام للوسيا، وأخذته معها إلى البيت الإيطالي وأطعمت لوسيا جيدا بطعام يجمع بين طريقة الأيرلنديين والألمان، وكانت لها نظرية بأن الطفل إذا امتص مثل هذا الطعام قبل الولادة، فسوف يشبه الإيطاليين شبها كبيرا.
وعنيت سيسي بلوسيا، وأخذتها معها إلى المتنزه وجعلتها تجلس في الشمس، وكانت سيسي خلال صداقتهما الغريبة تتفانى من أجل الفتاة، وتقوم معها بدور الرفيق المرح، وأحبت لوسيا سيسي حتى العبادة؛ فقد كانت هي الإنسانة الوحيدة التي عاملتها بحنان في ذلك العالم الجديد، وأحبت الأسرة جميعا سيسي (فيما عدا الأب الذي لم يعلم بوجودها)، واشتركت الأم والأطفال الآخرون فرحين في مؤامرة على الأب ليظل جاهلا بالأمر، فكانوا يحبسون لوسيا في حجرتها المظلمة حين يسمعون وقع قدمي الأب على السلم.
لم يستطيع أفراد الأسرة أن يتكلموا الإنجليزية جيدا، ولم تكن سيسي تعرف اللغة الإيطالية، ولكنهم بمرور الشهور تعلموا بعض الإنجليزية منها، وتعلمت هي منهم بعض الإيطالية، فاستطاعوا أن يتبادلوا الحديث، ولم تذكر سيسي اسمها قط فنادوها باسم تمثال الحرية، تيمنا باسم السيدة التي تحمل المشعل، وهي أول ما يراه القادم إلى أمريكا.
وغمرت سيسي بعنايتها لوسيا وطفلها المرتقب والأسرة جميعا، وأعلنت سيسي لأصدقائها وأسرتها حين استقرت الأمور واتفقت على كل شيء، أنها حامل بطفل آخر، ولم يحفل أحد بالأمر؛ فقد كانت سيسي تحمل دائما.
وعثرت على قابلة مغمورة، ودفعت لها مقدما أتعاب الولادة وأعطتها ورقة كانت قد طلبت من كاتي أن توقع عليها باسمها وباسم زوجها جون واسم سيسي قبل الزواج، وقالت للقابلة إنها يجب أن تقدم الورقة إلى مكتب الصحة بعد الولادة مباشرة، واعتقدت القابلة الجاهلة التي لم تعرف الإيطالية (وقد تأكدت سيسي من ذلك حين استأجرتها) أن الأسماء التي أعطيت لها كانت أسماء الأم والأب، ورغبت سيسي في أن تكون شهادة الميلاد قانونية.
وكانت سيسي قد أخذت الأمر مأخذ الواقع الصرف في شأن حملها نيابة عن لوسيا، لدرجة أنها تخيلت أنها تشعر بالغثيان في صباح الأسابيع الأولى، وحينما أعلنت لوسيا أنها شعرت بحركة الجنين، أخبرت سيسي زوجها أنها شعرت بحركة الجنين.
وذهبت سيسي إلى بيتها ونامت في فراشها في عصر اليوم الذي بدأت تشعر فيه لوسيا بآلام المخاض، وقالت لزوجها حين عاد إلى البيت من عمله: إن الطفل بدأ في النزول، ونظر إليها، كانت رشيقة القوام كراقصة الباليه، وعارضها، لكنها كانت تصر بقوة حتى إنه ذهب وأحضر أمها، ونظرت ماري روملي إلى سيسي، وقالت إنها لا تستطيع أن تلد طفلا، وأجابتها سيسي بصرخة يجمد لها الدم في العروق، وقالت إن آلام المخاض تكاد تقتلها، ونظرت ماري إليها مفكرة، ولم تعرف ما يدور في عقل سيسي، ولكنها كانت تعلم أن لا فائدة ترجى من الجدال معها، فإذا قالت سيسي إنها ستلد طفلا فلا بد أن تلد طفلا، ولا مناص لهم من التسليم بالأمر، على أن زوجها جون اعترض قائلا: ولكن، انظري كم هي نحيفة! ليس هناك طفل في ذلك البطن، أفهمت؟
وقالت ماري روملي: ربما تلد الطفل من رأسها، وإنه لرأس كبير يتسع لذلك كما ترى.
وقال جون: أوه! إنه لا يخرج مثل هذه الأشياء.
وسألت سيسي: من أنت حتى تقول ذلك، ألم تلد العذراء مريم نفسها طفلا دون أن يمسها رجل؟ وإذا كانت هي قد استطاعت ذلك فإني خليقة بلا شك أن أستطيعه بمزيد من اليسر؛ لأنني متزوجة ولي رجل.
وسألت ماري: من يدري؟
واتجهت إلى الزوج القلق الفزع، وقالت في رقة: هناك أشياء كثيرة لا يفهمها الرجال.
وحثت الرجل المبلبل الفكر على أن ينسى الأمر جميعا، ويتناول العشاء الطيب الذي ستطهاه له، ثم يذهب إلى فراشه ويستمتع بالنوم الهانئ.
ورقد الرجل الحائر بجوار زوجته طوال الليل، ولم يستطع أن يخلد إلى النوم، وكان ينهض مستندا على مرفقه من حين إلى حين ويحملق فيها، ويتحسس بيده من وقت لآخر بطنها المستوي، أما سيسي فقد استغرقت طول الليل في نوم عميق.
وأعلنت سيسي حين كان جون يغادر البيت صباح اليوم التالي ذاهبا إلى عمله، أنه سوف يكون أبا قبل أن يعود ذلك المساء.
وصاح الرجل المعذب: لا حيلة لي في الأمر، وليكن ما يكون!
ثم رحل الرجل إلى عمله في دار المجلات، التي تنشر القصص البوليسية والجنسية.
وانطلقت سيسي مسرعة إلى بيت لوسيا، ووجدت أن الطفل ولد بعد خروج الأب بساعة تماما، وكان الطفل بنتا جميلة وافرة الصحة، وشعرت سيسي بسعادة كبيرة، وطلبت من لوسيا أن ترضع الطفلة عشرة أيام لتمنحها الدفعة الأولى في الحياة، ثم تأخذها هي إلى بيتها، وخرجت سيسي واشترت دجاجة للشي وفطيرة خبزت في الفرن، وطهت الأم الدجاجة على الطريقة الإيطالية، واشترت سيسي على الحساب زجاجة من نبيذ كيانتي من البقال الإيطالي الذي يوجد محله بمنطقتهم السكنية، وتناول الجميع غداء طيبا، وبدا البيت كأنه في يوم عيد، وأحس الجميع بالسعادة وأوشك بطن لوسيا أن يعود إلى الاستواء مرة أخرى، وانمحى كل أثر ينم عن عارها، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه، أو هو خليق بأن يكون كذلك حين تمضي سيسي بالطفلة.
وأخذت سيسي تغسل الطفلة كل ساعة، وتغير قميصها وقماطها ثلاث مرات في اليوم، وتغير الكافولة مرة كل خمس دقائق، سواء اقتضى الأمر ذلك أم لا، وأعانت لوسيا على الاغتسال وجعلتها نظيفة حلوة، وأخذت تمشط شعرها مرة واثنتين وثلاث مرات، حتى أصبح يبرق كقماش الساتان اللامع، ولو كان في وسعها أن تفعل من أجل لوسيا والطفلة أكثر من ذلك لفعلت، وكان عليها أن تنتزع نفسها بالقوة حين يحين موعد رجوع الأب إلى البيت.
وعاد الأب إلى البيت، ودخل الحجرة المظلمة ليعطي لوسيا راتبها اليومي الصغير من الطعام، وأضاء المصباح فرأى لوسيا تتألق نضارة وبجانبها طفلة ربلة وافرة الصحة تنام راضية في هدوء، وأذهلته الدهشة، أيحدث ذلك كله وهي تعيش على الخبز والماء! ودب الخوف في أوصاله، لقد كانت معجزة! لا شك أن العذراء مريم قد شفعت للأم الصغيرة، وعرف عنها مثل هذه المعجزات في إيطاليا، إنه قد يجازى على معاملته الوحشية لابنته التي من لحمه ودمه ، وأحضر لها بعد أن تاب وندم طبقا مليئا بطعام المكرونة الإسباجيتي، لكن لوسيا رفضته قائلة إنها تعودت الخبز والماء، وانحازت الأم إلى صف لوسيا، وبينت أن الخبز والماء قد أخرجا ذلك الطفل المثالي، وأخذ الأب يصدق شيئا فشيئا أن معجزة قد نزلت بهم، وحاول مذعورا أن يتلطف مع لوسيا، ولكن أفراد الأسرة أرادوا أن يعاقبوه، فلم يسمحوا له أن يظهر أية شفقة على ابنته.
وكانت سيسي راقدة في سريرها في هدوء، حين عاد جون إلى البيت ذلك المساء، فسأل مازحا: هل ولدت ذلك الطفل اليوم؟
وقالت في صوت ضعيف: نعم. - أوه! وبعد! - لقد ولدته بعد ساعة من رحيلك هذا الصباح. - لم يحدث ذلك! - إني لأقسم!
ونظر حوله في الحجرة: أين هو إذن؟ - في المحضنة في كوني أيلاند. - في ماذا؟ - لقد ولد لسبعة أشهر كما تعلم، وهو لا يزن إلا ثلاثة أرطال؛ ولذلك لم أظهره. - إنك تكذبين! - سوف آخذك إلى كوني أيلاند بمجرد أن أسترد قوتي حيث الجهاز الزجاجي. - ماذا تحاولين أن تفعلي؟ أتدفعينني إلى الجنون؟ - سوف أحضر الطفل إلى البيت بعد عشرة أيام بمجرد أن تنمو أظافره.
قالت ذلك على البديهة. - ماذا دهاك يا سيسي؟ أنت تعلمين جيدا أنك لم تلدي طفلا هذا الصباح. - لقد ولدت طفلا وزنه ثلاثة أرطال، وأخذوه إلى المحضنة حتى لا يموت، وسوف أسترده بعد عشرة أيام.
وصرخ قائلا: إني لأسلم! إني لأسلم!
وخرج من البيت وذهب يشرب الخمر حتى ثمل.
وأحضرت سيسي الطفلة بعد عشرة أيام، وكانت طفلة كبيرة تزن أحد عشر رطلا، وأصر جون على رأيه إلى آخر لحظة، وقال: إنها تبدو أكبر وأقوى من طفلة في يومها العاشر!
وهمست: إنك رجل كبير قوي يا حبيبي.
ورأت ابتسامة الرضا تملأ وجهه، وأحاطته بذراعيها، وهمست في أذنه: إنني على ما يرام الآن إذا أردت أن تقضي الليل معي.
وقال بعد ذلك: هل تعلمين أن الطفلة تشبهني بعض الشبه!
وتمتمت سيسي وهي ناعسة: وخاصة حول أذنيها.
وعادت الأسرة الإيطالية إلى إيطاليا بعد شهور قليلة، وفرحوا بالعودة لأن العالم الجديد لم يجلب لهم إلا الأسف والفقر والعار، ولم تسمع سيسي عنهم من بعد قط.
وكان الجميع يعلمون أن الطفلة ليست ابنة سيسي ... إنها لا يمكن أن تكون ابنتها، ولكن سيسي ثبتت على قصتها، فاضطر الناس إلى أن يقبلوها ما دام لا يوجد هناك تعليل آخر، ثم إن الأحداث الغريبة تقع في العالم على أي حال، وعمدت سيسي الطفلة وسمتها سارة، ولكن الجميع نادوها بمرور الوقت سيسي الصغيرة.
وكاتي هي الإنسانة الوحيدة التي صرحت لها سيسي بحقيقة الطفلة، فقد وثقت بها حين طلبت منها أن تكتب الأسماء في شهادة الميلاد، ولكن فرانسي عرفت أيضا، وكانت تستيقظ كثيرا في الليل على صوتهما وتسمع أمها وخالتها سيسي تتحدثان في المطبخ عن الطفلة، وأقسمت فرانسي على أن تكتم سر سيسي دائما.
وجوني هو الشخص الآخر الوحيد الذي عرف القصة (خارج الأسرة الإيطالية)؛ لأن كاتي أخبرته، وسمعتهما فرانسي يتحدثان عن الأمر حين ظنا أنها راحت في نوم عميق، وانحاز الأب إلى صف زوج سيسي. - إنها حيلة قذرة يخدع بها الرجل ... أي رجل، إن شخصا يجب أن يطلعه على الأمر، وأنا الذي سأتولى ذلك بنفسي.
وقالت الأم في حدة: لا، إنه رجل سعيد، دعه ينعم بسعادته. - سعيد، وقد ألصق به طفل رجل آخر؟ إنني لا أرى ذلك. - إنه يكاد يجن غراما بسيسي، وإنه يخشى دائما أن تتركه، وهو خليق بأن يموت إذا تركته، وأنت تعرف سيسي، إنها انتقلت من رجل إلى رجل، ومن زوج إلى زوج، تحاول دائما أن تنجب طفلا، وكانت على وشك أن تترك زوجها لولا أن أحست بمجيء الطفل، إن سيسي سوف تغدو امرأة أخرى من اليوم فصاعدا، اذكر ما أقول، إنها ستستقر أخيرا، وتكون له زوجة أفضل مما يستحق.
وقاطعت نفسها متسائلة: وبعد! فمن يكون جون هذا؟ إنها ستكون أما صالحة، وسوف تكون الطفلة عالمها جميعا، ولن تكون بحاجة إلى أن تجري خلف الرجال من بعد؛ لهذا لا تثرثر بالأمر يا جوني.
وقال جوني مقررا: إنكن يا نساء روملي أدهى من أن نفهمكن نحن الرجال!
وطرأت عليه فكرة: خبريني، ألم تفعلي أنت ذلك معي؟ هل فعلت؟
وأجابته كاتي بأن أخرجت الطفلين من فراشهما، وجعلتهما يقفان أمامه بملابس النوم الطويلة البيضاء، وأمرته قائلة: انظر إليهما.
ونظر جوني إلى ابنه، وخيل إليه أنه ينظر في مرآة خداعة يرى فيها نفسه تماما، ولكن في حجم مصغر، ونظر إلى فرانسي، وكانت ملامحها جميعا كملامح كاتي (ولكنها أكثر صرامة) ما عدا عينيها فكانتا مثل عيني جوني، وأحست فرانسي بدافع يدفعها إلى التقاط طبق وضعته على قلبها، كما يفعل جوني بقبعته حين يغني، وغنت أغنية من أغانيه:
لقد سموها سال العابثة،
كأنما هي أغنية عجيبة.
وكانت ملامحها من ملامح جوني، وإيماءاتها من إيماءاته.
وهمس الأب قائلا: إني لواثق، إني لواثق.
وقبل طفليه وربت ظهرهما، وطلب منهما أن يعودا إلى فراشهما.
وجذبت كاتي - بعد أن ذهب الطفلان - رأس جوني إلى أسفل، وهمست في أذنه بشيء:
وقال جوني في دهشة: لا!
وقالت في هدوء: نعم يا جوني.
ووضع قبعته على رأسه: إلى أين أنت ذاهب يا جوني. - إلى الخارج. - أرجوك يا جوني لا تأت إلى البيت ...
ونظرت إلى باب حجرة النوم، ووعدها قائلا: لن أفعل يا كاتي!
وقبلها في رقة وخرج.
واستيقظت فرانسي في منتصف الليل، لا تدري ما الذي أطار النوم من عينيها. آه! إن أباها لم يعد إلى البيت بعد، هذا هو السبب، إنها لم تستغرق قط في النوم حتى علمت أنه عاد، وما إن استيقظت حتى بدأت تفكر في طفلة سيسي، وتفكر في الولادة، وانصرفت أفكارها إلى خاتمة المولد، ألا وهو الممات، ولم ترغب في أن تفكر في الموت وكيف يولد كل امرئ ليموت، وسمعت صوت أبيها وهي تطرد فكرة الموت، صاعدا السلم يغني برقة، وارتعد جسمها حين سمعته يغني الأبيات الأخيرة من أغنية «مولي مالون»، إنه لم يغن هذه الأبيات قط ... قط! لماذا ...؟
إنها ماتت من الحمى،
ولم يستطع أحد أن ينقذها،
وهكذا فقدتها؛
حبيبة قلبي مولي مالون.
ولم تتحرك فرانسي من سريرها ، كانت عادتهم المألوفة أن أمها هي التي تفتح الباب حين يعود أبوها إلى البيت متأخرا، وأوشكت الأغنية على الانتهاء، ولكن أمها لم تسمع؛ لأنها لم تنهض من فراشها، فقفزت فرانسي من سريرها سريعا، وانتهت الأغنية قبل أن تصل إلى الباب، ورأت أباها حين فتحت الباب واقفا في هدوء وقبعته في يده، وكان ينظر إلى الأمام من فوق رأسها، وقالت: لقد انتصرت يا أبي.
وسألها: أحقا؟
ودخل إلى الحجرة دون أن ينظر إليها. - لقد أنهيت الأغنية. - نعم، أظن أنني أنهيت الأغنية.
وجلس على الكرسي بجوار النافذة. - أبي ... - أطفئي النور وعودي إلى فراشك. (وكان النور يترك خافتا حتى عودته) وأطفأت النور. - أبي، هل أنت مريض؟
وقال بصوت واضح في الظلام: لا، أنا لست مخمورا.
وعلمت فرانسي أنه يقول الصدق.
وذهبت إلى فراشها ودفنت رأسها في الوسادة وبكت، ولكنها لم تعرف لبكائها سببا.
35
وحل الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد مرة أخرى، وكانت فرانسي قد أتمت لتوها عامها الرابع عشر، ونيلي على حد تعبيره ينتظر أن يبلغ الثالثة عشرة في أية لحظة، وبدا أن عيد الميلاد لن يكون سعيدا، فلم يكن جوني على ما يرام، وكان لا يشرب الخمر، وقد توقف عن شربها بطبيعة الحال مرات أخرى من قبل، وكان ذلك يحدث حين يشتغل، أما الآن فإنه لا يشرب الخمر أبدا ولا يشتغل أيضا، وعلة جوني أنه لم يكن يشرب الخمر لكنه يسلك سلوك المخمورين.
ولم يكن قد تحدث مع أسرته منذ أكثر من أسبوعين، وتذكرت فرانسي المرة الأخيرة التي قال أبوها لها شيئا، وكانت هي الليلة التي عاد فيها صاحيا يغني الأبيات الأخيرة من أغنية «مولي مالون»، وفكرت في الأمر فوجدت أن أباها لم يغن منذ تلك الليلة أيضا، كان يدخل ويخرج صامتا، ويبقى خارج البيت إلى وقت متأخر من الليل ثم يعود صاحيا، ولا يعلم أحد أين أنفق ذلك الوقت، وكانت يداه ترتعشان بشدة، ويمسك الشوكة حين يأكل بصعوبة بالغة ... ثم بدا فجأة كأنه رجل طاعن في السن.
وعاد إلى البيت بالأمس وهم يتناولون العشاء، ونظر إليهم كأنما يهم بالكلام ولكنه لم يتكلم، وأغلق عينيه لحظة ثم ذهب إلى حجرة النوم، ولم يكن يلتزم نظاما زمنيا معينا في أي شيء، كان يروح ويغدو في أوقات شاذة من النهار والليل، ويقضي الوقت حين يكون بالبيت راقدا على فراشه، بكامل ملابسه وعيناه مغلقتان.
ومضت كاتي لشأنها هادئة ساكنة، ولكن سلوكها ينبئ بوقوع الشر كأنها تحمل مأساة في طيات نفسها، وكان وجهها نحيلا تظهر فيه التجاعيد تحت خديها، ولكن جسمها كان أكثر امتلاء.
وتعهدت بالقيام بعمل إضافي في ذلك الأسبوع السابق لعيد الميلاد، فأخذت تستيقظ مبكرة عما ألفت وتشتغل في تنظيف الشقة أسرع مما درجت عليه، وتفرغ من عملها في أول فترة الأصيل، وتندفع مسرعة إلى محل جورلينج، وهو مخزن يبيع مختلف السلع في الطرف البولندي من شارع جراند، حيث كانت تشتغل من الساعة الرابعة إلى السابعة، تقدم القهوة والشطائر إلى البنات البائعات اللائي لم يكن يرخص لهن بالخروج لتناول العشاء بسبب زحمة العمل في الأيام السابقة لعيد الميلاد، وكانت أسرتها في مسيس الحاجة إلى الخمسة والسبعين سنتا التي تكسبها كل يوم.
وكانت الساعة السابعة أو نحوها حين عاد نيلي من بيع الصحف وعادت فرانسي من المكتبة، ولم يكن بالشقة نار موقدة فاضطرا إلى الانتظار حتى تعود الأم، ومعها بعض المال ليشتروا به حزمة من الخشب، ولبس الطفلان معطفيهما وقبعتيهما لشدة البرودة داخل الشقة، ورأت فرانسي أن أمها نثرت بعض الملابس على حبل الغسيل فجذبته إلى الداخل، ولكن الملابس قد تجمدت متخذة أشكالا عجيبة واستعصى إدخالها من النافذة.
وقال نيلي مشيرا إلى حلة داخلية تجمدت من الصقيع: دعيها لي.
وكانت ساقا السروال قد تجمدتا واتجهت كل ساق في ناحية، وذهبت محاولات نيلي أدراج الرياح، وقالت فرانسي: لأحطمن ساقي هذا السروال الملعون.
وضربته بعنف فتكسر وانطوى، وشدته إلى الداخل في اكتئاب، وكانت تشبه كاتي في تلك اللحظة. - فرانسي! - هيه؟ - لقد سببت ولعنت. - أنا أعلم ذلك. - لقد سمعك الله. - يا للهول! - لقد سمعك الله، إنه يسمع ويرى كل شيء. - نيلي! هل تعتقد أنه ينظر إلى داخل تلك الحجرة الصغيرة القديمة؟ - نعم، إنه يفعل أيتها الحمقاء. - لا تصدق ذلك يا نيلي، إنه مشغول جدا يرقب العصافير الصغيرة جميعا وهي تسقط، ويهتم بالأكمام الصغيرة ليعرف أتتفتح عن زهور أم لا تتفتح، فلا يجد بذلك وقتا ينفقه في تبين حالنا. - لا تتكلمي على هذا النحو يا فرانسي. - بل سأتكلم؛ إنه لو كان يجول بنظره داخل نوافذ الناس كما تقول لرأى كيف تسير الأمور هنا، ورأى أننا نقاسي من البرد وأن البيت خال من الطعام، ورأى أن أمنا لم تبلغ من القوة ما يعينها على كل هذا الشقاء في عملها، ورأى حال أبينا وفعل شيئا من أجله، أجل إنه كان خليقا بأن يفعل! - فرانسي ...
وتلفت الصبي حوله في قلق، ورأت فرانسي أنه قلق فعلا، وقالت بينها وبين نفسها: لقد بلغت من السن ما يمنعني من معاكسته.
وقالت بصوت عال: حسنا يا نيلي!
وتكلما في أشياء أخرى حتى عادت كاتي إلى البيت.
ودخلت كاتي مندفعة، ومعها حزمة من كتل الخشب اشترتها بسنتين، وعلبة من اللبن المركز وثلاث موزات ووضعت الورق والخشب في الموقد، وأشعلت النار في لحظة. - حسنا يا طفلي، أظن أننا سنتناول الشوفان في عشائنا الليلة.
وغضبت فرانسي: مرة أخرى؟
وقالت الأم: إنه لن يكون سيئا، فلدينا اللبن المركز، ولقد أحضرت الموز ليقطع فوقه.
واحتج نيلي على أمه قائلا: أمي، لا تخلطي نصيبي من اللبن المركز بالشوفان، دعيه يطف فوق السطح.
واقترحت فرانسي: قطعي الموز واطهيه مع الشوفان.
واعترض نيلي: أريد أن آكل موزي سليما.
وحسمت الأم المناقشة قائلة: سأعطي كلا منكما إصبعا من الموز يأكلها كما يريد.
وملأت كاتي بعد أن طهت الشوفان «صحنين» من «صحون» الحساء إلى آخرهما ووضعتهما على المائدة، وصنعت ثقبين في علبة اللبن، ووضعت إصبع الموز بجانب كل «صحن»، وسألها نيلي: ألا تأكلين يا أمي؟
وتنهدت كاتي: سآكل فيما بعد، لست جائعة الآن!
وقالت فرانسي: أمي! إذا كنت لا تشعرين برغبة في الطعام، فلماذا لا تعزفين على البيانو، فنشعر وكأننا في مطعم ونحن نأكل . - إن الجو بارد في الحجرة الأمامية.
وقال الطفلان في صوت واحد: أشعلي موقد الزيت. - وهو كذلك.
وأخذت كاتي من الصوان موقد زيت يمكن حمله، وقالت: ولكنكما تعلمان أنني لا أجيد العزف!
وقالت فرانسي في إخلاص: إنك لبارعة في العزف يا أمي.
وسرت كاتي وركعت على ركبتيها لتشعل موقد الزيت، وسألتهما: ماذا تريدان مني أن أعزف؟
وقالت فرانسي: اعزفي «أوراق الشجر الصغيرة».
وصاح نيلي: «مرحبا أيها الربيع الجميل».
وقررت الأم: وسأعزف «أوراق الشجر الصغيرة» أولا؛ لأنني لم أعط فرانسي هدية في عيد ميلادها.
وذهبت إلى الحجرة الأمامية الباردة، وقالت فرانسي: أظن أنني سأقطع الموز فوق الشوفان، سأقطعه قطعا رقيقة حتى تصبح منه كمية كبيرة.
وقرر نيلي: وأنا سآكل الموز صحيحا وفي بطء، حتى يبقى في فمي طويلا.
وأخذت الأم تعزف أغنية فرانسي، وكانت من الأغاني التي علمها السيد مورتون للأطفال، وغنت فرانسي مع الموسيقى:
قالت الريح يوما، تعالي يا أوراق الشجر الصغيرة،
تعالي إلى المروج والعبي معي،
واكتسي بأثوابك الحمر الذهبية ...
وقاطعها نيلي: أوه! إنها أغنية أطفال.
وتوقفت فرانسي عن الغناء، وبدأت كاتي بعد أن انتهت من أغنية فرانسي تعزف لحن روبنشتاين، وكان السيد مورتون قد علمها للأطفال أيضا وسماها: «مرحبا أيها الربيع الجميل»، وبدأ نيلي يغني:
مرحبا أيها الربيع الجميل، إنا نحييك بالغناء.
وتغير صوته فجأة من الصادح إلى المترنم وهو يغني من الطبقة العالية، وضحكت فرانسي مقهقهة، وسرعان ما أغرب نيلي في القهقهة حتى عجز عن الغناء، وسألته فرانسي: أتعرف ماذا كانت تقوله أمي لو أنها جالسة هنا الآن؟ - ماذا؟ - كانت تقول: «إن الربيع سيحل قبل أن تشعروا.»
ثم ضحكا وقال نيلي معلقا: إن عيد الميلاد يقترب سريعا.
وقالت فرانسي التي أكملت عامها الثالث عشر فحسب، وبدأت في عامها الرابع عشر: أتذكر ونحن بعد أطفال كيف ألفنا أن نستروح نسائم عيد الميلاد تلوح في الجو؟
وقال نيلي في انفعال: فلنجرب هل نستطيع أن نستروح تلك النسائم.
وفتح النافذة عن فرجة صغيرة ووضع أنفه فيها: وي! - ماذا استروحت؟ - إني أستروح رائحة الثلج، أتذكرين كيف ألفنا ونحن بعد أطفال أن نرفع بصرنا إلى السماء، ونصيح: أيها الصبي ذو الريش، أيها الصبي ذو الريش، أنزل علينا بعض الريش من السماء، وكنا نظن حين تسقط الثلوج أن صبيا له ريش يقف في السماء.
وطلبت منه فجأة: دعني أستروح.
ووضعت أنفها في فرجة النافذة، وقالت: نعم إنني أستطيع أن أستروح النسيم، إنه يشبه رائحة قشور البرتقال ممتزجة برائحة شجر عيد الميلاد.
ثم أغلقا النافذة. - إنني ما وشيت بك في ذلك الوقت الذي أخذت فيه الدمية، وقلت إن اسمك ماري.
وقالت فرانسي في امتنان: لا، ولا أنا أيضا ما وشيت بك حين صنعت لفافة من مسحوق البن ودخنتها، وأشعلت النار في الورقة التي سقطت على قميصك، وأحدثت فيه ثقبا كبيرا، ولقد ساعدتك على أن تخفيه.
وتفكر نيلي قائلا: أتعلمين، لقد وجدت أمي ذلك القميص، وحاكت رقعة فوق الثقب، ولم تسألني قط عنه.
وقالت فرانسي: إن أمنا لها أشياء فكهة.
وأخذا يتفكران لحظة في أساليب أمهما الغامضة.
وخمدت النار، لكن المطبخ ظل دافئا، وجلس نيلي على قمة الطرف البعيد للموقد لأن الحرارة لم تكن شديدة، وكانت أمه قد حذرته من الجلوس فوق الموقد الساخن خشية أن يصاب بالبواسير، ولكن نيلي لم يهتم بالأمر، فقد كان يحب أن يشعر بالدفء يسري في ظهره.
وكان الطفلان سعيدين أو يكادان، والمطبخ دافئا، وقد أكلا وشبعا، وأشعرهما عزف أمهما بالطمأنينة والراحة، وأخذا يتذكران أعياد الميلاد السابقة أو الأيام الخالية على حد تعبير فرانسي.
وطرق الباب طارق بشدة وهما يتحدثان، وقالت فرانسي: إنه أبي. - لا، إن أبي يغني دائما وهو صاعد السلم لنعرف أنه هو. - نيلي! إن أبي لم يغن في عودته إلى البيت منذ تلك الليلة ...
وصاح جوني: افتحي الباب!
ودق الباب بشدة كأنه سيكسره، وجاءت الأم تجري من الحجرة الأمامية، وبدت عيناها شديدتي السواد بالقياس إلى وجهها الأبيض، وفتحت الباب، ووثب جوني إلى الداخل، وحملقوا فيه، فلم يكونوا قد رأوا أباهم قط على هذه الحال؛ لأنه أنيق دائما كل الأناقة، أما الآن فقد بدت سترة السهرة قذرة كأنما رقد بها على الوحل، وبدت قبعته كأنها انضغطت، ولم يكن لديه معطف أو قفاز، فكانت يداه الباردتان الحمراوان ترتعشان، ودق المائدة وقال: لا، لست ثملا.
وبدأت كاتي قائلة: لم يقل أحد ذلك. - إنني ضقت بها ذرعا، إنني أكرهها، أكرهها! أكرهها!
ودق المائدة بشدة، وعرفوا أنه يقول الحق، وانفجر قائلا فجأة: لم أشرب قطرة واحدة منذ تلك الليلة ... ولكن لم يعد أحد يصدقني، نعم لم يعد أحد يصدقني ...
وقالت الأم مواسية: هون عليك يا جوني.
وسألت فرانسي: ماذا حدث يا أبي؟
وقالت الأم: اسكتي، لا تزعجي أباك.
وخاطبت جوني: بعض القهوة باق منذ الصباح يا جوني، إنها قهوة جيدة وساخنة، كما أن لدينا لبنا الليلة، لقد كنت أنتظر حتى تعود إلى البيت لنأكل معا.
وأفرغت القهوة، وقال نيلي: لقد أكلنا نحن من قبل.
وقالت له الأم: اسكت!
ووضعت اللبن على القهوة، وجلست في مواجهة جوني، وقالت له: اشربها يا جوني وهي ساخنة.
وحملق جوني في القدح، ثم دفعه بعيدا عنه، وتنفست كاتي تنفسا عميقا وهي تراه يتعثر على الأرض، ودفن جوني رأسه في ذراعيه، وأخذ ينشج وهو يرتعد، ومضت إليه كاتي مواسية: ماذا حدث يا جوني؟ ماذا حدث؟
وأخيرا انفجر قائلا من خلال نشيجه: لقد طردوني اليوم من اتحاد الندل، وقالوا إنني صعلوك سكير، وقالوا إنهم لن يعطوني عملا آخر ما دمت حيا.
وتحكم في نشيجه لحظة، وبدا في صوته الرعب وهو يقول: ما دمت حيا!
ووضع يده فوق «الزرار» الأبيض الصغير الضارب إلى الخضرة الذي يضعه على قلابة سترته، وشعرت فرانسي بغصة في حلقها حين تذكرت كيف قال كثيرا إنه يضعه كوردة يتحلى بها، كان يعتز كل الاعتزاز بأن يكون واحدا من رجال الاتحاد، وقال في نشيج: ولكني لن أتخلى عنها. - هذا أمر لا يستحق منك التفافا يا جوني، فلتنل قسطا وافرا من الراحة، ثم تقف على قدميك مرة أخرى، وسوف يطيب لهم أن يعيدوك إلى زمرتهم، إنك نادل صالح وأفضل مغن اشتغل عندهم! - لم أعد أصلح لشيء، ولا أستطيع الغناء بعد يا كاتي، إنهم يضحكون مني الآن حين أغني، وقد استخدموني في المرات القليلة الأخيرة التي اشتغلت عندهم فيها لأضحك الناس، هان شأني إلى هذا الحد، إنني انتهيت.
ونشج في حرارة واستمر ينشج كأنه لا يستطيع أن يكف عن النشيج.
وأحست فرانسي بالرغبة في الجري إلى حجرة النوم، وإخفاء رأسها تحت الوسادة، وذهبت إلى طرف الباب، لكن الأم رأتها فقالت لها في حدة: قفي هناك!
وخاطبت الأم جوني ثانيا: تعال يا جوني، استرح قليلا، وسوف تشعر بتحسن، إن موقد الغاز مشعل، وسأضعه في حجرة النوم، فتصير الحجرة دافئة مريحة، وسأجلس بجوارك حتى تستغرق في النوم.
وأحاطته بذراعيها، فأبعد ذراعيها عنه في رقة، وذهب إلى حجرة النوم وحده وهدأ نشيجه قليلا، وخاطبت كاتي الطفلين: سأبقى مع أبيكما لحظة فامضيا في الحديث معا أو فيما كنتما تفعلانه.
وحملق الطفلان فيها وقد خدرت أعصابهما، وتهدج صوتها قائلة: لماذا تنظران إلي هكذا؟ لم يحدث شيء.
وأشاحا بوجهيهما عنها، ومضت كاتي إلى الحجرة الأمامية لتحضر موقد الغاز.
ولم ينظر نيلي وفرانسي بعضهما إلى بعض فترة طويلة، ثم قال نيلي أخيرا: أتودين أن تتحدثي عن الأيام الخالية؟
وقالت فرانسي: كلا.
36
ومات جوني بعد ثلاثة أيام، وكان قد ذهب إلى فراشه في تلك الليلة، وجلست كاتي بجواره حتى استغرق في النوم، ونامت هي بعد ذلك مع فرانسي حتى لا تقلقه، ونهض جوني في وقت ما من الليل ولبس ملابسه في هدوء، خرج ولم يعد إلى البيت في الليلة التالية، وبدءوا يبحثون عنه في اليوم الثاني، بحثوا عنه في كل مكان، لكنهم لم يجدوا جوني قد أوى منذ أسبوع إلى أي مكان من الأمكنة التي اعتادوا أن يأوى إليها.
وجاء ماكشين في الليلة التالية ليأخذ كاتي إلى مستشفى كاثوليكي قريب، وأخبرها في الطريق بما وقع لجوني بكل ما وسعه من رفق ولطف، لقد وجد جوني في ذلك الصباح المبكر مكوما على الأرض أمام مدخل بيت، وكان فاقد الوعي حين عثر عليه شرطي، وكان معطف سترته الرسمية مزررا على قميصه الداخلي، ورأى الشرطي مدلاة القديس أنطونيو حول رقبته فاستدعى عربة إسعاف المستشفى الكاثوليكي، ولم يكن جوني يحمل أية علامة تدل على شخصيته، ثم أبلغ الشرطي عن الحادث وأعطى أوصاف الرجل الفاقد الوعي، ووقعت في يد ماكشين هذه الأوصاف أثناء مراجعته المعتادة لدفتر الأحوال، وهدته حاسته السادسة إلى شخصية الرجل، وذهب إلى المستشفى ورأى أنه جوني نولان.
وكان جوني لا يزال على قيد الحياة حين وصلت كاتي إلى المستشفى، وقال لها الطبيب إنه أصيب بالتهاب رئوي، وليست أمامه فرصة للشفاء، وإنه لن يعيش سوى بضع ساعات، ثم إنه فعلا في غيبوبة الاحتضار، وأخذوا كاتي إليه، ورأت سريره في عنبر يشبه ممرا طويلا يشتمل على خمسين سريرا، وشكرت كاتي ماكشين وودعته، وانصرف ماكشين بعد أن عرف أنها تريد أن تكون وحيدة مع جوني.
ورأت كاتي حول سرير جوني ستارا، يخفي وراءه الموت، وأحضروا لها كرسيا فجلست طوال اليوم تراقبه، وكان جوني يتنفس بصعوبة وعلى وجهه أثر دموع جافة، وبقيت كاتي إلى جواره حتى مات دون أن يفتح عينيه مرة، أو يقول كلمة واحدة لزوجته.
ووصلت كاتي إلى بيتها بعد أن حل الظلام، وقررت ألا تخبر الطفلين حتى الصباح، وقالت بينها وبين نفسها: فلأدعهما يخلدان إلى النوم ليلة أخرى، ناعمين فيها براحة لا ينغصهما حزن أو ألم.
وكل ما قالته لهما أن أباهما في المستشفى وقد استبد به المرض ... ولم تزد. وكان منظرها ينم عن شيء صرف الطفلين عن أن يوجها أي سؤال إليها.
وما إن تنفس الفجر حتى استيقظت فرانسي، ونظرت نحو حجرة النوم الضيقة، فرأت أمها جالسة بجوار سرير نيلي تنظر إلى وجهه، وبدا السواد تحت عينيها كأنما ظلت جالسة حيث كانت طوال الليل، ولما رأت أن فرانسي قد استيقظت، طلبت منها أن تنهض وترتدي ملابسها فورا، وهزت نيلي في رفق لتوقظه وطلبت منه الشيء نفسه، وخرجت إلى المطبخ.
وكانت حجرة النوم كالحة باردة، وارتعدت فرانسي وهي ترتدي ملابسها، وانتظرت نيلي حتى لا تخرج إلى أمها وحدها، وكانت كاتي جالسة إلى النافذة حين مثلا أمامها، ووقفا منتظرين، وقالت لهما: إن أباكما قد مات.
وتسمرت فرانسي وهي واقفة، ولم تشعر لا بالدهشة ولا بالحزن، بل لم تشعر بأي شيء، فإن ما قالته أمها لتوها لم يكن يحمل أي معنى.
وأمرتهما الأم قائلة: يجب عليكما ألا تبكيا.
ولم تكن كلماتها التالية تحمل أي معنى أيضا. - لقد نفض يده من الحياة، ولعله الآن أسعد حظا منا.
وكان بالمستشفى عامل يتسلم أجرا من متعهد لدفن الموتى نظير إبلاغه عن كل ميت فور وفاته، وهذا المتعهد اليقظ يسبق منافسيه بالسعي وراء العمل، على حين ينتظر الآخرون حتى يسعى إليهم العمل، وذهب هذا الرجل المقدام إلى كاتي في الصباح المبكر.
وقال لها مشيرا خلسة إلى قصاصة الورق التي كتب فيها عامل المستشفى اسمها وعنوانها: أيتها السيدة نولان، إني أواسيك في مصابك الأليم، وأقول لك حكمة: هم السابقون ونحن اللاحقون.
وسألته كاتي بجفوة: ماذا تريد؟ - أن أصبح صديقك.
ثم سارع قبل أن تسيء تأويل كلامه، وأردف قائلا: ثمة تفصيلات متعلقة ... بال... بالرفات ... أقصد ...
ونظر مرة أخرى بسرعة إلى القصاصة: إني أقصد السيد نولان، سألتك أن تنظري إلي نظرتك إلى صديق يخفف عنك في وقت يقتضي ... حسنا ... إني أريد منك أن تتركي لي تدبير كل شيء.
وفهمت كاتي وقالت: كم تطلب من المال نظير جنازة بسيطة؟
وقال وهو يسد عليها المسالك: لا تشغلي بالك بأجري، سوف أرتب له جنازة تليق بمقامه، فما من رجل أحترمه احترامي للسيد نولان (ولم يكن يعرف السيد نولان على الإطلاق)، سأهتم بنفسي بالأمر، حتى أطمئن على أنه شيع على خير وجه، لا تشغلي بالك بالأجر. - لن أشغل بالي بذلك، إنني لا أملك من المال ما يشغل بالي.
وبلل شفتيه وقال: بصرف النظر عن قيمة التأمين، طبعا ...
وكان ذلك سؤالا وليس تقريرا. - هنالك تأمين ولكنه مبلغ زهيد.
وفرك يديه مسرورا: آه! إن ذلك هو ما أستطيع أن أخدم فيه، فثمة إجراءات متعددة في سبيل الحصول على قيمة التأمين، وتسلم المال يتطلب وقتا طويلا، والآن افرضي أنك عهدت إلي بذلك (واعلمي أنني لن أتقاضى منك شيئا نظيره) فما عليك إلا أن توقعي هنا (وأخرج من جيبه ورقة) إنك إذا حولت سند التأمين إلي، فسوف أسلمك المال مقدما ثم أتولى صرفه.
وكان كل متعهدي الموتى يقدمون هذه «الخدمة»، ويتخذون منها حيلة لتبين مقدار التأمين، وما إن يتبينوا ذلك حتى يقدروا تكاليف الجنازة بثمانين في المائة من مبلغ التأمين، ويقتضيهم الواجب أن يتركوا مالا قليلا تشتري به أسرة الميت ملابس الحداد ترضية لهم.
وأحضرت كاتي سند التأمين، والتقطت عيناه الخبيرتان قيمته، وهي تضع السند على المائدة ووجدها مائتي دولار، وتظاهر بأنه لم ينظر إلى السند، وتكلم في أشياء أخرى فترة بعد أن وقعت كاتي، ثم قال أخيرا كأنما وصل إلى قرار: سأقول لك يا سيدة نولان ما سأفعله، إني سأعد للراحل عربة جنازة من الدرجة الأولى تجرها أربعة جياد، ومقبض تابوتها من النيكل نظير مائة وخمسة وسبعين دولارا، وإني لأتقاضى نظير هذا العمل مائتين وخمسين دولارا دون أن أربح بنسا واحدا.
وسألته كاتي: لم تفعل هذا إذن؟
ولم يحرجه هذا السؤال، فقال: أفعل هذا لأنني أحببت السيد نولان، كان رجلا عظيما مكافحا مناضلا، ولاحظ نظرة الدهشة التي صوبتها كاتي إليه.
وترددت قائلة: لا أدري، مائة وخمسة وسبعين ...
وقال في سرعة: إن ذلك يشمل القداس أيضا.
وقالت كاتي في اكتئاب: حسنا!
وكانت قد ملت الكلام في ذلك الموضوع.
والتقط المتعهد سند التأمين، وتظاهر بأنه يرى القيمة لأول مرة، وقال في دهشة مصطنعة: انظري! إنها مائتان، ومعنى ذلك أنك ستأخذين خمسة وعشرين دولارا بعد أن تدفعي نفقات الجنازة.
ودس يده في جيبه باسطا ساقه في استقامة أمامه، وقال: طالما قلت لنفسي إن المرء لا يواتيه إلا قليل من المال نقدا في مثل هذا الوقت ... بل في أي وقت تشائين.
وقال في نبرة المدرك: لهذا سأعطيك الفرق مقدما من جيبي الخاص.
ووضع على المائدة خمسة وعشرين دولارا أوراقا جديدة.
وشكرته كاتي، ولم يكن الرجل يستغفلها، فلم تعترض؛ لأنها كانت تعلم أن الأمور تسير على هذا النحو، وأن ذلك إنما كان هو ما تقتضيه مهنته، وطلب منها أن تحصل على شهادة الوفاة من الطبيب المناوب. - وأرجوك أن تخبريهم بأني سآتي لأحمل ال... أقصد المتوفي ... أجل سآتي لأحمل السيد نولان.
وأخذوا كاتي إلى مكتب الطبيب حين عادت إلى المستشفى، وكان قسيس الأبرشية هناك، يحاول أن يمدهم بالبيانات لاستخراج شهادة الوفاة، ولما رأى كاتي رسم علامة الصليب متبركا ثم هز رأسه، وقال القسيس: إن السيدة نولان تستطيع أن تدلي لكم ببيانات أكثر مما أستطيع.
وسأل الطبيب الأسئلة الضرورية: الاسم كاملا ومحل الميلاد وتاريخه وما إلى ذلك، وسألت كاتي في النهاية سؤالا: ماذا تكتب هناك؟ ... أقصد ماذا كان سبب الوفاة؟ - تسمم كحولي حاد والتهاب رئوي. - لقد قالوا إنه مات بسبب الالتهاب الرئوي. - كان ذلك هو سبب الوفاة المباشر، ولكن التسمم الكحولي الحاد كان عاملا مساعدا على الوفاة بلا شك، والراجح أنه السبب الرئيسي للوفاة إذا أردت الصدق.
وقالت كاتي في بطء وثبات: لا أريد أن تكتب أنه مات بسبب إسرافه في شرب الخمر، اكتب أنه مات بسبب الالتهاب الرئوي فقط. - الواجب يقتضيني يا سيدتي أن أكتب الصدق كله. - لقد مات وانتهى، فماذا يعنيك من سبب وفاته؟ - إن القانون يقتضي ...
وقالت كاتي: استمع إلي، إن لي طفلين جميلين سوف يشبان ويتطلعان لأن يصبحا شيئا، وليس الذنب ذنبهما أن أباهما ... مات بسبب ما ذكرت، وإنه ليهمني كثيرا أن يتاح لي أن أذكر لهما أن أباهما مات بسبب الالتهاب الرئوي فحسب.
ومد القسيس يد المساعدة، وقال: إنك تستطيع ذلك أيها الطبيب، فتفيد الآخرين دون أن تصيب نفسك بالضر، لا تنبش ماضي رجل بائس مات وانتهى، اكتب «التهاب رئوي» وليس في هذا كذب، ولسوف تذكرك هذه السيدة في صلواتها أمدا طويلا.
وأضاف على نحو عملي: زد على ذلك أن ليس في الأمر ما يسوءك!
وتذكر الطبيب فجأة شيئين: تذكر أن القسيس عضو في هيئة المستشفى، وأنه يطمع في أن يصبح الطبيب الأول في هذا المستشفى بالذات، ووافق قائلا: حسنا! سأفعل ذلك، ولكن لا تبوحا بالسر لأحد، إنها مجاملة شخصية لك أيها الأب.
وكتب «التهاب رئوي» في السطر المقابل لسبب الوفاة.
وهكذا لم يكن هناك تقرير يثبت أن جوني مات سكران.
وأنفقت كاتي الخمسة والعشرين دولارا في شراء ملابس الحداد، فاشترت لنيلي حلة جديدة سوداء لها سروال طويل، وكانت أول حلة يلبسها من هذا القبيل، واصطرعت في قلب نيلي مشاعر الفخر والسرور والحزن في آن، واشترت كاتي لنفسها قبعة سوداء جديدة، ونقابا طوله ثلاث أقدام تلبسه الأرامل وفقا لتقاليد بروكلين، وحصلت فرانسي على حذاء جديد كانت تحتاج إليه منذ فترة طويلة، وقررت كاتي ألا تشتري لفرانسي معطفا أسود لأنها تنمو بسرعة، وسوف لا يناسبها المعطف في الشتاء القادم، وقالت الأم: إن معطفها الأخضر القديم يصلح لأن تلبسه بعد أن تضع شريطا أسود حول الذراع، وفرحت فرانسي لأنها كانت تكره اللون الأسود، وأصابها القلق خشية أن تلبسها أمها ملابس الحداد الكاملة، ووضعت كاتي النقود المتبقية بعد شراء هذه الحاجات في الحصالة القصدير.
وعاد المتعهد ليبلغهم أن جوني في بهو الجنازة، وأنه جهز تجهيزا جيدا، وسوف يحمله إلى البيت ذلك المساء، وطلبت منه كاتي في حدة ألا يشرح لهم التفاصيل.
ثم حلت النكبة حين قال: أيتها السيدة نولان، أريد أن أحصل على العقد الخاص بحصتك. - أية حصة؟ - حصة المقبرة، إني أريد العقد حتى أفتح المقبرة. - كنت أظن أن المائة والخمسة والسبعين دولارا تشمل ذلك كله. - لا، لا، لا! إني أقدم لك الحساب، لقد كلفني التابوت وحده ...
وقالت كاتي بطريقتها الجافة: أنا لا أميل إليك، ولا أميل إلى تلك المهنة التي تزاولها.
ثم أردفت بلهجتها الواقية العجيبة المعهودة: إني لأحسب أنه لا بد أن يقوم شخص بدفن الميت، كم تكلفني الحصة! - عشرين دولارا؟ - كيف يتأتى لي الحصول على هذا المبلغ؟
وتوقفت فجأة: فرانسي! أحضري الفتاحة.
وفتحوا الحصالة المصنوعة من القصدير، وكان بها ثمانية عشر دولارا واثنان وستون سنتا، وقال المتعهد: إنها لا تكفي وسأدفع الباقي!
ومد يده ليأخذ المال، وقالت له كاتي: سأجمع المال المطلوب كله، ولكني لن أعطيه لك حتى يصبح العقد بين يدي.
ولغط وجادل، وانصرف في النهاية وهو يقول إنه سيحضر العقد، وأرسلت الأم فرانسي إلى بيت سيسي لتستدين دولارين، وتذكرت كاتي - حين عاد المتعهد بالعقد - شيئا قالته لها أمها منذ أربعة عشر عاما فقرأته في بطء وعناية، وجعلت فرانسي ونيلي يقرآنه أيضا، ووقف المتعهد على قدم أولا، ثم وقف على القدم الأخرى، وناولته كاتي المال حين اطمأن آل نولان الثلاثة إلى أن العقد سليم.
وسأل في استعطاف وهو يضع المال في جيبه بعناية: ما الذي يحملني على غشك يا سيدة نولان؟
وسألت بدورها: ترى ما الذي يحمل شخصا على أن يغش الآخر؟ ولكنهم يفعلون ذلك.
وكانت الحصالة المصنوعة من القصدير قائمة في وسط المائدة، تحمل من العمر أربعة عشر عاما وقد تقوضت أشرطتها، وسألت فرانسي: أتريدين أن أثبتها بالمسامير ثانية يا أمي.
وقالت الأم ببطء: لا، إننا لا نحتاج إليها بعد، أترين؟ ... إننا نمتلك قطعة من الأرض الآن.
ووضعت العقد المطوي فوق الحصالة الغليظة التي تشبه النجم.
وبقي نيلي وفرانسي في المطبخ طوال الوقت الذي وضع فيه التابوت في الحجرة الأمامية، بل إنهما ناما في المطبخ، ولم يرغبا في رؤية أبيهما في التابوت، وأدركت كاتي ذلك فلم تصر على أن يذهبا وينظرا إلى أبيهما.
وامتلأ البيت بالزهور، فقد أرسل اتحاد الندل الذي طرد جوني منذ أقل من أسبوع، باقة كبيرة من زهور القرنفل البيضاء، يحيط بقطرها شريط أرجواني كتبت عليه كلمة «أخونا» بالمداد المذهب، وأرسل رجال الشرطة في الحي صليبا من الورد الأحمر ذكرى للقبض على القاتل، وأرسل الشاويش ماكشين باقة من زهور السوسن، وأرسلت أم جوني وأسرة روملي وبعض الجيران الزهور، وتوالت باقات الورد والزهر من عشرات من أصدقاء جوني، الذين لم تكن كاتي قد سمعت بهم قط، وأرسل ماكجريتي صاحب الحانة إكليلا من أوراق الغار الصناعية.
وقالت إيفي في سخط حين قرأت البطاقة: سوف ألقي بها في سلة المهملات.
وقالت كاتي في رقة: لا، أنا لا أستطيع أن ألوم ماكجريتي، كان يجب على جوني ألا يذهب إلى هناك. (وكان جوني مدينا لماكجريتي بأكثر من ثمانية وثلاثين دولارا حين أدركته المنية، ولكن صاحب المشرب لم يذكر لكاتي لسبب ما شيئا عن الدين وألغاه في صمت.)
وأضحى جو الشقة ثقيلا من الرائحة المختلطة التي تنبعث من الورد وزهر السوسن والقرنفل، وظلت فرانسي طول حياتها بعد ذلك تكره هذه الزهور، ولكن كاتي سرت، إذ تجلى لها أن زوجها موضع تقدير كل هؤلاء القوم.
ووافت كاتي الطفلين في المطبخ قبل أن يغلق غطاء التابوت على جوني بلحظات قلائل، ووضعت يديها على كتف فرانسي، وقالت بصوت خفيض: لقد سمعت بعض الجيران يتهامسون ويقولون إنكما لن تنظرا إلى أبيكما؛ لأنه لم يكن بالنسبة لكما أبا صالحا!
وقالت فرانسي في شدة: لقد كان أبا صالحا.
ووافقت كاتي: نعم، لقد كان.
وانتظرت حتى يتخذ الطفلان قرارهما، وقالت فرانسي: هيا نذهب يا نيلي.
وسار الطفلان يدا في يد إلى جثمان أبيهما المسجى، ونظر نيلي نظرة سريعة ثم جرى خارج الحجرة، خشية أن يجهش بالبكاء، ووقفت فرانسي مطرقة ببصرها إلى الأرض تخاف من الرؤية، لكنها رفعت عينيها أخيرا، ولم تستطع أن تصدق أن أباها لم يكن حيا! كان يلبس بذلته الرسمية التي نظفت وكويت من قبل، وكان يرتدي صدرية جديدة وبنيقة وربطة عنق ربطت بعناية، وكانت هناك زهرة من زهور القرنفل في عروة سترته ومن فوقها شارة الاتحاد، وكان شعره ذهبيا لامعا مجعدا كشأنه دائما، وقد سقطت خصلة من خصلات شعره على جبينه منحرفة بعض الشيء، وكانت عيناه مغمضتين كأنه استغرق في النعاس، وبدا شابا وسيما معتنى به كل العناية، ولاحظت لأول مرة كيف استدار حاجباه في جمال، وبدا شاربه الصغير مشذبا لطيفا كشأنه دائما، وقد اختفت من وجهه الأحزان والآلام والقلق جميعا، وبدا ناعما، يشبه وجه الصبي، وكان جوني في الرابعة والثلاثين من عمره حين أدركته المنية ، ولكنه بدا الآن أصغر من سنه كأنما هو فتى لا يتجاوز العشرين.
ونظرت فرانسي إلى يديه المتشابكتين في استرخاء فوق صليب من الفضة، ورأت دائرة من الجلد أكثر بياضا على إصبعه الوسطى، حيث اعتاد أن يلبس خاتمه الذي أهدته له كاتي حين تزوجا (وكانت كاتي قد خلعته من إصبعه لتعطيه لنيلي حين يكبر)، وبدت يدا أبيها في نظرها غريبتين وهما ساكنتان هادئتان، حين تذكرت أنهما كانتا ترتعشان دائما، ولاحظت فرانسي كيف تبدو يداه رقيقتين بأصابعهما الطويلة الحادة الطرف، وحملقت في ثبات في يديه وتوهمت أنهما تتحركان، وانتفضت فزعا وهلعا وأرادت أن تجري بعيدا، ولكن الحجرة كانت غاصة بأناس يرقبونها، وإنهم لخليقون بأن يقولوا إنها جرت بعيدا لأنه لم يكن أبا صالحا ... ولكنه كان صالحا! كان صالحا! ووضعت يدها على شعره وأعادت خصلة الشعر إلى مكانها، وجاءت الخالة سيسي ووضعت ذراعها حولها وهمست قائلة: لقد حان الوقت.
وتراجعت فرانسي إلى الوراء لتقف مع أمها وهم يضعون الغطاء.
وركعت فرانسي في القداس إلى جانب أمها، وركع نيلي في الجانب الآخر، وظلت فرانسي مطرقة إلى الأرض، حتى لا تضطر أن تنظر إلى التابوت الذي نصب على قوائم أمام الهيكل وغطي بالزهور، واختلست نظرة إلى أمها، وكانت كاتي راكعة تحملق في الفضاء أمامها، ويبدو وجهها أبيض هادئا تحت نقاب الحداد.
ونشجت امرأة كانت تقف تجاه الهيكل نشيجا حارا، حين هبط القسيس وسار حول التابوت، ينضح الماء المقدس على أركانه الأربعة، واستدارت كاتي في حدة لتنظر إلى المرأة التي جرؤت أن تبكي على جوني، وقد استبدت بها الغيرة والرغبة الشديدة في الاستحواذ حتى في الموت، وتفحصت المرأة بعينها ثم أدارت رأسها بعيدا، وتناثرت أفكارها كقصاصات من الورق تذروها الرياح، وقالت بينها وبين نفسها: إن هيلدي أودير تبدو أكبر من سنها، كأنما نثر مسحوق فوق شعرها الأصفر، ولكنها ليست أكبر مني سنا بكثير ... فهي تبلغ الثانية والثلاثين أو الثالثة والثلاثين، كانت في الثامنة عشرة حين كنت أنا في السابعة عشرة، وعادت ذاكرتها القهقري: فتلمض أنت في طريقك، ولأمض أنا في طريقي، أنت تعني أنك ستمضي في طريقها، هيلدي، هيلدي ... إنه فتاي يا كاتي روملي ... هيلدي هيلدي ... ولكنها خير صديقاتي ... لست رجلا صالحا كل الصلاح يا هيلدي ... كان يجب علي ألا أقودك إلي ... أنت تمضين في ... هيلدي هيلدي.
ثم ارتدت كاتي إلى عالم الواقع الحاضر، وقالت لنفسها: فلأدعها تبكي، فلأدعها تبكي، لا بد لشخص أحب جوني أن يبكيه، وأنا لا أستطيع أن أبكي ... فلأدعها ...
وركبت كاتي وأم جوني وفرانسي ونيلي في أول عربة خلف النعش ذاهبين إلى المقبرة، وجلس الطفلان وظهرهما للسائق، وسرت فرانسي لأنها لم تستطع أن ترى النعش الذي يتقدم الموكب، وإنما رأت العربة التي تتبعه، وكانت تركبها الخالة إيفي والخالة سيسي وحدهما، ولم يستطع زوجاهما الحضور لأنهما كانا يعملان، وبقيت الجدة ماري روملي في البيت لترعى طفلة سيسي الجديدة، وودت فرانسي لو ركبت العربة الثانية، وظلت روثي نولان تبكي وتندب طول فترة الركوب، وجلست كاتي صامتة كالتمثال، وكانت العربة قريبة تنبعث منها رائحة القش الرطب وروث الجياد الآسن.
وشمت فرانسي تلك الرائحة؛ لأنها تركب بالخلف وترى العربة عن كثب، وكان الحزن يضغط على أعصابها ويشدها، فأحست بشعور من المرض والإعياء لم تألفه من قبل.
وكان في المقبرة صندوق خشبي بسيط وبجواره حفرة عميقة، ووضعوا العلبة المغطاة بالقماش بمقابضها اللامعة في الصندوق البسيط، ونظرت فرانسي بعيدا حين أنزلوه في القبر.
وكان يوما عبوسا قمطريرا عصفت فيه ريح باردة، وطافت دوامات صغيرة من الغبار المتجمد حول قدمي فرانسي، وعلى بعد قريب، وفي مقبرة مضى على إقامتها أسبوع، أخذ بعض الرجال ينزعون الزهور الذابلة من إطاراتها المصنوعة من السلك، وكانت قد تكومت على القبر، وكانوا يعملون في نظام، ويحفظون الزهور الذابلة في كوم نظيف، ويكومون إطارات السلك في عناية، وعملهم هذا مشروع؛ لأنهم يشترون الترخيص من موظفي المقبرة ويبيعون إطارات السلك لبائعي الزهور الذين يستخدمونها مرة إثر مرة، ولم يكن أحد يشتكي من ذلك؛ لأن هؤلاء الرجال حريصون أشد الحرص على ألا ينتزعوا الزهور إلا بعد أن تذبل تماما، ودفع شخص في يد فرانسي قطعة من الغبار البارد الرطب، ورأت أمها ونيلي واقفين عند طرف القبر يسقطان فيه الغبار الذي يملأ أيديهما، وسارت فرانسي في تؤدة إلى طرف القبر وأغمضت عينيها وفتحت يديها في بطء، وسمعت دقة خفيفة بعد لحظة فعاد إليها ذلك الشعور بالمرض والإعياء.
وسارت العربات بعد الدفن في اتجاهات مختلفة تحمل كل مشيع إلى بيته، وذهبت روثي نولان مع بعض المشيعين الذين يسكنون بجوارها، ولم تقل كلمة وداع، ورفضت أن تتحدث إلى كاتي والطفلين طول فترة الدفن، وركبت الخالة سيسي وإيفي في العربة مع كاتي وفرانسي ونيلي، ولم تتسع العربة لخمسة أشخاص، فجلست فرانسي على حجر إيفي، وران عليهم الصمت طول الطريق المؤدي إلى البيت، وحاولت الخالة إيفي أن ترفه عنهم بأن تحكي بعض القصص الجديدة عن العم ويلي وجواده، ولكن أحدا لم يبتسم؛ لأنه لم يكن بينهم من ينصت إليها.
وأوقفت الأم العربة أمام حلاق عند المنعطف بالقرب من بيتهم.
وقالت لفرانسي: ادخلي إلى الحلاق وهاتي وعاء أبيك.
ولم تفهم فرانسي ماذا تقصد، فسألتها: أي وعاء؟ - اطلبي وعاءه فحسب.
ودخلت فرانسي إلى الحلاق، ورأت هناك حلاقين اثنين والمحل خاليا من الزبائن، كان أحدهما يجلس في كرسي من الكراسي المصفوفة تجاه الحائط، ويضع كعبه الأيسر على ركبته اليمنى ويحمل ماندولين، يعزف عليه أغنية «أنت يا حبيبي الوحيد»، وعرفت فرانسي الأغنية، فقد علمها لهم السيد مورتون قائلا إن عنوانها هو «الشمس المشرقة»، وكان الحلاق الآخر يجلس في كرسي من كراسي الحلاقة ينظر إلى نفسه في المرآة الطويلة، وترك كرسيه حين دخلت الفتاة.
وسألها: ماذا تريدين؟ - أريد وعاء أبي؟ - ما اسمه؟ - جون نولان. - آه، يا للأسف!
وتنهد وهو يأخذ كأسا من الكئوس المصفوفة فوق الرف، وكانت كأسا بيضاء سميكة كتب عليها «جون نولان» بالذهب بحروف كبيرة جميلة، وكانت في قاعها قطعة من الصابون الأبيض المستهلكة وفرشاة بالية، وأخرج قطعة الصابون والفرشاة، ووضعهما في وعاء أكبر حجما ليس عليه كتابة وغسل وعاء جوني.
ونظرت فرانسي حولها وهي تنتظر؛ ذلك أنها لم تكن قد دخلت قط محل حلاق، وشمت رائحة الصابون والمناشف النظيفة ومشروب الروم، وكان هناك موقد غاز يصدر صفيرا خفيفا مصاحبا للغناء، وأنهى الحلاق الأغنية وبدأها مرة أخرى، وأحدث رنين الماندولين الرفيع صوتا حزينا في المحل الدافئ، وغنت فرانسي بينها وبين نفسها كلمات السيد مورتون مع الأغنية:
آه! هل من جمال يا حبيبي
يفوق جمال يوم تشرق شمسه
بعد أن ولت العاصفة،
وتجلت السماء زرقاء صافية؟
وتفكرت فرانسي: إن لكل امرئ حياته الخاصة لا يبوح بها لأحد وإن أباها لم يتكلم أبدا عن محل الحلاق، ولكنه كان يأتي إلى هنا ثلاث مرات في الأسبوع ليحلق، ولقد اشترى جوني المتأنق وعاءه الخاص على غرار الرجال، الذين كانوا يعيشون في مستوى أرفع من مستواه، إنه لم يكن خليقا بأن يحلق بالرغوة التي توضع في الوعاء العام. حاشاه! وكان يغشى محل الحلاق ثلاث مرات في الأسبوع، حين يتيسر له المال ويجلس في كرسي من هذه الكراسي، وينظر في هذه المرآة ويتكلم مع الحلاق عن شيء ... ترى أكان حديثه عن فريق بروكلين، وهل أتيح له هذا العام فريق كرة جيد؟ أم كان يتحدث متسائلا عن الديمقراطيين وهل سيفوزون في الانتخابات كشأنهم، ولعله كان يغني حين يعزف الحلاق الآخر على الماندولين، أجل إنها لواثقة أنه كان يغني، فقد كان الغناء عنده أسهل من التنفس وأيسر، وتساءلت: أتراه كان يعمد، حين يضطر إلى الانتظار، إلى قراءة مجلة الشرطة وهو يجلس على ذلك المقعد.
وأعطاها الحلاق الوعاء النظيف الجاف، وقال: كان جوني نولان رفيقا لطيفا، قولي لأمك إنني - أنا حلاقه - قد قلت ذلك.
وهمست فرانسي في امتنان: أشكرك.
وخرجت وأغلقت الباب دون صوت الماندولين الحزين، وناولت الوعاء لكاتي حين عادت إلى العربة، لكن أمها قالت لها: إن هذا لك، وسيأخذ نيلي خاتم أبيه.
ونظرت فرانسي إلى اسم أبيها الذهبي، وهمست في امتنان للمرة الثانية في خمس دقائق: أشكرك.
وكان جوني قد عاش أربعة وثلاثين عاما، وسار منذ أقل من أسبوع في هذه الشوارع ، والآن أصبح الوعاء والخاتم وفوطتان غير مكويتين من فوط الندل بالبيت، هي الأشياء الملموسة الوحيدة التي بقيت لتشير إلى أن رجلا كان يعيش في يوم من الأيام، ولم تكن هناك أشياء أخرى مادية تحمل ذكرى جوني؛ لأنه دفن بالملابس التي كان يملكها جميعا، وبأزرار قميصه وزرار بنيقته الذهبي عيار أربعة عشر قيراطا.
وحين وصلوا إلى البيت وجدوا أن الجيران في الشقة وقد أتموا ترتيبها، وأعادوا الأثاث إلى مكانه في الحجرة الأمامية، وكسوا الأوراق الذابلة وأوراق أكمام الزهور التي سقطت على الأرض، وفتحوا النوافذ وغيروا هواء الحجرات، وأحضروا فحما وأشعلوا نارا كبيرة في موقد المطبخ، ووضعوا قماشا أبيض نظيفا على المائدة، وأحضرت الآنستان تنمور كعكة كانتا قد خبزتاها بنفسيهما ووضعتاها في طبق بعد أن قطعتاها، وأحضرت فلوس جاديس وأمها قطعة كاملة من شرائح اللحم ووضعتاها في طبقين إلى جانب سلة تمتلئ بخبز الجويدار المقطع الطازج وأقداح القهوة المعدة على المائدة، وكان على الموقد وعاء مليء بالقهوة الطازجة، ووضع أحدهم في وسط المائدة ماعونا من القشدة الحقيقية، وكلهم فعلوا ذلك حينما كانت أسرة نولان خارج البيت، ثم انصرفوا وأغلقوا الباب خلفهم، ووضعوا المفتاح تحت الحصيرة.
وجلست الخالة سيسي وإيفي والأم وفرانسي ونيلي إلى المائدة، وأفرغت الخالة إيفي القهوة، وجلست كاتي وقتا طويلا تنظر إلى قدحها، ثم تذكرت المرة الأخيرة التي جلس فيها جوني إلى هذه المائدة، وفعلت ما فعله جوني، إذ دفعت القدح بذراعها بعيدا، ووضعت رأسها على المائدة وبكت في نشيج يحزن القلب، وأحاطتها سيسي بذراعيها وقالت لها في صوتها الحنون الذي يفيض حبا: كاتي! كاتي لا تبكي هكذا، لا تبكي هكذا، وإلا أصبح الطفل الذي سيخرج من أحشائك قريبا إلى هذا العالم طفلا حزينا.
37
وبقيت كاتي في الفراش نهار اليوم الذي تلا الجنازة، وتجول نيلي وفرانسي مبلبلي الخاطر في أنحاء المسكن، وقد تملكتهما الحيرة والذهول، ونهضت كاتي قرب المساء وأعدت لهما بعض الطعام للعشاء، وحثتهما بعد أن أكلا على أن يخرجا للسير على الأقدام بعض الوقت، قائلة إنهما في حاجة إلى الهواء الطلق.
وسار نيلي وفرانسي مصعدين في شارع جراهام متجهين إلى برودواي، وكانت ليلة قارسة البرد ساكنة الهواء لا تغشاها الثلوج، والشوارع خالية من المارة، وكان قد انقضى على عيد الميلاد ثلاثة أيام، وأوى الأطفال إلى بيوتهم يلعبون بلعبهم الجديدة، وأنوار الشارع هزيلة ضئيلة، وهبت ريح ثلجية ضعيفة من البحر قريبا من الأرض، فأثارت قصاصات الأوراق القذرة حول البالوعات، وكانا قد ودعا عهد الطفولة في الأيام القليلة الأخيرة، ومر بهما عيد الميلاد دون أن يشعرا به، ذلك أن أباهما مات في يوم من أيام عيد الميلاد، وضاع عيد ميلاد نيلي الثالث عشر في الأيام القليلة الأخيرة.
ووصلا إلى المسرح الفكاهي الكبير وقد تلألأت واجهته بالأنوار الزاهية، وحيث إنهما كانا مشغوفين بالقراءة، يقرآن كل ما تقع عليه عيونهما، فقد توقفا وقرآ بلا وعي قائمة المشاهد التي كانت ستمثل في ذلك الأسبوع، ورأيا تحت المشهد السادس إعلانا كبيرا كتب بالحروف الكبيرة «هنا في الأسبوع القادم! تسمعون تشونسي أسبورن المطرب المحبوب، يغني أغانيه المحبوبة! فلا تدعوه يفوتكم!» المطرب المحبوب ... المطرب المحبوب ... المطرب المحبوب.
ولم تكن دمعة واحدة قد طفرت من عيني فرانسي منذ وفاة أبيهما، وكذلك كان نيلي، وشعرت فرانسي الآن أن جميع الدموع التي اختزنتها قد تجمدت وتجمعت في حلقها، وغدت كتلة صلبة تنمو وتنمو ... وأحست أنها سوف تموت سريعا هي الأخرى، ما لم تذب تلك الكتلة سريعا وتستحل دموعا، ونظرت إلى نيلي، ورأت الدموع تتساقط من عينيه فانهمرت الدموع من عينيها أيضا.
واستدارا إلى شارع جانبي مظلم، وجلسا على طرف الطوار، وقد تدلت أقدامهما في الحمأة، وتذكر نيلي رغم بكائه أن يبسط منديله على حافة الطريق حتى لا يتسخ سرواله الجديد، وجلسا متلاصقين لأنهما يشعران بالبرد والوحدة، وأخذا يبكيان طويلا في هدوء وهما يجلسان في الشارع البارد، وأخيرا تكلما حين عجزا عن الاستمرار في البكاء: نيلي! ألم يكن مناص من أن يموت أبونا؟ - إني لأحسب أن الله شاء له أن يموت. - لماذا؟ - ربما ليعاقبه! - ليعاقبه علام؟
وقال نيلي في تعاسة : لا أدري! - هل تظن أن الله هو الذي أوجد أبي في هذا العالم؟ - نعم! - إذن كان يريد له أن يحيا؟ أليس كذلك؟ - أظن ذلك! - لماذا إذن جعله يموت بهذه السرعة؟
ورد نيلي دون أن يعلم جوابا آخر: ربما ليعاقبه. - إذا كان ذلك صحيحا فما وجه الخير فيه؟ إن أبي مات وهو لا يعلم أنه يعاقب، إن الله قد سوى أبي على الصورة التي كان عليها، ثم قال لنفسه: إنك لن تجرؤ على أن تغير من أمرك شيئا، إني أراهن أنه قال ذلك.
وقال نيلي في ذعر: لعل من الواجب عليك ألا تتحدثي عن الله بهذه الطريقة.
وقالت فرانسي في سخرية: إنهم يقولون إن الله عظيم، وإنه عليم بكل شيء، قادر على كل شيء، فما باله - وقد بلغ هذه العظمة - لم يساعد أبي بدلا من أن يعاقبه كما تقول! - إن كل ما قلته هو أنه أماته، ربما ليعاقبه.
وقالت فرانسي: إذا كان الله موكلا بالعالم، بالشمس والقمر والنجوم والطير والشجر والزهر جميعا، والحيوان والناس كافة، فإنك خليق بأن تظن أنه أعظم انشغالا وأجل قدرا، من أن ينفق كل هذا الوقت في عقاب رجل واحد، أجل رجل واحد كأبي.
وقال نيلي في قلق: إني لأنكر عليك تحدثك عن الله بهذه الطريقة، فقد ينزل بك ضربة تقضي عليك.
وصاحت فرانسي في شدة: ليفعلن ذلك إذن! ولينزلن بي ضربة تقضي علي هنا في هذا المكان الذي أجلس فيه.
وانتظرا خائفين، ولم يحدث شيء، وكانت فرانسي أكثر هدوءا حين استأنفت حديثها: إني لأومن بالرب ويسوع المسيح وأمه مريم العذراء، كان يسوع طفلا حيا في يوم من الأيام، يمشي حافيا كما نفعل نحن في الصيف، لقد رأيت صورة له حين كان صبيا، ولم يكن يلبس في قدميه حذاء، فلما أصبح رجلا ذهب للصيد كما فعل أبي مرة، وكان في إمكانهم أن ينالوه بالأذى هو أيضا، كما أنهم لم يستطيعوا أن يمسوا الله بضر، إن يسوع لم يكن خليقا بأن يسعى في الأرض، ينزل العقاب بالناس، لقد كان يعرفهم، فلأومن إذن بالمسيح دائما.
ورسما علامة الصليب كما يفعل الكاثوليك حين يذكرون اسم المسيح، ووضعت يدها على ركبة نيلي، وهمست: نيلي! أنا لن أبوح بذلك لأحد سواك، ولكني لم أعد أومن بالرب.
وقال نيلي: أريد أن أعود إلى البيت.
وكان ينتفض.
ورأت كاتي حين فتحت لهما الباب أن الإعياء قد غشى وجهيهما، ولكنهما كانا هادئي النفس، وقالت بينها وبين نفسها: حسنا! لقد فرجا عن نفسيهما بالبكاء!
ونظرت فرانسي إلى أمهما ثم أشاحت بوجهها، وقالت بينها وبين نفسها: لقد بكت حين كنا خارج البيت، وراحت تبكي وتبكي حتى عز عليها البكاء.
ولم يذكر أحدهم كلمة البكاء بصوت عال، وقالت الأم: أظن أنكما عدتما إلى البيت مقرورين فأعددت لكما مفاجأة سارة، وسأل نيلي: ما هي؟ - سوف ترى.
وكانت المفاجأة هي «الشوكولاتة الساخنة» التي تشتمل على الكاكاو واللبن المركز، بعد أن عجنا ومزجا بالماء المغلي، وأفرغت كاتي الشراب السميك الدسم في الفناجين، ثم أردفت: وليس هذا هو كل ما هنالك.
وأخرجت ثلاثا من فطائر الخبازي من كيس من الورق من جيب «مريلتها»، ووضعت فطيرة في كل قدح.
وقال الاثنان في وقت واحد وفي نشوة: أماه!
وكانت الشوكولاتة الساخنة شيئا فريدا خاصا يدخر عادة لأعياد الميلاد، وقالت فرانسي بينها وبين نفسها، وهي تمسك فطيرتها بالملعقة وتراقب الدوائر البيضاء الذائبة تغشى الشوكولاتة الداكنة: إن أمي امرأة عظيمة حقا، إنها تعلم أننا كنا نبكي ولكنها لا ترهقنا بالأسئلة، إن أمي لا تعمد أبدا إلى ...
واهتدت فرانسي فجأة إلى الكلمة الصحيحة: إن أمي لا تعمد أبدا إلى اللغو أو التردد.
أجل! إن كاتي لم تكن تعمد إلى اللغو والتردد أبدا، وحين تستخدم يديها الجميلتين رغم ما يبدو عليهما من كلال، فإنها تستخدمهما في ثقة، سواء وضعت زهرة مقطوفة في كأس من الماء بإيماءة صادقة، أو عصرت الممسحة بحركة واحدة حاسمة، تقبض يدها اليمنى وتبسط اليسرى في آن، وكانت إذا تحدثت تقول الحقيقة بأبسط الكلمات وأسلمها، تمضي أفكارها في خط واضح صريح دون لف أو دوران ، ومضت الأم تقول: إن نيلي أصبح أكبر من أن ينام في حجرة واحدة مع أخته؛ ولهذا أعددت الحجرة الخاصة ...
ثم ترددت في النطق بالكلمة التالية: الخاصة بي وبأبيك، لقد غدت هذه الحجرة الآن حجرة نومك.
وقفزت عينا نيلي شاخصتين إلى عيني أمه، حجرة خاصة به! لقد تحقق الحلم، بل تحقق حلمان: السروال الطويل وحجرة خاصة به! لكن عينيه غامتا بالحزن حين فكر كيف تحققت له هذه الأحلام. - وسوف أشاركك في حجرتك يا فرانسي.
قالت كاتي ذلك في فطنة غريزية بدلا من أن تقول: سوف تشاركينني في حجرتي.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها، وقد اجتاحتها موجة من الغيرة: كنت أود أن تكون لي حجرتي الخاصة، ولكن لا بأس، فقد أخذها نيلي، وليس لدينا سوى حجرتين للنوم فحسب، وهو لا يمكنه النوم مع أمي.
وقالت كاتي وقد أدركت ما يدور برأس فرانسي: إن فرانسي تستطيع أن تأخذ الحجرة الأمامية حين يعود الجو إلى الدفء، ولسوف نضع سريرها هناك، ونبسط عليه غطاء جميلا بالنهار، فتبدو الحجرة كأنها حجرة خاصة للجلوس، أيروقك ذلك يا فرانسي؟ - أجل يا أماه!
وقالت الأم بعد لحظة: لقد نسينا القراءة في الليالي القليلة الأخيرة، ولكنا سنبدأ الآن مرة أخرى.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها، وقد دهشت بعض الشيء، وهي تأخذ الإنجيل من فوق رف الموقد: وهكذا ستعود الأمور سيرتها الأولى.
وقالت الأم: أما وقد فقدنا عيد الميلاد هذا العام، فلنسقط الجزء الذي كان من المفروض أن نقرأه ونبدأ من ولادة المسيح، وسوف نتناوب القراءة، ابدئي أنت يا فرانسي.
وقرأت فرانسي: وبينما كانا هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر وقمطته، وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.
وتنهدت كاتي في حرقة وأمسكت فرانسي عن القراءة، ورفعت بصرها متسائلة، وقالت الأم: ليس في الأمر شيء! استمري في القراءة.
ثم قالت بينها وبين نفسها: لا، إن في الأمر شيئا، لقد حان الوقت الذي ينبغي أن أشعر فيه بحركة الطفل، وتحرك الجنين في رفق مرة أخرى في أحشائها، وساءلت نفسها: أتراه توقف عن شرب الخمر أخيرا لأنه علم بقدوم ذلك الطفل؟ لقد همست له بأنهما سوف ينجبان طفلا آخر، هل حاول أن يغير سلوكه حين علم؟ أتراه، إذ علم، مات وهو يسعى إلى إصلاح حاله؟ جوني ... جوني ... وتنهدت مرة أخرى.
وقرءوا كل بدوره عن ميلاد المسيح، وفكروا في موت جوني أثناء القراءة، لكن كلا منهم احتفظ بأفكاره لنفسه.
وخرجت كاتي عن مألوفها تماما حين استعد الطفلان للذهاب إلى فراشهما، وكان خروجها هذا عن المألوف يرجع إلى أنها لم تكن من النساء اللائي يستعرضن عواطفهن، فقد ضمت الطفلين إلى صدرها وقبلتهما قبلة المساء، وقالت: إني منذ الآن أمكما وأبوكما.
38
وقالت فرانسي لأمها قبل انتهاء إجازة عيد الميلاد مباشرة إنها لن تذهب إلى المدرسة مرة أخرى.
وسألتها الأم: ألا تحبين المدرسة؟ - بل أحبها، ولكني بلغت الرابعة عشرة، وأستطيع أن أحصل بسهولة على أوراقي للعمل. - لماذا تريدين أن تذهبي إلى العمل؟ - كي أساعدك. - لا يا فرانسي، إني أريد منك أن تعودي إلى المدرسة وتحصلي على الشهادة، لم يبق لك إلا شهور قليلة وسوف يقبل شهر يونيو دون أن تحسي به، ويمكنك أن تحصلي على أوراق العمل هذا الصيف، وربما استطاع نيلي ذلك أيضا، ولكنكما سوف تذهبان أنتما الاثنان إلى المدرسة الثانوية في الخريف؛ لهذا دعك من أوراق العمل وعودي إلى المدرسة. - ولكن كيف نستطيع يا أماه أن نعيش حتى يحل الصيف؟ - سنتدبر الأمر.
ولم تكن كاتي واثقة بنفسها الثقة التي بدت في كلماتها، فقد كانت تفتقد جوني لأكثر من سبب، لم يكن جوني قد انتظم في عمله أبدا، ولكن كان هنالك عمل ليلة السبت أو الأحد غير المتوقع الذي يجلب له ثلاثة دولارات، ثم إن جوني كان حين تشتد الحالة سوءا يلتمس وسيلة، يستجمع فيها نفسه لحظة ليجتاز بهم تلك الأزمات، ولكن لم يعد لجوني وجود الآن.
وعمدت كاتي إلى التقتير والادخار، وظلت تدفع الإيجار ما دامت ماضية في تنظيف المساكن الثلاثة، وكان نيلي يحصل على دولار ونصف دولار في الأسبوع من بيع الصحف، وكان ذلك خليقا بأن يوفر الفحم لهم إذا أشعلوا النار في الليل فحسب، ولكن صبرا! كان يرد إليهم عشرون سنتا كل أسبوع من أرباح قسط التأمين (وكانت كاتي قد أمنت على حياتها لقاء عشرة سنتات في الأسبوع، وأمن كل من الطفلين على حياته بخمسة سنتات) حقا، إنهم يستطيعون أن يوفروا ذلك لو تنازلوا عن قليل من الفحم، وذهبوا إلى فراشهم مبكرين قليلا، فما بال الملابس؟ إنهم لم يكونوا يفكرون فيها، وكانت فرانسي من حسن الحظ قد حصلت على الحذاء الجديد، وحصل نيلي على الحلة، وبقيت المشكلة الكبرى، وهي تدبير الطعام.
ربما كانت السيدة ماكجريتي خليقة بأن تجعلها تغسل لها مرة أخرى؛ إن ذلك يجلب لها دولارا في الأسبوع، ثم إنها تستطيع أن تحصل على بعض أعمال التنظيف بالخارج، أجل إنهم يستطيعون تدبير الأمر على أي حال.
ودبروا الأمر حتى نهاية شهر مارس، وما إن حل هذا الوقت حتى أصبحت كاتي غير صالحة للعمل (وكان موعد وضعها للطفل يحل في مايو) وكانت النساء اللائي تخدمهن ينقبضن ويشحن بوجوههن عنها، حين يرين بطنها المنتفخ بالجنين، وهي تقف أمام منضدة الكي في مطابخهن، أو يرينها في وضع حرج وهي تزحف على يديها وركبتيها لتمسح أرضية بيوتهن، وكن يضطررن إلى مساعدتها شفقة عليها، ولكنهن ما لبثن أن أدركن أنهن يدفعن أجرأ لخادمة تنظف البيت، بينما هن يقمن بمعظم العمل على أي حال؛ ولهذا أخذت كل واحدة منهن بعد الأخرى تخبرها بأنها لم تعد تحتاج إليها.
وجاء يوم عجزت فيه كاتي عن أن تدفع العشرين سنتا لمندوب شركة التأمين، وكان صديقا قديما لأسرة روملي، ويعرف ظروف كاتي. - إني أكره أن يفوتك موعد دفع قسط التأمين يا سيدة نولان، وخاصة أنك قد دأبت على سداده في مواعيده طوال هذه السنين بلا انقطاع. - أولى بك ألا تجعل موعد تسديد القسط يفوتني؛ لأنني تأخرت قليلا في الدفع. - أنا لن أفعل، ولكن الشركة تفعل، ولكن انظري! لماذا لا تقبضين تأمين الطفلين نقدا؟ - لم أكن أعلم أنك تستطيع ذلك. - قليل من الناس يعلمون، إنهم يتوقفون عن دفع الأقساط وتظل الشركة صامتة، ويمر الوقت وتحتفظ الشركة بالمال الذي دفع من قبل، إني سوف أفقد وظيفتي إذا علموا أنني أخبرتك بذلك، ولكن هذه هي وجهة نظري، لقد أمنت على حياة أبيك وأمك، كما أمنت على حياتكن أنتن يا بنات روملي جميعا وأزواجكن وأطفالكن، ولا أدري كيف كان ذلك، لكني حملت كثيرا جدا من الرسائل بينكم عن الوضع وعن المرض وعن الموت، حتى شعرت أنني جزء من الأسرة.
وقالت كاتي: لم نكن نستطيع عمل شيء بدونك. - إذن هاك ما تفعلينه يا سيدة نولان، اقبضي تأمين الطفلين نقدا، ولكن اتركي تأمينك، فإذا ما حدث شيء لأحد الطفلين، لا قدر الله، فإنك تستطيعين تدبير أمر دفنه، في حين أنه إذا حدث لك شيء، لا قدر الله أيضا، فإنهما لا يستطيعان أن يقوما بدفنك من غير قيمة التأمين، أم ترين أنهما يستطيعان؟ - لا، إنهما لا يستطيعان، ينبغي لي أن أستمر في تأميني، إنني لا أريد أن أدفن كالمعدمين في مقبرة الصدقة، ذلك شيء لن يستطيعا أبدا أن يغفراه لي، لا هما ولا أولادهما ولا أولاد أولادهما؛ لهذا سأمضي في دفع قسط تأميني، وأعمل بنصيحتك بالنسبة لتأمين الطفلين، أخبرني ماذا يجب علي أن أفعل؟
ودبرت الخمسة والعشرون دولارا التي حصلت عليها كاتي من إيصال التأمين أمورهم حتى نهاية شهر أبريل، وكان الطفل سيولد في مدى خمسة أسابيع أخرى، وكان نيلي وفرانسي سيتخرجان في المدرسة الابتدائية بعد ثمانية أسابيع أخرى، وكان ينبغي لهم تدبير الأمر في هذه الأسابيع الثمانية على أي حال.
وجلست الأخوات الثلاث من أسرة روملي حول المائدة في المطبخ عند كاتي يتداولن الأمر.
وقالت إيفي: كان يجدر بي أن أقدم لك العون إذا استطعت، ولكنك تعلمين أن صحة ويلي ليست على ما يرام منذ رفسه ذلك الجواد، وهو حديث العهد برئيسه، ولا يحسن التعامل مع الرجال، وقد انتهى به الأمر إلى أنه لم يبق جواد واحد يقبل الخروج معه، فجعلوه يقوم بأعمال الحظيرة من كنس الروث ونزح الزجاجات المكسورة، وخفضوا أجره إلى ثمانية عشر دولارا في الأسبوع، وهذا لا يكفي لإعالة الأطفال الثلاثة، إنني نفسي أبحث عن القيام بأعمال التنظيف الحقيرة.
وبدأت سيسي قائلة: لو كان في وسعي أن أدبر حيلة ما ...
وقالت كاتي في حزم: لا، إنك تفعلين ما فيه الكفاية بأن تكفلت بحياة أمنا.
وقالت إيفي: صدقت، فقد ظللت أنا وكاتي مشغولتي البال من أجل معيشتها وحيدة في حجرة واحدة، وخروجها واشتغالها بالتنظيف من أجل بنسات قليلة.
وقالت سيسي: إن أمنا لا تكلفني مالا أو جهدا، وإن زوجي جون لا يعارض في بقائها معنا، وهو بالطبع لا يكسب سوى عشرين دولارا في الأسبوع، وقد أصبحت لدينا الآن طفلة، وكنت أريد أن أعود إلى عملي القديم، ولكن أمي تقدم بها العمر، حتى إنها لا تستطيع أن ترعى الطفلة والبيت، فقد بلغت الثالثة والثمانين، وإني أستطيع أن أعمل، ولكن ينبغي لي أن أستأجر شخصا ما ليرعى أمي والطفلة، لو كان لي عمل لاستطعت أن أساعدك يا كاتي.
وقالت كاتي: إنك لا تستطيعين يا سيسي، فما من سبيل إلى ذلك.
وقالت إيفي: ليس أمامك إلا شيء واحد تفعلينه، هو أن تخرجي فرانسي من المدرسة، وتجعليها تحصل على ترخيص للعمل. - ولكني أريد لها أن تتخرج، إن طفلي سوف يكونان أول من يحصل على الشهادة في أسرة نولان.
وقالت إيفي: إنك لن تأكلي الشهادة.
وسألت سيسي: أليس لك أصدقاء رجال يمكنهم مساعدتك؟ إنك امرأة جميلة كما تعرفين.
وقالت إيفي: أو إنها ستكون كذلك حين تستعيد حالتها الطبيعية.
وفكرت كاتي لحظة في الشاويش ماكشين، وقالت: لا، ليس لدي أصدقاء رجال، لم يكن لي قط إلا جوني، وما من أحد سواه.
وقررت سيسي قائلة: إذن فإني لأحسب أن إيفي على صواب، إني أكره أن أقول ذلك، ولكن ينبغي لك أن تخرجي فرانسي من المدرسة.
واعترضت كاتي قائلة: إنها حين تترك المدرسة الابتدائية دون أن تحصل على الشهادة، سوف لا تستطيع أبدا أن تدخل المدرسة الثانوية.
وتنهدت إيفي: حسنا ، وهناك دائما الجمعيات الخيرية الكاثوليكية.
وقالت كاتي في هدوء: سوف أسد الأبواب والنوافذ حين يحل الوقت الذي نأخذ فيه سلال الصدقة، وأنتظر حتى يستغرق الطفلان في نومهما، ثم أفتح صنابير الغاز جميعا في البيت.
وقالت إيفي في حدة: لا تتكلمي هكذا، أنت تريدين أن تعيشي، أليس كذلك؟ - نعم، ولكني أريد أن أعيش من أجل شيء، أنا لا أريد أن أعيش حتى أحصل على طعام من الصدقة، يهبني القوة التي تقيمني حتى أعود إلى طلب المزيد من طعام الصدقة.
وقالت إيفي: حينئذ نعود إلى ذلك مرة أخرى، ينبغي لفرانسي أن تخرج من المدرسة وتعمل، وأقول فرانسي لأن نيلي في الثالثة عشرة فحسب، ولن يسمح له بترخيص للعمل.
ووضعت سيسي يدها على ذراع كاتي قائلة: لن يكون الأمر بهذا السوء، فإن فرانسي بنت ذكية تقرأ كثيرا، وسوف تجد الوسيلة لتثقيف نفسها بوجه من الوجوه.
ووقفت إيفي قائلة: انظري! ينبغي لنا أن نذهب.
ووضعت قطعة ذات خمسين سنتا على المائدة، وقالت في شدة، وقد تنبأت بأن كاتي سوف ترفضها: ولا تظني أن هذه منحة، إني أتوقع أن أستردها يوما ما.
وابتسمت كاتي قائلة: لست بحاجة إلى أن تصبحي هكذا، إني لا أستشعر حرجا حين آخذ مالا من أختي.
واختصرت سيسي الطريق فدست دولارا في جيب مريلة كاتي، حين مالت عليها لتقبلها قبلة الوداع، وقالت لها: إذا احتجت إلي فأرسلي لي أجيئك ولو في منتصف الليل، ولكن أرسلي نيلي؛ إذ ليس من المأمون أن تسير فتاة في تلك الشوارع المظلمة مارة بمخازن الفحم.
وجلست كاتي وحدها إلى مائدة المطبخ حتى أوغل الليل، وقالت بينها وبين نفسها: إني أحتاج لشهرين ... شهرين فحسب، يا إلهي امنحني شهرين ... شهرين ... إنها فسحة من الوقت قصيرة جدا، ما إن تحل حتى يولد طفلي، وأسترد صحتي، ويتخرج الطفلان في المدرسة الابتدائية، فإذا ملكت عقلي وجسمي، فإنني لن أكون بحاجة إلى معونة أحد، ولكن جسمي الآن يملك علي أمري، فلا أجد سبيلا إلا أن أسألك العون ... شهرين فحسب ... شهرين ...
وانتظرت ذلك الإشراق الذي يعمر القلب بالدفء، ويدل على أن الله قد استجاب لدعائها، ولكنها لم تحس بالإشراق، فحاولت مرة أخرى ورفعت رأسها قائلة: أيتها العذراء مريم يا أم المسيح، أنت تعلمين حالي، لقد أنجبت طفلا، أيتها العذراء مريم ...
وانتظرت فلم تحس شيئا.
ووضعت الدولار الذي أخذته من سيسي والقطعة ذات الخمسين سنتا التي أخذتها من إيفي على المائدة، وقالت بينها وبين نفسها: سيقوم ذلك بأودنا ثلاثة أيام أخرى، وماذا بعد ذلك؟
وهمست دون أن تدري ماذا فعلت. - جوني! حيثما تكن، استجمع نفسك مرة واحدة أخرى فحسب، أجل مرة واحدة أخرى ...
وعادت تنتظر فأحست هذه المرة بالإشراق يعمر نفسها.
وهكذا حدث أن مد لهم جوني يد العون.
لم يستطع ماكجريتي صاحب الحانة أن ينتزع جوني من فكره، ولم يكن ضمير ماكجريتي هو الذي يعذبه ... لا ... لا شيء من هذا القبيل، فإنه لم يكن يجبر الرجال على دخول حانته، صحيح أنه كان يشحم مفصلات الباب تشحيما جيدا حتى إن أقل لمسة تفتح الباب بسهولة، ولكنه لم يكن يقدم أي نوع آخر من الإغراء أكثر مما يقدمه أصحاب الحانات الأخرى، ولم يكن غداؤه المجاني أفضل من غدائهم، ولم تكن هناك أية تسلية مغرية غير تلك التي يسهم بها الزبائن باختيارهم، أجل ... لم يكن ضميره هو الذي يقلقه.
لقد افتقد جوني، ذلك كل ما في الأمر، ولم يكن المال هو السبب أيضا؛ لأن جوني كان مدينا له دائما، ولكنه كان يحب وجود جوني في حانته؛ لأنه يضفي على الحانة ميزة ونفحة، لقد كان مما ترتاح إليه النفس أن يرى المرء ذلك الشاب الممشوق القوام، يقف في مرح إلى مائدة الشراب بين سائقي العربات وحفاري الخنادق، وسلم ماكجريتي قائلا: كان جوني نولان بلا شك يمعن في الشراب إلى حد الإضرار بصحته، ولكنه إذا لم يشرب الخمر في حانتي فقد يشربها في مكان آخر، غير أنه لم يكن رجلا شرسا، ولم يألف قط أن يسب أو يصيح بعد أن يشرب القليل من الخمر، وقرر ماكجريتي قائلا: نعم ، لقد كان جوني رجلا رضي الخلق من كل ناحية.
والشيء الذي افتقده ماكجريتي هو حديث جوني، وقال بينه وبين نفسه: كيف كان الحديث يواتي ذلك الرفيق، وما السر في أنه يحكي لي عن حقول القطن القائمة هناك في الجنوب أو عن الشواطئ العربية أو عن فرنسا المشمسة، كأنما كان يعيش فيها ولا يتلقى معلوماته عنها من تلك الأغاني التي كان يعرفها.
وحدث نفسه متفكرا: كنت أحب بلا شك أن أسمعه يحكي عن تلك الأماكن البعيدة، ولكني كنت أحب أكثر ما أحب أن أسمعه يحكي عن أسرته.
وماكجريتي ألف أن يعيش في حلم يدور حول أن تكون له أسرة، وكانت أسرة الأحلام تلك، تقطن بعيدا كل البعد عن حانته، أجل بعيدا كل البعد حتى إنه كان يضطر إلى القفز إلى عربة التروللي ليعود إلى بيته في الصباح الباكر بعد أن يغلق الحانة، وكانت زوجة الأحلام الرقيقة تنتظره وقد أعدت له القهوة الساخنة وشيئا من الطعام الشهي، وبعد أن يتناولا الطعام يتكلمان؛ يتكلمان عن أشياء أخرى غير الحانة، وكان له أطفال في الأحلام، أطفال تجلوا في حلة من النظافة والملاحة والذكاء، يشتد عودهم حتى ليساورهم شيء من الخجل؛ لأن أباهم يدير حانة، وهو فخور بخجلهم؛ لأنه كان ينم عن قدرته على إنجاب أطفال مهذبين.
أجل، كان ذلك هو الحلم الذي يراوده عن الزواج، ثم تزوج ماي، وهي فتاة محنية الظهر لها شعر أحمر داكن وفم واسع، ولكنها انقلبت بعد فترة من الزواج امرأة بدينة رثة الملابس، عرفت في بروكلين باسم «امرأة الحانة»، واستمرت حياتهما الزوجية هانئة سنة أو سنتين، ثم استيقظ ماكجريتي صباح يوم ووجد أنها حياة لا خير فيها، فلم تكن ماي خليقة بأن تتغير لتصبح زوجة أحلامه، كانت تحب الحانة، وصممت على أن يشغلا الحجرات التي تعلوها، ولم تكن ترغب في أن يستأجرا بيتا في فلاشينج؛ لأنها لم تكن تحب القيام بالأعمال المنزلية، بل تحب أن تجلس في الحجرة الخلفية للحانة ليلا ونهارا، وتضحك وتشرب مع الزبائن، وكان الأطفال الذين أنجبتهم ماي له يجرون في الشوارع كالمشاغبين المعربدين ، ويتباهون بأن أباهم يمتلك حانة، ويفخرون بها؛ مما جعله يشعر بخيبة أمل شديدة.
وكان يعلم أن ماي لا تخلص له، ولم يحفل بذلك ما دام الأمر لم ينتشر انتشارا يجعل الناس يسخرون منه، وماتت الغيرة في قلبه من سنين مضت، حين ماتت رغبته في زوجته، وغدا لا يهتم شيئا فشيئا بمعاشرتها أو معاشرة أية امرأة أخرى، وارتبط في عقله على نحو ما الحديث الممتع بالمرأة الممتعة، وكان يريد أن يجد امرأة يتحدث إليها، امرأة يستطيع أن يحكي لها أفكاره، وتبادله الحديث في حرارة وحكمة وود، وفكر في أنه إذا وجد مثل هذه المرأة لارتدت رجولته إليه، وكان يصبو على طريقته الصامتة الهائمة إلى اتحاد العقل والروح بالجسد، وبمضي السنين أصبحت حاجته إلى حديث الود مع امرأة قريبة من نفسه عقدة من العقد.
وأخذ في عمله يرقب الطبيعة البشرية، ووصل بشأنها إلى نتائج معينة، إلا أنها نتائج تنقصها الحكمة والأصالة، بل كانت في الحقيقة متعبة مملة، ولكنها هامة بالنسبة لماكجريتي؛ لأنه اكتشفها بنفسه، وحاول في سنة الزواج الأولى أن يخبر ماي بهذه النتائج، لكن كل ما كانت تقوله له هو: أستطيع أن أتصور ذلك.
وكانت تغير هذه العبارة في بعض الأحيان فتقول: أكاد أستطيع أن أتصور ذلك.
وهنالك أخذ يفقد قوته كزوج لها شيئا فشيئا، بعد أن عجز في ذات نفسه أن يكون بينه وبينها مشاركة، وأصبحت هي خائنة لعهده.
وماكجريتي رجل تئن روحه تحت ثقل ذنب عظيم، وهو يكره أطفاله، وكانت ابنته أيرين في عمر فرانسي، قرنفلية العينين، شعرها أحمر باهت حتى إنه يمكن أن يوصف أيضا بأنه قرنفلي اللون، وكانت حقيرة غبية، تخلفت في الدراسة سنين كثيرة حتى بلغت الرابعة عشرة من عمرها وهي في الصف السادس، أما ابنه جيم الذي بلغ العاشرة من عمره، فلم تكن له ميزة ظاهرة، اللهم إلا أن إليتيه كانتا دائما أسمن من أن تتسع لهما سراويله.
وراود ماكجريتي حلم آخر هو أن ماي سوف تأتي إليه، وتعترف بأن الطفلين ليسا من صلبه، وجعله هذا الحلم سعيدا، فقد شعر أنه يستطيع أن يحب هذين الطفلين إذا علم أنهما طفلا رجل آخر، وهنالك يستطيع أن ينظر إلى حقارتهما وغبائهما نظرة مجردة، ثم يشفق عليهما ويساعدهما، ولكنه يكرههما ما دام يعلم أنهما طفلاه؛ لأنه يرى فيهما أسوأ صفاته، وأسوأ صفات ماي جميعا.
وأخذ جوني في السنوات الثماني التي كان يرتاد فيها حانة ماكجريتي، يحكي له كل يوم عن كاتي وطفليه ويقرظهم، وكان ماكجريتي يمارس لعبة في الخفاء في أثناء هذه السنوات الثماني، فكان يتظاهر بأنه هو جوني، وأنه - أي ماكجريتي - كان يتكلم على هذا النحو عن ماي وطفليه.
وقال جوني مرة في فخر وهو يأخذ من جيبه ورقة: أريد أن أطلعك على شيء، لقد كتبت ابنتي الصغيرة هذا الموضوع الإنشائي في المدرسة ونالت عنه درجة جيد، وكانت في العاشرة من عمرها، سأقرؤه عليك.
وتصور ماكجريتي، وجوني يقرأ، أن ابنته الصغيرة هي التي كتبت القصة، وفي يوم آخر حمل جوني معه طرفي غلاف كتاب صنعا من الخشب الغفل، ووضعهما على مائدة الشراب في زهو.
وقال متفاخرا: أريد أن أطلعك على شيء، إن ابني نيلي صنعهما في المدرسة.
وقال ماكجريتي بينه وبين نفسه متفاخرا، وهو يفحص طرفي الغلاف: إن ابني جيمي صنعهما في المدرسة.
وسأله ماكجريتي مرة أخرى ليفتح له باب الحديث: تصور أننا سنخوض غمار الحرب يا جوني.
وأجاب جوني: إنه لشيء مضحك، لقد سهرت أنا وكاتي حتى اقترب الصباح نتحدث عن ذلك الشيء نفسه، وأقنعتها آخر الأمر بأن الرئيس ويلسون سوف يحول بيننا وبين الحرب.
وفكر ماكجريتي كيف يكون الأمر لو أنه سهر هو وماي الليل كله، يتحدثان عن ذلك، وكيف تكون الحال لو أنها قالت: أنت على حق يا جيم!
ولكنه لم يعرف كيف تكون الحال لأنه كان يعلم أن ذلك لن يحدث أبدا.
وهكذا فقد ماكجريتي أحلامه حين مات جوني، وحاول أن يمارس اللعبة وحده فلم يفلح، وكان بحاجة إلى شخص مثل جوني ليعينه على الأحلام .
وفي الوقت الذي كانت تجلس فيه الأخوات الثلاث يتحدثن في مطبخ كاتي، خطر في ذهن ماكجريتي خاطر، كان يملك من المال أكثر مما يستطيع أن ينفقه، ولا شيء غير ذلك، ولعله يستطيع من خلال طفلي جوني أن يسترجع أحلامه، وأدرك أن كاتي تعاني عسرا وربما استطاع أن يخلق عملا سهلا صغيرا، يشتغل فيه طفلا جوني بعد عودتهما من المدرسة، فيساعدهم ذلك على الخروج من هذه الأزمة ... ويعلم الله أنه كان يستطيع أن ييسر لهم ذلك، وربما يعود عليه ذلك أيضأ بشيء من الجزاء ... ربما يتكلم الطفلان معه على نحو ما كان ينتظر أن يتكلما مع أبيهما.
وأخبر ماي أنه ذاهب ليرى كاتي ويحدثها عن تيسير بعض العمل لطفليها، وردت عليه ماي في ابتهاج بأنه سوف يلقى به خارج الدار، ولكن ماكجريتي لم يكن يعتقد أنه سوف يحدث له ذلك، وتذكر وهو يحلق ذقنه تأهبا للزيارة، ذلك اليوم الذي جاءت فيه كاتي لتشكره على إكليل الزهور الذي أرسله.
كانت كاتي بعد أن انفضت جنازة جوني، قد ذهبت لتشكر كل من أرسل إليهم زهورا، وسارت متجهة مباشرة إلى باب ماكجريتي الأمامي، وترفعت عن الدخول من الباب الذي كتب عليه «مدخل السيدات»، وتجاهلت نظرات الرجال المحملقة وهم متعلقون بمائدة الشراب، واتجهت مباشرة إلى ماكجريتي، وكان ماكجريتي حين رآها قد شمر طرف «مريلته» في حزامه، مما كان يعني أنه في وقت راحته، وأقبل من خلف مائدة الشراب ليستقبلها.
وقالت: جئت لأشكرك على إكليل الزهور.
وقال وهو يشعر براحة بعد أن ظن أنها قد جاءت لتتشاجر معه: عفوا. - لقد كان ذلك شعورا طيبا منك. - لقد كنت أحب جوني. - أعلم ذلك.
ومدت يدها له، ونظر إليها جامدا لحظة قبل أن يفهم أنها تريد أن تصافحه، وسألها وهو يشد على يدها: أمستاءة أنت مني؟
وأجابت: لم؟ إن جوني كان رجلا حرا جاوز الحادية والعشرين.
واستدارت في تلك اللحظة، وخرجت من الحانة.
واستقر رأي ماكجريتي على أن مثل هذه المرأة ليست خليقة بأن تلقي به خارج الدار إذا ذهب إليها، وقد حسنت نيته.
وجلس وهو يشعر بالحرج على كرسي بالمطبخ يتحدث مع كاتي، وكان المفروض أن الطفلين يؤديان واجبهما المنزلي، لكن فرانسي التي تظاهرت بوضع الكتاب أمام عينيها كانت تنصت إلى ماكجريتي.
وقال ماكجريتي حالما: لقد تحدثت مع زوجتي بهذا الشأن، واتفقت معي على أن نستخدم ابنتك، ولن يكون العمل شاقا كما تعلمين، مجرد ترتيب الأسرة وغسل بعض «الصحون» القليلة، وإني أستطيع استخدام الصبي في الطابق السفلي، يقشر البيض ويقطع الجبن التي يأكلها الشاربون بالليل، ولن يقترب من موائد الشراب بأي حال من الأحوال؛ لأنه سيشتغل في المطبخ الخلفي، ولن يستغرق هذا العمل أكثر من ساعة أو نحوها بعد المدرسة ونصف يوم من أيام السبت، وسوف أدفع لكل منهما دولارين في الأسبوع.
وقفز قلب كاتي، وفكرت بينها وبين نفسها: أربعة دولارات في الأسبوع، والدولار والنصف دولار من بيع الصحف، إن كليهما يستطيعان أن يستمرا في الدراسة، وسوف يتوافر لنا الطعام وتمضي سفينة حياتنا في طريقهما.
وسألها: ما رأيك يا سيدة نولان؟
وأجابت: إن الرأي رأي الطفلين. - حسنا!
وخاطب الطفلين قائلا: ما رأيكما؟
وتظاهرت فرانسي بأنها تنتزع نفسها من فوق كتابها، وقالت: ماذا قلت؟ - أترغبين في أن تساعدي السيدة ماكجريتي في البيت؟
قالت فرانسي: نعم يا سيدي.
ونظر إلى نيلي، وقال: وأنت؟
ورد الصبي: نعم يا سيدي. - اتفقنا.
واستدار إلى كاتي قائلا: إنه عمل مؤقت بلا شك حتى نجد امرأة تقوم بأعمال البيت والمطبخ بانتظام.
وقالت كاتي: إني أوثر أن يكون عملا مؤقتا على أي حال. - قد تكونين في حاجة إلى بعض المال.
ووضع يده في جيبه، وقال: لهذا سأدفع أجر الأسبوع الأول مقدما. - لا يا سيد ماكجريتي، إنهما إذا ما كسبا المال فسوف ينالان ميزة جمعه، وإحضاره إلى البيت بنفسيهما في نهاية الأسبوع. - حسنا.
ولكنه بدلا من أن يخرج يده من جيبه، طواها على رزمة سميكة من الأوراق المالية، وقال بينه وبين نفسه: إني أمتلك مالا كثيرا لا أحتاج إليه، وهم لا يملكون شيئا.
وخطرت له فكرة، وقال : يا سيدة نولان! أنت تعلمين كيف كنت أنا وجوني نتعامل معا، كنت أقرضه المال، وكان يعطيني النفحات التي ينالها، لكنه حين مات كان قد دفع مبلغا أكبر مما أقرضته.
وأخرج رزمة الأوراق السميكة، وجحظت عينا فرانسي حين رأت كل هذا المال، وكانت فكرة ماكجريتي أن يقول إن جوني دفع له اثني عشر دولارا أكثر مما يستحق، ويعطي هذا المبلغ لكاتي، ونظر إلى كاتي وهو ينزع عن المال الرباط المطاط، ورأى عينيها تضيقان، فغير رأيه بشأن الاثني عشر دولارا وعلم أنها لن تصدقه، وخطر له أن يقول هذه الكلمات: إنه ليس مالا كثيرا بلا شك؛ مجرد دولارين، ولكني أعتقد أنهما من حقك.
وانتزع ورقتين ومد لها يده بهما.
وهزت كاتي رأسها. - أنا أعلم أننا لا ندينك بمال، ولو قلت الحق لذكرت أن جوني كان هو المدين.
وخجل ماكجريتي؛ إذ أحس بأن حيلته قد انكشفت، وأعاد الرزمة السميكة إلى جيبه، حيث شعر بها تضايقه فوق فخذه، وقالت كاتي: ولكنني أشكرك يا سيد ماكجريتي على نواياك الطيبة.
وأطلقت كلماتها القليلة الأخيرة لسانه من عقاله فبدأ يتكلم، أخذ يحكي عن صباه في أيرلندا، وعن أمه وأبيه وإخوته وأخواته الكثيرين، وحكى عن حلمه في الزواج، وأخبرها بكل ما راود أفكاره منذ سنين، ولم يذم زوجته وطفليه بل أخرجهم تماما من قصته، وتكلم عن جوني، وكيف كان يحكي له كل يوم عن زوجته وطفليه.
وقال وهو يشير بيده السميكة إلى أنصاف الستائر المصنوعة من القطن الأصفر، وقد حليت بورود حمر: انظري إلى هذه الستائر، فقد أخبرني جوني كيف أنك فصلت من رداء قديم لك ستائر المطبخ، وقال إنها جعلت المطبخ يبدو في جمال عربة النور من الداخل.
والتقطت فرانسي التي كفت عن التظاهر بالاستذكار كلمات ماكجريتي الأخيرة، وقالت بينها وبين نفسها وهي تنظر إلى الستائر نظرة جديدة: عربة النور، إذن فقد قال أبي ذلك، إنني لم أعتقد أنه لاحظ الستائر الجديدة حين علقت، أو أنه علق عليها بشيء، ولكنه لاحظها وقال ذلك الحديث الجميل عنها لهذا الرجل.
وكادت فرانسي وهي تسمع ما يقال عن أبيها، تعتقد أنه لم يمت: إذن فقد قال أبي مثل ذلك الكلام لهذا الرجل.
وحملقت في ماكجريتي باهتمام جديد، وكان رجلا قصيرا بدينا له يدان سميكتان، ورقبة قصيرة حمراء، وشعر ناحل، وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: ترى من كان يظن أبدا حين ينظر إلى مظهره، أنه يختلف ذلك الاختلاف عن جوهره؟
وأخذ ماكجريتي يتكلم ساعتين دون توقف، واستمعت له كاتي في انتباه، ولم تكن تنصت إلى حديث ماكجريتي، ولكنها كانت تنصت إلى حديثه عن جوني، وحين يتوقف لحظة كانت تستحثه بردود انتقالية من حين إلى حين مثل «نعم» أو «ثم ماذا» أو «بعد ...»، وحين يتعثر في كلمة تواتيه بكلمة يتقبلها ممتنا.
وبينما هو يتكلم حدث شيء جدير بالذكر، شعر أن رجولته الضائعة دبت في أوصاله، ولم يكن ذلك راجعا إلى تلك الحقيقة المادية، وهي أن كاتي كانت ماثلة معه في الحجرة، فقد كانت حاملا في أيام حملها الأخيرة، حتى لم يكن يستطيع أن ينظر إليها دون أن تنقبض نفسه، لا ... لم تكن هي المرأة التي أثارته، وإنما الحديث معها هو الذي فعل ذلك.
وزحف الظلام إلى الحجرة، وتوقف ماكجريتي عن الكلام بعد أن بح صوته وشعر بالتعب، ولكنه كان نوعا جديدا من التعب؛ ذلك التعب الذي يبعث في النفس الراحة والطمأنينة، وشعر في إحجام أنه ينبغي له أن يذهب إلى عمله، فسوف تمتلئ الحانة بالرجال العائدين إلى بيوتهم بعد العمل، والرجال الذين يعرجون على الحانة ليفرغوا في حلوقهم كأسا من الخمر قبل تناول العشاء، ولم يكن يحب أن تقف ماي خلف مائدة الشراب حين تزدحم الحانة بالرجال، ونهض على قدميه متباطئا:
وقال وهو يتمسح بقبعته البنية اللون: أيمكنني أن آتي إلى هنا مرة من حين إلى حين لأتحدث معك؟
وهزت كاتي رأسها ببطء، وقال مستعطفا: لأتحدث فحسب.
وقالت بكل ما يسعها من رقة: لا يا سيد ماكجريتي.
وتنهد وانصرف.
وفرحت فرانسي؛ إذ استغرقت في العمل كل الاستغراق، فقد صرفها ذلك كثيرا عن الإحساس بفقد أبيها، وكانت تستيقظ هي ونيلي في السادسة صباحا، ويساعدان أمهما في أعمال التنظيف ساعتين، قبل أن يتأهبا للذهاب إلى المدرسة، ولم تكن الأم قادرة على العمل الشاق الآن، وجلت فرانسي صفحات الأجراس النحاسية في الدهاليز الثلاثة، ونظفت كل عمود من أعمدة حاجز السلم بخرقة مبللة بالزيت، وكنس نيلي حجرات مخزن المؤن والسلم الذي فرش بالبساط، واشتركا معا في حمل صفائح القمامة إلى منعطف الطريق كل يوم، وكان ذلك مشكلة بالنسبة إليهما لأنهما - متكاتفين - لم يقدرا على نقل الصفائح الثقيلة، وخطرت لفرانسي فكرة بأن يميلا الصفائح على جانب، ويفرغاها على الأرض ثم يحملا الصفائح الفارغة إلى منعطف الطريق ... ثم يملآها مرة أخرى بدلو الفحم، ونجحت هذه الفكرة بالرغم مما اقتضته من الصعود من مخزن المؤن والهبوط إليه مرارا وتكرارا، ولم يبق للأم من عمل بعد ذلك سوى أن تمسح أرض الردهات المغطاة بالمشمع، وتطوع ثلاثة من السكان بأن يمسحوا ردهاتهم حتى تنتهي كاتي من وضع طفلها، وساعدها ذلك كثيرا.
واقتضى الأمر من الطفلين أن يذهبا إلى الكنيسة بعد المدرسة ليتلقيا «الإرشادات»، حيث إنهما كانا سيثبتان في دينهما في ذلك الربيع، وكانا بعد تلقي الإرشادات يذهبان للعمل عند ماكجريتي، وهو عمل سهل كما وعد، فترتب فرانسي أربعة أسرة وتعيد فرشها، وتغسل قليلا من «صحون» الفطور وتكنس الحجرات، وكان ذلك يستغرق أقل من ساعة.
وكان نيلي يقوم بنفس البرنامج الذي تقوم به فرانسي، فيما عدا أنه كان يزيد عليها ببيع الصحف، وفي بعض الأحيان لا يعود إلى البيت للعشاء قبل الساعة الثامنة، ويعمل في المطبخ الخلفي لحانة ماكجريتي، فيقشر خمسين بيضة مسلوقة سلقا شديدا، ويقطع الجبن الصلب إلى مكعبات، كل منها بوصة، ويرشق في كل مكعب لاقطة خشبية، ويشطر قطع المخلل الكبيرة شرائح.
وانتظر ماكجريتي أياما قليلة حتى اعتاد الطفلان العمل معه، ثم قرر أن الوقت قد حان لكي يتحدثا إليه كما كان جوني يفعل، وذهب إلى المطبخ، وجلس يرقب نيلي وهو يعمل، وقال بينه وبين نفسه: إنه صورة طبق الأصل من أبيه.
وانتظر فترة طويلة حتى يألفه الصبي في ذلك المكان، ثم سأله وهو يتنحنح: هل صنعت أخيرا أية أطراف خشبية لأغلفة الكتب؟
وتلجلج نيلي وأفزعه هذا السؤال الغريب: لا، لا يا سيدي.
وانتظر ماكجريتي، لماذا لم يبدأ الصبي بالحديث؟ وراح نيلي يقشر البيض بسرعة أكثر مما كان يفعل، وحاول ماكجريتي مرة أخرى: أتعتقد أن ويلسون سيحول بيننا وبين الحرب؟
وقال نيلي: لا أدري!
وانتظر ماكجريتي فترة طويلة، وظن نيلي أنه يرقب طريقته في العمل، فحرص على أن يرضيه، وأخذ يشتغل بسرعة كبيرة حتى انتهى من عمله قبل وقته المعتاد، ووضع البيضة المقشرة الأخيرة في الوعاء الزجاجي ورفع بصره، وقال ماكجريتي بينه وبين نفسه: آه! إنه سيتكلم معي الآن.
وسأله نيلي: أهذا كل ما تريد مني أن أعمله؟
وقال ماكجريتي وهو لا يزال منتظرا: نعم.
وقامر نيلي بالقول: أظن أنه يمكنني أن أمضي إذن.
وتنهد ماكجريتي قائلا: وهو كذلك يا بني.
وراقب الصبي وهو يسير خارجا من الباب الخلفي، وقال ماكجريتي بينه وبين نفسه: لو أنه يستدير ويقول شيئا ... أي شيء ... عن نفسه.
ولكن نيلي لم يستدر.
وجرب ماكجريتي فرانسي في اليوم التالي، فصعد إلى المسكن، وجلس دون أن يقول شيئا، وشعرت فرانسي ببعض الخوف، وبدأت تكنس في اتجاه الباب، وقالت بينها وبين نفسها: إذا جاء نحوي فيمكنني أن أخرج عدوا.
وجلس ماكجريتي صامتا وقتا طويلا، وظن أنه بذلك يجعلها تألفه، ولم يعلم أنه يفزعها، وسألها: أكتبت موضوعا في الإنشاء أخيرا وحصلت فيه على درجة جيد؟ - لا يا سيدي.
وانتظر لحظة ثم قال: أتظنين أننا سنخوض هذه الحرب؟ - أنا ... أنا لا أدري.
وازدادت قربا من الباب، وقال بينه وبين نفسه: إنني أفزعها، فهي تظنني مثل ذلك الرجل الذي هاجمها في الردهة.
وقال بصوت عال: لا تخافي، إني ذاهب، يمكنك أن تغلقي الباب دوني إن شئت.
وقالت له: نعم يا سيدي.
وقالت فرانسي لنفسها بعد أن خرج: أظن أنه كان يريد أن يتحدث فحسب، ولكن ليس لدي ما أقول له.
وصعدت ماي ماكجريتي مرة ورأت فرانسي راكعة على ركبتيها ، تحاول أن تنزع بعض القاذورات من خلف مواسير المياه تحت البالوعة، فطلبت منها أن تنهض وتترك القاذورات مكانها، وقالت ماي: إن الله يحبك أيتها الطفلة، لا تقتلي نفسك في العمل، إن هذا المسكن سوف يبقى في مكانه، بعد أن نموت أنا وأنت ونمضي من هذا العالم.
وأخذت قالبا كبيرا من الهلام الوردي اللون من الثلاجة وشطرته نصفين، ووضعت قطعة في «صحن» آخر، وحلتها في سخاء بالقشدة المضروبة، وألقت بملعتقين على المائدة، ثم جلست وطلبت من فرانسي أن تفعل مثلها.
وكذبت فرانسي قائلة: أنا لست جائعة.
وقالت ماي: كلي على أي حال حتى يألفك الناس.
وكانت أول مرة تأكل فيها فرانسي الهلام والقشدة المضروبة، ووجدت طعمهما لذيذا جدا، حتى إنها أحجمت عن التهامهما بعد أن تذكرت آداب المائدة، وقالت لنفسها وهي تأكل: إن السيدة ماكجريتي امرأة طيبة، والسيد ماكجريتي رجل طيب أيضا، ولكني أظن أنهما ليسا فيما بينهما على علاقة طيبة.
وجلس جيم ماكجريتي وماي وحدهما على مائدة مستديرة صغيرة خلف الحانة، يتناولان عشاءهما في سرعة وصمت كالمعتاد، ووضعت يدها فوق ذراعه على غير انتظار، فارتعد حين أحس بتلك اللمسة التي لم تخطر بباله، ونظرت عيناه الصغيرتان الفاتحتان إلى عينيها الواسعتين الداكنتين، ورأى فيهما شفقة وعطفا، وقالت في رقة: إن ذلك لن يجدي شيئا يا جيم.
وهزت الفرحة أعماقه، وقال بينه وبين نفسه: إنها تعرف! عجبا ... عجبا ... إنها تدرك.
وواصلت ماي قولها: هناك مثل قديم يقول: إن المال لا يشتري كل شيء.
فقال: أنا أعلم، سوف أخلي سبيلهما إذن. - انتظر أسبوعين بعد أن تضع طفلها، أظهر لهم كرمك.
ونهضت وخرجت إلى الحانة.
وجلس ماكجريتي في مكانه تتنازعه المشاعر، وقال بينه وبين نفسه في تعجب: لقد اتصل بيننا حديث، لم تذكر أسماء ولم تحدد للمعاني كلمات، ولكنها علمت ما كنت أفكر فيه، وأنا علمت ما كانت تفكر فيه.
وأسرع خلف زوجته يريد أن يستبقي تلك البارقة من الإدراك، ورأى ماي تقف على طرف مائدة الشراب، وإلى جوارها سائق خيل أجش الصوت يحيط خصرها بذراعه ويهمس في أذنها بشيء، ووضعت يدها على فمها لتكتم ضحكاتها، ورفع السائق عنها ذراعه خجلا حين دخل ماكجريتي ليقف مع جمع الرجال، ونظر ماكجريتي في عيني زوجته وهو يذهب خلف المائدة، كانت عيناها خاليتين من التعبير والفهم، وارتسمت على وجه ماكجريتي خطوط الحزن وخيبة الأمل القديمة، وبدأ عمل المساء.
وكانت ماري روملي تتقدم في السن، ولم تعد قادرة على أن تسير في بروكلين وحدها، وكانت جد مشتاقة لرؤية كاتي قبل أن تضع طفلها، فأعطت مندوب شركة التأمين رسالة إليها.
وأخبرته قائلة: حين تلد امرأة فإن الموت يأخذ بخناقها لحظة، ولا يتركها في بعض الأحيان أنبئ ابنتي الصغرى أنني أود أن أراها مرة، قبل أن يحين موعد ولادتها.
وأبلغ المندوب الرسالة، وذهبت كاتي يوم الأحد التالي لترى أمها ومعها فرانسي، واعتذر نيلي عن الذهاب معهما، قائلا إنه كان قد وعد بأن يلعب مع فريق «تن إيكس»، الذي حاول أن يقيم مباراة للكرة في الخلاء.
وكان مطبخ سيسي كبيرا دافئا مشمسا نظيفا لا تعلوه غبرة، واعتادت الجدة ماري روملي أن تجلس بجوار المدفأة في كرسي هزاز منخفض، كان هو قطعة الأثاث الوحيدة التي أحضرتها معها من أستراليا، وقد وضع بجوار المدفأة في كوخ أسرتها منذ أكثر من مائة عام.
وجلس زوج سيسي بجوار النافذة يحمل الطفلة ويرضعها من الزجاجة، وحيته كاتي وفرانسي بعد أن حيتا ماري وسيسي، وقالت كاتي: أهلا يا جوني.
وأجاب: أهلا يا كيت. - أهلا بالعم جون. - أهلا فرانسي. - ولم ينطق كلمة أخرى طول الزيارة، وحملقت فرانسي فيه متعجبة، وكانت الأسرة تنظر إليه كزوج مؤقت، كما كانت تنظر إلى أزواج سيسي الآخرين وعشاقها، وتساءلت فرانسي: هل يشعر هو بأنه زوج مؤقت؟ وكان اسمه الحقيقي ستيف، لكن سيسي أطلقت عليه اسم «جون»، وكانت الأسرة حين تتكلم عنه تقول «الجون» أو «رجل سيسي جون».
وتساءلت فرانسي: هل كان الرجال في دار النشر حيث عمل هناك يسمونه جون أيضا؟ وهل أبدى ولو مرة اعتراضا على ذلك؟ ترى هل قال مرة انظري يا سيسي، إن اسمي هو ستيف وليس جون، وقولي لأخواتك بأن ينادينني بستيف أيضا.
وكانت أمها تقول: إنك تزدادين بدانة يا سيسي.
وقالت سيسي في نظرة جريئة: من الطبيعي أن يمتلئ جسم المرأة بعض الشيء بعد أن تضع طفلا.
وابتسمت سيسي لفرانسي قائلة: أتودين أن تحملي الطفلة يا فرانسي؟ - أوه! نعم.
ونهض زوج سيسي الطويل القامة دون أن ينبس ببنت شفة، وأعطى الطفلة وزجاجة اللبن لفرانسي، ثم سار خارجا من الحجرة دون أن ينطق بكلمة أيضا، ولم تعلق إحداهن على خروجه.
وجلست فرانسي في كرسيه الشاغر، ولم تكن قد حملت طفلا بين ذراعيها قط، ولمست بأصابعها خد الطفلة المستدير الناعم على نحو ما رأت جوانا تفعل، وانتابتها نشوة بدأت من أناملها وصعدت إلى ذراعها ثم سرت في كيانها كله، وقررت بينها وبين نفسها أن سوف يكون لي دائما حينما أكبر طفل جديد في البيت.
وأنصتت وهي تحمل الطفلة إلى حيث أمها وجدتها، وراقبت سيسي وهي تصنع فطائر الشهر كله، وأخذت سيسي كرة من العجين الأصفر اليابس وبسطتها ببساطة الفطير، ثم طوتها قرصا كقرص الهلام، وأخذت سكينا حادة وقطعت العجين قطعا رقيقة كالورق، وفكتها وعلقتها على رف صنع من عصا رفيعة من الإسفين مقام أمام موقد المطبخ، فعلت ذلك لتجفف الفطائر.
وشعرت فرانسي بأن هناك شيئا ما تغير في سيسي، لم تكن هي الخالة سيسي المعهودة، ولم يكن ذلك يرجع إلى أنها أصبحت أقل نحافة مما كانت، فإن ما تغير فيها لم يتعلق بمنظرها، وتحيرت فرانسي في ذلك.
وأرادت ماري روملي أن تسمع كل كلمة من أخبارهم، وأنبأتها كاتي بكل شيء بادئة من النهاية إلى البداية، قالت لها أولا عن عمل الطفلين عند ماكجريتي، وكيف أن المال الذي يكسبانه يسد رمقهما، ثم أخبرتها باليوم الذي جلس فيه ماكجريتي في مطبخها وتحدث عن جوني، واختتمت كلامها قائلة: أخبرك يا أمي أنه لو لم يأت ماكجريتي في حينه، فإنني لا أدري ما الذي كان خليقا بأن يحدث لنا، لقد كانت نفسي منهارة يائسة ، حتى إنني ناجيت جوني في ملكوت الموت ليساعدني قبل ذلك بليال قليلة، وأنا أعلم أن ما فعلت كان حماقة مني.
وقالت ماري: لا، لم تكن حماقة منك، فقد سمعك وساعدك.
وقالت سيسي: إن الشبح لا يستطيع أن يساعد أحدا يا أمي.
وقالت ماري روملي: إن الأشباح ليست هي دائما التي تنفذ من خلال الأبواب المغلقة، لقد حكت كاتي كيف أن زوجها اعتاد أن يتكلم مع رجل الحانة هذا، وقد بذل جوني أشتاتا من نفسه لهذا الرجل في تلك السنين التي تحدث فيها إليه، وحينما نادت كاتي رجلها ليساعدها تجمعت هذه الأشتات من نفسه في الرجل، وكان جوني الذي يعيش في أعماق رجل الحانة هو الذي سمعها ومد لها يد العون.
وقلبت فرانسي الفكرة في رأسها، وقالت بينها وبين نفسها: لو كان ذلك صحيحا فإن السيد ماكجريتي رد إلينا بعض أشتات أبي، حين تكلم عنه ذلك الوقت الطويل، ولم يعد في أعماقه شيء من أبي الآن، ربما كان ذلك هو السبب في أننا لا نستطيع أن نتكلم معه على نحو ما يريد.
وأعطت سيسي كاتي حين حل موعد رحيلها صندوقا من صناديق الأحذية مليئا بالفطائر لتأخذه معها إلى بيتها، وضمت الجدة ماري روملي فرانسي حين كانت تقبلها قبلة الوداع، وهمست في أذنها بلغتها الخاصة: أعطي لأمك في الشهر المقبل ما يزيد على الاحترام والطاعة، فإنها سوف تكون في أشد الحاجة إلى الحب والفهم.
ولم تفهم فرانسي كلمة مما قالته جدتها، لكنها أجابت قائلة: نعم يا جدتي!
ووضعت فرانسي صندوق الأحذية في حجرها، وهما تركبان التروللي عائدتين إلى البيت؛ لأن أمها لم يكن لها الآن حجر، وفكرت فرانسي تفكيرا عميقا وهي تركب، وقالت بينها وبين نفسها: لو أن ما قالته جدتي ماري روملي هو الحق، فما من ريب في أن المنية لا تدرك أحدا أبدا، لقد ذهب أبي ولكنه لا يزال ماثلا هنا بصور مختلفة، فهو ماثل في نيلي الذي يشبهه كل الشبه، وماثل في أمي التي خبرته وقتا طويلا، وماثل في أمه التي أنجبته والتي لا تزال على قيد الحياة، وقد أنجب أنا في يوم من الأيام صبيا يشبه أبي ويرث حسناته جميعا، ما عدا الإمعان في الشراب، وسوف ينجب هذا الصبي صبيا، وهذا الصبي سوف ينجب صبيا آخر، ولعل الموت لا يكون له من ثم وجود حقيقي.
وتحولت أفكارها إلى ماكجريتي: ما من أحد يصدق أبدا أن بعضا من أبي يعيش في هذا الرجل.
وفكرت في السيدة ماكجريتي وكيف يسرت لها أن تجلس وتأكل ذلك الهلام، وطرأت لفرانسي فكرة! لقد عرفت فجأة ما الذي تغير في سيسي، وقالت لأمها: إن الخالة سيسي لم تعد تستعمل ذلك العطر النفاذ الجميل، أم تراها تستعمله يا أمي؟ - لا، إنها لم تعد بحاجة إليه. - لماذا؟ - لقد رزقت الآن بطفلة، وقيض لها رجل يرعاها ويرعى الطفلة.
وأرادت فرانسي أن تزيد في السؤال، لكن أمها أغمضت عينيها وأسندت رأسها إلى ظهر المقعد، وكانت تبدو شاحبة متعبة، فقررت فرانسي ألا ترهقها أكثر من ذلك، ورأت أنه ينبغي لها أن تفكر هي بنفسها.
وقالت بينها وبين نفسها: لا بد أن استعمال العطر النفاذ يرتبط - على نحو ما - بامرأة تريد طفلا، وتريد أن تجد رجلا تنجب منه طفلا يرعاه ويرعاها أيضا.
وأضافت تلك الفكرة الصغيرة إلى الأفكار الأخرى كلها التي مضت في جمعها.
وبدأت فرانسي تشعر بصداع لم تدر أيرجع سببه إلى فرحتها بحمل الطفلة، أم إلى اهتزاز عربة التروللي، أم إلى فكرتها عن أبيها، أم إلى اكتشافها لسر عطر سيسي، وقد يكون سببه أنها أصبحت تستيقظ مبكرة جدا في الصباح وتعكف على العمل طوال اليوم، أو لعل ذلك يرجع إلى حلول ذلك الوقت من الشهر الذي تستطيع فيه أن تلتمس سببا لهذا الصداع، واستقر رأي فرانسي على السبب، وقالت: حسنا! أظن أن الحياة هي التي تسبب لي هذا الصداع، وليس شيئا آخر.
وقالت الأم في هدوء، وهي تسند رأسها إلى الخلف، وتغمض عينيها: لا تكوني بلهاء، لقد كان مطبخ الخالة سيسي حارا جدا، وأنا نفسي أشعر بصداع.
وقفزت فرانسي، أيمكن لأمها أن تنفذ مباشرة إلى عقلها، وعيناها مغمضتان، ثم تذكرت أنها قد نسيت أنها تفكر، ونطقت فكرتها الأخيرة عن الحياة بصوت عال، وضحكت لأول مرة منذ وفاة أبيها، وفتحت أمها عينيها وابتسمت.
39
وثبت نيلي وفرانسي في دينهما في شهر مايو، وكانت فرانسي قد بلغت أو كادت الرابعة عشرة والنصف، أما نيلي فكان يصغرها بعام واحد تقريبا، وصنعت سيسي - التي كانت حائكة ماهرة - ثوبا بسيطا أبيض لفرانسي من الموسلين، وحاولت كاتي أن تشتري لها خفا أبيض من جلد الشاة، وزوجا من الجوارب الطويلة البيضاء المصنوعة من الحرير، هو أول ما لبست فرانسي من جوارب حريرية، وارتدى نيلي حلته السوداء التي اشتراها لجنازة أبيه.
وشاعت في الحي أسطورة تقول: إن المرء إذا تمنى ثلاث أمنيات في ذلك اليوم فسوف تتحقق، واقتضى الأمر أن تكون إحدى الأمنيات مستحيلة التحقيق، والأمنية الثانية تستطيع أن تحققها بنفسك، والأمنية الثالثة تتمناها حين تكبر، وكانت أمنية فرانسي المستحيلة هي أن يتحول شعرها المرسل البني اللون إلى شعر ذهبي مجعد كشعر نيلي، وكانت أمنيتها الثانية هي أن يكون لها صوت ندي مثل صوت أمها وإيفي وسيسي، وكانت أمنيتها الثالثة التي ستتحقق حين تكبر أن تجوب أنحاء العالم جميعا، أما أمنيات نيلي فكانت الأولى: أن يصبح ثريا جدا، والثانية: أن يحصل على درجات أعلى في التقارير التي تكتب في بطاقته، والثالثة: ألا يشرب الخمر كأبيه حين يكبر.
وكان في بروكلين عرف صارم يقضي بأن يصور الأطفال حين تثبيتهم مصور محترف، ولم يكن في مقدور كاتي أن تتكبد نفقات المصور، فاقتنعت بأن تدع فلوسي جاديس، وكانت تمتلك آلة للتصوير على شكل صندوق، تلتقط لهما صورة، وأوقفتهما فلوسي على حافة الطوار، والتقطت الصورة دون أن تشعر بمرور عربة التروللي في تثاقل وبطء، في اللحظة التي فتحت فيها العدسة، وكبرت الصورة وصنعت لها إطارا، وقدمتها لفرانسي ونيلي هدية يوم التثبيت.
وكانت سيسي تزورهم حين وصلت الصورة، وأمسكتها كاتي، وأخذ الجميع يفحصونها بعيونهم من فوق كتفها، ولم تكن فرانسي قد صورت من قبل قط، ورأت لأول مرة نفسها كما يراها الآخرون؛ كانت تقف مستقيمة مشدودة على حافة الطريق وظهرها لقناة الصرف، وثوبها قد نفخته الريح من طرفيه، ووقف نيلي ملتصقا بها وقامته تفوق قامتها بمقدار رأس، ويبدو غاية في الوجاهة والوسامة في حلته السوداء المكوية، وكانت الشمس قد مالت على الأسطح على نحو جعل نيلي يقف في الشمس، فبدا وجهه واضحا مشرقا حين بدت فرانسي في الظل داكنة اللون عابسة، وبدت من خلفهما عربة التروللي تسير مهتزة غير واضحة.
وقالت سيسي: إني أراهن أن هذه هي صورة التثبيت الوحيدة في العالم التي تشتمل على عربة تروللي.
وقالت كاتي: إنها صورة جميلة؛ لأنهما يبدوان طبيعيين وهما يقفان في الشارع أكثر مما لو وقفا أمام نافذة الكنيسة المصنوعة من الكرتون في محل الصور.
وعلقت الصورة فوق رف المدفأة.
وسألت سيسي: أي اسم اتخذته يا نيلي؟ - اسم أبي، إنني الآن كورنيليوس جون نولان.
وعلقت كاتي على ذلك قائلة: هذا اسم جميل لطبيب جراح.
وقالت فرانسي في اعتداد: لقد اتخذت اسم أمي، إن اسمي الكامل الآن هو ماري فرانسيس كاترين نولان.
وانتظرت فرانسي، لكن أمها لم تقل إنه اسم جميل لكاتبة، وسألت سيسي: هل لديك أي صور لجوني يا كاتي؟ - لا، ليس لدي إلا صورة واحدة لنا أخذت يوم زفافنا، لماذا؟ - لا شيء، مجرد أن الأيام تمضي هكذا، أليس كذلك؟
وتنهدت كاتي: أجل، ذلك من الأشياء القليلة التي نستطيع أن نستوثق منها على سبيل الجزم.
وانتهى التثبيت، ولم تعد فرانسي تضطر إلى الذهاب لتلقي إرشادات الكنيسة، فأصبح لديها ساعة فراغ كل يوم، خصصتها للرواية التي كانت تكتبها، لتثبت للآنسة جاردنر مدرسة اللغة الإنجليزية الجديدة أنها تفهم الجمال حقا.
وفرانسي منذ وفاة أبيها توقفت عن الكتابة عن الطيور والأشجار وخواطرها الخاصة، وانصرفت إلى كتابة القصص القصيرة عن أبيها؛ لأنها أحست إحساسا قويا بفقده، وحاولت أن تعرض ذلك بالرغم من نقائصه، لقد كان أبا طيبا ورجلا عطوفا، وكتبت ثلاث قصص من هذا النوع نالت عليها درجات متوسطة ، بدلا من درجة جيد التي اعتادتها، وردت إليها معلمتها القصة الرابعة مذيلة بسطر يطلب منها أن تبقى بعد انصراف المدرسة.
وانصرف جميع الأطفال إلى بيوتهم، وبقيت الآنسة جاردنر وفرانسي وحدهما في الفصل، ومعهما القاموس الكبير، ووضعت قصص فرانسي الأربع الأخيرة على مكتب الآنسة جاردنر.
وسألت الآنسة جاردنر: ماذا أصاب كتاباتك يا فرانسي؟ - لا أدري. - لقد كنت من خيرة تلميذاتي، وكنت تكتبين كتابة غاية في الجمال، حتى إنني كنت أستمتع بقراءة موضوعاتك، ولكن هذه الموضوعات الأخيرة ... وضربت عليها بازدراء. - لقد تثبت من تهجي الكلمات، وجاهدت من أجل تحسين خطي و... - إنني أشير إلى موضوع الكتابة. - قلت إننا نستطيع أن نختار موضوعاتنا الخاصة. - ولكن الفقر والجوع والحرمان والسكر، كلها موضوعات قبيحة، إنا نعترف جميعا بأن هذه الأشياء موجودة، ولكنا لا نكتب عنها.
والتقطت فرانسي دون وعي عبارة المعلمة، وقالت: ما الذي نكتب عنه إذن؟ - على المرء أن يغوص في الخيال ويكتشف فيه الجمال، إن الكاتب كالفنان عليه أن يسعى في طلب الجمال دائما.
وسألت الطفلة: ما هو الجمال؟ - لا أستطيع أن أهتدي إلى تعريف أجمل من تعريف الشاعر كيتس: «الجمال هو الحق، والحق هو الجمال.»
واستجمعت فرانسي كل شجاعتها، وقالت: هذه القصص هي الحق.
وانفجرت الآنسة جاردنر قائلة: هراء!
ثم خففت لهجتها ومضت تقول: إنما نعني بالحق أشياء كالنجوم تكون دائما في السماء، والشمس تشرق دائما، ونبل الإنسان الحق، وحب الأم وحب المرء لوطنه.
وأنهت كلامها قبل الأوان، وقالت فرانسي: فهمت.
وبينما كانت الآنسة جاردنر تواصل كلامها، أخذت فرانسي ترد عليها في مرارة بينها وبين نفسها: إن السكر ليس من الحق أو الجمال في شيء، إنه رذيلة، إن مدمني الخمر ينتمون إلى عالم السجن لا إلى عالم القصص، والفقر ... ليس هناك عذر للفقر، إن العمل يتوافر لكل من يريد، والناس فقراء لأنهم كسالى لا يعملون، ليس في الكسل أي جمال (تصوروا لو كانت أمي كسولا!).
إن الجوع ليس شيئا جميلا، إنه غير ضروري أيضا ؛ إذ لدينا جمعيات خيرية منظمة، وما من حاجة تدعو أحدا إلى أن يعيش جائعا.
وضغطت فرانسي على أسنانها، كانت أمها تكره كلمة «صدقة» أكثر من أية كلمة أخرى في اللغة، وقد نشأت طفليها على كراهية هذه الكلمة أيضا.
وقالت الآنسة جاردنر: إنني لست مترفعة، ولم أنحدر من أسرة ثرية، كان أبي قسيسا يتقاضى راتبا شهريا صغيرا جدا. [ولكنه كان راتبا شهريا يا آنسة جاردنر]. - ولم يكن يساعد أمي في البيت سوى خادمات غير متمرنات، تتعاقب الواحدة تلو الأخرى، ومعظمهن من الريف. [إني أفهم، لقد كنت فقيرة يا آنسة جاردنر، فقيرة ولديك خادمة!]. - وكنا نعيش في بعض الأحيان بلا خادمة، وتضطر أمي إلى القيام بأعمال البيت جميعا بنفسها. [وإن أمي يا آنسة جاردنر تضطر إلى القيام بعمل بيتها وعشرة أمثاله أيضا من أعمال التنظيف]. - وكنت أريد أن أدخل جامعة الولاية، ولكنا لم نقدر على ذلك، واضطر أبي أن يرسلني إلى كلية صغيرة طائفية. [ولكن اعترفي بأنك لم تجدي مشقة في سبيل الذهاب إلى الكلية]. - صدقيني، إنك لتعدين فقيرة حين تذهبين إلى مثل هذه الكلية، لقد خبرت الجوع أيضا، وكان مرتب أبي يقطع بين الحين والحين، ولا نجد مالا نشتري به زادنا، واضطررنا مرة أن نعيش على الشاي والخبز المحمص ثلاثة أيام. [إذن فأنت تعرفين ما هو الجوع أيضا]. - ولكني خليقة بأن أكون غبية لو لم أكتب عن شيء إلا عن الفقر والجوع، أليس كذلك؟
ولم ترد فرانسي، ورددت الآنسة جاردنر مشددة: أليس كذلك؟ - نعم يا سيدتي. - والآن نتناول مسرحيتك التي قدمتها لنيل الشهادة.
وأخرجت من درج مكتبها مخطوطا رفيعا، وقالت: إن بعض أجزائها في غاية الجودة حقا، ولكنك شططت في أجزاء أخرى، مثال ذلك ...
وقلبت صفحة قائلة: وهنالك قال القدر «وأنت أيها الشباب ما مطمحك؟» ويجيب الصبي: «سوف أكون آسيا للجراح، أتناول أجسام الناس العليلة فأبرئها.» هذه فكرة جميلة يا فرانسي ولكنك أفسدتها هنا: يقول القدر «هذا ما لست خليقا بأن تكونه، ولكن انظر! هذا ما ستكونه.» (تسلط الأضواء على رجل مسن يلحم قاع صفيحة من صفائح القمامة، الرجل المسن يقول: «آه، لقد فكرت مرة في أن أكون آسيا للناس وها أنا ذا الآن أبرئ ال...».)
ورفعت الآنسة جاردنر بصرها فجأة، وقالت: أنت لا تعنين بحال أن تكوني بذلك فكهة، أم تراك تعنين ذلك يا فرانسي؟ - أوه! لا يا سيدتي. - وإنك لتستطيعين أن تفهمي بعد حديثنا القصير لماذا لم نقبل مسرحيتك موضوعا للتخرج.
وقالت فرانسي وقد تحطم قلبها: إني أفهم. - أما بياتريس ويليامز فعندها فكرة بارعة، تلوح جنية بعصا صغيرة فيخرج بعض الصبية والبنات مرتدين حللهم، كل منهم يمثل إجازة من إجازات السنة، ويقول قصيدة قصيرة من الشعر عن الإجازة التي يمثلها، إنها فكرة رائعة، ولكن بياتريس لسوء الحظ لا تستطيع أن تنظم الشعر، أتودين أن تقتبسي هذه الفكرة وتكتبي لها أبيات الشعر؟ إن بياتريس لا تعترض على ذلك، ويمكننا أن نشير بكلمة في البرنامج إلى أن الفكرة فكرتها، وهذا يعطي كلا منكما حقها بالعدل، أليس كذلك؟ - نعم يا سيدتي، ولكني لا أريد أن أقتبس أفكارها، بل أريد أن أكتب أفكاري أنا! - هذا شيء يستحق الثناء بلا شك، حسنا! إني لا أصمم على رأيي.
ووقفت وهي تقول: لقد أنفقت كل ذلك الوقت معك؛ لأني أعتقد مخلصة أن لك موهبة يرجى منها. والآن، وبعد أن قلبنا وجهات النظر أصبحت على يقين من أنك سوف تتوقفين عن كتابة تلك القصص الصغيرة الوضيعة.
وضيعة؟ وأدارت فرانسي الكلمة في رأسها، فوجدت أنها ليست من حصيلة مفرداتها. - ما معنى كلمة وضيعة!
وقالت الآنسة جاردنر وهي تترنم مازحة: ماذا قلت - لك - حين - لا تفهمين - كلمة. - آه! لقد نسيت.
وذهبت فرانسي إلى القاموس الكبير وبحثت عن كلمة «وضيعة»، فوجدتها تعني «بذيئة» ... بذيئة؟
وفكرت في أبيها وهو يرتدي صدرية وبنيقة نظيفتين كل يوم في حياته، ويلمع حذاءه البالي مرتين في اليوم، «قذر؟» كان لأبي وعاؤه الخاص عند الحلاق، «حقير؟» وتجاوزت فرانسي عن تلك الكلمة التي لا تعرف معناها بالضبط، «مبتذل» أبدا! كان أبي راقصا، رشيقا سريع الحركة، ولم يكن جسده مبتذلا، «حقير ودنيء» أيضا، وتذكرت مئات الحالات من تصرفات أبيها الصغيرة التي تدل على الرقة والحنان والتفكير، وتذكرت أيضا كيف أحبه الناس جميعا كل الحب، وشعرت بالحرارة تصعد إلى وجهها، ولم تستطع أن ترى الكلمات التالية لأن الصفحة أصبحت حمراء أمام عينيها، واستدارت إلى الآنسة جاردنر وقد اربد وجهها غضبا: هلا كففت عن رمينا بهذه الصفة بعد!
وسألت الآنسة جاردنر دون أن تفهم شيئا: رمينا؟ لقد كنا نتكلم عن موضوعات الإنشاء التي كتبتها، فماذا دهاك يا فرانسي؟
وغص حلقها وهي تقول: إني لأعجب لفتاة مهذبة مثلك أن تقول ذلك، وما عسى أن تقول أمك إذا علمت أنك توقحت مع معلمتك؟
وارتاعت فرانسي؛ لأن الوقاحة في حق المعلمين كادت تكون جريمة في بروكلين، تقتضي إرسال الطفل إلى الإصلاحية، ورددت فرانسي في ذلة: سألتك العفو، سألتك العفو ... إني لم أقصد أن أسيء إليك.
وقالت الآنسة جاردنر في رقة: إني أدرك موقفك.
وأحاطت فرانسي بذراعها، وقادتها إلى الباب، وهي تقول: إن حديثنا القصير قد أثر فيك كما أرى، إن صفة «وضيعة» كلمة قبيحة، وإني مسرورة لأنك استنكرت استخدامي لها، وهذا يدل على أنك تدركين، وربما لم تعودي تحبينني، ولكن أرجوك أن تعتقدي أنني لم أكن أبغي من كلامي إلا مصلحتك الخاصة، وسوف تذكرين ما قلت ذات يوم وتشكرينني عليه.
وودت فرانسي لو كف أهل النضج عن أن يرموها بهذا القول، وكان عبء الشكر الذي يتعين عليها أن تزجيه للناس في قابل أيامها يثقل كاهلها منذ الآن، وتصورت أن الأمور تقتضيها أن تنفق أجمل سني أنوثتها، ساعية إلى الناس لتقول لهم إنهم كانوا على الحق، وتزجي إليهم عبارات الشكر.
وناولتها الآنسة جاردنر موضوعاتها «الوضيعة» والمسرحية قائلة: أحرقي هذه الكتابات في الموقد حين تصلين إلى بيتك، أشعلي الثقاب فيها بنفسك، وادأبي على القول واللهب يتصاعد منها «إني أحرق القبح، إني أحرق القبح.»
وحاولت فرانسي - وهي عائدة إلى بيتها من المدرسة - أن تفكر في الأمر كله، إنها تعلم أن الآنسة جاردنر لم تكن امرأة وضيعة ، وأن حديثها كان في مصلحة فرانسي، وكل ما في الأمر أنها لم تتلطف معها، وبدأت تدرك أن حياتها تبدو في عين بعض المتعلمين متمردة، وتساءلت: أتراها تخجل من نشأتها حين تصبح متعلمة؟ ترى هل تخجل من أهلها؟ أتخجل من أبيها الوسيم الذي كان طيب السريرة كريما مدركا للأمور؟ أتخجل من أمها الشجاعة الصادقة التي كانت هي أيضا جد فخور بأمها، بالرغم من أنها كانت أمية لا تعرف القراءة أو الكتابة؟ أتخجل من نيلي الذي كان مثالا للصبي الأمين الصالح؟ لا! لا! إذا كان التعليم خليقا بأن يجعلها تخجل من أصلها، فإنها لا تريد منه شيئا، وأقسمت بينها وبين نفسها قائلة، ولكني سوف أظهر ذلك للآنسة جاردنر، سوف أظهر لها أنني أوتيت خيالا، سوف أظهر لها ذلك بكل تأكيد.
وبدأت روايتها في ذلك اليوم، وكانت بطلتها شيري نولا فتاة واعية مدركة، ولدت وترعرعت في أحضان النعيم، وكان عنوان القصة هو «هذه هي أنا»، وكانت هي قصة فرانسي غير الحقيقية.
وأتمت فرانسي كتابة عشرين صفحة، أنفقتها في الوصف الدقيق لأثاث بيت شيري الفاخر، ونظمت مختارات من الشعر والنثر، في وصف ملابس شيري البديعة الفائقة الحسن، ووصفت من حين إلى حين شيئا من الأطعمة الخيالية التي كانت تتناولها البطلة.
وفكرت فرانسي أنها حين تفرغ منها سوف تطلب من زوج سيسي جون، أن يأخذها إلى الدار التي يعمل فيها ليطبعها، وأخذت فرانسي تحلم حلما جميلا عما سوف يحدث، حين تقدم كتابها إلى الآنسة جاردنر، وارتسم المنظر كله في عقلها ومضت في الحوار. (فرانسي وهي تعطي الكتاب للآنسة جاردنر.) - أعتقد أنك لن تجدي شيئا وضيعا في هذا، وأرجو منك أن تعديه العمل الذي أقدمه لنيل الشهادة، وإني لآمل ألا تعترضي على نشره (يسقط فك الآنسة جاردنر وتفتح فمها دهشة، لكن فرانسي تتجاهل ذلك). - إن طباعته تيسر قراءته بعض الشيء، ألا تعتقدين ذلك؟ (في حين تقرأ الآنسة جاردنر تحملق فرانسي خارج النافذة دون اهتمام.)
الآنسة جاردنر (بعد أن قرأت): عجبا يا فرانسي! إنه لرائع! - ماذا تقولين ؟ (وقد بدأت تستذكر.) - أوه! تعنين الرواية، لقد خططتها على عجل في لحظات عابرة، إن المرء لا ينفق وقتا طويلا في كتابة الأشياء التي لا يعرف عنها شيئا، ولكنه حين يكتب عن أشياء حقيقية، فإنه ينفق وقتا أطول؛ لأنه يشعر بالحاجة إلى أن يعيشها أولا.
وحذفت فرانسي ذلك القول، إنها لا تريد من الآنسة جاردنر أن تشك في أنها جرحت شعورها، وكتبت مرة أخرى:
فرانسي :
ماذا تقولين؟ (مستذكرة) .
أوه! تعنين الرواية، إني مسرورة لأنها أعجبتك.
الآنسة جاردنر (على استحياء) :
فرانسي، هل لي ... هل لي أن أطلب منك أن توقعي عليها بخطك؟
فرانسي :
طبعا. (تنزع الآنسة جاردنر غطاء قلمها الحبر، وتمسكه بحيث يتجه طرفه المدبب ناحيتها، وتقدمه إلى فرانسي، فرانسي تكتب «مع تحيات م. فرانسيس ك. نولان».)
الآنسة جاردنر (تفحص التوقيع) :
يا له من توقيع ممتاز!
فرانسي :
إنه ليس سوى اسمي الرسمي.
الآنسة جاردنر (على استحياء) :
فرانسيس؟
فرانسي :
أرجوك، تكلمي معي بحرية كشأنك في الأيام الخالية؟
الآنسة جاردنر :
هل لي أن أسألك أن تكتبي فوق توقيعك «إلى صديقتي موريل جاردنر»؟
فرانسي (بعد وقفة متعمدة) :
ولم لا؟ (ثم تبتسم ابتسامة ملتوية.)
كنت أكتب دائما ما تطلبينه مني. (تكتب الإهداء.)
الآنسة جاردنر (تهمس بصوت خفيض) :
أشكرك.
فرانسي :
يا آنسة جاردنر ... إن ذلك لا يعنيني ... ولكن هل لك أن تضعي درجة على هذا الموضوع ... ذكرى الأيام الخالية فحسب؟ (تمسك الآنسة جاردنر القلم الأحمر، وتكتب درجة الامتياز على الكتاب.)
وكان حلما جميلا ورديا، حتى إن فرانسي بدأت الفصل الثاني بحماسة ملتهبة، إنها سوف تكتب وتنتهي منها سريعا حتى يتحقق الحلم، وكتبت:
وسألت شيري نولان خادمتها الخاصة: باركر! ماذا يقدم الطاهي لنا الليلة في الطعام؟ - أظن أنه يا آنسة شيري سيقدم صدر طير الدراج تحت غطاء من الزجاج، ومعه نبات الهليون الساخن مع عش الغراب المستورد والأناناس.
وأشارت شيري: يبدو من الأسماء أنها أصناف كئيبة جدا.
وسلمت الخادمة بذلك في احترام. - أجل يا آنسة شيري. - إنك لتعلمين يا باركر أنني أحب أن أستسلم لنزواتي. - إن نزواتك أوامر في هذا المنزل. - إني أود أن أرى عددا من صنوف الحلوى البسيطة لأختار منها طعامي، أرجوك أن تحضر لي عشرا من فطائر شارلوت، وبعض كعك التوت الصغير، وقطعة من القشدة المثلجة، وعشرا من أصابع الست وصندوقا من الشوكولاتة الفرنسية. - سمعا وطاعة يا آنسة شيري.
وسقطت قطرة ماء على الصفحة، ورفعت فرانسي بصرها، إلا أن السقف لا يقطر ماء، وإنما لعابها هو الذي سال فحسب، فقد أحست بالجوع؛ الجوع الشديد، وذهبت إلى الفرن ونظرت في الوعاء، ورأت قطعة عظام شاحبة محاطة بالماء، ووجدت بعض الكسر في صندوق الخبز، وألفتها صلبة بعض الصلابة لكنها كانت خيرا من لا شيء، وقطعت شريحة منها وصبت فنجانا من القهوة وغمست فيه الخبز ليلين، وفي أثناء تناولها الطعام أخذت تقرأ ما فرغت من كتابته، واكتشفت شيئا عجيبا.
وقالت بينها وبين نفسها: انتبهي يا فرانسي نولان، إنك في هذه القصة تكتبين ما كتبت تماما في القصص الأخرى التي استنكرتها الآنسة جاردنر، إنك تكتبين هنا أنك تشعرين بالجوع الشديد، ولكنك تكتبينه على نحو ملتو أحمق.
وغضبت وثارت على الرواية فقطعت الصفحات التي كتبتها وكدستها في الموقد، ولما بدأت ألسنة النار تلتف بها زاد غضبها وثورتها، وجرت وأحضرت صندوقها الذي تحفظ فيه مخطوطاتها من تحت سريرها، ووضعت القصص الأربع التي كتبتها عن أبيها على جانب في عناية وحرص، ثم حشدت الباقي في الموقد، كانت تحرق كل موضوعات الإنشاء الجميلة التي نالت عليها درجة جيد، وكانت بعض العبارات تبرز واضحة لحظة قبل أن تسود الورقة وتتفتت رمادا، مثل شجرة حور ضخمة فارعة وقور باردة، تضرب في السماء، وعبارة أخرى واستدارت قبة السماء الزرقاء في رفق فوق الرءوس، إنه يوم من أيام شهر أكتوبر الفائقة الجمال، وخاتمة عبارة أخرى ... وكانت زهور الحنطة تشبه صفاء الشمس في غروبها، وزهور لسان العصفور كأنها السموات بعضها فوق بعض.
وقالت بينها وبين نفسها: إنني لم أر شجرة حور أبدا، ولقد قرأت في كتاب ما عن قبة السماء، أجل إني لم أر تلك الزهور أبدا إلا في قائمة بذور الزهور، ولقد نلت درجة جيد لأنني أجدت الكذب.
وحرقت الأوراق لتزداد النار فيها اشتعالا، فلما تحولت الأوراق إلى رماد، ترنحت قائلة: إني أحرق القبح، إني أحرق القبح.
وخمد اللهب الأخير فأعلنت على نحو تمثيلي مخاطبة غلاية الماء: في النار الموقدة يذهب مستقبلي في الكتابة.
وشعرت فجأة بالفزع والوحدة، كانت تريد أباها، نعم كانت تريد أباها، لا يمكن أن يكون قد مات، نعم لا يمكن أن يكون قد مات، ولسوف يأتي بعد برهة يجري على السلم مغنيا أغنية «مولي مالون» فتفتح له الباب، وهناك يقول: «مرحى أيتها المغنية الأولى» فتجيبه: «أبتاه لقد رأيت حلما مزعجا، حلمت أنك مت.» ثم تحكي له ما قالته الآنسة جاردنر، وسوف يجد من الكلمات ما يقنعها بأن كل شيء على ما يرام، وانتظرت وهي ترهف السمع، ربما كان ذلك حلما ولكن لا! ليس هناك حلم يمتد إلى ذلك الحد، كانت هي الحقيقة، لقد مضى الأب إلى غير عودة.
ووضعت رأسها على المائدة ونشجت، وقالت بينها وبين نفسها باكية: إن أمي لا تحبني كما تحب نيلي، لقد حاولت مرارا أن أجعلها تحبني، إني أجلس بالقرب منها، وأذهب أينما تذهب، وأفعل كل ما تطلبه مني، ولكني لا أستطيع أن أجعلها تحبني كما أحبني أبي، ثم تذكرت منظر وجه أمها في عربة التروللي، حين جلست تسند رأسها على ظهر المقعد، وعيناها مغمضتان، وتذكرت كيف بدت أمها شاحبة متعبة. إن أمها تحبها فعلا، إنها تحبها بلا شك، ولكنها لا تستطيع أن تظهر حبها على نحو ما كان أبوها يفعل. وكانت أمها مكافحة، فهي تتوقع وضع الطفل في أية دقيقة، ولا تزال تخرج للعمل، لنفرض أن أمي ماتت وهي تضع الطفل! وتجمد الدم في عروق فرانسي لهذا الخاطر، ماذا عساها هي ونيلي أن يفعلا بدون أمهما؟ إلى أين يذهبان؟ إن إيفي وسيسي أشد فقرا من أن تؤوياهما، إنهما لن يجدا مكانا يعيشان فيه، فليس لهما في هذا العالم سوى أمهما.
وابتهلت فرانسي: يا إلهي الرحيم! لا تجعل أمي تموت، أنا أعلم أنني قلت لنيلي إنني لا أومن بك، ولكني أومن بك! أومن بك! لقد قلت ذلك لمجرد القول، لا تعاقب أمي، إنها لم تفعل سوءا، لا تنتزعها منا لأنني قلت إنني لا أومن بك، إنني سوف أهب لك كتاباتي إذا أبقيت على حياتها، بل ولن أكتب أبدا قصة أخرى إذا أبقيت على حياتها فحسب، أيتها العذراء مريم! ناشدتك أن تطلبي من ابنك المسيح أن يسأل الله الإبقاء على حياة أمي.
ولكنها شعرت أن دعاءها ضاع سدى، وأن الله كان يذكر قولها بأنها لم تكن تؤمن به، وسوف يعاقبها بأن يأخذ منها أمها، كما أخذ أباها، وانتابتها نوبة جنونية من الفزع، وظنت أن أمها قد ماتت حقا، واندفعت خارجة من المسكن تبحث عنها، ولم تكن كاتي تقوم بالتنظيف في منزلهم، وذهبت إلى المنزل الثاني وجرت صاعدة قلبات السلام الثلاث وهي تصيح «أمي!» ولم تكن أمها في ذلك المنزل، وذهبت فرانسي إلى المنزل الثالث والأخير، ولم تجد أمها في الطابق الأول، وكذلك لم تجدها في الطابق الثاني، لم يبق إلا طابق واحد، فإذا لم تكن أمها هناك، فإنها تكون قد ماتت وقضي الأمر، وصرخت: أمي! أمي!
وجاء صوت كاتي الهادئ من الطابق الثالث: إنني هنا فوق، لا تصيحي هكذا.
وانهارت فرانسي انهيارا تاما من فرط شعورها بالخلاص، ولم تكن تريد أن تعلم أمها أنها كانت تبكي، فبحثت عن منديل يدها فلم تجده، وجففت دموعها في معطفها الصغير، وصعدت الطابق الأخير في بطء: أهلا أمي. - هل حدث شيء لنيلي؟ - لا يا أمي (إنها تفكر دائما في نيلي أولا).
وقالت كاتي باسمة: حسنا! أهلا إذن.
وظنت أن خطأ ما وقع في المدرسة، وأثار فرانسي: حسنا ... فها أنا ذا ... فماذا دهاك؟ - هل تحبينني يا أمي؟ - إنني أكون امرأة تافهة مدعاة للسخرية إذا لم أحب أولادي، أليس كذلك؟ - أتظنين أنني حسنة المنظر مثل نيلي؟
وانتظرت في قلق جواب أمها لأنها كانت تعلم أن أمها لا تكذب أبدا، وجاء جواب أمها بعد وقت طويل: إن لك يدين جميلتين وشعرا طويلا غزيرا جميلا.
وأصرت فرانسي على سؤالها، تريد من أمها أن تكذب، وقالت: ولكن أتظنين أنني حسنة المنظر مثل نيلي؟ - اسمعي يا فرانسي، أنا أعرف أنك تهدفين إلى شيء بطريقة ملتوية، ولقد برح بي التعب، حتى لا أستطيع أن أدرك ما ترمين إليه، فاصبري قليلا حتى أضع الطفل، إني أحبك أنت ونيلي، وأعتقد أنكما طفلان قد بلغتما من حسن المنظر ما يروق في عين الناس، ولا تحاولي إزعاجي.
وشعرت فرانسي بالندم فجأة، واعتصرت الشفقة قلبها وهي ترى أمها التي توشك أن تضع طفلها تزحف بمشقة على يديها وركبتيها، فركعت بجوار أمها. - انهضي يا أمي ودعيني أفرغ من تنظيف هذه القاعة، إن لدي وقتا كافيا.
وغمست يدها في دلو الماء، وصاحت كاتي في شدة: لا!
وأخرجت يد فرانسي من الماء، وجففتها في «مريلتها» وقالت: لا تضعي يديك في ذلك الماء، إنه يحتوي على الصودا والمحلول القلوي، انظري ماذا فعل بيدي؟
ومدت لها يديها الجميلتين ولكنهما كانتا مقروحتين من أثر العمل. - إني لا أريد أن تصبح يداك مثل يدي، وإنما أريد أن تكون يداك جميلتين دائما، ثم إنني كدت أنتهي. - إذا لم أستطع أن أساعدك فهل لي أن أجلس على السلم وأراقبك؟ - إذا لم يكن لديك عمل آخر أفضل من ذلك.
وجلست فرانسي تراقب أمها، وشعرت براحة كبرى وهي ماثلة أمامها، مدركة أن أمها ما زالت على قيد الحياة قريبة منها، بل شعرت بأن صوت مسح الأرض كان له وقع يطمئن قلبها ويرضيه، ومضت الفرشاة تخشخش، وخرقة المسح تطرقع، وهكذا انبعثت أصوات الفرشاة والخرقة، وزاد عليها صوتان آخران وأمها تغمسهما في الدلو، بل أخذت الدلو تحدث صوتا غير هذه الأصوات جميعا حين كانت أمها تنقلها من مكان إلى مكان. - أليس لك صديقات من البنات تتحدثين إليهن يا فرانسي؟ - لا، إني أكره النساء. - إن ذلك ليس طبيعيا، فإن من الخير لك أن تتجاذبي أطراف الحديث مع بنات من سنك. - هل لك صديقات من النساء يا أمي؟
وقالت كاتي: لا ، إني أكره النساء. - أرأيت؟ إنك مثلي سواء بسواء . - ولكن كانت لي صديقة ذات يوم وظفرت بأبيك عن طريقها، هكذا ترين أن الصديقة تسعفك في بعض الأحيان.
كانت تتكلم مازحة، لكن فرشاة المسح بدت كأنما تقرقع في يدها قائلة: «أنت تمضين في طريقك، وأنا أمضي في طريقي.» وسعت جاهدة أن ترد الدموع إلى عينيها وواصلت كلامها: نعم، أنت في حاجة إلى الصديقات، إنك لا تكلمين أحدا سوى نيلي وأنا، وتقرئين كتبك وتكتبين قصصك. - لقد هجرت الكتابة.
وعرفت كاتي حينئذ أن ما كان يشغل تفكير فرانسي شيء يتصل بموضوعات الإنشاء، وسألتها: هل نلت درجة سيئة على موضوعك اليوم؟
وكذبت فرانسي، وقد ذهلت كشأنها دائما حين يصح تخمين أمها، وقالت: لا، أظن أن الوقت قد حان لأذهب إلى ماكجريتي.
وقالت كاتي وهي تضع فرشاتها وخرقة التنظيف في الدلو: انتظري، لقد أنهيت عمل اليوم.
ومدت لها يديها قائلة: ساعديني على النهوض.
وأمسكت فرانسي بيدي أمها، وشدت كاتي بقوة وهي تقف على قدميها في مشقة، وقالت لها: عودي إلى البيت معي يا فرانسي.
وحملت فرانسي الدلو، ووضعت كاتي يدا على حاجز السلم واليد الأخرى حول كتف فرانسي، واستندت في تثاقل على الفتاة، وهي تهبط السلم في بطء، وإلى جوارها فرانسي تضبط خطواتها مع خطوات أمها المضطربة. - فرانسي! إني أتوقع الوضع في أي يوم، وسوف أشعر بمزيد من الاطمئنان إذا لم تنأي عني أبدا، ابقي بالقرب مني، وابحثي عني من حين إلى حين وأنا أعمل لتطمئني علي، أنا لا أستطيع أن أخبرك بمدى اعتمادي عليك، لا أستطيع أن أعتمد على نيلي لأنه صبي لا يفيد في مثل ذلك الوقت، أجل إني في أشد الحاجة إليك، وأشعر بطمأنينة أكثر حين أعرف أنك بالقرب مني، لهذا ابقي إلى جانبي فترة.
وأحست فرانسي بحنان عظيم يغمر قلبها حيال أمها، وقالت: لن أنأى أبدا عنك يا أمي.
وضغطت كاتي على كتفها: يا لك من ابنة مطيعة!
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: قد لا تكون تحبني مثل حبها لنيلي، ولكنها تحتاج إلي أكثر مما تحتاج إليه، وإني لأظن أن شعور المرء بحاجة الآخرين إليه شعور جميل، يكاد يبلغ في جماله شعوره بأنهم يحبونه، وقد يكون أكثر جمالا.
40
وعادت فرانسي إلى البيت بعد يومين لتتناول الغداء، ولم تعد إلى المدرسة بعد الظهيرة، فقد كانت أمها ترقد في الفراش، وأرادت فرانسي بعد أن أمرت نيلي بالعودة إلى المدرسة، أن تستدعي سيسي أو إيفي، لكن أمها قالت: إن الوقت لم يحن بعد.
وشعرت فرانسي بأهميتها وهي تدبر الأمر وحدها، ونظفت المسكن، وتفقدت الطعام الذي في المنزل وفكرت في عشائهم، وكانت كل عشر دقائق ترفع وسادة أمها، وتسألها هل تريد كوبا من الماء.
واندفع نيلي لاهثا بعد الساعة الثالثة مباشرة، وألقى كتبه في ركن، وسأل أحان الوقت ليجري في طلب العون، وابتسمت كاتي لاهتمامه، وقالت إنه لا جدوى من انتزاع إيفي أو سيسي من مشاغلهما الخاصة قبل أن تقضي الضرورة بذلك، وانطلق نيلي إلى عمله وطلبت منه أمه أن يسأل ماكجريتي هل من المستطاع أن يقوم بعمله وعمل فرانسي جميعا؛ لأن فرانسي مضطرة إلى البقاء في البيت مع أمها، ولم يكتف ماكجريتي بالموافقة على ذلك فحسب، بل ساعد الصبي أيضا في عمله حتى إن نيلي انتهى منه كله في الساعة الرابعة والنصف، وتناولوا عشاءهم مبكرا، وكان نيلي كلما بدأ عمله في بيع الصحف مبكرا فرغ منه مبكرا. وقالت الأم إنها لا تريد سوى قدح من الشاي الساخن.
ولم ترغب الأم في الشاي بعد أن قلبته فرانسي، وقلقت فرانسي لأن أمها لا تريد أن تأكل شيئا، وأحضرت فرانسي بعد أن ذهب نيلي إلى بيع الصحف وعاء يحتوي على اليخنة، وحاولت أن تحمل أمها على أن تأكل، ولكن كاتي نهرتها وطلبت منها أن تتركها وحدها، قائلة إنها حين تريد شيئا تأكله فسوف تطلبه، وأفرغت فرانسي الطعام مرة أخرى في الإناء، محاولة أن تحبس دموع الجرح الذي أصاب شعورها؛ ذلك أنها إنما كانت تقصد العون، ونادتها أمها مرة أخرى، ولم يبد عليها أي أثر للغضب، وسألت كاتي: كم الساعة؟ - السادسة إلا خمس دقائق. - أمتأكدة أنت أن الساعة ليست مبطئة؟ - لا يا أمي! - قد تكون مسرعة إذن؟
وبدا عليها القلق الشديد حتى إن فرانسي نظرت خارج النافذة الأمامية إلى الساعة الكبيرة، التي علقها محل الجواهرجي فورونوف على قارعة الطريق، وقالت فرانسي: إن ساعتنا مضبوطة. - هل حل الظلام بالخارج؟
ولم تكن لدى كاتي وسيلة لتبين ذلك؛ لأن الضوء كان حتى في رابعة النهار لا ينفذ منه خلال بئر التهوية إلا نور أغبر. - لا، إن النهار لا يزال ماثلا بالخارج.
وقالت كاتي جزعة: لقد حل الظلام هنا. - سوف أضيء شمعة الليل.
وكان الجدار يحتضن رفا صغيرا يحمل تمثالا من الجبس لمريم العذراء، وهي ترتدي ثوبا أزرق وتبسط يديها إلى الأمام في ابتهال، وفي أسفل الصورة زجاجة سميكة حمراء ملئت بالشمع الأصفر واشتملت على ذبالة، ووضعت إلى جوارها زهرية تحمل زهورا حمراء من الورق، وعالجت فرانسي الذبالة بثقاب مشتعل، وتوهج ضوء الشمعة من خلال الزجاج السميك الأحمر قاتما في لون الياقوت.
وسألت كاتي بعد برهة: كم الساعة؟ - السادسة وعشر دقائق. - أمتأكدة أنت أن الساعة ليست مسرعة ولا مبطئة؟ - إنها مضبوطة تماما.
وبدا أن كاتي قد ارتاحت وهدأت هواجسها، ولكنها عادت إلى السؤال عن الساعة بعد خمس دقائق، كأنما كانت على موعد هام تحرص على الوفاء به، وتخشى كل الخشية أن تتأخر عنه.
وفي الساعة السادسة والنصف أخبرتها فرانسي بالوقت مرة أخرى، وأضافت قولها بأن نيلي سيعود إلى البيت بعد ساعة، وقالت كاتي: ابعثي به في اللحظة التي يصل فيها إلى الخالة إيفي، وأخبريه بألا يضيع الوقت في السير على الأقدام، ابحثي له عن خمسة سنتات ليركب بها، وقولي له أن يذهب إلى إيفي لأنها أقرب سكنا من سيسي. - افرضي يا أمي أن الطفل ولد فجأة، وأنا لا أدري ماذا أفعل. - أنا لست سعيدة الحظ إلى ذلك الحد حتى ألد الطفل فجأة، كم الساعة؟ - الساعة السابعة إلا خمسا وعشرين دقيقة. - هل أنت متأكدة؟ - إني متأكدة، وبالرغم من أن نيلي صبي يا أمي، فإنه من الأفضل أن يبقى معك بدلا مني. - لماذا ؟ - لأنك تحسين دائما براحة عظيمة في وجوده.
قالت ذلك دون أي حقد أو غيرة، كان تصريحا حقيقيا بسيطا. - أما أنا ... أنا ... فلا أكاد أعرف ما الذي ينبغي أن أقوله لأشعرك بمزيد من الرضا. - كم الساعة؟ - دقيقة واحدة بعد السابعة إلا خمسا وعشرين دقيقة.
وصمتت كاتي فترة طويلة، ولما تكلمت قالت كلماتها في هدوء كأنما تكلم نفسها: إن الرجال لا ينبغي لهم أن يحضروا في مثل هذا الوقت، ومع ذلك فإن النساء يستبقينهم إلى جوارهن، ويطلبن منهن أن يسمعوا كل أنة وكل زفرة، وأن يروا كل قطرة من الدماء، وأن ينصتوا إلى كل مزقة تصيب جسد المرأة، ما سر تلك السعادة الملتوية التي يتلمسنها في جعل الرجل يشاركهن في شقائهن؟ يبدو أنهن ينتقمن لأن الله خلقهن نساء، كم الساعة؟
وواصلت كلامها دون أن تنتظر الإجابة: وإنهن قبل أن يتزوجن يمتن خجلا لو أن رجلا رآهن مشعثات الشعر أو أبصرهن وقد نفضن عنهن المشدات، ولكنهن حين يلدن فإنهن يردن من الرجل أن يراهن في أقبح منظر يمكن أن تبدو عليه المرأة، ولست أدري لذلك سببا ... أجل لا أدري له سببا، إن الرجل يفكر في الألم والعذاب اللذين أصابا المرأة من اجتماعهما ... فهو لا يجد متعة في هذا الاجتماع من بعد، إن هذا هو السبب في أن كثيرا من الرجال يبدءون بخيانة زوجاتهم بعد ولادة الطفل.
وكانت كاتي لا تكاد تدرك ما تقول لأنها كانت تفتقد جوني افتقادا عظيما، وتفكر على هذا النحو لتفلسف غيابه عنها. - ثم هناك قول مأثور: إذا أحببت شخصا فخير لك أن تقاسي الألم وحدك حتى تجنبيه ذلك؛ لهذا أبعدي رجلك خارج المنزل حين يحل موعد ولادتك. - نعم يا أمي، إنها السابعة وخمس دقائق. - انظري، هل نيلي مقبل؟
ونظرت فرانسي وأخبرتها بأن نيلي لم يظهر في الطريق بعد، وعاد تفكير كاتي إلى ما قالته فرانسي، من أن نيلي يبعث في قلبها الراحة: لا يا فرانسي، إنك أنت التي تبعثين في قلبي الراحة الآن.
وتنهدت. - لو كان صبيا فسوف نسميه جوني. - سوف يكون من الخير يا أمي أن نصبح أربعة مرة أخرى. - أجل، ليكونن ذلك خيرا.
وظلت كاتي حينا لا تقول شيئا، وأخبرتها فرانسي - حين سألت عن الساعة في المرة التالية - أنها السابعة والربع، وأن نيلي أوشك أن يعود إلى البيت، وأرشدت كاتي فرانسي طالبة منها أن تلف منامة لنيلي وفرشة أسنان، ومنشفة نظيفة وقطعة من الصابون في ورقة من ورق الصحف؛ لأن الأمر يقتضي أن يقضي نيلي الليلة في بيت إيفي، ونزلت فرانسي مرتين في الشارع ولفة الملابس تحت ذراعيها قبل أن ترى نيلي مقبلا، كان يجري هابطا الشارع، وجرت هي لتلقاه وأعطته اللفة، وأجر الركوب، وأبلغته أوامر الأم، وطلبت منه أن يسرع، وسألها: كيف حال أمي؟ - بخير. - هل أنت متأكدة؟ - نعم متأكدة، إني أسمع عربة التروللي قادمة، خير لك أن تجري.
وجرى نيلي، ورأت فرانسي حين عادت أن وجه أمها غارق في العرق، وعلى شفتها السفلى دم كأنما قد عضتها. - أوه! أمي، أمي!
وهزت يد أمها ورفعتها إلى خدها، وهمست الأم: خذي قطعة قماش مبللة بالماء البارد وامسحي وجهي.
واستأنفت كاتي - بعد أن فعلت فرانسي - ذلك الحديث الذي لم يكتمل في عقلها. - إنك بلا شك تبعثين الراحة في قلبي.
وشط عقلها في شيء بدا غير مرتبط بسابقه، وإن كان في الحقيقة مكملا له: كنت أنوي دائما أن أقرأ موضوعاتك التي نلت عليها درجة جيد، ولكن لم يتسع وقتي لذلك قط، وليس لدي متسع منه الآن إلا القليل، فهل لك أن تقرئي علي موضوعا من موضوعات إنشائك؟ - لا أستطيع، فقد حرقتها جميعا. - لقد فكرت فيها، وكتبتها، وقدمتها، ونلت عليها درجات، وفكرت فيها بعضا آخر من الوقت، ثم حرقتها، فعلت كل ذلك دون أن أقرأ منها موضوعا واحدا. - لا عليك يا أمي، إنها لم تكن جيدة. - إن ذلك عبء ينوء به ضميري. - إنها لم تكن جيدة يا أمي، وأنا أعلم أن الوقت لم يتوافر لك أبدا.
وقالت كاتي بينها وبين نفسها: ولكن الوقت كان يتوافر لي دائما لأي شيء يفعله الصبي، لقد كنت أخلق له الوقت خلقا.
ومضت تقول أفكارها بصوت عال: ولكن نيلي يحتاج إلى مزيد من التشجيع، أنت تستطيعين أن تشقي طريقك في الحياة بما في أعماقك من زاد، شأنك في ذلك شأني ... ولكنه يحتاج إلى زاد كثير من خارج نفسه.
ورددت فرانسي: لا عليك يا أمي.
وقالت كاتي: إنني لم أستطع أن أفعل غير ما فعلت، ولكنه سوف يكون عبئا ينوء به ضميري سواء بسواء، كم الساعة؟ - إنها السابعة والنصف تقريبا. - هات المنشفة مرة أخرى يا فرانسي.
وبدا أن عقل كاتي يحاول أن يتعلق بشيء. - ألم يبق موضوع واحد تستطيعين قراءته علي؟
وفكرت فرانسي في القصص الأربع التي كتبتها عن أبيها، وما قالته الآنسة جاردنر عنها، وأجابت: لا. - إذن اقرئي شيئا من آثار شكسبير.
وأحضرت فرانسي الكتاب. - اقرئي الفقرة التي تبدأ: ولقد كانت ليلة مثل هذه، أود أن أزود عقلي بشيء جميل قبل أن ألد الطفل.
وكانت الكلمات المطبوعة صغيرة إلى حد أن فرانسي اضطرت إلى أن تضيء مصباح الغاز لتقرأ، ورأت وجه أمها بوضوح حين سطع الضوء، كان وجهها أغبر مربدا، إن أمها لم تكن تشبه أمها، وإنما كانت تشبه في ألمها جدتها ماري روملي، وأجفلت كاتي من الضوء فأطفأته فرانسي بسرعة. - أمي! لقد قرأنا هذه المسرحيات مرات ومرات، حتى إنني كدت أحفظها عن ظهر قلب، إني لا أحتاج إلى الضوء أو الكتاب، أمي! استمعي.
ثم تلت:
وأشرق القمر زاهيا في ليلة كهذه،
حين قبلت الريح الحنون الأشجار في رفق،
وهي ساكنة لا يسمع لها حفيف،
وفي مثل هذه الليلة ...
يا ترويلاس ...
وسألت: كم الساعة؟
وأجابتها فرانسي: السابعة وأربعون دقيقة، ثم أستأنفت القراءة: ... أظن أنه قد ارتقى أسوار طروادة.
وطارت نفسه شعاعا إلى خيام الإغريق.
حيث رقدت كريسيدا في أحضان الليل.
وسألت كاتي: وهل قيض لك يا فرانسي بحال أن تكتشفي من يكون ترويلاس، ومن تكون كريسيدا؟ - نعم يا أمي. - عليك أن تنبئيني بنبأهما يوما حين أجد الوقت للإصغاء. - لأفعلن يا أماه.
وأنت كاتي، ومسحت فرانسي العرق مرة أخرى، وبسطت كاتي يديها الاثنتين كما فعلت في ذلك اليوم المعهود في القاعة، وأمسكت فرانسي باليدين وطوقت قدميها، وشدت كاتي عضلاتها حتى ظنت فرانسي أن ذراعيها سوف تخرجان من مفصليهما، ثم أرخت أمها عضلاتها وأطلقت سراحها.
ومرت الساعة التالية، وتلت فرانسي الفقرات التي تحفظها عن ظهر قلب مثل: خطاب بورشيا، ومرثية مارك أنتوني: «وغدا غدا»، وهي المعالم الواضحة التي ذكرتها من آثار شكسبير، وكانت كاتي أحيانا تسأل سؤالا، وتضع يديها على وجهها وتئن أحيانا، وظلت تسأل عن الساعة دون أن تدري أنها تفعل ذلك، ودون أن تنتبه إلى الإجابة، وكانت فرانسي تمسح وجهها على فترات، وبسطت كاتي ذراعيها لفرانسي ثلاث مرات أو أربعا في تلك الساعة.
وشعرت فرانسي براحة خاصة كادت تفقدها وعيها، حين وصلت إيفي في الساعة الثامنة والنصف، وأعلنت إيفي وهي تندفع إلى حجرة النوم: إن الخالة سيسي تصل بعد نصف ساعة.
وشدت إيفي، بعد أن نظرت إلى كاتي، ملاءة من فوق سرير فرانسي، وعقدت طرفا منها في عمود سرير كاتي، ووضعت الطرف الآخر في يد كاتي، وقالت: حاولي أن تشدي عليها على سبيل التغيير.
وهمست كاتي بعد أن شدت الملاءة بعنف جعل العرق يتصبب من وجهها مرة أخرى، قائلة: كم الساعة؟
وأجابت إيفي في مرح: ماذا يعنيك من الساعة؟ إنك لست ذاهبة إلى مكان بعيد.
ولاحت ابتسامة على وجه كاتي، لكن انقباضة ألم جمدتها على شفتيها، وقررت إيفي: إننا نستطيع أن نباشر عملنا في ضوء قوي.
واعترضت فرانسي: ولكن ضوء مصباح الغاز يؤذي عينيها!
وأخذت إيفي المصباح الزجاجي من توصيلة الردهة، وطلت خارجه بالصابون ووصلته بتوصيلة حجرة النوم، ولما أشعلت الغاز انبعث ضوء منتشر هادئ لا وهج فيه، وأشعلت إيفي النار في المدفأة، بالرغم من أن الليلة كانت إحدى ليالي شهر مايو الدافئة، وأخذت تصدر الأوامر لفرانسي في سرعة، وانطلقت فرانسي تملأ الغلاية بالماء وتضعها على النار، وبحثت عن حوض الغسيل المطلي «بالمينا»، وصبت فيه زجاجة من الزيت الحلو ووضعته في مؤخرة الموقد، وأفرغت الملابس القذرة من سلة الغسيل، ولفتها في ملاءة بالية، ولكنها نظيفة، ووضعتها على كرسيين بالقرب من الموقد، ووضعت إيفي كل «صحون» الغداء في الفرن لتسخن، وطلبت من فرانسي أن تضع «الصحون» الساخنة في السلة حتى تبرد، ثم تستبدل بها «صحونا» ساخنة أخرى.
وسألت: هل لدى أمك أي ملابس من ملابس المواليد؟
وسألت فرانسي ساخرة، وهي تعرض متواضعة مجموعة من لوازم الطفل المولود حديثا، تتكون من أربعة أثواب فضفاضة (كيمونو) صنعت باليد من الفانلة وأربعة أربطة، واثني عشر قماطا كففت باليد، وأربعة قمصان رثة لبستها هي ونيلي بالتناوب، وهما حديثا الولادة: إلى أي طبقة من الناس ننتمي في ظنك؟
ثم أضافت فرانسي بفخر: ولقد صنعت كل شيء بنفسي فيما عدا القمصان.
وقالت إيفي وهي تفحص الريشة الزرقاء المطرزة على الأثواب الفضفاضة: إني أرى أن أمك تتوقع صبيا، حسنا سنرى.
ولما جاءت سيسي دخلت الأختان حجرة النوم، وأمرتا فرانسي بالانتظار في الخارج، واستمعت فرانسي لهما وهما تتكلمان.
قالت سيسي: لقد حان موعد استحضار القابلة، هل تعرف فرانسي أين تسكن؟
قالت كاتي: إنني لم أدبر الأمر، فلا يوجد بالبيت خمسة دولارات للقابلة.
وقالت إيفي: حسنا، قد أستطيع أنا وسيسي أن ندفع الأجر إذن ...
وقالت سيسي: اسمعي، لقد وضعت عشرة ... لا ... أحد عشر طفلا، وأنت أنجبت ثلاثة وكاتي اثنين، أي إننا أنجبنا ستة عشر طفلا، إذن ينبغي لنا أن نعلم الكثير عن طريقة ولادة الطفل.
وقررت إيفي: حسنا، سوف نتولى نحن ولادة الطفل.
ثم أغلقتا باب حجرة النوم، فاستطاعت فرانسي أن تسمع أصواتهما دون أن تسمع ما تقولان، وكرهت من خالتيها أن تطرداها خارج الغرفة على ذلك النحو، وخاصة أنها كانت تتولى الأمر كله حتى جاءتا، وأخرجت «الصحون» الباردة من السلة ووضعتها في الفرن، وأخرجت منه «صحنا» ساخنا، وشعرت بأنها وحيدة تماما في هذا العالم، وودت لو أن نيلي كان بالبيت حتى تتحدث معه عن الأيام الخالية.
وفتحت فرانسي عينيها فزعة، وظنت أنها لا يمكن أن تكون قد نعست، نعم لا يمكن أن تكون قد نعست، وتحسست «الصحون» التي في السلة، فوجدتها باردة، واستبدلت بها «صحونا» ساخنة بسرعة، كان ينبغي أن تبقى السلة ساخنة لينام فيها الطفل، وأنصتت إلى الأصوات التي تنبعث من حجرة النوم، كانت قد تغيرت منذ أطرقت برأسها، لم تعد هناك حركات تروح وتجيء في تراخ، ولم يعد هناك حديث هادئ، وبدا كأن خالتيها تجريان روحة وجيئة بخطوات سريعة قصيرة، وجاءت أصواتهما في عبارات قصيرة، ونظرت إلى الساعة، كانت التاسعة والنصف، وخرجت إيفي من حجرة النوم وأغلقت خلفها الباب. - هذه خمسون سنتا يا فرانسي، اذهبي واشتري ربع رطل من الزبد الحلو، وصندوقا من القراقيش المعالجة بالصودا، وبرتقالتين، أخبري البائع أنك تريدين برتقالا بصرة، قولي له إنه لامرأة مريضة. - ولكن كل المحال أغلقت أبوابها. - اهبطي إلى مدينة اليهود، إن المحال مفتوحة فيها دائما. - سأذهب في الصباح.
وقالت إيفي في حدة: افعلي ما آمرك به.
وذهبت فرانسي غير راضية، وسمعت وهي تهبط الطابق الأخير صرخة خشنة صادرة من الحلق، ووقفت مترددة: أتعود مسرعة أم تمضي في طريقها، وتذكرت أمر إيفي الحازم فواصلت هبوط السلم، وسمعت حين وصلت إلى الباب صرخة أخرى أشد ألما، وشعرت بالراحة وهي تخرج إلى الشارع.
وفي إحدى الشقق، سمع سائق الخيل الشبيه بالقرود، صرخة كاتي الأولى، وكان يأمر زوجته بأن تتأهب للنوم، فصاح قائلا: أيها المسيح!
ولما سمع الصرخة الثانية قال: إني آمل أيها المسيح ألا تقلقني هذه المرأة طول الليل.
وبكت زوجته القريبة الشبه بالطفلة، وهي تحل رداءها.
وكانت فلوسي جاديس وأمها تجلسان في مطبخهما، وكانت فلوسي تخيط ثوبا آخر من الساتان الأبيض لترتديه عند زواجها المؤجل من فرانك، وكنت السيدة جاديس تدرز
5
جوربا رماديا لهني، وكان هني قد مات بالطبع، ولكن أمه كانت طول حياته تدرز الجورب له، ولم تستطع أن تقل عن عادتها، وأفلتت غرزة من إبرة السيدة جاديس حين سمعت الصرخة الأولى.
وقالت فلوسي: إن الرجال يحظون بكل المتعة، ويبقى للنساء الألم.
ولم تقل الأم شيئا، لكنها ارتعدت حين صرخت كاتي الصرخة الثانية، وقالت فلوسي: يبدو أن من المضحك أن أصنع ثوبا له كمان. - أجل.
واشتغلتا لحظة في صمت قبل أن تقول فلوسي مرة أخرى: إنني لا أدري أيستحقون ذلك؟ أعني الأطفال.
وفكرت السيدة جاديس في ابنها الراحل وفي ابنتها التي ذوى ذراعها ولم تقل شيئا، وأمالت رأسها على شغلها، وعثرت على المكان الذي أفلتت منه الغرزة، وركزت انتباهها في التقاطها.
ورقدت فتاتا تنمور العانسان المهجورتان في سريرهما العذري الخشن، وتلمست كل منهما يد الأخرى، وسألت الآنسة ماجي: أسمعتها يا أختاه؟
وقالت الآنسة ليزي: لقد حل موعد ولادتها. - هذا هو السبب الذي جعلني لم أتزوج هارفي منذ وقت بعيد حين طلب يدي، لقد كنت خائفة من هذه الساعة، خائفة جدا.
وقالت الآنسة ليزي: لا أدري، أظن أحيانا أنه من الخير أن أقاسي مرارة الشقاء، وأن أناضل وأصرخ، بل أعاني ذلك الألم الفظيع من أن أكون آمنة بمنجاة من الألم فحسب ... وانتظرت حتى غابت الصرخة الثانية، وقالت: إنها تعلم على الأقل أنها تعيش.
ولم تحر الآنسة ماجي جوابا.
وكانت الشقة المقابلة لردهة أسرة نولان خالية، وشغل الشقة الباقية من البيت رجل بولندي، يعمل في الميناء وزوجته وأطفاله الأربعة، وكان يملأ كوبا بالجعة من قنينة على المائدة حين سمع صرخة كاتي، وعبس قائلا في تهكم: يا للنساء!
وزجرته زوجته قائلة: اسكت يا هذا.
وكانت كل النساء في البيت تتوتر أعصابهن مع كل صرخة تطلقها كاتي، مشاركات إياها في شقائها، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يجمع بين النساء وهو الإحساس بألم الولادة.
واضطرت فرانسي إلى أن تقطع طريقا طويلا صاعدة في شارع مانهاتان، قبل أن تصل إلى محل ألبان يهودي فاتح أبوابه، ولم تجد مناصا من أن تذهب إلى محل آخر لتشتري «القراقيش»، ثم وجدت مظلة من مظلات الفاكهة فيها برتقال بصرة، وألقت نظرة سريعة وهي عائدة إلى الساعة المعلقة في محل كنيب لبيع الأدوية، ولاحظت أنها العاشرة والنصف تقريبا ... ولم يكن يهمها كم كانت الساعة، إلا أن ذلك بدا شيئا هاما كل الأهمية في نظر أمها.
ووجدت حين دخلت المطبخ أن الحال قد تغيرت، فقد أحست بشعور مطمئن جديد، واستروحت عبيرا هادئا جديدا لا يمكن وصفه، وكانت سيسي تقف وظهرها ناحية السلة.
وقالت: ماذا تظنين، لقد رزقت بأخت. - وكيف حال أمي؟ - إنها بخير. - لهذا أرسلتموني إلى المحل؟
وقالت إيفي، وهي تخرج من حجرة النوم: لقد فكرنا في أنك تعرفين أكثر مما ينبغي لفتاة في الرابعة عشرة أن تعرف.
وقالت فرانسي في شدة: إنني لا أريد سوى أن أعرف شيئا واحدا: هل أمي هي التي أرسلتني إلى الخارج؟
وقالت سيسي في رقة: أجل يا فرانسي، لقد قالت شيئا فحواه أنها تضن بالألم على من تحبهم.
وقالت فرانسي وقد هدأ روعها: حسنا إذن! - ألا تريدين أن تري الطفلة؟
وانتحت سيسي جانبا، ورفعت فرانسي الملاءة من فوق رأس الطفلة، ورأت مولودة صغيرة جميلة بيضاء البشرة، تنمو خصلات من الشعر سوداء ناعمة هابطة إلى جزء من جبينها مثل أمها، وفتحت الطفلة عينيها لحظة، ولاحظت فرانسي أنهما زرقاوان فاتحتان، وبينت سيسي قائلة إن كل الأطفال حديثي الولادة تكون عيونهم زرقاء، والراجح أنها تتغير حين يشتد عودهم فتصبح سوداء بلون حبوب البن.
وقررت فرانسي: إنها تشبه أمي.
وقالت سيسي: هذا ما اعتقدناه. - هل هي على ما يرام؟
وأخبرتها إيفي: على أحسن ما يرام. - أليست مشوهة أو شيئا من هذا القبيل؟ - بالطبع لا، من أين أتيت بمثل هذه الأفكار؟
ولم تخبر فرانسي إيفي كيف كانت تخشى أن يولد الطفل مشوها؛ لأن أمها كانت تشتغل على يديها وركبتيها لآخر لحظة.
وسألت في تواضع وهي تشعر بالغربة في بيتها: هل لي أن أدخل وأرى أمي؟ - يمكنك أن تحضري «الصحن» لها.
وأخذت فرانسي «الصحن» يحمل كسرتين من «القراقيش» وفوقهما الزبد، وقالت لأمها: أهلا يا أمي. - أهلا يا فرانسي.
ورأت أمها تشبه أمها مرة أخرى ولكنها كانت متعبة غاية التعب، ولم تستطع أن ترفع رأسها فحملت لها فرانسي «القراقيش» وهي تأكل.
ووقفت فرانسي تحمل «الصحن» الخالي بعد أن فرغت أمها من الأكل، ولم تقل أمها شيئا، وبدا لها أنها هي وأمها قد أصبحتا غريبتين مرة أخرى، لقد ضاع ذلك القرب الذي نشأ بينهما في الأيام الأخيرة القليلة. - كنت قد انتقيت اسم صبي يا أمي. - أجل، ولكني لا أعترض على البنت حقا. - إنها جميلة. - سوف يكون لها شعر أسود مجعد، وإن نيلي له شعر مجعد أشقر، مسكينة أنت يا فرانسي، فإن شعرك مستقيم بني اللون.
وقالت فرانسي في تحد: أنا أحب الشعر البني المستقيم.
وكانت فرانسي مشوقة كل الشوق لأن تعرف اسم الطفلة، ولكن أمها بدت غريبة عنها الآن، حتى إنها رغبت عن أن تسأل السؤال مباشرا. - هل أكتب الإخطار الخاص لأرسله إلى مكتب الصحة؟ - لا، سوف يرسله القسيس إليه حين تعمد الطفلة. - أوه!
وتبينت كاتي خيبة الأمل في لهجة فرانسي. - ولكن أحضري المداد والقرطاس، وسوف أملي عليك اسم الطفلة.
وأخذت فرانسي الإنجيل من فوق رف المدفأة، وهو إنجيل جديون الذي كانت سيسي قد سرقته منذ خمسة عشرة عاما تقريبا، ونظرت إلى اليوميات الأربع المكتوبة على الورقة الغفل في صدر الكتاب، وكانت الثلاث الأولى بخط يد جوني الجميل المنمق:
1 يناير 1901م:
تزوجت كاترين روملي وجون نولان.
15 ديسمبر 1901م:
ولدت فرانسي نولان.
23 ديسمبر:
ولد كورنيليوس نولان.
وكانت اليومية الرابعة بخط كاتي المائل الثابت:
25 ديسمبر 1915م:
مات جوني نولان في الرابعة والثلاثين من عمره.
وتبعت إيفي وسيسي فرانسي إلى حجرة النوم، وكانتا هما الاثنتان أيضا مشوقتين إلى معرفة الاسم الذي ستختاره كاتي للطفلة، ترى هل يكون سارة؟ أو إيفا؟ أو روث؟ أو إليزابيث؟
وأملتها كاتي قائلة: اكتبي هذا؛ 28 مايو 1916م ولدت ... وغمست فرانسي قلمها في زجاجة المداد «آني لوري نولان».
واحتجت سيسي قائلة: آني! إنه اسم عادي جدا؟
وسألت كاتي في حلم: لماذا يا كاتي؟ لماذا؟
وبينت كاتي الأمر قائلة: إنها أغنية غناها جوني مرة.
وبينما كانت فرانسي تكتب الاسم سمعت صوت أنغام، وسمعت صوت أبيها يغني: «وهنالك آني لوري ...» أبتاه ... أبتاه ...
وأردفت كاتي: لقد قال إنها أغنية تنتمي إلى عالم أفضل من هذا العالم، لقد كان خليقا بأن يحب أن تسمى الطفلة بإحدى أغنياته.
وقالت فرانسي: آني لوري اسم جميل.
وأصبح اسم لوري هو اسم الطفلة.
41
وكانت لوري طفلة هادئة، تنام راضية معظم الوقت، وحين تستيقظ تنفق الوقت راقدة في هدوء، تحاول أن تركز عينيها البنيتين بلون التوت على قبضة يدها المتناهية في الصغر.
وكانت كاتي ترضع الطفلة، لا بدافع الغريزة، بل بدافع الحاجة إلى المال، تشتري به لبنا طازجا، وبدأت كاتي تقوم بعملها في الخامسة صباحا لأنها لم تكن تستطيع أن تترك الطفلة وحدها، ومضت تشتغل في البيتين الآخرين أولا حتى الساعة التاسعة تقريبا، حين يذهب نيلي وفرانسي إلى المدرسة، ثم تنظف بيتها تاركة الباب مواربا، لتسمع صوت لوري إذا بكت، وقد تعودت كاتي أن تذهب إلى فراشها بعد العشاء مباشرة كل ليلة، وكانت فرانسي ترى أمها قليلا جدا، حتى بدا لها أنها ذهبت بعيدا.
ولم يستغن ماكجريتي عنهما بعد ولادة الطفلة كما كان قد دبر؛ لأنه أصبح يحتاج إليهما حقا بعد أن ازدهر عمله فجأة في ربيع سنة 1916م، فأصبحت حانته تزدحم بالزبائن طول الوقت، وأخذت التغيرات الكبرى تجتاح البلاد، واقتضى الأمر أن يجتمع زبائنه، شأنهم شأن الأمريكيين في كل مكان، وكان ركن الحانة هو مكان اجتماعهم الوحيد؛ منتدى الفقراء.
وسمعت فرانسي، وهي تعمل في المسكن فوق الحانة، أصواتهم العالية من خلال ألواح الأرض الرفيعة، وكانت تتوقف كثيرا وتنصت إليهم، نعم كان العالم يتغير بسرعة، وعرفت هذه المرة أن العالم هو الذي يتغير وليست هي، وسمعت أن العالم يتغير وهي تنصت إلى الأصوات.
إنها حقيقة، فهم سيتوقفون عن صنع الشراب فتصبح البلاد في سنوات قلائل ظمأى لا يبل لها صدى، إن الرجل الذي يشقى في عمله من حقه أن يشرب الجعة، أنبئوا الرئيس بذلك وانظروا ماذا يكون من الأمر، إن هذا البلد للشعب، وإذا شئنا ألا يصيبنا الظمأ، فلن يصيبنا الظمأ.
إن البلد بلد الشعب بلا شك، ولكنهم يدفعون التحريم دفعا حتى يبلغ حلوقكم، أقسم بالله لأصنعن نبيذي بيدي، إن أبي الكهل قد اعتاد أن يصنعه في وطننا القديم، فعليك بكيلة من العنب.
وي ! إنهم لن يمنحوا المرأة حق الانتخاب، لا تراهن على ذلك!
لو تحقق ما تقول فإن زوجتي سوف تنتخب من أنتخب، وإلا دققت عنقها.
إن أمي العجوز لن تذهب إلى مركز الانتخاب، وتختلط بالغرباء والصعاليك. ... امرأة رئيسة للجمهورية، قد يحدث ذلك.
إنهم لن يسمحوا لامرأة أبدا أن ترأس الحكومة، فإن واحدة ترأسها الآن، كالجحيم!
إن ويلسون لا يستطيع أن يستدير ويذهب إلى الحمام إلا بعد أن يستأذن السيدة ويلسون وتمنحه الإذن، إن السيدة ويلسون نفسها امرأة عجوز.
إنه يجنبنا الحرب.
ذلك الأستاذ الجامعي!
إن ما نريده في البيت الأبيض هو سياسي محنك، وليس معلما في مدرسة. ... السيارات، ليصبح الجواد، قريبا، أثرا من آثار الماضي، وإن ذلك الرجل القائم هناك في ديترويت يصنع سيارات في غاية الرخص، فلا يلبث كل عامل أن تكون له سيارة.
عامل يقود سيارته الخاصة! يجب أن تعيش طويلا حتى تراه!
الطيارات! ... إنها بدعة مجنونة ولن تبقى طويلا.
إن الصور المتحركة ستبقى هنا، والمسارح ستغلق أبوابها في بروكلين واحدا بعد الآخر، خذوني مثلا: إنني أوثر أن أرى هنا شارلي شابلن في أي يوم عن أن أرى كورست بايتون. ... اللاسلكي، إنه أعظم شيء اخترع بعد، انظر! إن الكلمات تسير على متن الهواء من غير سلك، وإنك لتحتاج إلى آلة خاصة تلتقطها، وسماعات تسمع بها. ... إنهم يسمونه المخدر، وبفضله لا تحس المرأة ألما حين تلد طفلها، وحين ينبئ هذا الصديق زوجتي بذلك، فإنها تقول له إنهم اخترعوا مثل هذا الشيء في وقته.
عم تتكلمون! إن ضوء مصباح الغاز قد عفى عليه الزمن، فإنهم يدخلون الكهرباء إلى أرخص المساكن.
ألا تعلم ماذا دهى الجيل الجديد في هذه الأيام؟ إنهم جميعا قد جنوا بالرقص، الرقص ... الرقص ... الرقص ...
لهذا غيرت اسمي من شولتز إلى سكوت، وقال لي القاضي: إلى أي غاية تمضي ولم تفعل ذلك؟ إن شولتز اسم جميل، لقد كان هو نفسه ألمانيا، ألا ترى؟ قلت: اسمع يا ماك ... هذا ما قلته له تماما سواء أكان قاضيا أم غير قاض: فإني أقول إنني ضقت ذرعا بالوطن القديم، وإني لأقول - وقد رأيت ما فعلوه بأطفال بلجيكا - إنني لا أريد أن أنتمي إلى ألمانيا، إنني أمريكي الآن وأريد اسما أمريكيا.
وإننا لنسير قدما نحو الحرب، اسمع يا رجل! إني أرى الحرب قادمة، وما علينا إلا أن نعيد انتخاب ويلسون هذا الخريف فيجنبنا الحرب.
لا تراهن على ما يبذلونه في الحملة الانتخابية من وعود، فإذا قيض لنا رئيس للجمهورية من الحزب الديمقراطي فسوف يكون رئيسا ينادي بالحرب.
إن لينكولن كان جمهوريا.
ولكن أهل الجنوب كان لهم رئيس ديمقراطي، وكانوا هم الذين بدءوا الحرب الأهلية.
إني أسألك إلى متى سنظل نصبر على هذا؟ إن الأوغاد قد أغرقوا سفينة أخرى من سفننا، كم سفينة سوف يغرقونها قبل أن تتاح لنا القوة لنذهب إليهم ونشعل فيهم النار؟
إن علينا ان نظل بمنجاة من هذه الحرب، فإن هذا البلد يعيش حياة هادئة، دعهم يخوضوا حروبهم دون أن يجرونا إليها.
إننا لا نريد الحرب.
لقد أعلنت الحرب، وسأقيد اسمي في المتطوعين اليوم التالي.
ماذا تقول؟ إنك جاوزت الخمسين ولن يقبلوك، وإني لأوثر أن أذهب سريعا إلى السجن، علي أن أذهب إلى الحرب.
يجب على الرجل أن يحارب من أجل ما يعتقد أنه الحق، وإنه ليسرني أن أذهب.
ليس هناك ما يقلقني، إنني مصاب بضيق مضاعف.
دع الحرب تنشب، فإنهم سوف يحتاجون إلينا كعمال لبناء سفنهم وصنع بنادقهم، سوف يحتاجون إلى الفلاح ليستنبت لهم زادهم، انتظر يوم يقدمون إلينا يريدون أن يعتصروا دماءنا ... ... إننا نحن العمال سوف نمسك بنادق هؤلاء الرأسماليين الذين حلت بهم لعنة الله، إنهم لن يملوا إرادتهم علينا، وإنما نحن الذين سنملي عليهم، قسما بالمسيح لنجعلنهم يتصببون عرقا، إني أتعجل الحرب.
لقد أصبحت الآلات هي كل شيء أقول لك، وقد سمعت نكتة بالأمس تقول إن رجلا وزوجته حصلا على الغذاء والكساء وكل شيء من الآلات، وطفقا يتنقلان من آلة لأخرى إلى أن وصلا إلى تلك الآلة التي تصنع الأطفال، ووضع الرجل المال في الآلة وخرج منها الطفل، واستدار الرجل وقال: رد إلي الأيام الخالية الهنيئة فما أحلى الرجوع إليها!
الأيام الخالية الهنيئة! وي! إني لأحسب أنها قد ولت ولن تعود.
انزع كأسي بها مرة أخرى يا جيم.
وحاولت فرانسي، وهي تنصت وقد توقفت عن الكنس، أن تربط الأشياء بعضها ببعض، ثم حاولت أن تفهم أن العالم يلف في دوامة، وبدا لها أن العالم كله قد تغير في الفترة ما بين يوم ولادة لوري ويوم حصولها على شهادة التخرج في المدرسة.
42
ولم يكد يتسع الوقت لفرانسي لتألف لوري حتى أقبلت ليلة حفل التخرج، ولم تستطع كاتي أن تذهب إلى حفلتي التخرج لكل من فرانسي ونيلي، فقررت أن تذهب إلى احتفال نيلي، وكان ذلك هو الصواب؛ إذ ينبغي عدم حرمان نيلي، أما فرانسي فقد كان تغيير المدارس بالنسبة لها شيئا محببا، وفهمت فرانسي ذلك لكنها شعرت ببعض الألم ما في ذلك ريب، وقد كان أبوها خليقا بأن يذهب ليرى احتفال تخرجها لو كان حيا، ورتبوا الأمر بحيث تذهب سيسي مع فرانسي وتبقى إيفي مع لوري.
وسارت فرانسي في آخر ليلة من ليالي شهر يونيو سنة 1916م، ذاهبة للمرة الأخيرة إلى المدرسة التي أحبتها كل الحب، وسارت سيسي صامتة إلى جوارها بيد أن هدأت وتغيرت بعد أن أصبح لها طفلة، ومر رجلان من رجال المطافئ ولم تلحظهما سيسي التي كانت في وقت من الأوقات لا تستطيع أن تقاوم سحر الزي الرسمي، وودت فرانسي لو أن سيسي لم تتغير، لقد أصبحت تشعرها بالوحدة، وزحفت يدها إلى يد سيسي التي ضغطت عليها بشدة، وشعرت فرانسي بالراحة، إن سيسي كانت لا تزال هي سيسي في أعماقها.
وجلست المتخرجات في المقاعد الأمامية من قاعة الاستماع، وجلس المدعوون في المقاعد الخلفية، ووجه العميد كلمة حماسية للطلاب بين فيها كيف كانوا مقبلين على عالم قلق، وكيف أن مقاليد الأمور سوف توضع في يدهم لإقامة عالم جديد، بعد الحرب التي كانت زاحفة إلى أمريكا لا محالة، وحثهم على مواصلة التعليم العالي حتى يتزودوا بزاد أفضل لإقامة هذا العالم، وتأثرت فرانسي بقوله وأقسمت من كل قلبها بأنها سوف تحمل المشعل كما قال.
ثم بدأ عرض مسرحية التخرج، واحتقنت عينا فرانسي بدموع حبيسة، وقالت بينها وبين نفسها، وهي تستمع إلى الحوار المسترسل يطن في أذنيها: كانت مسرحيتي خليقة بأن تكون أفضل من هذه، كنت مستعدة لأن أفعل أي شيء تقوله المعلمة، لو أنها سمحت لي أن أكتب المسرحية فحسب.
وبعد انتهاء المسرحية سار الطلاب صاعدين وتسلموا شهاداتهم، وأصبحوا أخيرا في زمرة المتخرجين، وأكدت لهم ذلك يمين الولاء للعلم، وإنشادهم لأغنية «العلم المرصع بالنجوم».
ثم جاء الوقت الذي حلت فيه محنة فرانسي.
وكانت العادة المتبعة تقضي بأن يهدي الآباء باقات الزهور لبناتهم الخريجات، ولما كانت الزهور ممنوعة في قاعة الاستماع، فقد وزعت في الفصول حيث وضعتها المعلمات على مكاتب المتخرجات.
واضطرت فرانسي أن تعود إلى فصلها لتحضر من مكتبها بطاقتها التي تشتمل على تقاريرها، وكذلك صندوق أقلامها ودفتر التوقيعات، ووقفت خارج الفصل تشحذ قوتها لمواجهة المحنة التي ستلقاها، وهي تعلم أن قمطرها سوف يكون القمطر الوحيد الذي خلا من الزهور، كانت على يقين من ذلك لأنها لم تكن أخبرت أمها بذلك التقليد، فقد كانت تعلم أنها لا تملك مالا لقضاء هذه الحاجات.
وقررت أن تتغلب على تلك المحنة، ودخلت الفصل، وسارت مباشرة إلى مكتب المعلمة لا تجرؤ على النظر إلى قمطرها، وكان الجو مشحونا برائحة الزهور، وسمعت البنات يثرثرن ويصرخن فرحات بزهورهن، وسمعت أصواتهن وهن يتبادلن كلمات الإعجاب والفوز.
وحصلت على بطاقتها التي تشتمل على تقاريرها، وكانت كالآتي: درجة جيد لأربع مواد دراسية، وتحت المتوسط لمادة دراسية واحدة هي اللغة الإنجليزية، وكانت قد ألفت أن تكون أبرع كاتبة في المدرسة، لكنها الآن انتهت إلى الحصول على درجة النجاح فحسب في اللغة الإنجليزية، وشعرت فجأة بأنها تكره المدرسة والمعلمات جميعا، وخاصة الآنسة جاردنر، ولم يعد يهمها أن تحصل على الزهور، نعم، لم يعد يهمها ذلك، لقد كانت عادة سخيفة على أي حال، وقررت: لأذهبن إلى قمطر أدواتي، وإذا تكلم معي أحد فسوف أخبره بأن يغلق فمه، ثم أخرج من المدرسة إلى الأبد، دون أن أقول كلمة وداع لأحد.
ورفعت بصرها وقالت لنفسها: إن القمطر الذي يخلو من الزهور سوف يكون قمطري.
ولكن لم يكن هناك قمطر خال من الزهور، كانت الزهور على كل قمطر!
ويممت فرانسي شطر قمطرها معتقدة أن إحدى زميلاتها قد وضعت باقة من زهورها عليه مؤقتا، وحزمت فرانسي أمرها على أن تلتقطها وتناولها لصاحبتها قائلة في برود: هل تسمحين؟ إني أريد أن أخرج شيئا من قمطري.
والتقطت الزهور ... كانت عشرين وردة حمراء داكنة أو أكثر قليلا فوق حزمة من السرخس، واحتضنتها بين ذراعيها كما تفعل الفتيات الأخريات، وتظاهرت لحظة أنها كانت ملكها، ونظرت إلى اسم صاحبتها على البطاقة، ولكن اسمها هو الذي كان فوق البطاقة، اسمها هي! كانت البطاقة التي قد كتب عليها: «إلى فرانسي في يوم تخرجها، تقبلي الحب من أبيك.»
أبي!
وكانت الكتابة هي خط يده الجميل المنمق بالمداد الأسود، الذي يوجد في الزجاجة التي في الصوان بالبيت، إذن فقد كان كل ذلك حلما ... حلما طويلا مضطربا ... لوري كانت حلما ... والعمل عند ماكجريتي كان حلما، ومسرحية التخرج كانت حلما، والدرجة الضعيفة في اللغة الإنجليزية كانت حلما، وإنها لتستيقظ الآن، وسوف يكون كل شيء على ما يرام، وإن أباها سوف يكون واقفا في انتظارها في الردهة.
ولكن لم يكن هناك غير سيسي في الردهة.
وقالت: إذن فإن أبي قد مات.
وقالت سيسي: نعم، كان ذلك منذ خمسة أشهر. - ولكن لا يمكن أن يكون قد مات يا خالتي سيسي، لقد أرسل الزهور ... - اسمعي يا فرانسي، منذ عام تقريبا، أعطاني أبوك هذه البطاقة، وقد أتم كتابتها، هي ودولارين وقال: «حين تتخرج فرانسي أرسلي لها بعض الزهور نيابة عني ... إذا قدر لي أن أنسى ...»
وبدأت فرانسي تبكي، لا لأنها أصبحت على يقين من أن كل شيء لم يكن حلما فحسب، ولكن لأنها أيضا كانت ضعيفة القوى مما عانت من عمل مرهق، وقاست من قلق شديد على أمها؛ ولأنها لم تكتب مسرحية التخرج ؛ ولأنها نالت درجة ضعيفة في اللغة الإنجليزية؛ ولأنها هيأت نفسها تماما لعدم تسلم الزهور.
وأخذتها سيسي إلى حمام البنات، ودفعتها إلى داخل الحمام، وأمرتها قائلة: ابكي بحرقة وانطلقي في النشيج وأسرعي، فإن أمك سوف تتساءل عما أخرنا.
ووقفت فرانسي في داخل الحمام تمسك بزهورها وتنشج، وكانت فرانسي في كل مرة يفتح فيها باب الحمام، ويعلن صوت الثرثرة عن قدوم بعض الفتيات، تشد «السيفون» ليغرق ضجيج الماء صوت نحيبها، ولم تلبث أن اجتازت محنتها، وأعدت لها سيسي حين خرجت منديل يد مبللا بالماء البارد وناولته لها، وبينما كانت فرانسي تجفف عينيها سألتها سيسي هل تمالكت نفسها، وأطرقت فرانسي رأسها بالإيجاب، ورجتها أن تنتظر لحظة حتى تودع زميلاتها ومعلماتها.
وذهبت إلى مكتب العميد وصافحته وقال لها: لا تنسي المدرسة العتيقة يا فرانسي، تعالي وزورينا من حين إلى حين.
ووعدت فرانسي مؤكدة: سوف آتي.
وعادت لتودع معلمة فصلها، وقالت المعلمة: سوف نفتقدك يا فرانسي.
وأخذت فرانسي صندوق أقلامها ودفتر التوقيعات من قمطرها، وبدأت تودع الفتيات اللائي تزاحمن حولها، وقد وضعت فتاة ذراعها حول خصرها، وأخذت تقبلها من خدها فتاتان أخريان، وهن يتبادلن كلمات الوداع: تعالي إلى بيتي لتزوريني يا فرانسي. - اكتبي لي يا فرانسي وأخبريني عن أحوالك. - فرانسي، لقد ركبنا تليفونا، كلميني من حين إلى حين، كلميني غدا. - اكتبي لي شيئا في دفتر التوقيعات يا فرانسي، حتى أستطيع أن أبيعه حين تصبحين مشهورة. - إنني ذاهبة إلى مخيم صيفي، سأكتب لك بعنواني، اكتبي لي يا فرانسي، أسمعت؟ - إنني ذاهبة إلى المدرسة الثانوية للبنات في سبتمبر، أتأتين إليها أيضا يا فرانسي؟ - لا، تعالي معي أنت إلى مدرسة البنات الثانوية للإقليم الشرقي. - المدرسة الثانوية للبنات! - مدرسة البنات الثانوية للإقليم الشرقي! - إن أفضلها هي مدرسة إرازمس هول الثانوية، تعالي إليها يا فرانسي معي، وسوف نكون صديقتين طوال مرحلة الدراسة الثانوية، ولن أتخذ لي صديقة غيرك إذا جئت. - فرانسي! أنت لم تسمحي لي أبدا أن أكتب في دفتر توقيعاتك. - ولا أنا. - أعطيني! أعطيني!
وكتبن في دفتر فرانسي الذي خلا من التوقيعات تماما، وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إنهن طيبات، لقد كنت أستطيع أن أكون صديقة لهن طول الوقت، لكني ظننت أنهن لا يردن صداقتي، لا بد أن الخطأ كان خطئي.
وكتبن في الدفتر، بعضهن كتب بخط صغير متزاحم، والبعض الآخر كتب بخط متفرق متعرج، ولكن الكتابة جميعا كانت معبرة عن خطوط أطفال، وقرأت فرانسي وهن يكتبن:
أتمنى لك حظا سعيدا، أتمنى لك السرور.
أتمنى لك أن تنجبي أول ما تنجبين صبيا.
وحين يبدأ شعره في التجعد.
أتمنى لك أن تنجبي بنتا.
فلورانس فيتز جيرالد
حين تتزوجين
ويتشاجر معك زوجك
ناوليه لكزة
واحصلي على الطلاق.
جيني لي
حين ينحسر ستار الظلمة عن الليل
ويبزغ النجم
تذكري أنني ما زلت صديقتك
بالرغم من بعدك البعيد.
نورين أوليري
وبحثت بياتريس ويليمز عن الصفحة الأخيرة، وكتبت فيها:
هنا في النهاية وبعيدا عن العيون
أوقع اسمي بدافع ملعون.
ووقعت: زميلتك الكاتبة بياتريس ويليمز. وقالت فرانسي بينها وبين نفسها، وهي لا تزال تشعر بالغيرة منها من أجل المسرحية: إنها كانت خليقة بأن تقول «زميلتك الكاتبة.»
وتخلصت منهن فرانسي أخيرا، وقالت لسيسي التي كانت تنتظرها بالخارج في الردهة: بقيت كلمة وداع واحدة فحسب.
واعترضت سيسي بروح طيبة: إنك تنفقين في سبيل التخرج أطول وقت.
وكانت الآنسة جاردنر تجلس إلى مكتبها في حجرتها القوية الإضاءة، وحيدة، لم تكن معلمة محبوبة، فلم يأت أحد بعد ليودعها، ورفعت بصرها في شغف حين دخلت فرانسي.
وقالت في سرور: إذن فقد جئت لتودعي معلمتك القديمة للغة الإنجليزية؟ - نعم يا سيدتي.
ولم تستطع الآنسة جاردنر أن تكتفي بذلك؛ إذ لم تستطع أن تخرج عن طبيعة المهنة، فقالت: أما عن درجتك فإنك لم تقدمي أعمالا في هذه الفترة الدراسية، كان ينبغي لي أن أجعلك ترسبين، ولكني قررت في اللحظة الأخيرة أن أنجحك حتى تتخرجي مع زميلات فصلك.
وانتظرت، ولم تقل فرانسي شيئا، فقالت: حسنا! ألا تشكرينني على ذلك ؟ - أشكرك يا آنسة جاردنر. - أتذكرين حديثنا القصير؟ - نعم يا سيدتي. - لماذا إذن عاندت وتوقفت عن تقديم أعمالك؟
ولم تجد فرانسي ما تقوله، فقد كان شيئا لا تستطيع أن تشرحه للآنسة جاردنر، ومدت يدها قائلة: وداعا يا آنسة جاردنر.
وأسقط في يد الآنسة جاردنر، وقالت: حسنا! وداعا إذن.
وتصافحتا بالأيدي، وقالت الآنسة جاردنر: سوف تعرفين في حينه أنني كنت على صواب.
ولم ترد فرانسي، وسألتها الآنسة جاردنر في حدة: أليس كذلك؟ - نعم يا سيدتي.
وخرجت فرانسي من الحجرة، إنها لم تعد تكره الآنسة جاردنر، ولم تعد تحبها، ولكنها شعرت بالأسف من أجلها، فلم يكن لديها شيء في العالم سوى التوكيد بأنها كانت على صواب.
وكان السيد جينسون يقف على سلم المدرسة، ويأخذ يد كل طفلة في يديه الاثنتين، ويقول: «وداعا، باركك الله!» وزاد بعض كلمات خاصة وجهها إلى فرانسي: «كوني فتاة طيبة، وجدي في العمل واذكري فضل مدرستك عليك.» ووعدت فرانسي بأن تفعل.
وقالت سيسي في طريق العودة إلى البيت: اسمعي! فلتخفي عن أمك اسم من بعث إليك بالزهور؛ فإن ذلك سيثير أشجانها، وقد أوشكت أن تعود إلى حالتها الطبيعية بعد ولادة لوري، واتفقتا على أن تقولا إن سيسي هي التي اشترت الزهور، وخلعت فرانسي البطاقة ووضعتها في صندوق أقلامها.
وقالت الأم حين سمعت الكذبة: سيسي! ما كان ينبغي لك أن تنفقي مالك.
ولكن فرانسي استطاعت أن تستبين أن أمها سرت بالزهور.
وأعجب الجميع بالشهادتين، واتفقوا على أن شهادة فرانسي كانت أجملها من أجل خط السيد جينسون الجميل، وقالت كاتي: إنها أول شهادتين في أسرة نولان.
وقالت سيسي: ولكن أرجو ألا تكونا الأخيرتين.
وقالت إيفي: سوف أسعى لكي يحصل كل من أطفالي على ثلاث شهادات: الإعدادية والثانوية والجامعة.
وقالت سيسي: سوف تكون لأسرتنا بعد خمسة وعشرين عاما مجموعة من الشهادات تبلغ هذا الارتفاع.
ووقفت على أطراف أصابعها، وقاست ست أقدام من الأرض.
وفحصت الأم البطاقات التي تشتمل على التقارير للمرة الأخيرة، ورأت أن نيلي حصل على درجة جيد في السلوك، ومثلها في الرياضة البدنية، ثم حصل على درجة متوسط في المواد الأخرى كلها، وقالت الأم : هذا ابن مجتهد.
وأغفلت الأم المواد التي حصلت فيها فرانسي على درجة ممتاز، وركزت انتباهها على المادة التي نالت درجة تحت المتوسط. - فرانسي! إني مندهشة، كيف حدث ذلك؟ - أمي! أنا لا أريد أن أتحدث في هذا الأمر. - وفي اللغة الإنجليزية أيضا، مادتك المفضلة؟
واحتد صوت فرانسي وهي ترد: أمي! لا أريد أن أتحدث في هذا الأمر.
وشرحت كاتي لأختيها ما ترمي إليه قائلة: لقد كانت تكتب دائما أحسن موضوعات الإنشاء في المدرسة.
وصاحت فرانسي بما يشبه الصراخ: أمي!
وأمرتها سيسي في حدة: كاتي! كفى عن ذلك.
وأذعنت كاتي وقد تنبهت فجأة إلى أنها كانت تلح على فرانسي في السؤال، وخجلت من نفسها قائلة: ليكن.
وغيرت إيفي مجرى الحديث، فسألت: هل سنحظى بتلك الحفلة أولا؟
وقالت كاتي: إنني ألبس قبعتي.
وبقيت سيسي مع لوري في حين ذهبت إيفي والأم والخريجات للاحتفال بتلك المناسبة في صالة شيفلي للمثلجات، وكانت صالة شيفلي مزدحمة بحفلات الخريجين، وأحضر الصبية معهم شهاداتهم، وأحضرت البنات باقات زهورهن، وكان يجلس إلى كل مائدة أم أو أب أو كلاهما في بعض الأحيان، ووجدت عائلة نولان منضدة خاوية في نهاية الحجرة.
وكان المكان يموج بالأطفال الصائحين والآباء الفرحين والخدم المندفعين، وبعض الأطفال في الثالثة عشرة من عمرهم، وقليل في الخامسة عشرة، لكن أغلبهم في عمر فرانسي، أي في الرابعة عشرة، ومعظم الصبية من زملاء نيلي في الفصل، وأنفق نيلي وقتا كبيرا وهو يصيح محييا إياهم عبر الحجرة، ولم تكد فرانسي تعرف البنات، لكنها بالرغم من ذلك ظلت تلوح وتصيح لهن في مرح وغبطة، كأنما كانت صديقة حميمة لهن منذ سنين.
وكانت فرانسي فخورا بأمها، وقد رأت الأمهات الأخريات بشعرهن الأشيب، ومعظمهن ممتلئات الجسم، حتى إن أردافهن تنحدر على حوافي الكراسي، أما أمها فكانت رشيقة القوام، ولم يبد على الإطلاق أنها تستقبل عامها الثالث والثلاثين، ببشرتها الناعمة الصافية وشعرها الأسود المجعد كشأنه دائما.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إذا ارتدت أمي ثوبا أبيض وحملت باقة من الزهور بين ذراعيها، فسوف تشبه خريجة من الفتيات في الرابعة عشرة من عمرها، فيما عدا ذلك الخط بين عينيها الذي زاد عمقا منذ وفاة أبي.
وأمروا النادل بإحضار المثلجات، وكانت فرانسي تحتفظ في ذهنها بقائمة من كل مشروبات الصودا المحلاة، وأخذت تستعرض القائمة كأنها ذاقت كل ألوان الصودا التي في العالم، وكان الأناناس هو النوع التالي فطلبته، وطلب نيلي مشروبه القديم المفضل الشوكولاتة بالصودا، واختارت كاتي وإيفي الكريمة المثلجة البسيطة المطيبة بالفانيليا.
وأخذت إيفي تتندر بزبائن الصالة في قصص قصيرة؛ مما حمل فرانسي ونيلي على الضحك طول الوقت، وكانت فرانسي ترنو إلى أمها من حين إلى حين، ولم تر أمها تضحك على فكاهات إيفي، وإنما كانت تتناول الكريمة المثلجة على مهل، والخط الذي بين عينيها يزداد عمقا، وعلمت فرانسي أن أمها تفكر في شيء.
وكانت كاتي تقول بينها وبين نفسها: لقد حصل طفلاي على حظ من التعليم، وهما في الثالثة عشرة والرابعة عشرة، أكثر مما حصلت عليه أنا في الثانية والثلاثين، ولكن ليس ذلك كافيا، وإني حين أذكر كيف كنت جاهلة وأنا في مثل سنهما بل وأنا زوجة وأم، كيف كنت أومن بتعاويذ الساحرة، ثم ما كان من حديث القابلة إلي عن المرأة التي كانت في سوق السمك أشعر بالفارق الكبير بيني وبينهما، لقد سبقاني منذ نقطة البداية ولم يكونا قط في جهلي، إنني سعيت إلى أن يتخرجا في المدرسة الابتدائية، ولست أستطيع أن أقدم لهما أكثر من ذلك، وإن كل ما دبرت جميعا لكي يصبح نيلي طبيبا وتلتحق فرانسي بالجامعة لا يمكن تحقيقه الآن، أما عن الطفلة ... ترى هل يكفيهما ما حصلاه للمضي في الحياة وحدهما؟ لست أدري، لقد قرآ آثار شكسبير ... والإنجيل ... وتعلما العزف على البيانو، ولكنهما توقفا عن التمرن الآن، ولقد علمتهما النظافة والصدق وألا يقبلا الصدقة، ولكن ترى هل في ذلك الكفاية؟ - سوف يكون لهما سريعا رئيس يجب عليهما إرضاؤه، وسوف يتعاملان مع أناس جدد، ويسلكان في حياتهما سبلا أخرى، ترى أتكون سبلا إلى الخير أم إلى الشر؟ إنهما لن يجلسا في الليل معي بالبيت إذا كان يشتغلان طول اليوم، سوف ينطلق نيلي مع أصدقائه، أما فرانسي ... ترى ماذا تفعل؟ أتقرأ؟ أم تمضي إلى المكتبة؟ أم إلى المسرح؟ إم إلى سماع محاضرة عامة؟ أم حضور حفلة موسيقية؟ وسوف تكون الطفلة معي بلا شك، أجل الطفلة! وسوف تحظى ببداية أفضل، وقد يرعيانها حين تتخرج طول فترة دراستها بالمدرسة الثانوية، يجب علي أن أهيئ للوري حياة أفضل مما هيأته لهما، فلم يتوافر لهما قط ما يكفيهما من الطعام أو الملابس، لقد كنت أبذل كل ما في طاقتي لكنه كان دون الكفاية، وهما الآن مضطران إلى الخروج للعمل مع أنهما طفلان صغيران. آه لو كنت أستطيع أن أدخلهما المدرسة الثانوية هذا الخريف فحسب! رباه! إني سوف أبذل من عمري عشرين عاما، أشتغل بالليل وبالنهار، ولكني لا أستطيع بلا شك؛ إذ ليس لي أحد يبقى مع الطفلة.
وقطعت سلسلة أفكارها موجة من الغناء اجتاحت الحجرة، وبدأ أحدهم يغني أغنية شائعة من الأغاني المناهضة للحرب، وردد الآخرون الغناء:
إني لم أنشئ ابني ليكون جنديا،
بل ربيته ليكون موضع فخري وسعادتي.
واستأنفت كاتي أفكارها في دخيلة نفسها: ما من أحد يبذل لنا يد العون! ما من أحد.
وفكرت لحظة في الشاويش ماكشين، وكان قد أرسل سلة كبيرة من الفاكهة حين ولدت لوري، كانت كاتي تعلم أنه سيعتزل خدمة الشرطة في سبتمبر؛ لأنه سيرشح نفسه في الانتخابات التالية عن كوينز؛ دائرته الانتخابية التي يسكن فيها، والجميع على يقين من أنه سيفوز، وكاتي سمعت أن زوجته مريضة جدا، وأنها قد لا تعيش إلى اليوم الذي ينتخب فيه زوجها.
وقالت كاتي بينها وبين نفسها: إنه سوف يتزوج مرة أخرى بلا شك، وإن المرأة التي تعرف كل شيء عن الحياة الاجتماعية، سوف تساعده على نحو ما ينبغي أن تكون عليه زوجة الرجل السياسي.
وحملقت في يديها اللتين أبلاهما العمل وقتا طويلا، ثم وضعتهما تحت المائدة كأنها كانت تشعر بالخجل منهما.
وخمنت فرانسي ما يدور في نفس أمها، وتذكرت كيف لبست أمها قفازها القطني في تلك الرحلة منذ عهد بعيد حين نظر ماكشين إليها، وقالت بينها وبين نفسها: إنها تفكر في الشاويش ماكشين، فهو يحبها، ترى هل تعرف ذلك؟ لا بد أنها تعرف، يبدو أنها تعرف كل شيء، وإني لأراهن بأنها تستطيع أن تتزوجه إذا أرادت، ولكن يجب عليه ألا يظن أنني سأقول له يا أبي، فلقد مات أبي، وسواء تزوجت أمي هذا أم ذاك، فإنه لن يكون بالنسبة لي سوى السيد فلان.
وكانوا ينشدون الجزء الأخير من الأغنية:
لن تكون هناك حروب هذه الأيام،
لو أن الأمهات جميعا قلن:
إننا لن ننشئ أبناءنا ليكونوا جنودا.
وقالت كاتي بينها وبين نفسها: إن نيلي في الثالثة عشرة، فإذا ما نشبت الحرب هنا، فسوف تنتهي قبل أن يبلغ سن التجنيد؛ أحمدك يا رب.
وكانت الخالة إيفي تغني لهما في صوت عذب، وهي تحاكي كلمات الأغنية في سخرية: من ذا الذي يجرؤ أن يضع شاربا على كتفه.
وقالت فرانسي وقد انفجرت هي ونيلي ضاحكين: إنك فظيعة يا خالة إيفي!
وخرجت كاتي من أفكارها وتطلعت إليهم وابتسمت، ثم وضع النادل ورقة الحساب على المائدة، وصمت الجميع يراقبون كاتي، وقالت إيفي بينها وبين نفسها: إني أود ألا تبلغ من البلاهة ما يدفعها إلى أن تنفح النادل حلوانا.
وقال نيلي بينه وبين نفسه: هل تعلم أمي أنه يجب عيلها أن تنفحه بخمسة سنتات، إني أود ذلك.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إن ما تفعله أمي أيا كان سوف يكون صوابا.
ولم تكن هناك عادة بنفح النادل في محال بيع المثلجات إلا في الحفلات الخاصة، حيث ينتظر منك أن تنفح النادل بخمسة سنتات، ورأت كاتي أن الحساب ثلاثون سنتا، ومعها في كيسها العتيق قطعة واحدة من ذات الخمسين سنتا، وضعتها على ورقة الحساب، وأخذها النادل وأعاد أربع قطع من فئة البنسات الخمس، وضعها متراصة في صف، وأخذ يحوم بالقرب من المائدة، منتظرا أن تلتقط كاتي ثلاثة منها، ونظرت كاتي إلى القطع الأربع وقالت بينها وبين نفسها: أربعة أرغفة من الخبز.
وكانت ثماني عيون ترقب يد كاتي، ولم تتردد كاتي قط حين وضعت يدها على النقود، ودفعت بيد ثابتة القطع الأربع إلى النادل، وقالت في عظمة: دع باقي الحساب لك.
وبذلت فرانسي ما في وسعها حتى لا تقف على كرسيها وتهتف محيية، وظلت تقول بينها وبين نفسها: إن أمي عظيمة الشأن.
واختطف النادل الحلوان في سعادة، واندفع ماضيا إلى شأنه.
وقال نيلي متوجعا: ثمن شرابين من الصودا.
واعترضت إيفي: كاتي! كاتي! ما أحمقك! أراهن أنها آخر ما معك من النقود. - نعم إنها آخر ما عندي، ولكنها قد تكون آخر حفلة تخرج لنا أيضا.
وقالت فرانسي مدافعة عن أمها: سوف يدفع ماكجريتي لنا غدا أربعة دولارات.
وأضاف نيلي: ثم هو يستغني عنا غدا أيضا.
واختتمت إيفي قائلة: ولن تتوافر لكم نقود بعد هذه الدولارات الأربعة حتى يحصل الطفلان على العمل.
وقالت كاتي: إنني لا أعبأ بذلك، لقد وددت أن نشعر مرة واحدة كأننا من أصحاب الملايين، وإذا كانت عشرون سنتا خليقة بأن تمنحنا هذا الشعور فإنها لثمن بخس.
وتذكرت إيفي كيف كانت كاتي تدع فرانسي تسكب قهوتها في البالوعة ولم تقل شيئا آخر، كانت هناك أشياء كثيرة لا تفهمها في أختها.
وبدأت الحفلة تنفض، وجاء إلى مائدتهم ألبي سيدمور، وهو غليظ الساقين وابن بقال غني، وسأل فرانسي في نفس واحد: أتأتين معي يا فرانسي إلى السينما غدا؟
وأضاف بسرعة: أنا الذي سأدفع. (وكانت دار السينما تسمح للخريجين بأن يشاهدوا العرض في حفلة يوم السبت الصباحية نظير خمسة سنتات للشخصين، على شرط أن يحضرا معهما شهادة تدل على تخرجهما.)
ونظرت فرانسي إلى أمها، وأطرقت الأم معلنة عن موافقتها.
ووافقت فرانسي قائلة: أجل يا ألبي بكل تأكيد. - سآراك غدا الساعة الثانية.
وأسرع ماضيا، وقالت إيفي: إنه موعدك الأول، تمني أمنية.
ورفعت إصبعها الصغيرة وثنتها، وشبكت فرانسي إصبعها الصغيرة في إصبع خالتها إيفي.
وتمنت فرانسي أمنيتها قائلة: إني لأتمنى أن يتاح لي دائما أن أرتدي ثوبا أبيض، وأحمل زهورا حمراء وأن نستطيع دائما أن نبعثر المال من حولنا على نحو ما فعلنا الليلة.
الباب الرابع
43
قالت رئيسة العمل لفرانسي: لقد فهمت الفكرة الآن، سوف تصبحين صانعة ماهرة لسيقان الزهور في حينه.
ومضت لشأنها، وانصرفت فرانسي إلى عملها، وكانت تلك هي الساعة الأولى في أول يوم تسلمت فيه عملها الأول.
والتقطت يدها اليسرى، وفقا لإرشادات الرئيسة، سلكا لامعا طوله قدم، والتقطت يدها اليمنى في الوقت نفسه شريطا رقيقا من الورق الأخضر الداكن، ولمست طرف الشريط بإسفنجة مبللة، ثم لفت الورقة حول السلك مستخدمة إبهامها وسبابتيها كآلة من آلات اللف، ووضعت السلك المغطى بالورق جانبا فقد أصبح الآن ساقا.
وكان مارك، وهو صبي تعلو وجهه البثور، يخدم الجميع ويوزع السيقان بين آن وآن على «صانعي أكمام الزهور»، الذين يشكلون بالسلك أكمام ورود من الورق، وثمة فتاة أخرى تشبك كما تحت الوردة، ثم تناولها إلى «صانع أوراق الزهور» الذي يستل من كوم من أوراق الشجر وحدة، تتكون من ثلاث أوراق ملساء داكنة اللون تتصل بساق قصيرة، ويسلك الوحدة في الساق، ثم يناول الوردة إلى العامل الذي يتم الصنعة، فيلف شريطا من الورق الأخضر الأكثر سمكا حول الكم والساق، وتصبح الساق والكم والوردة والأوراق زهرة واحدة، وتبدو كأنها نمت على ذلك النحو.
وشعرت فرانسي بألم في ظهرها يمتد إلى كتفها، وظنت أنها لا بد قد لفت ألف ساق، ولا شك أن موعد الغداء كان قد حل، واستدارت لتنظر إلى الساعة، فوجدت أنها لم تشتغل سوى ساعة واحدة!
وقالت فتاة باستهزاء: راصدة الساعة.
ورفعت فرانسي بصرها مرتاعة، ولكنها لم تقل شيئا.
واتخذت فرانسي لنفسها نهجا منتظما في العمل، فبدا أكثر سهولة، فإذا قالت «واحد» وضعت السلك المغطى جانبا ... وإذا قالت «واحد ونصف» التقطت السلك الجديد وشريطا من الورق، وإذا قالت «اثنين» بللت الورقة ثم تقول ثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة، وهنالك تتم تغطية السلك، وأصبح هذا النهج المنتظم غريزة ثانية فيها، فلم تعد بحاجة إلى العد أو تركيز انتباهها، وارتخت عضلات ظهرها، ولم تعد تشعر بالألم في كتفها، لقد تحرر عقلها فبدأت تفكر في الأمر، قالت بينها وبين نفسها: إن هذا يمكن أن يستغرق حياة بأكملها، أنت تشتغلين ثماني ساعات في اليوم تغطين الأسلاك، لتحصلي على مال تشترين به الطعام وتدفعي إيجار مكان تنامين فيه، حتى تقيمي أودك لتعودي مرة أخرى تغطين المزيد من الأسلاك، لقد ولد بعض الناس وعاشوا حياتهم لمجرد أن ينتهي بهم الأمر إلى هذه الحال، وسوف تتزوج بعض هؤلاء الفتيات بلا شك، يتزوجن رجالا يعيشون نفس هذه الحياة، ترى ماذا يجنين من ذلك؟ سوف يظفرن بشخص يبادلهن الحديث في ساعات الليل القليلة بين العمل والنوم.
ولكنها كانت تعلم أن هذا المكسب لن يبقى طويلا، ولقد رأت كثيرا جدا من الأزواج وزوجاتهم من العمال، لا يتبادلون الحديث إلا نادرا بعد أن أنجبوا الأطفال وتراكمت عليهم الديون، فإذا تحدثوا كان حديثهم مشاحنة مريرة، وقالت بينها وبين نفسها: هؤلاء الناس واقعون في أحبولة! لماذا؟ لأنهم ... (وتذكرت آراء جدتها المتكررة) لأنهم لم ينالوا التعليم الكافي.
وسرى الخوف في نفس فرانسي، ربما لا تستطيع أبدا أن تدخل المدرسة الثانوية، وربما لا تحصل أبدا على حظ من التعليم أكثر مما حصلت عليه حتى هذه اللحظة، وربما انصرفت حياتها كلها إلى تغطية الأسلاك ... تغطية الأسلاك ... واحد - واحد ونصف - اثنين - ثلاثة - أربعة - خمسة - ستة - سبعة - ثمانية - تسعة - عشرة.
واستولى عليها ذلك الفزع الغامض المعهود الذي أحست به، حين رأت وهي طفلة في الحادية عشرة الرجل المسن في مخبز لوشر بقدمه البشعة، وزادت سرعتها المنتظمة بعد أن استبد بها الفزع، حتى إنها اضطرت إلى تركيز انتباهها في العمل، فلم تجد فسحة للتفكير.
وقال العامل الذي يتم «الصنعة» في استهتار: هذه عاملة جديدة.
وقال صانع الأكمام: تحاول أن تنجح مع الرئيسة.
وما لبثت السرعة الجديدة أن أصبحت آلية، فانطلق عقل فرانسي مرة أخرى من عقاله، وأخذت ترقب خلسة الفتيات الجالسات إلى المائدة الطويلة، وكان عددهن يبلغ اثنتي عشرة فتاة بين بولنديات وإيطاليات، وأصغرهن تبدو في السادسة عشرة، وأكبرهن في الثلاثين، لكنهن جميعا كن مكتئبات قانطات، يرتدين جميعا الملابس السوداء دون سبب مفهوم، وقد وضح أنهن لا يقفن على مبلغ تنافر اللون الأسود مع البشرة الداكنة، وكانت فرانسي هي الفتاة الوحيدة التي ترتدي ثوبا من القماش القطني المبرقش، وشعرت كأنها طفلة بلهاء، ولحظت نظراتها السريعة عيون العاملات الحادة، فعمدن إلى الثأر منها بأسلوبهن الغريب في التأديب والانتقام، وبدأت الهجوم الفتاة التي تجلس إلى رأس المائدة، معلنة: إن بين الجالسات إلى هذه المائدة فتاة وجهها قذر.
وأجابت الفتيات الأخريات واحدة بعد الأخرى: «لست أنا.» ولما جاء دور فرانسي توقفت الفتيات عن العمل منتظرات، ولكن فرانسي لم تعرف ماذا تقول، فلاذت بالصمت، وأردفت رئيسة الحلقة: إن الفتاة الجديدة لا تقول شيئا، فهي إذن صاحبة الوجه القذر، وشعرت فرانسي بالحرارة تصعد إلى وجهها، ولكنها أخذت تشتغل بمزيد من السرعة، وودت لو أنهن تركن هذه اللعبة كلها.
وبدأت اللعبة مرة أخرى: «هنا فتاة رقبتها قذرة.» وأجابت الفتيات كل بدورها: «لست أنا.» ولما جاء دور فرانسي قالت هي أيضا: «لست أنا.»، ولكنها بدلا من أن ترضيهن، زودتهن بمادة جديدة للتندر: إن الفتاة الجديدة تقول إن رقبتها ليست قذرة. - هي التي تقول! - كيف تعلم ذلك؟ هل تستطيع أن ترى رقبتها؟ - هل تعترف أن رقبتها قذرة؟
وتحيرت فرانسي «إنهن يردن مني أن أفعل شيئا، ولكن أي شيء؟ أيردن مني أن أخرج عن وعيي وأسبهن؟ أيردن مني أن أطلق هذه الوظيفة؟ أم يردن رؤيتي وأنا أبكي على نحو ما فعلت تلك الفتاة الصغيرة منذ زمن بعيد، حين راقبتها وهي تنظف مساحات السبورة؟ أيا كان ما يردن فإنني لن أفعله!» وحنت رأسها على الأسلاك، وزادت من سرعة أصابعها.
ودارت تلك اللعبة المملة طول الصباح، ولم تكن تتخلل ذلك هدنة إلا حين يدخل الصبي مارك الذي يخدم الجميع، فيتركن فرانسي فترة ليسخرن من الصبي، وحذرنها قائلات: إن الفتاة الجديدة تتطلع إلى مارك، لقد قبض عليه مرتين؛ الأولى كان متهما باغتصاب البنات، والثانية بتجارة الرقيق الأبيض.
وكانت الفتيات بذلك الاتهام يتهكمن بمارك تهكما مبتذلا ؛ لأنه كان مخنثا على نحو واضح جلي، ورأت فرانسي حمرة الخجل الشديد الذي يعلو وجه الصبي البائس عند كل لمزة تصيبه منهن، وشعرت بالأسف من أجله.
ومرت فترة الصباح بتثاقل، ودق ناقوس معلنا عن فترة الغداء، في الوقت الذي أحست فيه فرانسي أن الصباح لن ينتهي أبدا، وتركت الفتيات عملهن وجذبن أكياس الورق التي تحتوي على الغذاء، ونشرن الأكياس ليصنعن منها مفرشا للمائدة، ثم بسطن شطائرهن المحلاة بالبصل وبدأن يأكلن، ورأت فرانسي أن يديها ساخنتان لزجتان، فأرادت أن تغسلهما قبل أن تأكل، فسألت جارتها عن موقع المغسل، وأجابت الفتاة في لغة ركيكة مبالغ فيها: أنا لا أتكلم الإنجليزية.
وقالت فتاة أخرى كانت تلمز فرانسي طول فترة الصباح بلغة إنجليزية متقعرة: إنها لا تعي ولا تفهم.
وسألت فتاة بدينة: وما المغسل؟
وأجابت فتاة مازحة: إنها الحجرة التي يصنعون فيها الغسالات.
وكان مارك يجمع الصناديق، فوقف في ممر الباب وذراعاه محملتان، يحرك تفاحة آدم في رقبته مرتين صاعدة هابطة، وسمعته فرانسي يتكلم لأول مرة، وأعلن مارك في تأثر: لقد مات يسوع المسيح من جراء أمثالكن، وأنتن الآن ترفضن أن ترشدن فتاة جديدة إلى موقع الحمام؟
وحملقت فرانسي مندهشة، ثم لم تستطع أن تقاوم رغبتها في الضحك، فقد رنت كلماته مضحكة غاية الإضحاك، فانفجرت ضاحكة، وازدرد مارك ريقه واستدار واختفى هابطا إلى البهو، ثم تغير كل شيء حينئذ، وسرت همهمة حول المائدة. - لقد ضحكت! - هاي! الفتاة الجديدة ضحكت! - ضحكت!
وتأبطت فتاة إيطالية صغيرة ذراع فرانسي، وقالت: هيا أيتها الصغيرة الجديدة، سأرشدك إلى الحمام.
ولما ذهبا إلى الحمام فتحت الفتاة صنبور الماء لفرانسي، وضربت على وعاء الصابون السائل الزجاجي، وأخذت تحوم حول فرانسي في حدب وهي تغسل يديها، ولما أوشكت فرانسي أن تجفف يديها في المنشفة الناصعة البياض، التي بدا واضحا أنها لم تستعمل، خطفتها مرشدتها منها: لا تستعملي هذه المنشفة أيتها الفتاة الجديدة. - لماذا؟ إنها تبدو نظيفة. - إنها خطرة ، فإن بعض الفتيات العاملات هنا مريضات بمرض خبيث سري، وسوف تنتقل إليك عدواه إذا استعملت هذه المنشفة. - ما أفعل؟
ولوحت فرانسي بيديها المبللتين. - استعملي قميصك كما نفعل.
وجففت فرانسي يديها في قميصها، وهي ترقب المنشفة المميتة في فزع.
ووجدت فرانسي - حين عادت إلى حجرة العمل - أن الفتيات قد بسطن كيسها من الورق، ووضعن عليه شطيرتي لحم «البولوني» اللتين أعدتهما لها أمها، ورأت فتاة صغيرة قد وضعت على ورقتها ثمرة طماطم طيبة حمراء، ورحبت الفتيات بعودتها باسمات، وأخرجت الفتاة التي تزعمت الغمز واللمز طول الصباح زجاجة من الويسكي، وعبت منها جرعة كبيرة، ثم ناولتها لفرانسي، وأمرتها قائلة: اشربي كأسا أيتها الفتاة الجديدة، إن هذه الشطائر تكون جافة إذا ما نزلت إلى المعدة وحدها.
وتراجعت فرانسي إلى الوراء، وأمسكت عن الشراب بسرعة. - هيا اشربي! إنه ليس إلا شايا باردا!
وفكرت فرانسي في منشفة الحمام، وهزت رأسها مؤكدة: «لا»، وصرخت الفتاة قائلة: آه! أنا أعلم سبب امتناعك عن الشرب من زجاجتي، فقد بعثت أناستاسيا الرعب في قلبك في الحمام، لا تصدقيها أيتها الفتاة الجديدة، لقد أطلقت الرئيسة نفسها ذلك الحديث عن المرض السري الخبيث حتى لا نستعمل المناشف، فتقتصد على هذا النحو دولارين كل أسبوع من نفقات الغسل.
وقالت أناستاسيا: هه! إني لا أرى فتاة منكن تستعمل المنشفة. - تبا لك، ليس لدينا إلا نصف ساعة فحسب للغداء، أين من تضيع منا وقتا في غسل يديها؟ اشربي أيتها الفتاة الجديدة.
وعبت فرانسي جرعة كبيرة من الزجاجة، وكان الشاي البارد قويا منعشا، فشكرت الفتاة، ثم أرادت أن تشكر تلك التي أعطتها ثمرة الطماطم، وأنكرت على الفور كل فتاة بدورها أنها هي التي أعطتها الثمرة. - عم تتكلم؟ - أي طماطم؟ - إني لا أرى أي طماطم. - لقد أحضرت الفتاة الجديدة ثمرة طماطم للغداء ولم تتذكرها.
وهكذا أخذن يعاكسنها، ولكن المعاكسة الآن كان فيها شيء من دفء الألفة والصداقة، واستمتعت فرانسي بفترة الغداء، وسرت إذ اكتشفت ما كن يردنه منها، وكان كل ما يردن منها هو أن تضحك، ويا له من أمر يسير، ولكن اكتشافه كان أمرا عسيرا.
ومرت ساعات اليوم الباقية على نحو بهيج، وأنبأت الفتيات فرانسي بألا تقتل نفسها في العمل، فهو عمل موسمي، وسوف يفصلن جميعا حين تعد طلبات الاستخدام في الخريف، وكلما أسرعوا في الانتهاء من إعداد الطلبات كان فصلهن أسرع، وسرت فرانسي لاستحواذها على ثقة هؤلاء العاملات الأكبر سنا والأكثر خبرة، فأبطأت في عملها راضية، وأخذن يلقين الفكاهات طول فترة العصر، وضحكت فرانسي منها جميعا، سواء كانت مضحكة حقا أم مجرد كلمات نابية قذرة، وأنبها ضميرها بعض الشيء حين شاركت الفتيات الأخريات في تعذيب مارك الشهيد، الذي لم يكن يعلم أنه إذا ضحك مرة واحدة فحسب، فإن متاعبه في المحل خليقة بأن تزول.
ووقفت فرانسي بضع دقائق قليلة من ظهر يوم السبت، تنتظر نيلي على رصيف محطة شارع فلاشينج لقطار برودواي المعلق، وهي تحمل مظروفا يحتوي على خمسة دولارات هي أول أجر أسبوعي تقاضته، وكان نيلي يحمل إلى البيت أيضا خمسة دولارات، وقد اتفقا على أن يصلا إلى البيت معا، ويحتفلا احتفالا بسيطا بإعطاء المال لأمهما.
وكان نيلي يعمل صبيا مخابرا في محل نيويورك للسمسرة في قلب المدينة، وحصل له على هذا العمل زوج سيسي جون بفضل صديق له كان يعمل هناك من قبل، وحسدت فرانسي نيلي؛ لأنه كان يعبر جسر ويليمسبرج العظيم كل يوم، ويذهب إلى المدينة الكبيرة العجيبة، على حين كانت فرانسي تسير إلى عملها في الجانب الشمالي من بروكلين، وكان نيلي يأكل في المطعم، وقد حمل معه غذاءه أول يوم، شأنه شأن فرانسي، ولكن الصبية سخروا منه منادين إياه بالصبي الريفي الخارج من بروكلين، فأعطته أمه من بعد خمسة عشر سنتا لذلك كل يوم، وروى نيلي لفرانسي كيف كان يأكل في مطعم يدعى المطعم الآلي، فيضع خمسة سنتات في فتحة، فتخرج القهوة والكريمة معا بنسب مضبوطة، لا تزيد ولا تنقص وتملأ القدح عن آخره، وودت فرانسي أن تركب مخترقة «الكوبري» لتعمل وتأكل في المطعم الآلي، بدلا من حمل الفطائر معها من البيت.
وهبط نيلي جريا على درجات محطة القطار المعلق، يحمل لفة مستوية تحت ذراعيه ، ولاحظت فرانسي كيف أنه يهبط بقدمه بزاوية حتى تطأ قدمه كلها الدرجة لا كعبه فحسب؛ مما جعل خطواته ثابتة وثيقة، وكان أبوها يهبط السلم على هذا النحو دائما، ولم يخبر نيلي فرانسي بما في اللفة قائلا إن ذلك خليق بأن يفسد المفاجأة، ووقفا عند مصرف الحي الذي أوشك أن يغلق أبوابه منتهيا من عمل اليوم، وطلبا من أحد الموظفين أن يستبدل لهما أوراقا مالية جديدة من فئة الدولار بأوراقهما القديمة، وسألهما الموظف: لم تريدان الأوراق الجديدة؟
وشرحت له فرانسي الأمر قائلة: إنه أول أجر لنا، ونود أن نحمله إلى البيت أوراقا مالية جديدة.
وقال الموظف: أول أجر؟ إن ذلك يعود بي إلى الماضي، نعم إنه يعود بي إلى الماضي بلا شك، وإني لأذكر ذلك الوقت الذي حملت فيه أجري الأول إلى البيت، وكنت صبيا آنئذ، أعمل في مزرعة بمانهاست في لونج أيلاند ... ثم يا سيدي ...
ومضى يروي نبذة عن سيرته، وماج الناس الواقفون في الصف؛ إذ فقدوا صبرهم، واختتم حديثه قائلا: ولما ناولت أجري الأول إلى أمي حارت الدموع في عينيها، نعم يا سيدي حارت الدموع في عينيها.
وفض الغلاف عن رزمة من الأوراق الجديدة، واستبدل لهما أوراقا جديدة بأخرى قديمة، ثم قال: وهذه هدية لكما.
وأعطى لكل منهما بنسا حديث السك، يشبه الذهب، أخذه من الخزانة.
وأوضح قائلا: إنها بنسات سنة 1916م الجديدة، أول بنسات في الحي، لا تنفقاها الآن وادخراها.
وتناول من جيبه بنسين نحاسيين قديمين ووضعهما في الخزانة بدلا منهما، وشكرته فرانسي، وبينما هما يبتعدان سمعت فرانسي الرجل التالي في الصف يقول، وهو يسند مرفقه إلى الرف: إني أذكر ذلك الوقت الذي حملت فيه أول أجر تناولته إلى البيت لأعطيه لأمي العجوز.
وتساءلت فرانسي وهما يخرجان: هل كان كل شخص في الصف خليقا بأن يروي قصة أول أجر تناوله، وقالت فرانسي: هناك شيء واحد يجمع بين كل العمال، هو أنهم يذكرون ذلك الوقت الذي حملوا فيه أجرهم الأول إلى البيت.
وقال نيلي موافقا: أجل.
وبينما هما يلتفان بمنعطف الشارع، قالت فرانسي متفكرة: حارت الدموع في عينيها؟
إنها لم تسمع هذا التعبير قط، لكنه استهواها، وسأل نيلي: كيف يكون ذلك؟ كيف تحار الدموع، والدموع ليس لها عقل؟ - إنه لا يعني ذلك، وإنما يعني ما يعنيه الناس بقولهم: «تحيروا في أمرهم طول اليوم.» - ولكن كلمة تحير لا تستعمل في هذا المعنى.
وأوضحت فرانسي قائلة: بل تستعمل، تستعمل هنا في بروكلين، إنهم يستعملون كلمة تحير بمعنى تلبث.
وقال نيلي موافقا: أظن أن هذا صحيح، هيا بنا نسر هابطين شارع مانهاتان بدلا من جراهام. - إن عندي فكرة يا نيلي، هيا بنا نصنع حصالة من علبة الصفيح دون أن نخبر أمنا ونثبتها بالمسامير في حجرة الكرار، ولنبدأ الادخار فيها بهذين البنسين الجديدين، وإذا ما أعطتنا أمنا أي مصروف، فسوف يضع كل منا عشرة سنتات كل أسبوع، ولسوف نفتحها في عيد الميلاد، ونشتري هدايا لأمنا ولوري.
واشترط نيلي قائلا: ولنا أيضا! - نعم، وسوف أشتري هدية لك، وأنت تشتري هدية لي، وسوف أنبئك بماذا أريد عندما يحين الأوان.
واتفقا على ذلك.
وسارا بنشاط وخفة يسبقان الأطفال الذين كانوا يتسكعون عائدين من محال بيع النفايات إلى بيوتهم، ونظرا صوب محل كارني وهما يمران بشارع سكولز، ولاحظا الحشد الواقف خارج محل تشارلي للبيع بأثمان رخيصة، وقال نيلي ساخرا وهو يصلصل ببعض النقود في جيوبه: أطفال! - أتذكر يا نيلي تلك الأيام التي ألفنا فيها الخروج من دارنا لبيع النفايات. - كان ذلك منذ زمن بعيد.
وقالت فرانسي موافقة: نعم.
وكان قد مضى في الحق أسبوعان منذ جرا آخر غنيمة لهما إلى محل كارني.
وقدم نيلي اللفة المستوية إلى أمه قائلا: هذه لك ولفرانسي.
وفكتها أمه فوجدت صندوقا يزن رطلا من الفول السوداني الهش من محل لوفت، وأشار نيلي في غموض: ثم إني لم أدفع ثمنه من أجري.
وتركا أمهما تخرج إلى حجرة النوم لحظة، وصفا الأوراق العشر الجديدة على المائدة صفا، صفا، ثم ناديا أمهما، وقالت فرانسي وهي تلوح بيدها في عظمة: إنها لك يا أمي.
وقالت الأم: يا لي، لا أكاد أصدق!
وقال نيلي: وليس هذا هو كل شيء.
وأخرج من جيبه ثمانين سنتا ووضعها على المائدة، وشرح الأمر قائلا: إنها النفحات التي منحتها جزاء إسراعي في إبلاغ الرسائل، لقد ادخرتها جميعا طوال الأسبوع، ولكني اشتريت الحلوى بما نلت من مزيد.
ودفعت الأم النقود على المائدة إلى نيلي، وقالت: احتفظ بالنفحات التي تنالها لمصروفك.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إنها كأبي سواء بسواء. - هاي! حسنا، سأعطي فرانسي ربع دولار منها. - لا.
وأخذت الأم قطعة من ذات الخمسين سنتا من القدح المشدوخ وأعطتها لفرانسي، وقالت: هذا هو مصروف فرانسي؛ خمسون سنتا في الأسبوع.
وسرت فرانسي، فقد كانت لا تتوقع أن تحصل على هذا القدر من المال لمصروفها، وأغرق الطفلان أمهما بآيات الشكر والحمد.
ونظرت كاتي إلى الحلوى والأوراق المالية الجديدة، ثم إلى طفليها، وعضت شفتها، واستدارت فجأة، ومضت إلى حجرة النوم وأغلقت الباب دونها.
وهمس نيلي قائلا: هل من سبب أثار عواطفها؟
وقالت فرانسي: لا، إنها ليست ثائرة، وإنما هي لا تريد أن نراها وهي تهم بالبكاء. - كيف تعلمين أنها تهم بالبكاء؟ - لأنها حين نظرت إلى النقود رأيت الدموع تحار في عينيها.
44
وكانت فرانسي قد اشتغلت أسبوعين حين حل موعد تسريحها، وتبادلت الفتيات النظرات حين راحت الرئيسة تبين لهن أن تسريحهن لن يستمر إلا أياما قليلة، وأجابت أناستاسيا على سؤال فرانسي: أياما قليلة تطول إلى ستة أشهر!
وبدأت الفتيات يذهبن إلى مصنع جرينبوينت الذي كان يحتاج إلى أيد عاملة؛ لسد طلبات الشتاء من صنع زهور بنت القنصل والباقات المباركة الصناعية، فإذا حل موعد تسريحهن من هناك مضين إلى مصنع آخر وهكذا، لقد كن عاملات بروكلين المهاجرات اللائي يتبعن مواسم العمل من جهة إلى أخرى.
وحثت الفتيات فرانسي على أن تمضي معهن، ولكن فرانسي كانت تريد أن تجرب عملا جديدا، وفكرت في أنها ما دامت مضطرة إلى العمل فلتجرب منه أنواعا مختلفة، بأن تغير عملها كلما سنحت لها الفرصة لذلك، فتستطيع أن تقول (كما يقال في الشراب) إنها خبرت كل نوع منه.
وقرأت كاتي إعلانا في جريدة «العالم» عن الحاجة إلى كاتب محفوظات مبتدئ في السادسة عشرة يدين بدين الولاية، واشترت فرانسي صفحة من الورق وغلافا ببنس، وكتبت في عناية طلبا وأرسلته إلى صندوق بريد صاحب الإعلان، واتفق رأيها مع رأي أمها في أن الناس يمكن أن يحسبوا في يسر أنها بلغت السادسة عشرة، بالرغم من أنها كانت في الرابعة عشرة فحسب، وبذلك كتبت في الطلب أنها في السادسة عشرة.
وتسلمت فرانسي بعد يومين ردا على طلبها في رسالة مثيرة، رسمت في قمتها صورة مقص وضع على صحيفة مطوية وإلى جوراها وعاء صمغ، وكانت الرسالة مبعوثة من مكتب نماذج القصاصات المأخوذة من الصحف بشارع القنال بنيويورك، يطلب من الآنسة نولان الحضور لمقابلة المسئولين.
فذهبت سيسي مع فرانسي لشراء حاجاتها، وساعدتها في شراء ثوب مما تلبسه الفتيات الكبيرات، وأول حذاء ذي كعب عال، ولما ارتدت فرانسي ملابسها الجديدة أقسمت أمها وسيسي أنها بدت في السادسة عشرة لولا شعرها، فقد جعلتها ضفائرها تبدو صغيرة جدا.
ورجت فرانسي أمها قائلة: أرجوك يا أمي، دعيني أقص شعري.
وقالت الأم: لقد انقضت أربعة عشر عاما في إنماء هذا الشعر، ولن أدعك تقصينه. - يا أماه إنك متخلفة عن الركب! - لم تريدين أن يكون شعرك قصيرا كشعر الصبي؟ - إن العناية به تكون أسهل. - العناية بالشعر ينبغي أن تكون متعة المرأة.
واعترضت سيسي قائلة: ولكن كل الفتيات يا كاتي يقصصن شعرهن في هذه الأيام. - إذن فهن حمقاوات؛ لأن سر المرأة يكمن في شعرها، فهي ترفعه في النهار بالدبابيس، ولكنها في الليل حين تصبح وحدها مع رجلها فإنها تنزع الدبابيس من شعرها، فيسترسل على كتفيها كثوب وضاء، فيجعل منها امرأة تخص بسحرها وسرها رجلا واحدا.
وقالت سيسي في خبث: إن القطط جميعا تبدو في الليل بلون واحد.
وقالت كاتي في شدة: إن تعليقاتك جميعا لا نصيب لها من الواقع.
وقالت فرانسي مصممة: إني خليقة بأن أبدو مثل إيرين كاسل لو قصصت شعري. - إنهم يحملون النساء اليهوديات على قص شعورهن حين يتزوجن حتى لا ينظر إليهن رجل آخر، وتقص الراهبات شعورهن ليثبتن أن علاقتهن بالرجال قد انتهت، فما الذي يحمل فتاة صغيرة على أن تقص شعرها حين لا يضطرها الأمر إلى ذلك؟
وكانت فرانسي على وشك أن ترد حين قالت أمها: انتهت المناقشة.
وقالت فرانسي: حسنا! ولكني حين أبلغ الثامنة عشرة سوف أكون سيدة نفسي، وحينئذ ترين ما أفعل. - حين تبلغين الثامنة عشرة فإنك تستطيعين أن تحلقي رأسك، وعندئذ لن يعنيني من الأمر شيء، ولكن الآن ...
ولفت ضفيرتي فرانسي الغزيرتين حول رأسها، وثبتتهما في مكانهما بدبابيس للشعر من العظم أخذتها من شعرها، وخطت إلى الوراء، وهي ترقب ابنتها معلنة على نحو تمثيلي: هكذا يكون الأمر، إنه يبدو كالتاج السني سواء بسواء.
وسلمت سيسي قائلة: إنه يجعلها تبدو في الثامنة عشرة على الأقل.
ونظرت فرانسي في المرآة، وسرت حين رأت أنها تبدو أكبر من سنها بكثير، بعد أن ثبتت لها أمها شعرها على هذا النحو، ولكنها لم تسلم بذلك وتعترف.
وقالت شاكية: سوف أصاب بالصداع طوال حياتي وأنا أحمل هذا الحمل من الشعر فوق رأسي أينما ذهبت.
وقالت الأم: سوف يحالفك الحظ إذا أصابك هذا كله بصداع طوال حياتك.
وسحب نيلي في الصباح التالي أخته إلى نيويورك، ولما سار القطار فوق جسر ويليمسبرج بعد أن غادر محطة شارع مارسي، لاحظت فرانسي أن كثيرا من الناس الجالسين في العربة نهضوا، ثم جلسوا مرة أخرى وكأنما بينهم اتفاق سابق. - لم يفعلون ذلك يا نيلي؟
وقال نيلي: هناك مصرف له ساعة كبيرة يظهر بمجرد بلوغ الجسر، فيقف الناس لينظروا إلى الساعة، حتى يتبينوا أبكروا في ذهابهم إلى العمل أم أبطئوا، إني أراهن بأن مليون شخص ينظرون إلى تلك الساعة كل يوم.
وكانت فرانسي قد توقعت أن تحس بنشوة عندما تركب فوق ذلك الجسر للمرة الأولى، ولكن نشوتها لم تبلغ نصف فرحتها بارتدائها ملابس الفتيات الكبيرات لأول مرة.
ولم تستغرق المقابلة إلا وقتا قصيرا، ثم عينت تحت الاختبار لتشتغل من الساعة التاسعة إلى الخامسة والنصف ، يتخلل ذلك نصف ساعة للغداء بأجر أولي قدره سبعة دولارات في الأسبوع، وأخذها الرئيس في دورة تفتيشية في أنحاء مكتب قصاصات الصحف.
وكانت القارئات العشر يجلسن إلى مكاتب منحدرة طويلة، وقد وزعت بينهن صحف الولايات جميعا، وكانت الصحف تنهمر على المكتب طوال ساعات النهار في كل مدن ولايات الاتحاد، وكانت الفتيات يؤشرن على كل الموضوعات التي بحثنها ويضعنها في الصناديق، ويسجلن مجموع ما قرأن وأرقامهن الخاصة بأعلى الصفحة الأمامية.
وتجمع الصحف المؤشر عليها وتحمل إلى فتاة الطباعة، التي تمسك بآلة يد للطباعة تحتوي جهازا لطبع التاريخ وضبطه وأمامها ترس من المربعات، فتضبط الفتاة تاريخ الصحيفة على آلتها، وتسقط المربع الذي يحتوي اسم الصحيفة والمدينة والولاية التي تصدرها، وتطبع عددا من قصاصات الورق مساويا لعدد الموضوعات المؤشر عليها.
ثم تحمل القصاصات والصحف إلى الفتاة التي تقطع القصاصات، وكانت تقف أمام مكتب كبير منحدر وتقطع الموضوعات المؤشر عليها بسكين حادة مقوسة (ولم يكن في هذا المكتب مقص على الرغم من أن المقص كان شعاره)، وبينما كانت الفتاة التي تقطع القصاصات، تقطع الموضوعات، وتلقي الأوراق المهملة على الأرض، كان فيض من الصحف يتجمع كل خمس عشرة دقيقة ويبلغ في ارتفاعه خصرها، وكان هناك رجل يجمع الأوراق المهملة ويأخذها لتحزم.
وتحمل الموضوعات المقطعة وقصاصات الورق إلى اللصاق الذي يلصق هذه بتلك، ثم تحفظ وتجمع وتوضع في المظاريف وترسل بالبريد.
وتعلمت فرانسي طريقة الحفظ بسهولة كبيرة، فحفظت في أسبوعين الأسماء أو العناوين التي على صندوق الحفظ والتي تبلغ الألفين أو نحوهما، ثم دربت على القراءة، وقضت أسبوعين آخرين لا تعمل شيئا إلا دراسة بطاقات العملاء، التي كانت أكثر تفصيلا من عناوين صندوق الحفظ، وأعطيت فرانسي صحف ولاية أوكلاهوما لتقرأها، بعد أن أثبتت في اختبار غير رسمي أنها قد حفظت النظم، وراجع الرئيس صحفها قبل أن تبعث بها إلى الفتاة التي تقطع القصاصات وأشار إلى أخطائها، ولما تمرست بعملها حتى لم تعد هناك حاجة إلى مراجعتها، أضيفت إليها صحف ولاية بنسلفانيا، ولم تلبث أن أعطيت صحف ولاية نيويورك، فأصبحت تقرأ صحف ثلاث ولايات، وما إن حلت نهاية شهر أغسطس حتى أصبحت تقرأ من الصحف، وتؤشر على مزيد من الموضوعات فاق أي قارئة في المكتب، كانت حديثة العهد بالعمل، حريصة على أن ترضي رؤساءها، وعيناها صافيتان قويتا البصر (وكانت القارئة الوحيدة التي لا تلبس منظارا)، وقد تدربت عيناها فأصبحت حساسة كعدسة آلة التصوير، تلتقط ما يقع عليه بصرها في لمحة، وتدون فورا ما إذا كان يستحق التأشير أم لا، وكانت تقرأ ما بين مائة وثمانين ومائتي صحيفة في اليوم الواحد، ومتوسط ما تقرأه القارئة التي تليها في البراعة ما بين مائة ومائة صحيفة وعشر.
نعم لقد كانت فرانسي أسرع قارئة في المكتب وأقلهن أجرا، وبالرغم من أن أجرها ارتفع إلى عشرة دولارات في الأسبوع حين واصلت القراءة، فقد كانت الفتاة التي تليها في التفوق تتقاضى خمسة وعشرين دولارا في الأسبوع، على حين تتقاضى الفتيات الأخريات عشرين دولارا، ولم تتوثق قط الصداقة بين فرانسي وهؤلاء الفتيات حتى يمنحنها ثقتهن، فعز عليها أن تجد سبيلا إلى معرفة ما كانت تتقاضاه من أجر بخس.
ولم تشعر فرانسي بالسعادة، بالرغم من أنها أحبت قراءة الصحف، وكانت فخورا بأنها تكسب عشرة دولارات في الأسبوع، وفرحت بالذهاب إلى نيويورك والعمل فيها، وتوقعت، وهي التي كانت تطرب لأشياء صغيرة كزهرة في إناء داكن بالمكتبة، أن مدينة نيويورك خليقة بأن تهز مشاعرها أضعافا مضاعفة، ولكنها شعرت بخيبة أمل.
وكان الجسر هو أول شيء خيب أملها؛ ذلك أنها كانت قد اعتقدت حين نظرت إليه من سطح منزلها، أن اجتيازه خليق بأن يجعلها تشعر كأنها جنية لها جناحان شفافان تطير بهما في الهواء، ولكنها لما مرت فوق الجسر لم تجد في ذلك شيئا أكثر من المرور فوق شوارع بروكلين، وكان الجسر ممهدا بالطرق الجانبية وطرق النقل، شأنه شأن شوارع برودواي، كانت الطرق هي الطرق، ولم تشعر نحو القطار وهو يمر فوق الجسر بشعور يختلف عما كانت تشعر به، نعم لقد خيبت مدينة نيويورك ظنها؛ كانت مبانيها أكثر ارتفاعا وزحامها أشد، وما عدا ذلك فلم تكن تختلف عن بروكلين إلا قليلا، وتساءلت فرانسي: ترى أتبدو لي في الغد كل الأشياء الجديدة مخيبة للآمال؟
وكانت قد درست في كثير من الأحيان خريطة الولايات المتحدة، وعبرت في خيالها سهولها وجبالها وصحاريها وأنهارها، وبدا لها ذلك شيئا عجيبا، وقد تحيرت الآن، ترى أيخيب ظنها في ذلك أيضا؟ وفكرت أنه لو حدث وعبرت هذه البلاد العظيمة، فإنها تكون خليقة حينئذ أن تبدأ في السابعة صباحا وتسير متهجة إلى الغرب، وتضع قدما أمام الأخرى لتقيس المسافة التي تقطعها، ثم هي خليقة إذ تسير غربا، أن يشغل بالها جدا بقدميها وتتبين أن خطواتها جزء من سلسلة بدأت في بروكلين، وأنها خليقة أيضا بألا تفكر في شيء من الجبال والأنهار والسهول والصحاري التي تصادفها، وكل ما ينتظر أن تلاحظه هو أن بعض الأشياء سوف تبدو لعينها غريبة لأنها تذكرها ببروكلين، وسوف تبدو أشياء أخرى لعينها غريبة أيضا؛ لأنها تختلف كل الاختلاف عن بروكلين، وقررت فرانسي في حزن: «إني لأحسب إذن أنه ليس في العالم جديد، وإذا كان هناك شيء جديد أو مختلف فإن بعضه لا بد أن يكون ماثلا في بروكلين، وقد ألفته بلا ريب، حتى إنني لن أستطيع أن ألحظه إذا ما صادفني في طريقي.»
وحزنت فرانسي، شأنها شأن الإسكندر الأكبر، حين اقتنع بأنه لم يعد أمامه عالم جديد يغزوه.
وواءمت فرانسي بين نفسها وبين ذلك النهج الخاطف، الذي يتبعه كل مواطن في نيويورك في ذهابه وإيابه من عمله، وكان الوصول إلى المكتب محنة ترهق أعصابها، فإذا وصلت قبل الساعة التاسعة بدقيقة، فإنها في حل من التقريع، أما إذا وصلت بعد الساعة التاسعة بدقيقة فإن القلق يعبث بها، لأنها تصبح منه بطبيعة الأحوال ضحية للرئيس، إذا اتفق أن كان منحرف المزاج في ذلك اليوم، وهكذا تعلمت كيف تحافظ على أجزاء الثانية، فكانت قبل أن يقف القطار في محطتها تشق طريقها إلى الباب، لتكون من أوائل الخارجين حين يفتح الباب، وتنزل من القطار لتجري كالغزال متفادية الزحام، لتكون أول من يصعد السلم الذي يؤدي إلى الشارع، وكانت وهي تسير إلى المكتب تظل ملاصقة للأبنية حتى تستطيع أن تلتف بالأركان سريعا، وتعبر الشوارع من أركانها كالهرة لتتفادى نزول رصيفين إضافيين أو صعودهما، وحين تصل إلى البناء تزاحم لتدخل إلى المصعد بالرغم من صياح العامل قائلا: «إن المصعد ممتلئ!» وكانت تقوم بكل تلك المناورات لتصل قبل الساعة التاسعة بدقيقة وليس بعدها بدقيقة!
وغادرت بيتها مرة مبكرة عشر دقائق ليكون لديها متسع من الوقت، وبالرغم من أنها لم تكن بحاجة إلى الإسراع، فقد ظلت تزاحم، شاقة طريقها خارج القطار، وجرت على السلم واندفعت في الشوارع تختصر المسافات، واندست في المصعد المكتظ، ووصلت قبل الموعد بخمس عشرة دقيقة، ودخلت الحجرة الفسيحة الخاوية، يرن فيها الصدى فشعرت بالوحشة والضياع، ولما اندفعت العاملات الأخريات في الثواني التي تسبق التاسعة، أحست فرانسي بشعور يشبه الخيانة، فنامت في الصباح التالي عشر دقائق أخرى، وعادت إلى موعدها الأول.
وكانت هي الفتاة الوحيدة من بروكلين التي تعمل في المكتب، وقد جاءت الفتيات الأخريات من مانهاتان وهوبوكون وبرونكس، فيما عدا فتاة واحدة كانت تسافر ذهابا وإيابا من بلدة بايون بنيوجرسي، وكانت اثنتان من أقدم القارئات هناك أختين تنتميان أصلا لأوهايو، وقالت إحدى الأختين لفرانسي في أول يوم اشتغلت فيه بالمكتب: إنك تتكلمين بلهجة بروكلين.
ورنت هذه الكلمات في أذن فرانسي، كأنها اتهام مثير، فأخذت تحتاط لحديثها، وتعودت أن تنطق الكلمات بعناية، خشية أن تقول كلمة «بت» بدلا من «بنت» و«واد» بدلا من «ولد».
وكان بالمكتب شخصان فحسب تستطيع أن تحادثهما دون حرج، كان أحدهما مدير مكتب الرئيس، خريج جامعة هارفارد، وكان حديثه، بالرغم من تفخيمه لحرف الألف في كل ما ينطق به واضحا، ومفرادته أقل تكلفا من جميع القارئات، ومعظمهن قد تخرجن في المدرسة الثانوية، والتقطن ذخيرة كبيرة من الألفاظ في السنين التي قضينها في القراءة، وكان الشخص الآخر هو الآنسة آرمسترنج التي كانت خريجة الجامعة هي الأخرى.
وكانت الآنسة آرمسترنج القارئة الخاصة لصحف المدينة ، يقوم مكتبها منعزلا في الركن المختار من الحجرة، حيث توجد نافذة شمالية ونافذة شرقية، تزودان الركن بأقوى ضوء يصلح للقراءة، وكانت لا تقرأ إلا صحف مدن شيكاجو وبوسطن وفيلادلفيا ونيويورك، ويحمل لها رسول خاص كل طبعة من صحف مدينة نيويورك بعد خروجها من المطبعة مباشرة، ولم تكن بحاجة بعد أن تفرغ من قراءة صحفها أن ترهق نفسها كما تفعل القارئات الأخريات، وتساعد الفتيات المتخلفات، وكانت تشتغل بالتطريز، أو تقلم أظافرها في انتظار الطبعة التالية، وتتقاضى أكبر أجر وهو ثلاثون دولارا في الأسبوع، لكنها إنسانة عطوف؛ فرغبت في أن تساعد فرانسي، وحاولت أن تخرجها من صمتها وتتحدث معها حتى لا تشعر بالوحدة.
وذات مرة كانت فرانسي في الحمام حين سمعت عرضا، إشارة إلى أن الآنسة آرمسترنج هي عشيقة الرئيس، كانت فرانسي سمعت بذلك، ولكنها لم تر قط شيئا يثبت تلك الأقوال الخرافية، فذهبت على الفور وأخذت تفحص الآنسة آرمسترنج العشيقة عن كثب، ورأت أن الآنسة آرمسترنج ليست جميلة، وأن وجهها يكاد يشبه وجه القردة بفمها الواسع ومنخريها المفرطحين الغليظين، وقوامها مقبول فحسب، ونظرت فرانسي إلى ساقيها فوجدتهما طويلتين رشيقتين بديعتي التكوين، وكانت ترتدي جوربا من الحرير الخالص لا يشوبه أي عيب، وحذاء ثمينا ذا كعب عال يكشف عن قدميها المستديرتين استدارة جميلة، واستنتجت فرانسي بينها وبين نفسها قائلة: إذن فإن السيقان الجميلة هي السر الذي يجعل المرأة عشيقة!
ونظرت إلى ساقيها الطويلتين الرفيعتين: أظن أنني لن أصبح عشيقة أبدا.
وتنهدت ووهبت نفسها لحياة بريئة طاهرة.
وكانت العاملات في المكتب قد ساعدن على إيجاد نظام طبقي بحكم اختلافهن، ما بين قاطعات للقصاصات وناسخات ولاصقات وحازمات للورق وصبية للتوزيع، وكانت هؤلاء العاملات اللائي كن أميات ولكن ذوات ذكاء حاد، قد أطلقن على أنفسهن لسبب ما اسم «المنتدى»، وكن يعتقدن أن القارئات اللاتي أكثر منهن تعليما ينظرن إليهن في احتقار، ورغبة في الانتقام كن يثرن المتاعب بين القارئات ما وسعهن إلى ذلك سبيل.
وكان ولاء فرانسي موزعا بين هؤلاء وهؤلاء، فهي بحكم أصلها وتعليمها تنتمي إلى طبقة المنتدى، ولكنها بحكم قدرتها وذكائها تنتمي إلى طبقة القارئات، وكان أفراد المنتدى من الفطنة والدهاء بحيث أحسسن ذلك التوزع في أعماق فرانسي، فحاولن أن يستخدمنها وسيطة، وأطلعنها على إشاعات المكتب التي تثير المتاعب، متوقعات أنها سوف تنقلها إلى القارئات وتخلق الشقاق بينهن، ولكن فرانسي لم تكن صديقة للقارئات إلى الحد الذي تتبادل معهن الثرثرة فماتت في أعماقها.
وفي يوم أنبأتها عاملة قطع القصاصات أن الآنسة آرمسترنج ستترك العمل في سبتمبر، وأنها أي فرانسي سوف ترقى إلى وظيفة قارئة صحف المدينة، واعتقدت فرانسي أن ذلك الخبر كان شائعة اختلقتها العاملات، ليثرن نيران الغيرة بين القارئات اللائي كن جميعا يتوقعن الترقي إلى وظيفة قارئة صحف المدينة، حين تستقيل الآنسة آرمسترنج من عملها، وآمنت فرانسي بأنه من المستحيل عليها وهي فتاة في الرابعة عشرة لم تحصل على شيء، إلا التعليم الذي تلقته في المدرسة الابتدائية، أن تعد أهلا للقيام بحمل خريجة من خريجات الجامعة في الثلاثين من عمرها مثل الآنسة آرمسترنج.
وكان شهر أغسطس يقترب من نهايته، وفرانسي قلقة مشغولة البال؛ لأن أمها لم تذكر شيئا يتعلق بذهابها إلى المدرسة الثانوية، وساورتها رغبة شديدة في العودة إلى المدرسة، وكانت السنوات جميعا التي قضتها في الاستماع إلى حديث أمها وجدتها وخالاتها عن التعليم العالي، لم تجعلها حريصة على الحصول على مزيد من التعليم فحسب، بل أصابتها أيضا بمركب نقص إزاء ما هي عليه من فقر في التعليم.
وتذكرت في حنان الفتيات اللائي كتبن لها في دفتر توقيعاتها، وأرادت أن تكون واحدة منهن، لقد خرجن من نفس البيئة التي عاشتها، ولكنهن لم يمضين فيها أبعد من ذلك، إن مكانها الطبيعي أن تكون معهن في المدرسة، وليست عاملة تنافس النساء الأكبر منها سنا.
ولم تحب العمل في نيويورك، وكانت ترتعد من الزحام الذي يحتشد حولها دائما، وشعرت أنها مدفوعة إلى سبيل في الحياة لم تستعد للسير فيه، لكن أكثر ما يفزعها بشأن الذهاب للعمل في نيويورك هو القطارات المعلقة المزدحمة.
وفي وقت من الأوقات كانت تركب القطار وتتعلق بسير الجلد، والزحام من حولها يضغط عليها ضغطا شديدا، حتى إنها لم تستطع أن تخفض ذراعها، وإذا بها تشعر بيد رجل فأخذت تتثنى وتتلوى، لكنها لم تستطع أن تتخلص من تلك اليد، ولما ترنحت مع الزحام حينما انحرفت العربات، شعرت بقبضة اليد تشتد، ولم تكن تستطيع أن تدير رأسها لترى من هو صاحب اليد، فوقفت عاجزة كل العجز عن فعل أي شيء، وتحملت في يأس ما كان يلحقها من إهانة، وكانت تستطيع أن تصرخ وتعترض، ولكنها شعرت بالخجل الشديد من أن تلفت انتباه الناس إلى ما كانت فيه من حرج، وبدا لها الوقت طويلا لا نهاية له قبل أن يخف الزحام، لتنتقل إلى مكان آخر في العربة، وأصبح الوقوف في قطار مزدحم بعد ذلك بالنسبة لفرانسي محنة تخيفها وتفزعها.
وأنبأت فرانسي سيسي بقصة رجل القطار في يوم من أيام الأحد، حين كانت تحمل هي وأمها لوري في الطريق إلى جدتها، وتوقعت فرانسي أن سيسي خليقة بأن تهدئ روعها، ولكن خالتها تناولت القصة كملحة رائعة، وقالت: إذن فقد قرصك رجل في القطار المعلق، لو حدث لي ذلك لما ضايقني، إنه يعني أن قوامك يتخذ شكلا جميلا، ومن الرجال من لا يستطيع مقاومة جمال تكوين المرأة، انظري! لا بد أن السن تتقدم بي! فلقد مضت سنوات لم يقرصني خلالها رجل في القطار المعلق.
وقالت في فخر: وقد مر بي وقت كنت لا أستطيع أن أركب في الزحام دون أن أعود إلى البيت، وقد غشي جسمي السواد والزرقة.
وسألتها كاتي: وهل ذلك شيء تتفاخرين به؟
وتجاهلت سيسي تلك الإشارة، وقالت: سوف يأتي اليوم يا فرانسي حين تصبحين في الخامسة والأربعين، ويغدو قوامك مثل كيس مليء بشوفان الجياد، وقد ربط في منتصفه، وحينئذ سوف تعود ذاكرتك إلى الوراء، وتشتاقين إلى الأيام الغابرة حين كان الرجال يرغبون في قرصك.
وقالت كاتي: إنها إذا ما عادت بذاكرتها إلى الوراء فسوف تفعل ذلك؛ لأنك غرست تلك الفكرة في عقلها، ولا تفعله لأنه شيء رائع يتذكره المرء.
واتجهت إلى فرانسي قائلة: أما بالنسبة لك فتعلمي أن تقفي في القطار دون أن تمسكي بسير الجلد، واجعلي يديك إلى جوار جسمك واحتفظي في جيبك بدبوس طويل حاد، فإذا ما أحسست بيد رجل توضع عليك، فاغرزي الدبوس فيه بقوة.
وفعلت فرانسي ما قالته أمها، وتعلمت أن تثبت قدميها دون أن تمسك بسير الجلد، وجعلت يديها تمسكان في إحكام بدبوس طويل مؤذ في جيب معطفها، وودت أن يقرصها رجل مرة أخرى، ودت ذلك لا لشيء إلا لتطعنه بالدبوس. - إنه لشيء رائع لسيسي أن تتكلم عن القوام والرجال، ولكني لا أحب أن أقرص من الخلف، ولا شك أنني آمل حين أصبح في الخامسة والأربعين، أن يكون لدي شيء أستعيد ذكراه أجمل من قرصة ينالني بها رجل، لقد حق على سيسي أن تخجل.
ولكن ماذا دهاني؟ إنني أقف هنا وأنتقد سيسي؛ سيسي التي كانت طيبة معي غاية الطيبة، وإني غير قانعة بعملي، على حين ينبغي لي أن أشعر أن التوفيق يحالفني؛ إذ حصلت على ذلك العمل القريب إلى النفس، ولو تصورت الأمر لوجدت أنني أتقاضى أجرا على القراءة، وأنا أحب القراءة حبا عظيما على أي حال، وكل شخص يعتقد أن نيويورك أروع مدينة في العالم، وأنا لا أستطيع أن أحمل نفسي على حب نيويورك، يبدو أنني أشد الناس سخطا في هذا العالم أوه! إني لأود لو عدت طفلة مرة أخرى حين كان كل شيء يبدو في عيني رائعا كل الروعة.
وطلب الرئيس فرانسي في حجرته الخاصة قبل «يوم العمل» مباشرة، وأنبأها أن الآنسة آرمسترنج تركت العمل لتتزوج، وتنحنح مضيفا أن الآنسة آرمسترنج ستتزوجه هو في الواقع.
وتحطمت صورة العشيقة التي كانت فرانسي قد تخيلتها عن الآنسة آرمسترنج وذهبت بددا، وكانت تعتقد أن الرجال لا يتزوجون أبدا من عشيقاتهم، بل يلقون بهن إلى عرض الطريق كالقفازات المستهلكة البالية، لكن الآنسة آرمسترنج ستصبح زوجة بدلا من قفاز مستهلك بال، ما أجمل ذلك!
وكان الرئيس يقول: وهكذا سنحتاج إلى قارئة جديدة لصحف المدينة، وقد اقترحت الآنسة آرمسترنج نفسها أن ... آه ... أن نجربك يا آنسة نولان.
وقفز قلب فرانسي؛ تكون هي قارئة صحف المدينة! أكثر وظائف المكتب مثارا للطمع والحسد! إذن لقد كانت الشائعات التي أطلقها أفراد المنتدى حقيقة، وتبددت فكرة أخرى كانت قد ارتسمت في عقلها، فقد كانت تعتقد دائما أن كل الشائعات لا نصيب لها من الصحة.
وفكر الرئيس في أن يمنحها خمسة عشر دولارا في الأسبوع، معتقدا أنه سوف يحصل على قارئة جيدة في نفس مستوى زوجته المستقبلة بنصف أجرها، وكان لا بد أن تفقد الفتاة وعيها من الفرحة أيضا، فتاة صغيرة السن مثلها ... تتقاضى خمسة عشر دولارا في الأسبوع، وقالت إنها جاوزت السادسة عشرة ولكنها تبدو في الثالثة عشرة، ولم تكن سنها بلا ريب تخصها في شيء ما دامت كفئا لعملها، وإن القانون لا يستطيع المساس به؛ لأنه يستخدم فتاة أصغر من السن القانونية، وكل ما عليه أن يقول هو أنها خدعته وأخفت سنها الحقيقية، وقال في وداعة: وسوف يستمر أجرك في الزيادة شيئا قليلا مع استمرارك في العمل.
وابتسمت فرانسي في سعادة، فشعر بالقلق، وقال بينه وبين نفسه: أتراني تسرعت في قول ذلك؟ ربما هي لم تتوقع زيادة في الأجر.
وستر زلة لسانه بسرعة قائلا: ... زيادة صغيرة بعد أن نرى كيف تقومين بالعمل.
وبدأت فرانسي تقول في شك: لا أدري ...
وقرر الرئيس: إنها جاوزت السادسة عشرة، وسوف تمتنع عن العمل مطالبة بزيادة كبيرة.
وقال ليحول بينها وبين المضي في الاعتراض: سوف نعطيك خمسة عشر دولارا في الأسبوع في البداية ... وتردد، وقال بينه وبين نفسه: ما من فائدة تعود عليك من وراء الإمعان في الكرم.
ثم قال بصوت عال: ... في البداية من شهر أكتوبر.
ومال بظهره إلى الوراء وهو يشعر أنه بلغ في كرمه مبلغ الرب نفسه: أقصد أني أعتقد أنني لن أبقى هنا طويلا.
وقال بينه وبين نفسه: إنها تساومني لتحصل على أجر أكبر.
وقال بصوت عال: ولم لا؟ - أعتقد أنني سأعود إلى المدرسة بعد ذكرى «يوم العمل »، وقد عنيت بأن أنبئك بذلك حين يتحقق تدبيري. - إلى الجامعة؟ - كلا إلى المدرسة الثانوية.
وقال بينه وبين نفسه: سأضطر إلى أن أعين بنسكي لقراءة صحف المدينة، إنها تتقاضى الآن خمسة وعشرين دولارا، وسوف تتوقع أن تحصل على ثلاثين دولارا، ولقد أصبت منذ البداية، إن هذه الفتاة نولان أفضل من بنسكي أيضا، تبا لها إرما! ترى من أين أتت بفكرة أن المرأة ينبغي ألا تشتغل بعد أن تتزوج، كانت تستطيع أن تواصل العمل ... وتدخر المال للأسرة ... وتشتري به بيتا.
وقال لفرانسي: أوه! إني آسف إذ أسمع ذلك، لا لأنني لا أوافق على التعليم العالي، ولكني أعد قراءة الصحف تعليما صالحا عظيما، إنه تعليم نابض بالحياة ينمو دائما، وهو تعليم معاصر حديث لا تبلى جدته.
وقال في سخرية: أما تعليم المدارس، فقوامه الكتب فحسب ... كتب جامدة لا حياة فيها. - لأتحدثن في ذلك مع أمي. - أرجوك، قولي لها بكل ما تجدين من سبل ما قاله رئيسك بشأن التعليم، وقولي لها إنني قلت إننا ...
وأغمض عينيه ونطق مجازفا: سوف ندفع لك عشرين دولارا في الأسبوع ابتداء من أول نوفمبر، وأسقط بذلك شهرا.
وقالت في صدق خالص: هذا مبلغ عظيم من المال. - إننا نؤمن بأن نقدم لعمالنا أجرا كبيرا حتى يتمسكوا بنا ... آه ... يا آنسة نولان، أرجوك ألا تذكري شيئا عن أجرك المقبل.
وكذب قائلا: إنه أكبر من أي أجر في المكتب، وإذا ما اكتشف ذلك ...
وبسط يديه في حركة تنم عن القنوط قائلا: أفهمت؟ لا تثرثري في الحمام.
وأحست فرانسي بالشهامة، وهي تطمئن باله، مؤكدة له أنها لن تفشي سره أبدا بالثرثرة في الحمام، وبدأ الرئيس يوقع الرسائل مشيرا إلى أن المقابلة قد انتهت. - هذا كل ما في الأمر يا آنسة نولان، وينبغي لنا أن نعرف قرارك بعد ذكرى «يوم العمل». - نعم يا سيدي.
عشرون دولارا في الأسبوع! لقد صعقت فرانسي، وكانت منذ شهرين سعيدة لكسبها خمسة دولارات في الأسبوع، إن خالها ويلي يتقاضى ثمانية عشر دولارا فحسب في الأسبوع، وهو في الأربعين من عمره، وجون زوج سيسي، وهو الرجل الذكي، لا يتقاضى إلا اثنين وعشرين دولارا ونصف دولار في الأسبوع، إن القليل من رجال حيها يحصلون على أجر يبلغ العشرين دولارا في الأسبوع، وهم يعولون أسرا أيضا، وقالت بينها وبين نفسها: سوف تنتهي متاعبنا بهذا المال، فنستطيع أن ندفع إيجار شقة من ثلاث حجرات في مكان ما، وسوف لا تضطر أمي إلى الخروج والعمل، وسوف لا تترك لوري وحدها كل ذلك الوقت، أظن أنني سوف أصبح على قدر كبير من الأهمية إذا استطعت أن أدير عملا كهذا.
ولكني أريد أن أعود إلى المدرسة.
وتذكرت دأب أسرتها على الحديث المستفيض عن التعليم، فقد كانت جدتها تقول: إنه سوف يرفعك فوق وجه الأرض.
وتذكرت قول إيفي: إن كلا من أولادي الثلاثة سوف يحصل على ثلاث شهادات دراسية.
وقول سيسي: وحين تموت أمي - بعد عمر طويل إن شاء الله - ويشتد عود طفلتي لتدخل روضة الأطفال، فسوف أخرج للعمل مرة أخرى، وأدخر أجري حتى تكبر سيسي الصغيرة، فأدخلها أرقى جامعة هناك.
وقول أمها: وأنا لا أريد لطفلي أن يعيشا نفس الحياة القاسية التي عشتها، وإن التعليم سوف يوفر لهما حياة أيسر.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لكنها لا تزال وظيفة جيدة، وإنها لجيدة الآن، ولكن عيني سوف تصابان بالكلال من كثرة العمل، إن كل القارئات الأكبر سنا يلبسن النظارات، ولقد قالت الآنسة آرمسترنج إن القارئة تجيد القراءة ما دامت لها عينان قويتان، وكانت هؤلاء الفتيات الأخريات سريعات القراءة أيضا حين بدأن العمل، شأنهن في ذلك شأني، ولكن عيونهن الآن ... يجب علي أن أدخر بصري ... فلا أقرأ شيئا خارج العمل. - إذا عرفت أمي أنني أستطيع أن أتقاضى عشرين دولارا في الأسبوع، فربما لا تسمح لي بالعودة إلى المدرسة، وأنا لا أستطيع أن أخيب رجاءها لأننا عانينا الفقر طويلا، إن أمي عادلة في كل شيء، ولكن هذا المال قد يغير نظرتها للأشياء، ولن يكون الذنب ذنبها في ذلك، فإنني لن أنبئها بارتفاع أجري حتى تقرر عودتي إلى المدرسة.
وتكلمت فرانسي مع أمها بشأن المدرسة، ووافقت أمها على أنهما سوف يتحدثان في ذلك الأمر تلك الليلة بعد العشاء مباشرة.
وأعلنت كاتي بعد أن احتسوا قهوة العشاء، أن المدرسة ستفتح أبوابها في الأسبوع المقبل (ولم يكن هناك داع لقولها هذا لأنهم جميعا كانوا يعلمونه). وقالت: أريد أن يذهب كلاكما إلى المدرسة الثانوية، ولكن الأمر يقضي بأن يبدأ أحدكما فحسب هذا الخريف، وإني لأدخر كل سنت أستطيع أن أستخلصه من أجركما، حتى يعود كلاكما إلى المدرسة في السنة المقبلة.
وانتظرت، انتظرت وقتا طويلا ولم يرد عليها كلا الطفلين. - ماذا؟ ألا ترغبان في الذهاب إلى المدرسة الثانوية؟
وكانت شفتا فرانسي جامدتين وهي تتكلم، وكان الأمر يتوقف على أمها تماما، فأرادت فرانسي أن يكون لكلماتها أثر طيب على أمها: أجل يا أماه، أريد أن أعود إلى المدرسة أكثر مما أريد أي شيء آخر في حياتي.
وقال نيلي: أنا لا أريد أن أذهب، لا تحمليني على العودة إلى المدرسة يا أماه، فإني أحب أن أشتغل، وسوف أحصل على دولارين زيادة على أجري أول العام. - ألا تريد أن تكون طبيبا؟ - لا، أريد أن أكون سمسمارا وأكسب مالا كثيرا مثل رؤسائي، سوف ألقي بدلائي في سوق الماشية، وأكسب مليون دولار في يوم من الأيام. - إن ابني سوف يكون طبيبا عظيما. - أنى لك أن تعلمي؟ قد ينتهي بي الحال وأصبح مثل الدكتور هيولر في شارع موجر، ويكون لي مكتب بالطابق السفلي، وأرتدي قميصا قذرا دائما مثله، وإني لأعلم ما فيه الكفاية على أي حال، ولست بحاجة إلى أن أعود إلى المدرسة.
وقالت كاتي تخاطب فرانسي في لهجة مستعطفة أو تكاد: أنت تعلمين يا فرانسي ما معنى ذلك؟
وعضت فرانسي شفتها، إن البكاء لن يجدي شيئا، ويجب عليها أن تحافظ على هدوئها وتستمر في التفكير بوضوح، وقالت الأم: إن ذلك يعني أن نيلي ينبغي له أن يعود إلى المدرسة.
وصاح نيلي: لن أعود! لن أعود إلى المدرسة مهما قلت! فإني أعمل وأكسب مالا وأريد أن أواصل عملي، إني شخص له قيمته الآن بين الزملاء، وإذا ما عدت إلى المدرسة، فلن أكون سوى طفل غرير مرة أخرى، ثم إنك تحتاجين إلى أجري يا أمي، ولسنا نريد أن نعود إلى الفقر.
وأعلنت كاتي في هدوء: إنك ستعود إلى المدرسة، وسوف يكفينا مال فرانسي.
وقالت فرانسي صائحة: لماذا تحملينه على الذهاب إلى المدرسة وهو لا يريد، وتقصينني عنها وأنا أرغب في أن أذهب إليها كل الرغبة.
وقال نيلي موافقا: أجل!
وقالت الأم: لأنني إذا لم أحمله على الذهاب، فلن يعود إلى المدرسة أبدا، أما أنت يا فرانسي فسوف تناضلين وتحاولين العودة إلى المدرسة على نحو ما.
واعترضت فرانسي قائلة: لماذا تتكلمين بثقة دائما، سأكون بعد سنة أكبر سنا من أن أعود إلى المدرسة، أما نيلي فهو في الثالثة عشرة فحسب، وسوف يكون في السنة المقبلة صغير السن بما يناسب عودته إلى المدرسة. - هراء، سوف تكونين في الخريف المقبل في الخامسة عشرة فحسب، وأصرت فرانسي على رأيها قائلة: سأكون في نهاية السابعة عشرة، مشرفة على الثامنة عشرة، أكبر من أن أبدأ الدراسة. - ما هذا الكلام الفارغ الذي تقولينه؟ - ليس كلاما فارغا، إنني في العمل على أساس أنني في السادسة عشرة، وينبغي لي أن أبدو وأتصرف كفتاة في السادسة عشرة، وسأكون في السنة المقبلة في الخامسة عشرة، ولكني سأكون أكبر من ذلك بعامين في الحياة التي أعيشها، أكبر من أن أغير نفسي وأعود تلميذة بالمدرسة.
وقالت كاتي في عناد: سيعود نيلي إلى المدرسة في الأسبوع القادم، وستعود فرانسي إليها في السنة القادمة.
وصاح نيلي: إن أكرهكما أنتما الاثنتين، وإذا حملتني على العودة إلى المدرسة فسوف أهرب من البيت، نعم، سوف أهرب!
وجرى خارجا وصفق الباب من ورائه.
وتغضن وجه كاتي بخطوط تنم عن التعاسة والحزن، وشعرت فرانسي بالأسف لها: لا تقلقي يا أمي، إنه لن يهرب، وإنما قال ذلك لمجرد القول.
وغضبت فرانسي من لمحة الراحة والاطمئنان التي بدت على ملامح أمها: ولكني أنا التي سأهرب دون أن أصرح بذلك، وسوف أمضي حين يأتي الوقت الذي لا تحتاجين فيه إلى أجري.
وسألت كاتي في مرارة: ماذا أصاب طفلي حتى خرجا عن سلوكهما الطيب المألوف؟ - لقد غيرتنا السنون.
وبدا على كاتي الحيرة، وأوضحت فرانسي: إننا لم نحصل قط على تراخيص العمل. - ولكن كان من الصعب الحصول عليها، فقد طلب القس دولارا عن كل شهادة من شهادات التعميد، واقتضى الأمر أن أذهب إلى دار البلدية معكما، ولكني كنت أرضع لوري كل ساعتين آنئذ، ولم أستطع أن أذهب، وفكرنا جميعا في أنه من الأيسر لكما أن تدعيا أنكما في السادسة عشرة، وتتجنبا كل هذه المشاكل. - هذا الجزء من قولك صحيح، ولكن ما دمنا قد قلنا إننا في السادسة عشرة، فينبغي لنا أن نكون في السادسة عشرة، ولكنك تعامليننا معاملة أطفال في الثالثة عشرة. - كنت أود أن يكون أبوك حيا الآن، فإنه يفهم عنك ما لا أستطيع أن أفهمه.
وحز الألم في قلب فرانسي، وأنبأت أمها بعد أن خف عنها الألم، أن راتبها سوف يتضاعف في أول نوفمبر.
وفتحت كاتي فمها في دهشة: عشرون دولارا! أوه! يا لي!
وكان ذلك هو تعبيرها المعتاد حينما تدهش لشيء: متى علمت بذلك؟ - يوم السبت. - ولم تنبئيني حتى الآن؟ - نعم. - ظننت أنني إذا علمت فسوف أصمم على استمرارك في العمل؟ - نعم. - ولكني لم أكن أعلم حينما قلت إنه من الصواب أن يعود نيلي إلى المدرسة، وإنك لترين أنني فعلت ما كنت أراه صوابا، ولم يكن للمال دخل فيما فعلت.
وسألت مستعطفة: ألا ترين ذلك؟ - لا، أنا لا أرى ذلك، وإنما أرى أنك تؤثرين نيلي علي فحسب، إنك ترتبين كل شيء له، ولكن تقولين لي إنني أستطيع أن أشق طريقي بنفسي، سوف أخدعك يا أمي في يوم من الأيام، وسوف أفعل ما أراه أصلح لشأني، وقد لا يكون ذلك في نظرك صوابا.
وتكلمت كاتي في اعتداد بسيط كل البساطة، حتى خجلت فرانسي من نفسها: لست قلقة لعلمي أنني أستطيع أن أثق بابنتي، وأن أثق بابني أيضا، إنه ثائر الآن على فعل ما لا يريد أن يفعله، ولكنه سوف يتغلب على تلك الثورة ويمضي قدما إلى المدرسة، إن نيلي ولد صالح.
وسلمت فرانسي: نعم، إنه ولد صالح، بل لو لم يكن صالحا لما أدركت ذلك، أما فيما يخصني ...
وتمزق صوتها في نشيج، وتنهدت كاتي في حدة ولم تقل شيئا، ونهضت وبدأت تنظف المائدة، وامتدت يدها لتمسك قدحا، ورأت فرانسي لأول مرة في حياتها يد أمها تضطرب، فقد ارتعشت، ولم تستطع أن تمسك بالقدح، ووضعت فرانسي القدح في يد أمها ولاحظت شدخا كبيرا فيه.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها:
لقد أثر على أسرتنا أنها تشبه قدحا متينا، وكانت الأسرة متماسكة سليمة البنيان تنظر إلى الأمور نظرة صائبة، وقد أصابها الصدع الأول حين مات أبي، ثم أصابها هذا النزاع الذي حدث الليلة بالصدع الثاني، ولا تلبث أن تتوالى عليها الصدوع، حتى يتحطم القدح كسرا، بعد أن كان متماسكا مجتمع الأجزاء، ولست أريد أن يحدث ذلك، ولكني أنا بنفسي أصيب الأسرة عمدا بصدع عميق!
وتنهدت في حدة على نحو ما فعلت كاتي تماما.
وذهبت الأم إلى سلة الغسيل حيث ترقد الطفلة في سلام بالرغم من المناقشة المريرة، ورأت فرانسي أمها تحمل الطفلة النائمة في السلة، ويداها لا تزالان تضطربان، وجلست في كرسيها الهزاز بجوار النافذة، تضم الطفلة بقوة إلى صدرها وتهتز في كرسيها.
وعشي بصر فرانسي أو كاد أسفا وحسرة، وقالت بينها وبين نفسها: كان ينبغي لي ألا أسلك هذا السلوك الوضيع معها، فما الذي جنته طوال حياتها إلا العمل الشاق والمتاعب؟ والآن يجب أن تنصرف إلى طفلتها التماسا للعزاء والراحة، ربما هي تفكر في أن لوري التي تحبها كل الحب، والتي تعتمد عليها الآن كل الاعتماد، سوف يشتد عودها لتنقلب عليها كما أفعل الآن.
ووضعت يدها على خد أمها في حرج، وقالت: إن كل شيء على ما يرام يا أمي، لم أقصد ما قلت، وإنك لعلى صواب، وسأعمل بقولك، يجب على نيلي أن يذهب إلى المدرسة، وسوف أسعى أنا وأنت لنهيئ له ذلك.
ووضعت كاتي يدها فوق فرانسي، وقالت: هذه هي ابنتي المطيعة. - لا تغضبي مني يا أماه لأني خالفتك، أنت نفسك علمتني أن أناضل في سبيل ما أراه صوابا، وأنا ... وأنا أعتقد أنني كنت على صواب. - أعلم ذلك، وإني لمسرورة أنك تستطيعين في الحاضر والمستقبل أن تناضلي في سبيل حقك، وسوف تخرجين من النضال دائما سليمة مهما يكن، إنك تشبهينني في ذلك.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: وهنا تكمن المشكلة كلها، فإننا يشبه بعضنا بعضا شبها كبيرا حتى ليعز علينا أن يفهم بعضنا بعضا، بل إننا لا نفهم أنفسنا، ولقد كنت أنا وأبي مختلفين؛ ولذلك فهم كل منا الآخر، وإن أمي لتفهم نيلي لأنه يختلف عنها، كنت أود أن أكون مختلفة عنها مثل نيلي.
وسألت كاتي باسمة: إذن فقد أصبح كل شيء على ما يرام بيننا الآن؟
وابتسمت لها فرانسي وقبلت وجنتها، وقالت: لا شك في ذلك.
ولكنهما كانا يعلمان في أعماق قلبيهما أن الحال لم تكن على ما يرام بينهما، ولن تكون على ما يرام بعد ذلك أبدا.
45
وأقبل عيد الميلاد مرة أخرى، ولكن المال كان متوافرا هذا العام لشراء الهدايا والأطعمة الكثيرة التي وضعت في الثلاجة، وغدت الشقة دافئة دائما، وأحست فرانسي، وهي تدخل البيت من الشارع البارد، أن الدفء يشبه ذراعي حبيب تلتفان حولها وتجذبانها داخل الحجرة، وتساءلت عرضا أي شعور حقا يحسه المرء بين ذراعي الحبيب!
وتعزت فرانسي عن عدم عودتها إلى المدرسة، حين تحققت أن المال الذي تكسبه قد يسر لهم الحياة، ولقد أنصفتها أمها جدا، إذ عندما زاد أجر فرانسي إلى عشرين دولارا في الأسبوع، أعطتها خمسة دولارات كل أسبوع لسداد نفقاتها في المواصلات والأكل والملابس، كما وضعت كاتي خمسة دولارات كل أسبوع باسم فرانسي في مصرف الادخار في ويليمسبرج، موضحة أنها تدخر هذا المال من أجل ذهابها إلى الجامعة، ودبرت كاتي الأمور تدبيرا حسنا بالدولارات العشرة الباقية، مضافا إليها دولار كان نيلي يسهم به، ولم يكن هذا المال ثروة، ولكن الأشياء كانت رخيصة في سنة 1916م، وعاشت أسرة نولان حياة طيبة.
وألف نيلي العودة إلى المدرسة في سرور، حين وجد أن زمرته القديمة كانت ستدخل مدرسة الحي الشرقي الثانوية، وكان يحتفظ بعمله الذي يقوم به عند ماكجريتي بعد خروجه من المدرسة، وأعطته أمه دولارا من الدولارين، فقد كان يمتلك مالا لمصروفه أكثر مما يمتلك معظم الصبية، وأحاط بكل شيء في مسرحية «يوليوس قيصر» وحفظها عن ظهر قلب.
وحينما فتحوا الحصالة وجدوا بها أربعة دولارات أو نحوها، وأضاف نيلي إليها دولارا، وأضافت فرانسي خمسة دولارات فأصبح لديهم عشرة دولارات، يشترون بها هدايا عيد الميلاد، وذهب ثلاثتهم مصطحبين لوري بعد ظهيرة اليوم السابق لعيد الميلاد ليشتروا الهدايا.
وذهبوا إلى محل القبعات، ووقف الصبي والفتاة خلف كرسي أمهما، على حين جلست كاتي تحمل لوري في حجرها وترتدي القبعات لتجربها ... وابتغت فرانسي لأمها قبعة من المخمل الأخضر بلون اليشب، ولكن لم تكن في ويليمسبرج قبعة بهذا اللون، ولكن الأم آثرت أن تشتري قبعة سوداء، وقالت لها فرانسي: نحن الذين نشتري القبعة ولست أنت، ونحن نقول إننا لن نشتري قبعات حداد بعد الآن!
واقترح نيلي قائلا: أماه! جربي هذه القبعة الحمراء. - لا، إني سأجرب تلك القبعة الخضراء القاتمة المعروضة في نافذة العرض.
وقالت البائعة وهي تخرج القبعة من النافذة: إنه لون جديد، نحن نسميه الأخضر الطحلبي.
ووضعت القبعة أفقية على حاجب كاتي، لكن كاتي أمالتها على عين من عينيها بحركة نافذة الصبر، وأعلن نيلي: هذه هي القبعة المثلى!
وقررت فرانسي: أماه! إنك تبدين جميلة.
وقررت الأم: إني معجبة بها.
وسألت البائعة: كم ثمنها؟
وجذبت المرأة نفسا طويلا، وأحاطت بها أسرة نولان استعدادا للمساومة.
وبدأت المرأة قائلة: إن ثمنها لا يزيد على ...
ورددت كاتي في ثبات: كم ثمنها؟ - لو أنك في نيويورك لدفعت في مثلها عشرة دولارات ولكن ... - لو أنني كنت أريد أن أدفع عشرة دولارات لذهبت إلى نيويورك لشراء القبعة. - هل هذه طريقة للحديث؟ إن قبعة مثل هذه القبعة ذاتها تباع في محل «وانا ميكر» بسبعة دولارات ونصف دولار.
ومرت لحظة سكون مطبق ... - أما أنا فسأبيع لك نفس القبعة بخمسة دولارات. - ليس معي إلا دولاران فقط لأشتري بهما قبعة.
وصاحت البائعة على نحو تمثيلي: اخرجوا من محلي! - وهو كذلك.
وحملت كاتي الطفلة ونهضت واقفة على قدميها: ما الداعي لكل هذه العجلة؟
ودفعتها البائعة إلى الكرسي مرة أخرى، وألقت القبعة في كيس من الورق. - سأبيعها لك بأربعة دولارات ونصف دولار، صدقيني أنني لا أبيعها لحماتي بهذا الثمن!
وقالت كاتي بينها وبين نفسها: إني أصدقك وخاصة إذا كانت حماتك مثل حماتي.
ثم قالت لها بصوت عال: إن القبعة جميلة، ولكني لا أستطيع أن أدفع فيها سوى دولارين، هناك الكثير من محال القبعات، وإني أستطيع أن أشتري قبعة أخرى بهذا الثمن ... ليست جيدة الصنع كهذه القبعة، ولكنها من الجودة بحيث تحمي رأسي من الريح.
وتكلمت البائعة في صوت أضفت عليه الحرارة والصدق: هلا أنصت إلى ما يقولونه من أن المال عند اليهود هو كل شيء، ولكن الأمر يختلف معي، فحين أجد قبعة جميلة تتناغم مع مشترية جميلة، فإن شيئا يحدث لي حينئذ.
ووضعت يدها على قلبها: إني لأحس أن ... أن الربح لا يعني في نظري شيئا فأعطيها دون ثمن.
ودفعت الكيس في يد كاتي: خذي القبعة بأربعة دولارات.
وتنهدت: إنه الثمن الذي اشتريتها به بسعر الجملة، صدقيني أنه ما كان ينبغي لي أن أكون امرأة أعمال، وكان خيرا لي أن أكون رسامة.
واستمرت المساومة، وعلمت كاتي حين وصل الثمن أخيرا إلى دولارين ونصف دولار، أن المرأة لن تخفضه إلى أقل من ذلك، واختبرتها بالتظاهر بمغادرة المحل، ولكن البائعة هذه المرة لم تحاول أن تستوقفها، وأشارت فرانسي لنيلي فأعطى المرأة دولارين وخمسين سنتا، وقالت المرأة محذرة: لا تنبئوا أحدا بالثمن البخس الذي اشتريتم به القبعة.
ووعدت فرانسي قائلة: لن نفعل ذلك، ضعي القبعة في صندوق. - ادفعي عشرة سنتات أخرى للصندوق، إنه الثمن الذي اشتريته به في الجملة.
واعترضت كاتي. - إن الكيس يكفي .
وقالت فرانسي: إنها هديتك في عيد الميلاد، ويجب أن توضع في صندوق.
وأخرج نيلي عشرة سنتات أخرى، ولفت المرأة القبعة في الورق ووضعتها في الصندوق. - إني أبيعها لك رخيصة كل هذا الرخص حتى تعودي المرة القادمة لتشتري قبعة، ولكن لا تتوقعي مثل تلك المساومة في المرة المقبلة.
وضحكت كاتي، وقالت البائعة وهم يغادرون المحل: أرجو أن تستمتعي بها في كامل عافيتك. - أشكرك.
وبينما الباب يغلق دونهم، همست المرأة في مرارة قائلة: يا لهم من يهود!
وبصقت خلفهم، وقال نيلي حين أصبحوا في الشارع: لا عجب أن تنتظر أمي خمس سنوات حتى تشتري قبعة جديدة، إذا كانت ستكلفها كل هذا العناء.
وقالت فرانسي: عناء؟ كيف ذلك؟ إنها تسلية فكهة.
وذهبوا بعد ذلك إلى محل «سيجلر» ليشتروا حلة للوري لعيد الميلاد، ولما رأى سيجلر فرانسي انفجر في سيل من التأنيب: ها أنت ذي تأتين أخيرا إلى محلي! لعلك تريدين شراء شيء لم تجديه في محال الملابس الأخرى فجئت إلي؟ أو ربما اشتريت من محل آخر صديرة رخيصة، لكنها تالفة ... أليس كذلك؟
والتفت إلى كاتي وقال موضحا: لقد ظلت هذه الفتاة سنين كثيرة تأتي إلى محلي لتشتري صدريات وبنيقات الورق لأبيها، ولكنها لم تعد تأتي منذ عام كامل.
وأوضحت كاتي قائلة: لقد مات أبوها منذ عام.
وضرب السيد سيجلر جبينه براحته ضربة قوية، واعتذر قائلا: أوه! إن لي فما واسعا؛ ولذلك فإن لساني يزل دائما.
وقالت كاتي مهدئة: لا عليك! - هذا شأني، إن أحدا لا ينبئني بشيء، فلم أعلم بما حدث لكم حتى الآن.
وقالت كاتي: إن ذلك هو ما يحدث دائما.
وسألها فجأة منخرطا في العمل: والآن ماذا أقدم لك؟ - أريد حلة لطفلة لها من العمر سبعة أشهر. - لدي هنا الحجم المضبوط.
وأخرج من صندوق حلة زرقاء من الصوف، ولكنهم حين ألبسوها للوري لم تبلغ السترة إلا وسطها، وبلغ السروال تحت ركبتيها مباشرة، وجربوا لها أحجاما مختلفة، حتى ناسبتها بالضبط حلة لطفل في السنة الثانية من عمره، وانفجر السيد سيجلر مندهشا: إنني أبيع الملابس منذ عشرين عاما، خمسة عشر عاما في شارع جراند وخمسة أعوام في شارع جراهام ، ولم أر قط في حياتي طفلا في الشهر السابع بهذا الحجم الكبير.
وزهت أسرة نولان فخرا بلوري، ولم تكن هناك مساومة لأن محل سيجلر كانت أسعاره محددة، وأخرج نيلي ثلاثة دولارات، وألبسوا الطفلة الحلة الجديدة حينئذ فبدت أنيقة، وقد جذبت القلنسوة لتغطي أذنيها، وأظهر اللون الأزرق الزاهي لون بشرتها الوردي، وإنك لتحسب أنها أدركت ذلك من حركتها التي نمت عن السرور العظيم، وهي تشرق بابتسامة غير واعية كشفت عن سنيها الاثنتين.
وابتهل سيجلر ويداه متشابكتان على نحو ما يفعل المصلون: آن يا حبيبتي، أرجو أن تنعم بها في كامل عافيتها.
ولم تبطل الأمنية هذه المرة بصقة تلقى من خلفهم.
وعادت الأم حاملة لوري وقبعتها الجديدة إلى البيت، في حين واصل نيلي وفرانسي تجوالهما لشراء هدايا عيد الميلاد، واشتريا هدايا صغيرة لأولاد العم فليتمان وهدية لطفلة سيسي، ثم حان الوقت ليشتريا الهدايا الخاصة بهما، وقال نيلي: سأقول لك ما أريد فتشترينه لي. - حسنا، ما هو؟ - جرموق. - جرموق؟
وارتفع صوت فرانسي قائلة: جرموق؟
وقال في حزم: له لون رمادي براق.
وبدأت تقول في شك: إذن كان ذلك هو ما تريد ... - أريد الحجم المتوسط. - كيف عرفت الحجم؟ - لقد جئت بالأمس وارتديته لأجربه.
وأعطى فرانسي دولارا ونصف دولار، واشترت الجرموق، وجعلت الرجل يلفه في صندوق من صناديق الهدايا، وقدمت - وهما في الشارع - اللفة إلى نيلي، على حين عبس كل منهما للآخر في رصانة، وقالت فرانسي: إني أهديها لك، عيد ميلاد سعيد.
وأجاب نيلي في تكلف: أشكرك، والآن ماذا تريدين. - أريد حلة الرقص السوداء ذات المخرمات التي في نافذة العرض بذلك المحل الكائن قرب شارع يونيون.
وسأل نيلي متحرجا: هل هذه من حاجات السيدات؟ - أوه! أوه! أربعة وعشرون مقاس الوسط، واثنان وثلاثون مقاس الصدر وثمنها دولاران. - أنت تشترينها لأني لا أحب أن أشتري شيئا من هذا القبيل.
واشترت فرانسي حلة الرقص التي تشتهيها، وهي تتكون من سروال وصدار صنعا من قطع من المخرمات السوداء، شبكت بعضها ببعض بشريط رفيع من الساتان الأسود، واعترض نيلي على ذلك وتمتم في خشونة مجيبا على شكرها: عفوا.
ومرا بسوق شجر عيد الميلاد القائم على الجسر، فقال نيلي: أتذكرين الوقت الذي جعلنا فيه الرجل يقذفنا بأضخم شجرة. - أذكره ولن أنساه، وإني كلما أصبت بصداع أشعر بالألم في الموضع الذي خبطتني فيه الشجرة.
وتذكر نيلي قائلا: وكيف كان أبي يغني حين يساعدنا في حمل الشجرة فوق السلم!
وكان اسم أبيها أو ذكراه قد طافت بمخيلتها في ذلك اليوم مرات كثيرة، وكانت فرانسي تشعر في كل مرة بطائفة من الحنان والرحمة بدلا من وخزة الألم المعهودة، وقالت بينها وبين نفسها: أتراني أنساه؟ هل سيكون من العسير علي في المستقبل أن أتذكر شيئا عنه؟ إني لأظن أن الأمر ينطبق عليه قول جدتي ماري روملي «إن كل شيء ينسى بمرور الزمن.» كانت السنة الأولى قاسية لأننا كنا نستطيع أن نتكلم عن آخر انتخابات أدلى فيها بصوته، وعن آخر «عيد شكر» أكل فيه معنا، ولكن في السنة التالية يكون قد مضى عامان منذ فعل ذلك ... وكلما مرت الأيام عزت علينا الذكرى أكثر وأكثر، وعز علينا تتبعها. - انظري!
وأمسك نيلي ذراعها وأشار إلى شجرة من أشجار الشربين طولها قدمان وضعت في وعاء خشبي، وصاحت فرانسي: إنها تنمو! - ماذا كنت تظنين؟ إنها جميعا تنمو في البداية. - أعلم ذلك، ولكنك تراها دائما مقطوعة فتفكر في أنها تموت بعد أن اجتثت، هيا بنا لنشتريها يا نيلي. - إنها صغيرة جدا. - ولكن لها جذورا!
فلما حملا الشجرة إلى البيت فحصتها كاتي، وازداد الخط الذي بين عينيها عمقا، وهي تفكر في شيء، وقالت: أجل، سوف نضعها بعد عيد الميلاد على سلم الطوارئ، ونحرص على أن تصلها أشعة الشمس، ونرويها بالماء، ونزودها بروث الجياد مرة في الشهر.
واعترضت فرانسي: لا يا أماه! إنك لن تثقلي كاهلنا بجمع ذلك الروث.
وكانا، وهما طفلان صغيران، يرهبان جمع روث الجياد أكثر مما يرهبان أي عمل آخر، وكانت جدتهما ماري روملي تستنبت صنفا من زهور الجرونيه الحمراء على عتبة نافذتها، وهي زهور قوية مشرقة زاهية اللون، وكانت تحمل فرانسي أو نيلي على الخروج إلى الشوارع كل شهر ومعهما صندوق من صناديق السجاير، ليملآه بصفين منتظمين من بعر الجياد، وتدفع لهما الجدة عند تسلم الروث سنتين، وكانت فرانسي تشعر بالخزي من جمع روث الجياد، واعترضت مرة على أمر جدتها التي أجابتها قائلة: وي! إن الدماء التي تجري في عروق الجيل الثالث دماء واهنة، لقد كان إخوتي الطيبون منذ عهد بعيد في النمسا يحملون عربات كبيرة زاخرة بالروث، وكانوا رجالا أقوياء شرفاء.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إنهم خليقون بأن يكونوا كذلك إذ يشتغلون بشيء من هذا القبيل.
وكانت كاتي تقول: والآن وقد أصبحنا نمتلك شجرة، فإن الأمر يقتضينا أن نتعهدها ونحرص على إنمائها، وإنكما تستطيعان الحصول على الروث في ظلام الليل، إذا كنتما تشعران بالخزي بالنهار.
وجادلها نيلي قائلا: لقد قل عدد الجياد الآن قلة شديدة، وأصبحت السيارات هي الغالبة؛ ولذلك فإن من العسير علينا أن نحصل على الروث. - اذهبا إلى شارع من الشوارع التي تغطيها الحصباء، حيث لا ترتاده السيارات، وإذا لم تجدا أي روث فانتظرا حتى يأتي جواد، واتبعاه حتى تحصلا على روثه.
واعترض نيلي: وي! إني آسف على شرائنا الشجرة العتيقة.
وقالت فرانسي: ما خطبنا! إننا لم نعد نعيش في الأيام الخالية؛ فقد أصبحنا نملك المال، وكل ما علينا أن نعمله هو أن نعطي طفلا من أطفال الحي المعهودين خمسة سنتات ليجمع لنا الروث.
ووافق نيلي وقد سري عنه: نعم.
وقالت الأم: أظن أنكما ترغبان في أن تتعهدا شجرتكما بأيديكما؟
وقالت فرانسي: إن الفرق بين الأغنياء والفقراء، هو أن الفقراء يفعلون كل شيء بأيديهم، والأغنياء يؤجرون من يقوم عنهم بذلك، إننا لم نعد فقراء، وفي مقدورنا أن ندفع أجر من يقوم لنا ببعض الأعمال.
وقالت كاتي: إذن فأنا أريد أن أظل فقيرة؛ لأنني أحب أن أستعمل يدي.
وشعر نيلي بالملل كعهده دائما كلما بدأت أمه وفرانسي مناقشة من مناقشاتهما ، التي تستنبطان منها الأمور، وقال ليغير الموضوع: أراهن على أن لوري في طول هذه الشجرة.
وحملا الطفلة من سلتها، وقاسا طولها بالنسبة للشجرة، وقالت فرانسي مقلدة السيد سيجلر: نفس الطول بالضبط.
وقال نيلي: لا أدري أيهما ستنمو أسرع من الأخرى. - إننا يا نيلي لم يكن لنا قط جرو أو هريرة، فلنتخذ من الشجرة أليفنا المدلل. - وي! إن الشجرة لا يمكن أن تكون أليفا مدللا! - ولم لا؟ إنها تعيش وتتنفس، أليس كذلك؟ سوف نطلق عليها اسما: آني! الشجرة آني والطفلة لوري، وهما معا أغنيتنا.
وسألها نيلي: ألا تعلمين؟ - ماذا؟ - إنك مجنونة، هذا ما يجب أن تعلميه. - أنا أعلم، ولكن أليس ذلك شيئا رائعا؟ إني اليوم لا أشعر أنني الآنسة نولان التي كان مفروضا أن تكون في السابعة عشرة من عمرها، ورئيسة القراء في مكتب قصاصات الصحف، ولكني أشعر كأنني أعود إلى الأيام الخالية، حين كان الأمر يقتضيني أن أجعلك تحمل النقود التي حصلنا عليها من بيع النفايات، أشعر كأنني طفلة صغيرة.
وقالت كاتي: وإنك لطفلة، طفلة بلغت لتوها الخامسة عشرة. - نعم، إنك لن تعتقدي ذلك حين ترين ما الذي اشتراه نيلي لي في عيد الميلاد.
وصحح نيلي قائلا: ما حملتني أنت على شرائه لك.
وحثته فرانسي قائلة: اكشف لأمي ما الذي حملتني على شرائه لك في عيد الميلاد أيها اللبيب، هيا أطلعها عليه.
وحينما كشف لأمه عما اشتراه، ارتفع صوتها كما فعلت فرانسي حين قالت: جرموق؟
وأوضح نيلي قائلا: إنما اشتريته ليدفئ كاحلي.
وكشفت فرانسي لأمها عن حلة الرقص، فأطلقت الأم عبارتها المعهودة التي تنم عن الدهشة: «أوه، يا لي!»، وسألت فرانسي في أمل: أتعتقدين أن ذلك ما ترتديه النساء الرشيقات؟ - إنهن لو فعلن فإني على يقين من أنهن جميعا سوف يصبن بالتهاب الرئة، والآن هيا بنا نفكر: ما الذي نعده من الطعام للعشاء؟ - ألن تعترضي على ارتدائي لها؟
وشعرت فرانسي بخيبة أمل؛ لأن أمها لم تتحمس لها: لا، إن كل النساء يرتدين في فترة من حياتهن السراويل السوداء ذات المخرمات ، وقد أدركت هذه الفترة مبكرة عن معظم النساء، وسوف تنتهين منها أسرع منهن، أظن أننا جديرون بأن نسخن الحساء، ونتناوله مع حساء اللحم والبطاطس ...
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها في تبرم: إن أمي تعتقد أنها تعرف كل شيء.
وأدوا معا القداس صباح يوم عيد الميلاد، وجعلتهما كاتي يصليان معها على روح جوني، طالبين لها الراحة والاطمئنان.
وبدت كاتي جميلة جدا في قبعتها الجديدة، وبدت الطفلة جميلة أيضا في حلتها الجديدة، وصمم نيلي في رجولة، وقد ارتدى جرموقه الجديد، على أن يحمل الطفلة، وبينما هم يمرون في شارع ستاج، أخذ بعض الصبية المتسكعين أمام محل الحلوى، يصفرون ساخرين من نيلي، واحمر وجه نيلي خجلا، وعرفت فرانسي أنهم يسخرون من جرموقه، فتظاهرت بأنها فهمت أنهم يسخرون من حمله الطفلة، حتى لا تجرح شعوره، وعرضت عليه أن تحمل عنه لوري فرفض، وكان قد علم مثلما علمت هي أنهم يسخرون من جرموقه، وامتلأ قلبه مرارة من ضيق الأفق، الذي يتصف به صبية ويليمسبرج، وقرر أن يحفظ الجرموق في الصندوق حين يعود إلى البيت، ولا يرتديه مرة أخرى، حتى ينتقلوا إلى حي آخر أكثر تهذيبا من ويليمسبرج.
وكانت فرانسي ترتدي سروالها ذا المخرمات، وتشعر أن أطرافها ستتجمد من البرد، وكلما هبت ريح باردة وفتحت معطفها، وتسربت إليها خلال ثوبها الخفيف، تشعر كأنها لا ترتدي ملابس داخلية على الإطلاق، وحزنت بينها وبين نفسها قائلة: إني أود ... آه، كم أود لو أنني قد ارتديت سروالي من الفانلة، لقد كانت أمي على صواب، فمن الممكن أن أصاب بالتهاب الرئة، ولكني لن أرضيها وأجعلها تعرف ذلك، على أنني أظن أن الأمر يقتضيني أن أحفظ هذه الأشياء، ذات المخرمات حتى يحل الصيف.
وفي الكنيسة أخلت أسرة نولان قبل الصلاة صفا أماميا كاملا من المقاعد وأرقدت عليه لوري بطولها، وكان بعض القادمين المتأخرين يظنون أن المقعد خال، فيجثون عند مدخل الصف ويستعدون للدخول، ولكنهم حين يرون الطفلة ممددة فوق المقعدين، يعبثون في حدة في وجه كاتي، التي جلست في صرامة ترد إليهم العبوس مضاعفا.
واعتقدت فرانسي أنها كانت أجمل كنيسة في بروكلين، وكانت مبنية من الحجر الرمادي القديم، ولها منارتان ترتفعان زاهيتين في السماء، وتفوقان في ارتفاعهما أطول بيوت السكن، وكانت من الداخل، بسقوفها المقببة العالية، ونوافذها الضيقة الملونة بالألوان الزاهية، ومحرابها المنحوت بإتقان تبدو كأنها كاتدرائية مصغرة، وشعرت فرانسي بالاعتزاز بالمحراب الرئيسي؛ لأن جانبه الأيسر نقشه جدها روملي منذ أكثر من نصف قرن، حين كان شابا أتى حديثا من النمسا، وأدى لكنيسته على مضض هذا العمل ضريبة العشور.
وكان ذلك الرجل المقتصد قد جمع بقايا الخشب المقطع وحملها إلى البيت، وأخذ يسويها في دأب وإصرار ويلصقها بعضها ببعض، ونحت ثلاثة صلبان صغيرة من ذلك الخشب المبارك، وأعطت ماري صليبا من هذه الصلبان لكل بنت من بناتها في ليلة زفافها، وأمرت كلا منهن بأن تسلم الصليب إلى الابنة الكبرى جيلا بعد جيل.
وظل صليب كاتي معلقا على الجدار فوق رف المدفأة في البيت، وهو الصليب الذي سوف يصبح صليب فرانسي حين تتزوج، وشعرت كاتي بالفخر لأن الصليب صنع من خشب ذلك المحراب البديع.
وبدا المحراب اليوم جميلا، وقد حلي بزهور بنت القنصل الحمراء وغصون شجرة الشربين، التي تتألق وسط أوراقها شموع رفيعة بيضاء لها أطراف ذهبية، وكان المهد المصنوع من السبل (ضرب من النخيل) قد وضع داخل سياج المحراب، وعلمت فرانسي أن التماثيل الصغيرة التي نمقت بالأيدي - وهي تمثل مريم ويوسف والملوك ورعاة الغنم - قد جمعت حول الطفل المقدس في المذود، كما جمعت أول مرة منذ مائة عام، حين حملها القوم من مقرها بالوطن القديم.
ودخل القسيس يتبعه صبي المحراب، مرتديا فوق ملابسه الأخرى عباءة من الساتان الأبيض، رسم عليها صليب ذهبي من الأمام ومن الخلف، وعلمت فرانسي أن العباءة ترمز إلى الثوب غير المدرز، الذي كان يظن أن مريم هي التي نسجته للمسيح بيدها.
واستغرقت فرانسي في أفكارها حتى فاتتها بداية القداس، لكنها التقطت كلماته الآن وتتبعتها.
وأنشد القسيس بصوته العامر العميق: يا إلهي بحمدك أشدو على القيثارة، لا تحزني يا روحي ولا تقنطي من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو التواب الرحيم .
وأجاب صبي المحراب: وسعت رحمته كل شيء وله الحمد.
وجاء الجواب: المجد لله في الأعالي.
كما كان منذ الأزل، فهو الآن وإلى الأبد، ملكوته لن يزول، آمين.
وأنشد القسيس: سآتي إلى المحراب.
وجاء الجواب: إلى الله، الذي أنعم علي، وهداني الصراط المستقيم.
إلى الله خالق السموات والأرض.
في هذه اللحظات تمثلت فرانسي المسيح حاضرا بجسده وروحه ودمه جميعا، وأن البركة قد حلت في الشراب الذي يملأ كأس القداس الذهبية، وفي الخبز الموضوع في «الصحن» المصنوع من الذهب.
وقالت بينها وبين نفسها متفكرة: إن الإيمان جميل، وبودي أن أفهم عن ديني المزيد، إنني أومن بالله؛ نعم أومن به وبالمسيح وبمريم، إنني كاثوليكية طالحة لأن القداس يفوتني من حين إلى حين، وإني لأتذمر حين أذهب إلى الاعتراف، وأنال عقابا شديدا على شيء فعلته دون إرادتي، ولكن سواء أكنت صالحة أم طالحة، فأنا كاثوليكية، ولن أكون غير ذلك أبدا.
ومما لا شك فيه أنه لم يكن لي خيار في أن أولد كاثوليكية، أو أن أولد أمريكية، ولكنني سعيدة؛ لأن الظروف جعلت مني كاثوليكية وأمريكية معا.
وهبط القس السلم المقوس متجها إلى المنبر، ورتل بصوته الرائع: صلوا من أجل راحة نفس جوني نولان.
ورن صدى الهمسات في السقف المقبب «نولان ... نولان ...».
وركع ما يقرب من ألف شخص ليصلوا صلاة مقتضبة، على روح رجل لم يكن يعرفه منهم إلا عشرة أو نحوهم، وسرت همهمتهم كأنها أنات هامسة، وبدأت فرانسي صلاتها على الأرواح التي في المطهر: يا يسوع الذي كان يضطرب قلبك المحب دائما لآلام الآخرين، بارك بشفاعتك روح عزيزنا الذي في المطهر، أنت الذي أحببت الناس كافة، اسمع تضرعاتنا.
46
وأعلنت فرانسي قائلة: بعد عشر دقائق تحل سنة 1917م.
وكانت فرانسي وأخوها يجلسان متجاورين، وقد أدخلا أقدامهما المغطاة بالجوارب داخل فوهة موقد المطبخ، وكانت الأم تستريح في فراشها، بعد أن نبهت عليهما بشدة أن ينادياها قبل منتصف الليل بخمس دقائق .
وواصلت فرانسي حديثها قائلة: أحس أن سنة 1917م سيكون لها شأن أكثر من أي سنة أخرى مرت بنا .
واحتج نيلي قائلا: إنك تقولين ذلك عن كل سنة، كانت سنة 1915م هي أول سنة قلت عنها إنها ستكون أعظم السنين شأنا، ثم سنة 1916م، والآن تصفين سنة 1917م بهذا الوصف. - سوف يكون لها شأن لسبب واحد، هو أنني سأبلغ في سنة 1917م السادسة عشرة حقا، بدلا من بلوغي إياها في المكتب، كما أن هناك أشياء هامة أخرى قد بدأت تحدث فعلا، إن صاحب البيت يركب الأسلاك، وسوف نستخدم في أسابيع قليلة الكهربا بدلا من الغاز. - هذا شيء يروقني. - ثم إنه سوف ينزع تلك المواقد ويركب سخانات البخار. - وي! سوف أفتقد هنا الموقد العتيق، أتذكرين كيف اعتدت أن أجلس على الموقد في الأيام الخالية؟ (كان ذلك منذ سنتين فقط!) - واعتدت أن أخاف عليك خشية أن تشتعل فيك النار. - إني أشعر برغبة في الجلوس على الموقد الآن. - هيا تقدم.
وجلس على سطح الموقد، مبتعدا عن النار بأقصى ما يستطيع، وأحس به دافئا ممتعا، ولكنه لم يكن ساخنا، وواصلت فرانسي حديثها: أتذكر كيف رسمنا نماذجنا على حجر الموقد هذا، وحين أحضر لنا أبونا مساحة حقيقية للسبورة، ثم أصبح الحجر كأنه سبورة المدرسة، لا يختلف عنها إلا في كونه ملقى على الأرض؟ - نعم، كان ذلك منذ زمن بعيد، ولكن انظري! إنك لا تستطيعين أن تدعي أن سنة 1917م سوف تكون سنة هامة لأننا سنستخدم الكهربا، وسخانات البخار، فهما قد دخلا المساكن الأخرى منذ سنين، وليس في ذلك شيء هام. - أهمية هذه السنة ستكون في أنا سندخل الحرب. - متى؟ - قريبا ... الأسبوع المقبل ... الشهر المقبل! - كيف عرفت ذلك؟ - إني أقرأ الصحف كل يوم يا أخي، أقرأ مائتي صحيفة. - مرحى مرحى! إني لآمل أن تستمر حتى أبلغ من العمر ما يؤهلني للالتحاق بالأسطول. - من الذي سيلتحق بالأسطول؟
واستدارا مذعورين، كانت أمهما تقف في ممر باب حجرة النوم.
وأوضحت فرانسي: إنما كنا نتحدث يا أمي لمجرد الحديث.
وقالت الأم عاتبة: لقد نسيتما أن تنادياني، وأظن أنني سمعت صوت صفارة، لا بد أن السنة الجديدة قد حلت الآن.
وفتحت فرانسي النافذة، وكانت ليلة شديدة البرد من كثرة هطول الصقيع لكن الريح كانت ساكنة، والهدوء شاملا عم كل شيء، وبدت مؤخرات البيوت من وراء الأفنية مظلمة مستكنة واجمة، وبينما هم يقفون وراء النافذة سمعوا ناقوس الكنيسة، يدق دقات رتيبة بهيجة، لها وقع مطرب على النفس، ثم غشت أصوات الأجراس الأخرى الرنين الأول، وانطلقت الصفارات، ورنت صفارة الإنذار ففتحت النوافذ المعتمة مصفقة، وانطلقت الأبواق المصنوعة من القصدير، تضيف إلى الأصوات الناشزة صوتا آخر، وأطلق شخص قذيفة في الفضاء، وعم الجو الصيحات وصفير الاستهجان.
1917م!
ثم خمدت الأصوات وساد الجو سكون الانتظار، وبدأ شخص يغني:
هل يمكن للصداقة القديمة أن تنسى،
ولا يستعيد ذكراها العقل أبدا ...
والتقطت أسرة نولان الأغنية وانخرط الجيران في الغناء واحدا إثر الآخر، وواصل الجميع الغناء، ولكن صوتا مزعجا اقتحم أصواتهم؛ ذلك أن فريقا من الألمان كانوا يغنون أغنية من أغنياتهم، وتداخلت كلمات الألمان في أغنية «الأيام الخالية الجميلة»:
نعم هذا منزل له حديقة؛
منزل ذو حديقة؛
منزل ذو حديقة،
آه أيها الجميل!
آه أيها الجميل!
آه أيها المنزل الجميل ذو الحديقة!
وصاح شخص قائلا: «اصمتوا أيها القذرون الممقوتون»، وعلت الأغنية الألمانية ردا على ذلك، واستفاضت حتى طغت على أغنية «الأيام الخالية الجميلة».
وأراد الأيرلنديون الانتقام من الألمان فصاحوا مغنين أغنية متهكمة، تردد صداها عبر مؤخرات الأفنية المظلمة:
وي! إن أغنية «أيها المنزل» أغنية ملعونة.
أغنية ملعونة!
آه أغنية قذرة!
آه أغنية قذرة!
آه أغنية قذرة ممقوتة!
وسمع صوت النوافذ وهي تغلق، وقد انسحب اليهود والإيطاليون تاركين المعركة للألمان والأيرلنديين، وغنى الألمان رافعين أصواتهم بالغناء أكثر من ذي قبل، وتزايدت الأصوات حتى قضت على الأغنية التهكمية، كما قضت على أغنية «الأيام الخالية الجميلة»، وفاز الألمان وختموا أغانيهم المطولة بصيحات النصر.
وارتعشت فرانسي وقالت: أنا لا أحب الألمان؛ لأنهم يصرون جدا على ما يريدون، فيهم عناد يدفعهم دائما إلى أن تكون لهم الكلمة العليا.
وعاد الليل إلى السكون مرة أخرى، وأمسكت فرانسي بكل من أمها ونيلي، وأصدرت تعليماتها قائلة: هلم ... الآن ... في صوت واحد .
ومال ثلاثتهم خارج النافذة، وصاحوا: عام جديد سعيد للجميع!
ومرت لحظة سكون، ثم انطلق في الظلام صوت أيرلندي أجش يصيح: عام سعيد جديد يا آل نولان.
وتحيرت كاتي قائلة: ترى من يكون هذا؟
ورد عليه نيلي صائحا: عام جديد سعيد أيها الأيرلندي الوغد.
ولطمته أمه على فمه، وجرته بعيدا عن النافذة وأغلقتها فرانسي، واستبدت بثلاثتهم نوبة هستيرية من الضحك، وقالت فرانسي وهي تلهث ضاحكة من أعماقها، حتى طفرت الدموع من عينيها: وبعد! لقد فعلتها!
وقرقرت كاتي، وقد تهالكت من الضحك، حتى اضطرت إلى أن تستند إلى المائدة: إنه يعرف من نحن، وسوف يأتي إلى هنا و... و... ويتعارك، من ... من ... من هو؟ - إنه رجل مسن يدعى أوبرين، لقد سبني في الأسبوع الماضي من فنائه، ذلك الأيرلندي ... الوغد!
وقالت الأم: صه! إنك تعلم أن ما تفعله في مستهل العام الجديد أيا كان، سوف تفعله طوال السنة.
وسألته فرانسي: ولا يليق بك أن تمضي قائلا أيها الأيرلندي الوغد كالأسطوانة المشدوخة، أليس كذلك؟ كما أنك أنت نفسك أيرلندي.
واتهمها نيلي قائلا: وأنت أيضا. - إننا جميعا أيرلنديون ما عدا أمي.
وقالت الأم: وإني لأيرلندية بالزواج.
وطلبت فرانسي قائلة: إذن، فأعدي لنا شرابا أيرلنديا نشربه نخب ليلة السنة الجديدة، فما رأيك؟
وقالت الأم: سأعد لنا شرابا بلا شك.
وكان ماكجريتي قد أهدى أسرة نولان زجاجة من البراندي المعتق الخالص ليوم عيد الميلاد، فأفرغت كاتي من الزجاجة جرعة صغيرة في ثلاث كئوس طويلة، وملأت بقية كل كأس بمزيج من البيض المضروب واللبن الممزوج بقليل من السكر، وبشرت جوزة من جوزات الطيب، ورشتها على سطح الشراب.
وكانت يداها تعملان في ثبات، بالرغم من أنها تعتبر هذا الشراب الليلة شيئا دقيقا بالغ الدقة، وكان القلق يساورها دائما خشية أن يكون الطفلان، قد ورثا عن أسرة نولان حب الشراب، وحاولت أن تتخذ موقفا بشأن الشراب في الأسرة، وشعرت أنها إذا حثت الطفلين على كره الشراب، فقد يعدانه شيئا محرما خلابا لما تنطوي عليه نفساهما من فردية مكنونة لم تتكشف بعد، على أنها إذا استهانت بالشراب، فقد يعدانه شيئا طبيعيا، وقررت كاتي ألا تهون من شأن الشراب وألا تبالغ في خطره، وأن تتصرف كما لو أن الشراب لا يزيد ولا ينقص عن كونه شرابا يحتسى في اعتدال في المناسبات ... نعم، لقد كانت ليلة رأس السنة الجديدة مناسبة من هذه المناسبات، وناولت كلا منهما كأسا، وكان الكثير يتوقف على استجابتهما للشراب.
وسألت فرانسي: ترى لأي نخب نشرب؟
وقالت كاتي: نشرب نخب الأمل، الأمل في أن تظل أسرتنا دائما مجتمعة على نحو ما هي عليه الليلة.
وقالت فرانسي: صبرا! أحضري لوري حتى تكون معنا أيضا.
وأخرجت كاتي الطفلة الغارقة في النوم من مهدها، وحملتها إلى المطبخ الدافئ، وفتحت لوري عينيها ورفعت رأسها، وكشفت عن سنين في ابتسامة هائمة، ثم سقط رأسها على كتف كاتي، واستغرقت في النوم مرة أخرى.
وقالت فرانسي رافعة كأسها: والآن نشرب نخب وجودنا معا دائما.
وقرعوا الكئوس وشربوا.
وتذوق نيلي شرابه فعبس، وقال إنه يؤثر عليه اللبن الخالص، وأفرغ كأسه في البالوعة، وملأ كوبا آخر باللبن البارد، وراقبت كاتي فرانسي وهي تشرب كأسها، فانتابها شعور بالقلق.
وقالت فرانسي: إنه شراب طيب، لا بأس به، ولكنه لا يبلغ في طيبه مبلغ شراب الكريمة المثلجة المعالجة بالصودا والفانيليا.
وترنمت كاتي بينها وبين نفسها: لم أشعر بالقل؟ ليس ثمة ما يدعو لأن أخاف عليهما مغبة الشراب.
إن فيهما رغم كل شيء عرقا من أسرة روملي، مثلما فيهما عرق من أسرة نولان، ونحن آل روملي لسنا قوما نحب الخمر.
وقالت فرانسي تدفع نيلي دفعا: هيا يا نيلي نصعد إلى السطح، ونرى كيف يبدو العالم في مستهل العام الجديد.
ووافق نيلي قائلا: وهو كذلك.
وأمرتهما أمهما قائلة: ارتديا حذاءيكما أولا، ثم معطفيكما.
وصعدا السلم الخشبي المهتز، ودفع نيلي الباب فأصبحا فوق السطح، كان الليل شديد البرد زاخرا بالصقيع، والريح نائمة، والهواء باردا ساكنا، والنجوم تتألق في السماء بحيث بدت السماء على ضوئها عميقة الزرقة داكنة، وكان القمر غائبا، لكن ضوء النجوم أضفى على الليل مزيدا من السحر.
ووقفت فرانسي على أطراف أصابعها وفتحت ذراعيها مبسوطتين، وصاحت: آه! إني لأرغب في أن أعانقها جميعا! أعانق الليل البارد الساكن بلا ريح، وأعانق النجوم المتألقة القريبة منا كل القرب، أجل أرغب في أن أضمها إلي بقوة، حتى تصرخ قائلة: «أطلقي سراحي! أطلقي سراحي!».
وقال نيلي قلقا: لا تقفي قريبة من حافة السطح كل هذا القرب، فقد تسقطين من فوقه.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إني بحاجة إلى شخص، إني بحاجة إلى شخص، إني بحاجة إلى أن أضم شخصا إلي، وإني بحاجة لما هو أكثر من هذا العناق، أريد شخصا يفهم ما أشعر به في لحظة كهذه، ولا بد للفهم أن يكون جزءا من الانتماء. - إني أحب أمي ونيلي ولوري، ولكني أريد شخصا أحبه حبا يختلف عن حبي لهم. - وإذا ما حدثت أمي عن هذا فإنها خليقة بأن تقول: «حقا؟ إذن لا تتمهلي في الممرات المظلمة مع الفتيان حين ينتابك هذا الشعور!» وإنها خليقة أيضا بأن تشعر بالقلق، ظانة أنني سأصبح على شاكلة سيسي، ولكنه شعور آخر غير شعور سيسي؛ لأنه ينطوي على الفهم الذي أنشده أكثر مما أنشد العناق، أو يكاد يكون أكثر، وإذا ما أنبأت سيسي أو إيفي فإنهما خليقتان بأن تتحدثا عنه على نحو ما فعلت أمي، بالرغم من أن سيسي تزوجت وهي في الرابعة عشرة، وتزوجت إيفي وهي في السادسة عشرة، وكانت أمي مجرد طفلة حين تزوجت، ولكنهن نسين ... وإنهن خليقات بأن يقلن لي إنني أصغر من أن تنتابني مثل هذه الأفكار، ولعلي صغيرة لأنني في الخامسة عشرة فحسب، ولكني أكبر من عمري هذا في بعض الأمور، على أنه ليس لي أحد أضمه، وليس لي أحد يفهمني، لعلني في يوم من الأيام ... في يوم من الأيام ... - نيلي، إذا كان الأمر يقتضيك أن تموت، أفلا يكون الموت رائعا الآن، وأنت تؤمن بأن كل شيء بديع، على نحو ما يكون هذا الليل بديعا؟
وسألها نيلي: أتعلمين؟ - ماذا؟ - لقد سكرت من ذلك الشراب الممزوج باللبن، هذا هو السر.
وسددت قبضة يدها إليه وتقدمت نحوه مهددة: لا تقل ذلك! لا تقل ذلك أبدا!
وتراجع خائفا من صرامتها، وقال متلعثما: أ ... أ ... أجل، لقد سكرت أنا نفسي مرة.
وقضت رغبتها في الاستطلاع على غضبها: أوفعلت ذلك يا نيلي؟ أحقا تقول؟ - أجل، أحضر لنا أحد الرفاق بعض زجاجات من الجعة، وهبطنا إلى الطابق السفلي وشربناها، لقد شربت منها زجاجتين وسكرت. - وماذا كان شعورك؟ - شعوري؟ انقلب العالم رأسا على عقب أول الأمر ... وهنالك غدا كل شيء يشبه ... أتعرفين تلك الأبواق المصنوعة من الكرتون التي تشترينها ببنس، وتنظرين في الطرف الصغير وتلقين الطرف الكبير فتتساقط قطع من الكرتون الملون أمام عينيك، ولكنها لا تتساقط على نحو واحد أبدا مرتين؟ لقد كنت أشعر بدوار شديد رغم ذلك، ثم تقيأت وأفرغت كل ما في جوفي.
واعترفت فرانسي: إذن فلا مانع من أن أبوح لك بأنني سكرت مرة أيضا. - من الجعة؟ - لا، حدث ذلك في الربيع الماضي بمتنزه ماكارين حين رأيت زهرة السنبل (التوليب) لأول مرة في حياتي. - كيف عرفت أنها زهرة السنبل، إذا كنت لم تري واحدة منها قبل ذلك؟! - لقد رأيتها في الصور، وحين نظرت إليها وتدبرت كيف تنمو، وكيف كانت أوراقها وأكمامها تكتسي بحمرة صافية وتبدو من الداخل صفراء، دار العالم أمام عيني، وأخذ كل شيء يلف كما تلف الألوان من خلال عدسة المبدع؛ على نحو ما قلت، وشعرت بدوار شديد حتى اضطررت إلى الجلوس على دكة في المتنزه. - هل تقيأت أيضا؟ - لا، وإني لأحس بالشعور نفسه الليلة هنا، فوق هذا السطح، وأنا أعلم أنه ليس بفعل الشراب الممزوج باللبن. - لا تكابري!
وتذكرت شيئا: لقد اختبرتنا أمنا حين أعطتنا ذلك الشراب الممزوج باللبن، أنا أعلم ذلك.
وقال نيلي: مسكينة أمنا! ولكن لا ينبغي لها أن تشعر بالقلق بشأني، فإني لن أسكر مرة أخرى أبدا؛ لأني لا أحب أن أتقيأ. - ولا ينبغي لها أن تشعر بالقلق بشأني أيضا، فأنا لست بحاجة إلى الشراب لأسكر، إنني أستطيع أن أسكر من أشياء كزهرة السنبل وهذا الليل.
ووافق نيلي. - أظنه أنه ليل جليل. - إنه ساكن كل السكون ... مشرق عظيم الإشراق ... يكاد يكون ... مقدسا ...
وانتظرت، لو كان أبوها معها هنا الآن ...
وغنى نيلي:
الليل الساكن ... الليل المقدس،
كل ما فيه هادئ، وكل ما فيه مشرق.
وقالت بينها وبين نفسها في سعادة: إنه مثل أبي تماما.
ومدت بصرها إلى بروكلين، وكان ضوء النجوم يتراوح بين الظهور والخفاء، وامتدت نظراتها إلى الأسطح المستوية، بعضها مرتفع، وبعضها منخفض، يعترضها من حين إلى حين سقف منحدر لبيت عتيق من الأيام الخالية، والمداخن فوق الأسطح ... تلوح على بعضها أشباح أعشاش الحمام ... ويسري في الليل في بعض الأحيان همس خافت هو هديل الحمام الناعس ... ومنارتا الكنيسة التوءمان تحتضنان المساكن المظلمة على بعد ... والجسر العظيم هناك عند نهاية شارعهم يلقي بنفسه كالزفرة عبر نهر إيست، ثم يغيب ... يغيب ... عند الشاطئ الآخر ... ونهر إيست المظلم يجري من تحت الجسر ... وهناك تلوح من بعيد في الأفق معالم نيويورك يغشاها الضباب الرمادي، كأنها مدينة صنعت من الورق المقوى.
وقالت فرانسي: ما من مكان مثلها. - مثل ماذا؟ - بروكلين، إنها لمدينة مسحورة. - إنها مثل أي مكان آخر تماما. - إنها ليست كذلك! إني أذهب كل يوم إلى نيويورك، ونيويورك ليست مثل بروكلين، ولقد ذهبت مرة إلى بايون لأزور زميلة مريضة من زميلاتي في المكتب في بيتها، وبايون أيضا ليست مثل بروكلين، إن بروكلين يكتنفها السحر والغموض كأنما هي ... نعم كأنما هي حلم، إن البيوت والشوارع لا تبدو بيوتا وشوارع حقا، وكذلك الناس أيضا. - إنهم أناس حقيقيون، في عراكهم وصياحهم بعضهم في وجه بعض، وفي فقرهم وقذارتهم أيضا. - ولكن فقرهم وعراكهم يبدوان كالحلم، إنهم لا يشعرون حقا بهذه الأشياء، كأنما كل شيء يحدث في حلم.
وقال نيلي في حزم: إن بروكلين لا تختلف عن أي مكان آخر، ولكن خيالك يجعل منها شيئا فريدا.
وأضاف في شهامة : ولكن لا بأس من هذا الخيال، ما دام يملأ قلبك بالسعادة.
نيلي فيه الكثير من أمي، وفيه الكثير من أبي! أخذ من كل منهما أفضل ما فيه، وأحبت أخاها، وأرادت أن تحيطه بذراعيها وتقبله، ولكنه كأمها يكره أن يستعرض الناس مشاعرهم، وإذا حاولت أن تقبله، فإنه خليق بأن يثور غضبا، ويدفعها بعيدا عنه، فمدت له يدها بدلا من ذلك: عام جديد سعيد يا نيلي. - وسعيد عليك أيضا.
وصافح كل منهما الآخر في وقار.
47
وكانت إجازة عيد الميلاد القصيرة تكاد تشبه الأيام الخالية في نظر أسرة نولان، ولكن الأمور بعد عيد السنة الجديدة عادت إلى النظام الرتيب الجديد، الذي اعتادوه منذ وفاة جوني.
ولم تعد هناك دروس البيانو لسبب واحد، هو أن فرانسي كانت لم تمارس العزف منذ شهور، أما نيلي فكان في أمسياته يعزف على البيانو في حانات الحي التي تبيع المثلجات، وقد أصبح بارعا في عزف موسيقى «الرجتيم»، بل كان في طريقه إلى أن يكون أكثر براعة في عزف موسيقى «الجاز»، وكان في مقدوره - كما كان يقول الناس - أن يجعل البيانو ينطق، وهو محبوب كل الحب من الناس، ويعزف نظير كئوس من الصودا تعطى له بلا مقابل، وفي بعض الأحيان يعطيه شيفلي دولارا نظير عزفه طول أمسية ليلة السبت، ولم تحب فرانسي له ذلك، وتحدثت مع أمها بشأنه، وقالت: إني لا أرضى له بذلك يا أمي. - ولكن أي ضر في ذلك؟ - أتحبين له أن يعتاد العزف نظير ما يلقى من مرطبات بلا مقابل، شأنه في ذلك شأن ...!
وترددت فالتقطت كاتي العبارة: شأن أبيك؟ لا، إنه لن يكون مثله أبدا، إن أباك لم يغن قط الأغاني التي أحبها مثل «آني لوري» أو «آخر ورود الصيف»، وإنما كان يغني ما يريده الناس مثل «آدلين الجميلة» و«هنالك عند غدير أولدهيل»، لكن نيلي ليس كذلك، فإنه سوف يعزف دائما ما يحبه غير عابئ مطلقا أأحب غيره ذلك أم لم يحب. - إنك تقولين إذن إن أبي كان مسليا للناس فحسب، وإن نيلي فنان .
واعترفت كاتي في تحد: نعم ... نعم ... - أظن أن حب الأم جعلك تبالغين بعض الشيء.
وعبست كاتي وتغاضت فرانسي عن الأمر.
وكانوا قد توقفوا عن قراءة الإنجيل وشكسبير منذ دخل نيلي المدرسة الثانوية، وقد أنبأهم بأنهم يدرسون قصة يوليوس قيصر وأن ناظر المدرسة يقرأ لهم جزءا من الإنجيل في كل اجتماع، وكان ذلك كافيا لنيلي، ورجت فرانسي أمها أن تعفيها من القراءة ليلا؛ لأن عينيها متعبتان من القراءة طول النهار، ولم تصر كاتي على القراءة، وقد شعرت أنهما قد بلغا من العمر ما يؤهلهما للقراءة أو العزوف عنها حسبما يريدان.
وكانت فرانسي تمضي أمسياتها وحيدة، وأسرة نولان تجتمع ساعة العشاء فحسب، بل إن لوري أيضا تجلس إلى المائدة في كرسيها العالي، ويخرج نيلي بعد العشاء لينضم إلى زمرته، أو ليعزف في بعض الحانات التي تبيع المثلجات، وتقرأ الأم الصحيفة، ثم تمضي إلى فراشها هي ولوري في الساعة الثامنة. (وكانت كاتي لا تزال تستيقظ في الخامسة صباحا، لتنتهي من معظم أعمال التنظيف في الوقت الذي تكون فيه فرانسي ونيلي في المسكن مع الطفلة، قبل أن يغادراها إلى عملهما.)
ويندر أن تذهب فرانسي إلى دار الصور المتحركة؛ لأن الصور كانت تقفز على نحو يؤلم عينيها، ولم تكن هناك مسارح لتغشاها، ومعظم الشركات المساهمة اختفت من الوجود، ثم إنها رأت باريمور يمثل في مسرحية العدالة ل «جالسورذي» على مسرح برودواي، وفسدت في نظرها الشركات المساهمة بعد ذلك، وكانت قد رأت إبان الخريف الماضي فليما سينمائيا أعجبها هو «عرائس الحرب» الذي مثلته نازيموفا، وأملت في أن تراه مرة أخرى، ولكنها قرأت في الصحف أن الفيلم منع عرضه لقرب وقوع الحرب، وهي تحتفظ بذكرى رائعة حين سافرت إلى مكان لا عهد لها به في بروكلين، لترى سارة برنارد العظيمة في مسرحية من فصل واحد مثلت على مسرح من مسارح كيث الفكاهية، وكانت الممثلة العظيمة قد جاوزت السبعين من عمرها، ولكنها بدت في نصف ذلك العمر من فوق خشبة المسرح، ولم تستطع فرانسي أن تفهم اللغة الفرنسية ، ولكنها أدركت أن المسرحية تدور حول ساق الممثلة المبتورة، ومثلت سارة برنارد دور جندي فرنسي فقد ساقه في الحرب، والتقطت فرانسي كلمة «ألماني» من حين إلى حين، ولم تكن فرانسي خليقة أبدا بأن تنسى شعر سارة برنارد المتوهج الأحمر وصوتها الذهبي، واحتفظت بالبرنامج في سجل الصور الخاص بها كأنما هو كنز، ولكنها لم تنعم بذلك إلا ثلاث أمسيات، اقتطعت من شهور وشهور من الأمسيات.
وأقبل الربيع مبكرا ذلك العام، وأثارتها لياليه الجميلة الدافئة، فأخذت تسير في الشوارع وتخترق المتنزهات صاعدة هابطة، وأينما تذهب تر فتى وفتاة معا، يسيران متشابكي الأذرع، ويجلسان على أريكة بالمتنزه، وتحيط ذراع كل منهما بالآخر، ويقفان متلاصقين في صمت في الممرات. إن كل شخص في العالم له حبيب أو صديق ما عدا فرانسي، والظاهر أنها كانت الفتاة الوحيدة في بروكلين التي كانت تعيش في وحدة.
مارس 1917م، كان كل ما يفكر فيه أهل الحي أو يتحدثون عنه، هو أن الحرب واقعة لا محالة، وكانت تسكن في أحد طوابق المنزل أرملة لها ابن وحيد، خشيت أن يضطره الأمر إلى الذهاب إلى الحرب ويقتل، واشترت له بوقا وحملته على أن يتلقى دروسا في النفخ، وقد اعتقدت أنه سوف يلحق بفرقة موسيقية من فرق الجيش، ويعزف في الاستعراضات والنوبات العسكرية فحسب، فيبقى بعيدا عن جبهة القتال، وعاش سكان البيت في عذاب يكاد يبلغ الموت، من جراء عزفه النشاز الذي لا ينقطع، وأزعج العزف رجلا ودفعه اليأس إلى اصطناع الحيلة، فأنبأ الأم أن لديه معلومات سرية تشير إلى أن الفرق العسكرية الموسيقية تقود الجنود إلى القتال، فتكون في جميع الأحوال أول من يقتل، ورهنت الأم المذعورة البوق فورا ثم مزقت تذكرة الرهن، وانقطع من بعد العزف المفزع.
وكانت كاتي تسأل فرانسي كل ليلة: هل بدأت الحرب؟ - لا، لم تبدأ بعد، ولكنها قد تشتعل في أي وقت. - نعم، إني لأود أن تبدأ سريعا. - أتريدين الحرب! - لا، لا أريدها، ولكن إذا كان لا بد من وقوعها، فمن الخير أن تعجل، وكلما بدأت سريعا انتهت سريعا.
ثم خلقت سيسي قصة مثيرة طغت على حديث الحرب إلى حين.
وكانت سيسي التي ودعت ماضيها الجامح، وأخذت ثائرتها تهدأ منتهية إلى السكينة، التي تسبق منتصف العمر حيث يشعر المرء بالرضا، قد رمت بالأسرة في أتون من الاضطراب بتدلهها في حب جون، الذي كانت قد تزوجته منذ أكثر من خمس سنوات، ولم يقتصر الأمل على ذلك، بل إنها ترملت وطلقت وتزوجت وحملت، كل ذلك في عشرة أيام.
وكانت صحيفة ستاندرد يونيون، وهي أحب الصحف عند أهل ويليمسبرج قد سلمت كالمعتاد عصر يوم إلى مكتب فرانسي في وقت الانتهاء من العمل، وحملتها فرانسي معها إلى البيت كالعادة لتقرأها كاتي بعد العشاء، وكانت فرانسي تعيدها إلى المكتب في الصباح التالي وتقرؤها وتؤشر عليها، ولم تكن فرانسي تقرأ الصحف في غير ساعات العمل أبدا؛ لذلك لم تعلم ما يحتوي هذا العدد من الصحيفة بالذات.
وجلست كاتي بعد العشاء بجوار النافذة لتقرأ الصحيفة، ولم تلبث بعد أن قلبت الصفحة الثالثة، أن أطلقت عبارتها المألوفة التي تنم عن أشد العجب: أوه! يا لي!
وجرت فرانسي ونيلي لينظرا إلى الصحيفة من فوق كتفها، وأشارت كاتي إلى العنوان: «بطل من رجال الحريق فقد حياته في حريق اشتعل بسوق بولابوت.»
وكتب تحت هذا العنوان عنوان آخر فرعي ببنط أصغر: «كان قد اعتزم أن يعتزل الخدمة في الشهر التالي.»
واكتشفت فرانسي حين قرأت الموضوع أن بطل الحريق كان زوج سيسي الأول، وقد نشرت الصحيفة صورة لسيسي منذ عشرين عاما، سيسي بثوبها المنقوش ذي الثنيات من طراز بومبادور، بأكمامه الكبيرة التي تضيق عند الرسغ، سيسي التي كانت في ربيعها السادس عشر، وكتب تحت صورة سيسي هذا العنوان: «أرملة مكافح الحريق البطل.»
ورددت كاتي: أوه! يا لي! إذن فهو لم يتزوج مرة أخرى قط، ولا بد أنه قد احتفظ بصورة سيسي كل هذا الزمن، فلما مات بحث بعض الناس عن حاجاته فعثروا على سيسي! - ينبغي لي أن أذهب إلى هناك فورا.
وخلعت كاتي «مريلتها» وذهبت لتأتي بقبعتها موضحة : إن جورج زوج سيسي يقرأ الصحف، ولقد أنبأته بأنها طلقت، والآن وقد عرف الحقيقة فسوف يقتلها أو يسرحها على الأقل.
واستأنفت: إنها لن تجد مكانا تذهب إليه هي وطفلتها وأمها.
وقالت فرانسي: يبدو عليه أنه رجل طيب، ولا أظن أنه خليق بأن يفعل ذلك. - إنا لا نعلم كل ما ليس خليقا بأن يفعله، بل إنا لا نعلم عنه شيئا على الإطلاق، فهو رجل غريب في الأسرة، وذلك شأنه دائما، أدعو الله ألا أصل إلى هناك بعد فوات الأوان.
وصممت فرانسي على أن تذهب معها، ووافق نيلي على أن يبقى بالبيت مع الطفلة، بشرط أن يخبراه بكل ما حدث.
ووجدتا سيسي حين وصلتا إلى بيتها مضطربة كل الاضطراب، وكانت الجدة ماري روملي قد حملت الطفلة واعتزلت في الحجرة الأمامية، حيث جلست في الظلام تصلي، داعية الله أن ينتهي الأمر بخير.
وحكى لهما زوج سيسي؛ جون، روايته هو للقصة: تصوروا أنني كنت خارج البيت أعمل بالمحل، ثم جاء رجال إلى البيت وقالوا لسيسي: إن زوجك قتل الآن، تصوروا ذلك، لقد ظنت سيسي أنهم يقصدونني.
واستدار إلى سيسي فجأة وسألها: هل بكيت؟
وأكدت له سيسي: كان يمكنك أن تسمع بكائي من العمارة المجاورة.
وبدا عليه الرضا والامتنان. - وتصوروا أنهم سألوا سيسي ما الذي ينبغي لهم أن يفعلوا بالجثة، وسألتهم سيسي: هل هناك أي تأمين؟ نعم، لقد اتضح أن هناك تأمينا بخمسمائة دولار سدد جميعا منذ عشر سنين، ولا يزال قائما باسم سيسي، إذن فما الذي فعلته سيسي؟ لقد أوصتهم بأن يرقدوه في بهو سبخت الجنائزي، تصوروا ذلك، وأمرت بأن تعد له جنازة بخمسمائة دولار.
واعتذرت سيسي قائلة: كان ذلك يقتضيني أن أدبر الأمر، فأنا الوحيدة التي على قيد الحياة من أقاربه.
ومضى يقول: وليس هذا كل ما في الأمر، فإنهم سيقبلون الآن، ويعطون سيسي معاشا، وصاح فجأة: إنها أنبأتني حين تزوجتها أنها امرأة مطلقة، وقد اتضح الآن أنها ليست مطلقة.
وصممت سيسي قائلة: ولكن الكنيسة الكاثوليكية لا تعترف بالطلاق. - إنك لم تتزوجي في الكنيسة الكاثوليكية. - أعلم ذلك؛ ولهذا لم أعد نفسي قط متزوجة، ولم أظن أن الأمر يقتصيني أن أحصل على الطلاق.
وألقى بيديه في الفضاء وأن قليلا : لقد فرغت حيلتي.
وكانت قولته هذي تعبر عن تلك الصيحة المعهودة من اليأس اليائس، التي أطلقها حين أصرت سيسي على أنها ولدت طفلة، وقال: تصوروا، لقد تزوجتها وأنا خالص النية؟
ثم تساءل في لهجة خطابية: فماذا فعلت؟ لقد أدارت ظهرها للأمر، وجعلتنا نعيش في الحرام.
وقالت سيسي في حدة: لا تقل ذلك! إننا لم نعش في الحرام، وإنما كنت متزوجة من اثنين. - وسوف تنتهي هذه الحال الآن، أفهمت؟ لقد ترملت من الزوج الأول، وسوف تطلقين من الزوج الثاني، ثم تتزوجين مني مرة أخرى، أفهمت؟
وقالت في وداعة: نعم يا جون.
وصاح قائلا: وإن اسمي ليس جون! إنه ستيف! ستيف! ستيف!
وكان في كل مرة يردد فيها اسمه يدق المائدة بعنف، فيصلصل كوب السكر الزجاجي الأزرق صاعدا هابطا، وقد تعلقت الملاعق حول حافته، ودفع إصبعه في وجه فرانسي: وأنت! من الآن فصاعدا أنا الخال ستيف، أفهمت؟
وحملقت فرانسي في الرجل المتغير في دهشة عقدت لسانها وعوى قائلا: نعم! نعم ما رأيك؟ - مر ... مر ... مرحى أيها الخال ستيف. - هذا شيء معقول.
وهدأت ثائرته، وأخذ قبعته من فوق مسمار خلف الباب، ووضعها على رأسه، وسألت كاتي قلقة: إلى أين أنت ذاهب يا جون ... أقصد يا ستيف؟ - اسمعي! حينما كنت صبيا كان أبي الكهل يخرج دائما ويشتري الكريمة المثلجة حين يكون بالبيت ضيوف، نعم، هذا هو بيتي، أفهمت؟ وأنا لدي ضيوف؛ ولذلك سأخرج وأشتري بربع دولار كريمة التوت المثلجة، أفهمت؟
ومضى، وتنهدت سيسي: أليس رجلا رائعا؟ إن المرأة قمينة أن تقع في حب رجل من هذا الطراز.
وقالت كاتي في هدوء: الظاهر أن أسرة روملي قد أصبح لها رجل في النهاية.
وذهبت فرانسي إلى الحجرة الأمامية المظلمة، ورأت في ضوء مصباح الشارع جدتها تجلس إلى النافذة، وفي حجرها طفلة سيسي نائمة، وحبات السبحة الكهرمانية تتدلى من بين أصابعها المرتعشة ، وقالت: يمكنك أن تتوقفي عن الصلاة الآن يا جدتي، لقد انتهى الأمر بخير، فقد خرج ليشتري الكريمة المثلجة، أفهمت؟
وقالت ماري روملي مسبحة: المجد للأب والابن والروح القدس.
وكتب ستيف باسم سيسي رسالة إلى زوجها الثاني بعنوانه الأخير المعروف، وكتب على المظروف «أرجو الرد»، وطلبت منه سيسي في رسالتها أن يوافق على طلاقها حتى يمكنها أن تتزوج ثانية، وجاءتها رسالة سميكة بعد أسبوع من مكان بعيد في ويسكونسن، ينبئها فيها زوجها الثاني أنه على ما يرام، وقد حصل على الطلاق في ويسكونسن منذ سبع سنين، ثم تزوج مرة أخرى بعد حصوله على الطلاق مباشرة، واستقر في ويسكونسن، حيث حصل على وظيفة طيبة وأصبح أبا لثلاثة أطفال، وأخبرها بأنه سعيد كل السعادة، وهدد بكلمات وضع تحتها خط ينم عن التحذير، أنه ينوي البقاء على الحال التي استقر عليها، وطوى داخل المظروف قصاصة قديمة من الصحيفة، ليثبت أنها قد أنبئت رسميا بالطلاق عن طريق النشر في الصحيفة، كما ضمن المظروف نسخة طبق الأصل من الحكم (حيثياته وهجرها له)، وصورة شمسية لثلاثة أطفال ممتلئين صحة وعافية.
وسعدت سيسي كل السعادة لطلاقها بمثل تلك السرعة، حتى إنها أرسلت إليه «صحنا» مفضضا من صحون المخللات، كهدية زفاف بعد فوات الأوان، وشعرت أن الأمر يقتضيها أن ترسل إليه رسالة تهنئة أيضا، ورفض ستيف أن يكتبها لها فطلبت من فرانسي أن تكتبها، وأملتها سيسي: اكتبي أنني أتمنى له السعادة كل السعادة. - ولكنه يا خالة سيسي تزوج منذ سبع سنوات، واستقرت حياته الآن، سواء أكان سعيدا أم لم يكن. - حينما تسمعين لأول مرة أن شخصا قد تزوج، فإن من اللياقة أن تتمني له السعادة؛ اكتبيها. - وهو كذلك.
وكتبتها. - وماذا بعد؟ - اكتبي شيئا عن أطفاله ... مبلغ ما هم عليه من ذكاء وفطنة ... شيئا مثل.
وغصت الكلمات في حلقها، وعرفت أنه أرسل الصورة ليثبت أن العيب لم يكن عيبه، حين كانت سيسي تلد أطفالها منه موتى، وتألمت سيسي لذلك. - اكتبي أنني أم لطفلة جميلة تتمتع بصحة جيدة، وضعي خطا تحت تتمتع بصحة جيدة. - ولكن رسالة ستيف حوت أنك تفكرين في الزواج، وقد يظن هذا الرجل أنه من السخف أن تنجبي طفلا بكل هذه السرعة.
وأمرتها سيسي: اكتبي ما أقول، واكتبي أنني سألد طفلا آخر في الأسبوع المقبل. - سيسي! هل ستلدين حقا؟ - بالطبع لا، ولكن اكتبي ذلك على أي حال.
وكتبت فرانسي ذلك. - وماذا بعد؟ - قولي له أشكرك على ورقة الطلاق، ثم قولي إنني حصلت على الطلاق قبل حصوله هو عليه بعام.
واختتمت في عجز: ولكني نسيت فحسب. - ولكن هذا كذب. - لقد حصلت على الطلاق قبل أن يحصل عليه، حصلت عليه في تفكيري.
واستسلمت فرانسي قائلة: لا بأس، لا بأس. - اكتبي أنني سعيدة كل السعادة، وأنني أنوي البقاء على هذه الحال، وضعي خطا تحت هذه الكلمات على نحو ما فعل. - وي يا سيسي! هل لا بد من أن تكون لك الكلمة الأخيرة؟ - أجل، كما لا بد لأمك أن تفعل تماما وإيفي وأنت أيضا.
ولم يكن لدى فرانسي مزيد من الاعتراض.
واستخرج ستيف تصريحا، وتزوج سيسي من جديد مرة أخرى، وقام بإجراءات الزواج هذه المرة قسيس على المذهب الميثودي، وكان أول زواج لسيسي في الكنيسة، وآمنت أخيرا أنها تزوجت حقا حتى يفرق الموت بينهما، وكان ستيف سعيدا كل السعادة، فلقد كان يحب سيسي ويخشى دائما أن يفقدها، ذلك أنها تركت أزواجها السابقين بلا سبب وبلا أسف، ويخشى أن تتركه هو أيضا وتأخذ معها الطفلة التي أصبح يحبها كل الحب، وعلم أن سيسي تؤمن بالكنيسة ... أية كنيسة كاثوليكية كانت أو بروتستانتية، حتى إنها لن تخرج أبدا على زواج الكنيسة، ولأول مرة في علاقتهما شعر ستيف بالسعادة والاطمئنان والسيطرة، واكتشفت سيسي أنها كانت مدلهة في حبه.
وأقبلت سيسي ذات ليلة بعد أن كانت كاتي قد أوت إلى فراشها، فطلبت منها ألا تنهض، وأنها سوف تجلس في حجرة النوم وتتحدث معها، وكانت فرانسي تجلس إلى مائدة المطبخ، تلصق قصاصات الشعر في دفاتر قديمة، واحتفظت بموسى في المكتب تقص بها الأشعار والقصص التي تعجب بها لتجمعها في سجل صورها، وكان لديها مجموعة منها، وقد كتب على دفتر منها هذا العنوان: ديوان نولان للشعر القديم، وكتب على آخر: «مجلد نولان للشعر المعاصر »، وكتب على ثالث: «كتاب آني لوري»، حيث جمعت فيه فرانسي أشعار هدهدة الأطفال، وقصص الحيوانات لتقرأها للوري حين تبلغ من العمر ما يؤهلها للفهم.
وكان للأصوات التي تنبعث من حجرة النوم المظلمة وقع رتيب تهدأ له النفس، وأنصتت فرانسي وهي تلصق القصاصات، وسمعت سيسي تقول: ... ستيف، رجل مهذب غاية التهذيب، رقيق الشعور كل الرقة، ولما أدركت ذلك كرهت نفسي، لما كان من علاقتي بالرجال الآخرين، أقصد من غير أزواجي.
وسألت كاتي بذعر: هل أنبأته بالآخرين؟ - أتظنينني بلهاء؟ ولكني أتمنى من كل قلبي لو كان هو الرجل الأول والوحيد.
وقالت كاتي: حين تتكلم المرأة على هذا النحو، فمعنى ذلك أنها تجتاز مرحلة التحول في الحياة. - كيف تكتشفين ذلك؟ - إذا لم يكن للمرأة أي حبيب فإنها تنحى على نفسها باللائمة حين يدركها التحول، وهي تفكر في كل المتعة التي كانت تستطيع أن تنالها، ولكنها لم تنلها، ولا تستطيع أن تنالها الآن، وإذا كان لها محبون كثيرون فإنها تناقش نفسها وقد اعتقدت أنها أخطأت، وتشعر بالأسف الآن، ولكنها تمضي في طريقها هذا لأنها تعلم أنها سرعان ما تفقد أنوثتها ... أجل تفقدها، وإذا ما اعتقدت أن علاقتها بالرجل لم تكن قط مجدية في المحل الأول، فإنها تستطيع أن تجد السلوى في التحول الذي يصيبها.
وقالت سيسي في سخط: إنني لا أمر بأية فترة من فترات التحول في الحياة؛ لأنني أولا لا أزال في ريعان شبابي، ثم إنني ثانيا لا أستطيع أن أتحمل التحول.
وتنهدت كاتي: إنه يدركنا جميعا حتما في يوم من الأيام.
وظهر الرعب على صوت سيسي: أأعجز عن إنجاب الأطفال ... وأصبح نصف امرأة ... وتصيبني البدانة ... وينمو الشعر على ذقني؟
ثم صاحت وقد جاشت عواطفها: لأقتلن نفسي قبل أن يحدث ذلك!
ثم أضافت في انشراح: إنني لم أقترب بحال من ذلك التحول؛ لأنني حملت مرة أخرى.
وانبعث من الحجرة المظلمة صوت كالحفيف، واستطاعت فرانسي أن تتصور أمها، وهي تنهض على مرفقها: لا يا سيسي! لا! إنك لا تستطيعين احتمال ذلك مرة أخرى، لقد حملت عشر مرات، وأنجبت عشرة أطفال ولدوا موتى، وسوف يكون الأمر أكثر صعوبة هذه المرأة؛ لأنك أوشكت على بلوغ السابعة والثلاثين. - إن المرأة في هذا العمر ليست أكبر سنا من أن تنجب أطفالا. - لا، ولكنها أكبر سنا من أن تتحمل في يسر خيبة أمل كبرى. - لا تقلقي يا كاتي، هذا الطفل سيعيش. - لقد قلت ذلك في كل مرة.
وقالت سيسي في توكيد رصين: إني على يقين هذه المرة؛ لأني أشعر أن الله معي.
وقالت بعد لحظة: لقد أنبأت ستيف كيف حصلت على سيسي الصغيرة. - وماذا قال؟ - كان يعلم طول الوقت أنني لم ألد الطفلة، ولكن الأسلوب الذي اتبعته في الادعاء أنني فعلت، جعل الأمر يلتبس عليه، وقال إنه لا أهمية للأمر ما دمت لم أنجبها من رجل آخر، وما دمنا قد ربينا الطفلة من يوم ولادتها، فهو يكاد يشعر حقا أنها ابنته، وإنه لمن المضحك أن تشبهه الطفلة إلى ذلك الحد، فإن لها عينيه الداكنتين وذقنه المستدير، كما أن أذنيها الصغيرتين تلتصقان برأسها كأذنيه. - لقد ورثت هاتين العينين الداكنتين من لوسيا، وإن ملايين الناس في العالم لهم ذقون مستديرة، وآذان صغيرة، ولكن إذا كان ستيف يشعر بالسعادة، حين يعتقد أن الطفلة تشبهه، فهذا شيء جميل!
وانقضت لحظة صمت طويلة ثم استأنفت كاتي حديثها: سيسي! ألم تعطك الأسرة الإيطالية أية فكرة عن شخصية والد الطفلة الحقيقي؟ - لا.
وصمتت سيسي أيضا لحظة طويلة ثم مضت تقول: أتعلمين من الذي أنبأني بأن الفتاة وقعت في مشكلة، وأين تسكن؟ وكل شيء؟ - من؟ - ستيف! - يا للهول!
وصمتت المرأتان لحظة طويلة، ثم قالت كاتي: كان ذلك مصادفة بلا شك.
ووافقت سيسي: بلا شك، فقد قال لي إن أحد زملائه في المحل هو الذي أخبره بالقصة، وهو زميل له يسكن في منطقة لوسيا السكنية.
ورددت كاتي: بلا شك، أتعلمين أن أشياء مضحكة ليس لها معنى على الإطلاق تقع هنا في بروكلين، مثال ذلك أنني في بعض الأحيان، وأنا سائرة في الشارع، يخطر ببالي شخص ربما لم أره منذ خمس سنين، ثم ألتفت بمنعطف، فإذا بهذا الشخص يسير متجها نحوي.
وأجابت سيسي: أعلم ذلك، وأحيانا أقوم بعمل لم أقم به من قبل قط في حياتي، وإذا بي أشعر فجأة أنني فعلت هذا الشيء نفسه من قبل، ربما في حياة أخرى!
وخبا صوتها وتلاشى، ثم قالت بعد لحظة: لقد كان ستيف يقول دائما: إنه لن يأخذ طفل رجل آخر أبدا.
ومضت كاتي تقول: كل الرجال يقولون ذلك، إن الحياة مضحكة، فقد يتصادف أن يحدث شيئان في وقت واحد، وفي وسع الشخص أن يصنع منهما الكثير، لقد كان مجرد مصادفة أنك علمت بتلك الفتاة، ولا شك أن ذلك الزميل نفسه قد أنبأ عشرات الرجال في المحل بالقصة، ولقد ذكرها لك ستيف بمحض المصادفة، وكان اتصالك بالأسرة مجرد مصادفة، وكذلك من محض المصادفة أن يكون للطفلة ذقن مستدير بدلا من ذقن مربع، بل إن ذلك لا يبلغ مبلغ المصادفة إنه ...
وتوقفت كاتي باحثة عن كلمة.
وكانت فرانسي في المطبخ، وقد استهواها الحديث إلى حد أنها نسيت أنه يجمل بها ألا تسترق السمع إليهما، فلما عرفت أن أمها تتلمس كلمة زودتها بها دون تفكير، وصاحت: أتقصدين «توافق» يا أمي؟
وساد حجرة النوم صمت ينم عن صدمة، ثم استؤنفت المناقشة، ولكن بهمس هذه المرة.
48
كان على مكتب فرانسي صحيفة، وهي صحيفة إضافية كانت قد أرسلت مباشرة من دار النشر، ولم يكن المداد قد جف بعد على عناوينها، وظلت الصحيفة على المكتب خمس دقائق، ولم تكن فرانسي قد التقطت قلمها بعد لتؤشر عليها، فبدأت بقراءة التاريخ: 6 أبريل سنة 1917م.
وكان ارتفاع الكلمة الواحدة التي يتألف منها العنوان ست بوصات، وحروفها الثلاثة ملطخة عند أطرافها، ووجدت فرانسي كلمة «الحرب» كأنها ترتعش.
وهبط على فرانسي إلهام بأنها بعد خمسين سنة من هذه اللحظة، سوف تحكي لحفيدتها كيف أنها جاءت إلى محل عملها، وجلست على مكتبها للقراءة، وقرأت أثناء عملها الرتيب أن الحرب قد أعلنت، وعلمت فرانسي من الاستماع إلى جدتها أن الشيخوخة قوامها ذكريات الشباب.
ولكنها لم ترد أن تتذكر الأشياء، وإنما أرادت أن تعيشها، أو آثرت كنوع من التوفيق بين الحالتين أن تعيشها مرة أخرى على أن تتذكرها.
وقررت أن تثبت هذا الوقت في حياتها على نحو ما كانت عليه هذه اللحظة تماما، ولعلها بذلك قد استطاعت أن تستمسك بها كلحظة حية فلا تستحيل شيئا اسمه ذكرى.
واستقرت عيناها على سطح المكتب تتفحصان شكل تعريق الخشب، وجرت أصابعها على الثغرة التي وضعت فيها أقلامها الرصاص، تثبت ملمس الثغرة في عقلها، وحزت بالموسى النقطة التالية على قلم من أقلامها، وفكت الصحيفة ووضعتها في راحتها ولمستها بسبابتها ولاحظت أنها حلزونية، وأسقطتها في صندوق المهملات المعدني، وهي تعد الثواني التي استغرقتها لتسقط فيه، وأرهفت السمع حتى لا يفوتها سماع الرطمة التي تكاد تكون بلا صوت، وهي ترتطم بقاع الصنودق، وضغطت بأناملها على العنوان الذي لم يجف، وفحصت أناملها التي غشاها المداد ثم طبعتها على ورقة بيضاء.
وانتزعت من الصحيفة الورقة الأولى غير عابئة بما قد يذكر من العملاء في الصفحتين الأولى والثانية، وطوت الورقة بعناية لتصنع مستطيلا وهي ترقب الثنيات تحت إبهامها، ثم أدخلتها في مظروف متين من ورق المانيلا، وهو من المظاريف التي يستخدمها المكتب في إرسال القصاصات بالبريد.
وسمعت فرانسي - كأنما لأول مرة في حياتها - صوت درج المكتب، حين فتحته لتأخد كيس نقودها، ولاحظت شكل مقبض الكيس وصوت إقفاله، ولمست الجلد ووعت في ذاكرتها رائحته، ودرست الدوائر التي في بطانته المصنوعة بالحرير الأسود، وقرأت التواريخ على عملات النقود التي في كيسها، ورأت بنسا جديدا ضرب سنة 1917م ووضعته في المظروف، وكشفت غطاء إصبع الشفاه الأحمر الخاص بها، ورسمت به خطا تحت صورة أناملها المطبوعة، وسرت فرانسي من اللون الأحمر الصافي وقوامه وما ينبعث منه من رائحة، وفحصت مسحوق الذرور في حقيبتها، وأطراف مبرد أظافرها ومشط شعرها الذي كان لا ينثني، وخيوط منديل يدها، وكانت في كيسها قصاصة بالية، وهي قصيدة شعر قصتها من صحيفة من صحف أوكلاهوما، نظمها شاعر كان يعيش في بروكلين، ودرس في مدارس بروكلين الابتدائية ، وألف في ميعة الصبا قصيدة «نسر بروكلين»، وأعادت قراءة القصيدة للمرة العشرين، لكي تثبت كل كلمة في عقلها:
في بردي شيخوخة وشباب،
وحمق وحكمة.
لا أحفل بالآخرين، وأحفل دائما بالآخرين.
وسواء كنت أما أو أبا، طفلا أو رجلا،
فقد جمعت في كياني بين الخشونة والرقة.
وأعادت القصيدة المهلهلة إلى المظروف، ونظرت في مرآتها الصغيرة إلى الطريقة التي ضفر بها شعرها، وكيف التفت الضفائر حول رأسها، ولاحظت كيف كانت رموشها السوداء المستقيمة تختلف بين القصر والطول، ثم فحصت حذاءها وجرت يدها هابطة على جوربها، ولاحظة لأول مرة أن ملمس الحرير خشن وليس ناعما، وكان قماش ثوبها قد صنع من خيوط رقيقة، وقلبت ذيل الثوب، ولاحظت أن طرف مئزرها الحريري الرفيع على شكل ألماسة.
وقالت بينها وبين نفسها: لو أنني أستطيع أن أعي كل تفصيلات هذا الوقت في عقلي، لاحتفظت بهذه اللحظة دائما.
وقصت خصلة من شعرها بالموسى، ولفتها في قطعة الورق المربعة التي طبعت عليها أناملها، وخطت عليها بإصبع الشفاه الأحمر، ثم طوت الورقة ووضعتها داخل المظروف وألصقت المظروف، وكتبت عليه من الخارج: «فرانسي نولان، عمرها 15 سنة وأربعة أشهر، 6 أبريل 1917م.»
وقالت بينها وبين نفسها: لو أنني فتحت هذا المظروف بعد خمسين سنة منذ اليوم، فسوف تكون حالي كحالي الآن، ولن تدركني الشيخوخة، ولكن هناك وقتا طويلا طويلا، قبل أن تمر خمسون سنة ... ملايين من الساعات، على أنه قد انقضت ساعة منذ جلست هنا ... فنقصت الساعات التي سأعيشها ساعة ... لقد ضاعت ساعة من ساعات عمري هنا.
وابتهلت قائلة: يا إلهي! دعني أكن شيئا كل دقيقة من كل ساعة في حياتي، دعني أشعر بالسعادة، وبالحزن، دعني أحس البرد، والدف، دعني أتضور جوعا، وأتخم شبعا، دعني أتعر أو أرفل في الحرير، دعني أكن مخلصة، ومخادعة، دعني أكن صادقة، وكاذبة، دعني أكن شيئا كل دقيقة مباركة فحسب ، وحينما أنام دعني أحلم طول الوقت، حتى لا تضيع مني لحظة من الحياة.
ومر الصبي الذي يوزع الصحف، وألقى بصحيفة مدينة أخرى على مكتبها، وكانت تشتمل هذه الصحيفة على عنوان من كلمتين:
أعلنت الحرب!
وبدت الأرض كأنها تميل إلى أعلى، وومضت أمام عينيها ألوان كالبرق، ووضعت رأسها على الصحيفة التي لم يجف مدادها وبكت في صمت.
وتوقفت إحدى القارئات الأكبر سنا عند مكتب فرانسي وهي عائدة من الحمام، ولاحظت العنوان والفتاة الباكية، وظنت أنها فهمت الأمر، وتنهدت قائلة: آه! الحرب؟
وسألتها بلهجتها التي تضغط فيها على مخارج الألفاظ، كأنها تقرأ: أظن أن لك حبيبا أو أخا؟
وأجابتها فرانسي في بعض الصدق: نعم، لي أخ. - إن قلبي معك يا آنسة نولان.
وعادت القارئة إلى مكتبها.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لقد ثملت مرة أخرى بسبب عنوان صحيفة هذه المرة، وإنها لسكرة سيئة؛ لأنني فزعت إلى البكاء.
ولمست إصبع الحرب مكتب نماذج قصاصات الصحف وجعلته ينهار، وكان أول حدث هو أن العميل الذي كان عماد المكتب، ذلك الرجل الذي كان يدفع آلاف الجنيهات في السنة، ليحصل على قصاصات الصحف حول قناة بنما، وما إلى ذلك، جاء إلى المكتب في اليوم الذي تلا إعلان الحرب، وقال: سوف لا يكون له مقر ثابت إلى حين، وسوف يؤجر شخصا كل يوم ليجمع له القصاصات.
وبعد أيام قلائل جاء رجلان بطيئا الحركة ثقيلا الخطوة لمقابلة الرئيس، ودفع أحدهما راحته تحت أنف الرئيس، الذي شحب لونه حينما رأى ما كان في تلك الراحة، لقد أحضر رزمة سميكة من القصاصات من سجل أكثر العملاء أهمية، وتفرس فيها الرجلان ثقيلا الخطو هنيهة، ثم أعاداها للرئيس الذي وضعها داخل مظروف، ووضع المظروف في مكتبه، وذهب الرجلان إلى دورة مياه الرئيس تاركين الباب مواربا، وانتظرا هناك طول اليوم، وبعثا وقت الظهيرة بالصبي المخبر ليشتري لهما كيسا من الشطائر، وقدرا من القهوة، وتناولا غداءهما في دورة المياه.
وأقبل عميل قناة بنما في الرابعة والنصف، وناوله الرئيس المظروف المنتفخ بحركة بطيئة، وما إن وضعه العميل في جيب معطفه الداخلي، حتى خطا الرجلان خطوات ثقيلة خارج دورة المياه، وأمسك أحدهما بكتف العميل، فتنهد وأخرج المظروف من جيبه وسلمه لهما، وأمسكه الرجل الثاني ثقيل الخطو من كتفه، وقرع العميل كعبيه معا، وانحنى في جمود وخرج من بين الرجلين، وعاد الرئيس إلى بيته يشعر بنوبة حادة من سوء الهضم.
وأنبأت فرانسي أمها ونيلي تلك الليلة، كيف تم القبض على جاسوس ألماني في عقر المكتب ...
وأقبل في اليوم التالي رجل يبدو عليه النشاط والخفة ومعه حقيبة صغيرة، واقتضى الأمر أن يجيب الرئيس عن أسئلة كثيرة، ودون الرجل النشيط الإجابات في الفراغ المتروك على استمارة مطبوعة، ثم حدث الشيء المحزن، فقد اضطر الرئيس إلى كتابة شيك بمبلغ أربعمائة دولار تقريبا، وهي القيمة المستحقة لتسوية حساب الصفقة التي ألغاها رغم إرادته.
وانطلق الرئيس خارج المكتب بعد أن انصرف الرجل النشيط، ليستدين مالا يسدد به الشيك.
وتبدد كل شيء من بعد، وخشي الرئيس أن يعقد صفقات جديدة مهما تبلغ براءة مظهرها، وكان موسم المسرح يولي أدباره وهبطت صفقات الممثلين، وغاض الفيض الذي كان على المكتب من الكتب التي تنشر في الربيع، وتجلب مئات العملاء من المؤلفين الموسميين الذين يدفعون خمسة دولارات، وعشرات العملاء من الناشرين الذين يدفعون مائة دولار، وغدا رذاذا شحيحا، وتجنبت دور النشر طبع المطبوعات الهامة حتى تستقر الأمور بعض الشيء، وألغى الكثيرون من الباحثين حساباتهم المفتوحة، متوقعين أن يجندوا في الحرب، بل إن المكتب لو سارت الأمور في مجراها الطبيعي، فسوف يكون خليقا بأن يعجز عن تصريفها؛ لأن العمال بدءوا ينصرفون عن المكتب.
كانت الحكومة قد توقعت قلة في الرجال، ففتحت باب اختبارات الخدمة المدنية للنساء العاملات، في مكتب البريد الكبير القائم بشارع 34.
وتقدمت معظم القارئات للاختبار ونجحن فيه وطلبن للعمل فورا، وهجر العمال اليدويون أو أعضاء المنتدى المكتب في حشد، ليعملوا في مصانع المشروعات الحربية، ولم يحصلوا على ثلاثة أضعاف أجورهم فحسب، بل حصلوا على تقريظ كبير من أجل وطنيتهم التي تقوم على إنكار الذات، وعادت زوجة الرئيس لتقرأ بالمكتب، وفصل الرئيس بقية القارئات جميعا ما عدا فرانسي.
ورن صدى الخواء في الطبقة العليا الواسعة، حين حاول ثلاثتهم أن يقوموا بالعمل وحدهم، وراح الرئيس يقص الصحف في عجز وقصور، ويطبع الحواشي طبعا غير واضح، ويلصق الموضوعات في اعوجاج.
وسلم بالأمر في منتصف يونيو، وأجرى الترتيبات لبيع أدوات مكتبه وفسخ عقد الإيجار، وسوى أمر سداد ما عليه من مال للعملاء ببساطة بالغة قائلا: فليقاضوني!
وطلبت فرانسي تليفونيا مكتب القصاصات الآخر الوحيد الذي تعرفه في نيويورك، وسألت هل يحتاجون إلى قارئة، وأنبئوها أنهم لا يؤجرون أبدا قارئات جديدات، وقال لها صوت في لهجة قاطعة: إننا نعامل قارئاتنا معاملة طيبة، ولا يضطرنا الأمر أبدا إلى استبدالهن.
وظنت فرانسي أن ذلك شيء رائع، وقالت ذلك، ثم وضعت السماعة.
وقضت صباح يومها الأخير في المكتب تؤشر على الإعلانات التي تطلب المساعدة وأهملت وظائف المكاتب، وقد علمت أن الأمر سيضطرها إلى أن تبدأ كاتبة سجل مرة أخرى، وكان من العسير على المرء أن يجد فرصة العمل في مكتب، إلا إذا كان كاتب اختزال أو كاتبا على الآلة الكاتبة، وقد آثرت فرانسي على أية حال العمل في المصنع؛ لأنها كانت تحب جمهور المصنع أكثر من غيرهم، وكانت تؤثر أيضا أن تترك عقلها حرا، وهي تشتغل بيديها، ولكن أمها بطبيعة الحال لم تكن خليقة بأن تسمح لها بالعودة إلى العمل في المصنع.
ووجدت إعلانا بدا لها أنه يجمع لحسن التوفيق بين المصنع والمكتب، وهو الاشتغال على آلة في مكتب، وقد عرض اتحاد المراسلة على الفتيات أن يعلمهن تشغيل آلة الكتابة البرقية، ويدفع لهن اثنى عشر دولارا ونصف دولار في الأسبوع أثناء التعليم، على أن تكون ساعات العمل من الخامسة مساء إلى الواحدة صباحا، وكان ذلك خليقا بأن يشغل أمسيات فرانسي على الأقل، إذا حصلت على هذه الوظيفة.
ولما ذهبت لتودع الرئيس قال لها: إن الواجب يقتضيه أن يعترف بأن لها في ذمته أجر الأسبوع الأخير، وقال إن لديه عنوانها وسوف يرسله لها، وودعت فرانسي الرئيس وزوجته، وطلبت من الله أن يعوضها في أجرها عن الأسبوع الأخير.
وكان لاتحاد المراسلة مكتب في أعلى ناطحة من ناطحات السحاب، يطل على نهر إيست في مدينة نيويورك، وملأت فرانسي ضمن عشرات الفتيات الأخريات طلب العمل، بعد أن قدمت خطاب التوصية الذي كتبه رئيسها السابق وامتدحها فيه بحماسة، وأدت اختبار الذكاء الذي أجابت فيه عن أسئلة بدت لها تافهة مثل: أيهما أثقل وزنا؛ رطل من الرصاص أم رطل من الريش؟ والواضح أنها اجتازت الاختبار بنجاح لأنهم سلموها رقما، ومفتاح قفل اقتضاها الأمر أن تدفع فيه ربع دولار، وطلبوا منها أن تعود في اليوم التالي في الساعة الخامسة مساء.
ولم تكن الساعة قد بلغت الرابعة تماما حين عادت فرانسي إلى البيت، وكانت كاتي منهمكة في تنظيف مسكنهم، وبدا عليها الانزعاج حين رأت فرانسي تصعد السلم: لا تنزعجي هكذا يا أمي، إنني لست مريضة، ولم يصبني شيء.
وقالت كاتي وقد هدأت نفسها: أوه! لقد ظننت لحظة أنك فقدت وظيفتك. - لقد فقدتها. - واكرباه! - ولن أحصل على أجر أسبوعي الأخير أيضا، ولكني حصلت على وظيفة أخرى، تبدأ غدا ... اثنا عشر دولارا ونصف دولار في الأسبوع، وإني أتوقع أن أحصل على زيادة في أجري بمرور الوقت.
وطفقت كاتي تلاحقها بالأسئلة. - أمي! إني متعبة، أمي لا رغبة لي في الحديث، وسوف نتكلم عن ذلك غدا، كما أنني لا أريد أن أتناول عشائي، وإنما أرغب في الذهاب إلى فراشي فحسب.
وصعدت السلم، وجلست كاتي على درجات السلم وبدأت تشعر بالقلق، إن أسعار الطعام وغيره من الأشياء جميعا قد ارتفعت ارتفاعا هائلا منذ قيام الحرب، وعجزت كاتي في الشهر الماضي أن تضيف شيئا إلى حساب فرانسي بالبنك؛ إذ لم تكفهم عشرة دولارات في الأسبوع، وكان لا بد من أن تشرب رطلا من اللبن الطازج كل يوم، وقد كان بديل اللبن مرتفع الثمن، ثم كان الأمر يقتضي أن يتوافر لديهم عصير البرتقال، والآن سوف يتبقى لهم من الاثنى عشر دولارا ونصف دولار في الأسبوع، بعد إسقاط نفقات فرانسي ، مبلغ قليل، ولسوف تحل الإجازة سريعا فيستطيع نيلي أن يشتغل في الصيف، ولكن ماذا يكون الأمر في الخريف؟ يسوف يعود نيلي إلى المدرسة الثانوية، ويقتضيهم ذلك أن تذهب فرانسي إلى المدرسة الثانوية ذلك الخريف، كيف يكون ذلك؟ كيف؟ وجلست هناك وقد استبد بها القلق.
وخلعت فرانسي ملابسها بعد أن ألقت نظرة عابرة على الطفلة النائمة وذهبت إلى فراشها، وثنت يديها تحت رأسها، وحملقت في الرقعة الرمادية التي على نافذة بئر التهوية.
وقالت بينها وبين نفسها: لقد بلغت الآن الخامسة عشرة، وها أنا ذي أسبح في لجة الحياة على غير هدى، لقد اشتغلت منذ أقل من عام، وحصلت على ثلاث وظائف إلى الآن، ودرجت على التفكير بأن من الطريف أن أنتقل من وظيفة إلى أخرى، ولكني الآن أشعر بالخوف، وفصلت من وظيفتين دون ذنب اقترفته، وكنت أبذل في كل وظيفة غاية جهدي، وضحيت بكل ما أستطيع، وإنني الآن أعود وأبدأ من جديد في مكان آخر، وها أنا ذي أشعر الآن فحسب بالفزع، وأنا خليقة في هذه المرة بأن أقفز مرتين، إذا قال الرئيس الجديد اقفزي مرة؛ لأنني أخشى أن أفقد وظيفتي، نعم، إني مرتاعة لأنهم يعتمدون علي هنا في الحصول على المال، وإني لأتساءل كيف كنا نشق طريقنا في الحياة قبل أن أعمل؟ لم تكن لوري موجودة آنذاك، وكنت أنا ونيلي أصغر سنا، ونستطيع أن ندبر أمورنا بنفقات أقل، وكان أبي بلا شك يبذل لنا بعض العون. - إذن ... وداعا أيتها الكلية، وداعا يا كل شيء، من أجل هذا ...
وأشاحت بوجهها عن الضوء الرمادي وأغمضت عينيها.
وفي صبيحة اليوم التالي جلست فرانسي إلى آلة كاتبة في حجرة، وقد غطي سطح الآلة بغطاء معدني محكم، حتى إنها لم تستطع أن ترى دساتينها، ورأت لوحة كبيرة رسم عليها شكل هندسي للدساتين علقت في واجهة الحجرة، واستعانت فرانسي باللوحة، وتلمست الحروف تحت الغطاء المعدني، كان ذلك هو يومها الأول.
وفي اليوم الثاني تسلمت فرانسي رزمة من البرقيات القديمة لنسخها، وراحت عيناها تنتقلان من النسخة إلى اللوحة، بينما كانت يداها تتلمسان الحروف، وفي نهاية اليوم الثاني كانت قد حفظت مواضع الحروف على الآلة، ولم تعد بحاجة إلى أن تستعين باللوحة، ونزعوا الغطاء المعدني بعد أسبوع، ولم تجد فرانسي فارقا بين الحالتين الآن؛ فقد أصبحت تكتب على الآلة الكاتبة بطريقة اللمس.
وشرح لها معلم طريقة عمل آلة الكتابة البرقية، وقضت فرانسي يوما في التمرن على إرسال الرسائل واستقبالها، ثم عينت في قسم البرقيات من نيويورك إلى كليفلاند.
واعتقدت فرانسي أنها لعجيبة أن تستطيع الجلوس إلى تلك الآلة وتكتب، فتخرج الكلمات على بعد مئات الأميال على قطعة ورق تدور على بكرة آلة في كليفلاند بولاية أوهايو، وكان هناك شيء آخر لا يقل عجبا عن سابقه؛ ذلك أن فتاة أخرى كانت تكتب على الآلة الكاتبة في كليفلاند تتحمل مطارق آلة فرانسي على أن تضرب الكلمات على الورق.
وكان عملا سهلا، ترسل فرانسي البرقيات ساعة، ثم تستقبلها ساعة، وتستريح بين هذا وذاك ربع ساعة مرتين، وتحصل على نصف ساعة للعشاء في الساعة التاسعة، وزاد أجرها إلى خمسة عشر دولارا في الأسبوع حين اشتغلت في البرق، ومع كل فإن الوظيفة كانت لا بأس بها.
وعدلت أعمال البيت وفقا لنظام فرانسي الجديد، وكانت فرانسي تغادر البيت بعد الرابعة مساء مباشرة، وتعود إليه قبل الثانية صباحا بقليل، وتضغط زر الجرس ثلاث مرات قبل أن تدخل الردهة، حتى تتنبه أمها وتتأكد من عدم تعرض فرانسي لهجوم رجل يقف في الردهات.
وكانت فرانسي تنام حتى الحادية عشرة صباحا، ولم تعد الأم مضطرة إلى أن تستيقظ في باكورة الصباح؛ لأن فرانسي كانت مع لوري في المسكن، وبدأت عملها في بيتها أولا، وما إن يحل الوقت الذي تستعد فيه للعمل في البيتين الآخرين، حتى تكون فرانسي قد استيقظت وتعهدت لوري، وكان الأمر يقتضي فرانسي أن تعمل ليلة السبت، ولكنها كانت تستريح ليلة الأربعاء.
وأحبت فرانسي النظام الجديد، فقد شغل أمسياتها الموحشة وساعد أمها، ومنح فرانسي ساعات قلائل كل يوم، تجلس خلالها مع لوري في المتنزه، وأفادت حرارة الشمس كلتيهما فائدة كبيرة.
وتبلورت فكرة في رأس كاتي فحدثت فرانسي بها، وسألتها: هل سيكلفونك بعمل الليل دائما؟ - أو يفعلون! إن وقتهم مزدحم بالعمل إلى حد التخمة، وما من فتاة تريد أن تعمل بالليل؛ ولذلك فهم يفرضونه على الفتيات الجديدات. - كنت أتصور أنك تستطيعين في الخريف أن تواصلي عمل الليل، وتذهبي إلى المدرسة الثانوية نهارا، وإني لأعلم أنه سوف يكون أمرا شاقا، ولكن يمكنك أن تقومي به على نحو ما. - أمي! إنني لن أذهب إلى المدرسة الثانوية مهما قلت. - ولكنك ناضلت لتذهبي إليها في العام الماضي. - حدث ذلك في العام الماضي، وكان ذلك هو الوقت المناسب للذهاب، ولكن فات الأوان الآن. - لم يفت الأوان، فلا تكوني عنيدة. - ولكن أي شيء في العالم يمكنني أن أتعلمه في المدرسة الثانوية الآن؟ أوه! أنا لست مغرورة أو أتصف بأي شيء من هذا القبيل، فقد ظللت أقرأ ثماني ساعات في اليوم مدة تقرب من عام، وتعلمت أشياء وكونت أفكاري الخاصة عن التاريخ والحكم والجغرافيا والكتابة والشعر، وقرأت الكثير عن الناس؛ ماذا يفعلون وكيف يعيشون، وقرأت عن الجرائم وعن البطولات، أمي! لقد قرأت عن كل شيء، ولا يمكنني الآن أن أجلس ساكنة في فصل بين حشد من الأطفال، وأستمع إلى معلمة عانس يسيل لعابها على هذا وذاك، ولو فعلت لكنت خليقة بأن أقفز من مقعدي، وأصحح لها خطأها طول الوقت، أو أجلس هادئة وأبتلع ذلك كله في صمت، وحينئذ أكره نفسي ... أجل ... آكل الذرة المسلوقة بدلا من الخبز؛ ولذلك فإني لن أذهب إلى المدرسة الثانوية، ولكني سأذهب إلى الكلية في يوم من الأيام. - ولكن الأمر يقتضيك أن تنتهي من صفوف الدراسة الثانوية، قبل أن يسمحوا لك بدخول الكلية. - أربع سنوات في المدرسة الثانوية ... لا خمس سنوات؛ لأن هناك شيئا خليقا بأن يحدث ويؤخرني، ثم أربع سنوات في الكلية، إنني سوف أصبح عانسا ذابلة في الخامسة والعشرين قبل أن أنتهي من الدراسة. - سوف تبلغين الخامسة والعشرين في حينه، أردت أم لم تريدي، وبصرف النظر عما تفعلين ، وقد يمكنك أيضا أن تتعلمي، وأنت في طريقك إلى بلوغ هذه السن. - أقولها للمرة الأخيرة يا أمي: إنني لن أذهب إلى المدرسة الثانوية.
وقالت كاتي وفكها يتخذ شكلا مربعا: سوف نرى.
ولم تزد فرانسي، ولكن فكها اتخذ شكل فك أمها.
على أن المناقشة هدت فرانسي إلى فكرة، إذا كانت أمها قد فكرت في أنها تستطيع العمل ليلا، والذهاب إلى المدرسة الثانوية نهارا، فلم لا يمكنها أن تذهب إلى الكلية على هذا النحو؟ وفحصت إعلانا في صحيفة يقول: إن أعرق كليات بروكلين وأوسعها شهرة تعلن عن دراسات صيفية لطلاب الكليات، الذين يرغبون في أداء دراسات عليا أو تعويض ما فاتهم من دراسات، ولطلاب المدارس الثانوية الذين يرغبون في تحصيل الدراسات العالية في الكلية، وظنت فرانسي أنها يمكن أن تدخل ضمن المجموعة الأخيرة، ولم تكن هي بالمعنى الدقيق طالبة بالمدارس الثانوية، ولكنها كانت أهلا لأن تكون كذلك، وأرسلت في طلب منهاج الدراسة.
وانتقت من القائمة ثلاث دراسات تجتمع فصولها بعد الظهيرة، فيمكنها أن تنام كالعادة حتى الحادية عشرة وتحضر الدروس، ثم تذهب إلى عملها من الكلية مباشرة، واختارت مبادئ اللغة الفرنسية، ومبادئ الكيميا، ودراسة تسمى المسرحية في عهد عودة الملكية، وفكرت في أجر التعليم، وكان يزيد على ستين دولارا بقليل، بما في ذلك نفقات المعمل، وكانت فرانسي تمتلك مائة وخمسة دولارات رصيدها المدخر، فذهبت إلى كاتي: أمي! أيمكنني أن أسحب خمسة وستين دولارا من المال الذي تدخرينه لي للكلية؟ - لماذا؟ - للكلية بطبيعة الحال؟
وكانت فرانسي تعي المأساة التي ستعقب ذلك، وقد جوزيت على ذلك بصوت الأم، الذي ارتفع عاليا وهي تردد وراء فرانسي: الكلية؟ - الكلية الصيفية.
وسال لعاب كاتي قائلة: ولكن، ولكن ... ولكن ... - أعلم أنني لم أذهب إلى المدرسة الثانوية، ولكن قد أستطيع أن أقبل لو أنبأتهم، بأنني لا أريد الحصول على الدبلوم أو أية درجة عالية، وإنما أريد تحصيل الدروس فحسب.
وأخذت كاتي قبعتها الخضراء من فوق رف الصوان: إلى أين أنت ذاهبة يا أمي؟ - إلى المصرف لأحضر المال.
وضحكت فرانسي من لهفة أمها: لقد انقضت ساعات على إغلاق المصرف، ثم إنه ليس هناك ما يدعو إلى العجلة، فلا يزال أمامنا أسبوع لتسجيل اسمي.
وكانت الكلية في مرتفعات بروكلين ، وهو حي آخر غريب عن بروكلين العظيمة، ينتظر فرانسي أن تستكشفه، وبينما هي تملأ ورقة التسجيل حوم قلمها حول السؤال الخاص بالتعليم السابق والذي يليه، وكان ثلاثة عناوين هي: المدارس الابتدائية، المدارس الثانوية، الكليات، وبعد لحظة تفكير حذفت فرانسي هذه الكلمات، وكتبت في الفراغ الذي يعلوها «تعليم خاص».
وطمأنت نفسها قائلة: وإنك حينما تسألين عنه فسوف، لا يكون ما كتبته كذبا.
ولم ترفضها الكلية بأي حال؛ مما أثار دهشتها الشديدة، وطمأن نفسها كل الاطمئنان، وتسلم الصراف المصروفات وسلمها إيصالا عن أجر التعليم، وأعطيت رقم تسجيل وترخيص بدخول المكتبة، وجدولا لدروسها، وقائمة بالكتب الدراسية التي تحتاج إليها.
وتبعت فرانسي حشدا ذاهبا إلى محل بيع كتب الكلية القائم في مكان بعيد أسفل المنطقة، ونظرت في قائمتها، وطلبت كتابي «مبادئ اللغة الفرنسية ومبادئ الكيمياء».
وسألها البائع: جديدا أم مستعملا؟ - لا أدري، ماذا يجب علي أن أختاره؟
وقال البائع: جديدا.
وشعرت بيد تلمس كتفها فاستدارت ورأت فتى وسيما أنيقا، وقال: اشتري الكتاب المستعمل، فإنه يؤدي ما يؤديه الكتاب الجديد، ولكنه بنصف الثمن. - أشكرك.
والتفتت إلى البائع وقالت في حزم: مستعمل.
وبدأت تطلب الكتابين اللازمين لدراسة المسرحية، وعادت تشعر باليد تلمس كتفها.
وقال الفتى نافيا: لا، لا، يمكنك أن تقرئيهما في المكتبة قبل الدراسة وبعدها وفي أثناء الفواصل.
وقالت: أشكرك مرة أخرى.
وأجابها: لا عليك.
واستدار مبتعدا، وتبعته عيناها وهو يمضي خارج المحل، وقالت بينها وبين نفسها: أوه! إنه طويل القامة، وسيم، إن الكلية لشيء رائع بلا شك.
وجلست في القطار المعلق في طريقها إلى المكتب، تمسك الكتابين بقوة، وخيل إليها أن صرير القطار فوق قضبانه الحديدية يقول في رتابة: الكلية الكلية الكلية، وبدأت فرانسي تشعر بالدوار، وأحست بإعياء شديد حتى إن الأمر اقتضاها أن تهبط من القطار في المحطة التالية، بالرغم من أنها تعلم أنها خليقة بأن تتأخر عن عملها، واتكأت على ميزان يزن الشخص نظير بنس، وقد تحيرت ما الذي ألم بها، ولم يكن من الممكن أن يكون السبب طعاما أكلته؛ لأنها نسيت أن تتناول غداءها، ثم داهمتها فكرة مفزعة: إن جدي لم يعرفا قط القراءة أو الكتابة، وهؤلاء الذين عاشوا قبلهما لم يستطيعوا القراءة أو الكتابة، وإن شقيقة أمي لا تستطيع أن تقرأ أو تكتب، وإن أبوي لم يتخرجا حتى في المدرسة الابتدائية، وإني لم أذهب قط إلى المدرسة الثانوية، ولكني أنا م. فرانسيس نولان ملتحقة الآن بالكلية، أتسمعين ذلك يا فرانسي؟ أنت في الكلية! أوه، إنني أشعر بالدوار.
49
وعادت فرانسي من أول محاضرة لها في الكيميا تغمرها السعادة، لقد اكتشفت في ساعة أن كل شيء صنع من ذرات في حركة دائمة، واستوعبت الفكرة بأنه ما من شيء يتلاشى أبدا أو يتحطم، بل إنه إذا حرق شيء أو ترك ليفسد، فإنه لا يتلاشى من فوق ظهر الأرض، وإنما يتحول إلى شيء آخر من الغازات أو السوائل أو المساحيق، وقررت فرانسي بعد المحاضرة الأولى أن كل شيء ينبض بالحياة، وأنه ليس هناك موت في عالم الكيميا، وتحيرت لم لا يتخذ المتعلمون من الكيميا دينا.
وكانت المسرحية في عهد عودة الملكية، بصرف النظر عما تتطلبه من وقت للقراءة، سهلة التناول بعد دراسة فرانسي لشكسبير في البيت، ولم تقلق بشأن هذه الدراسة، ولا بشأن دراسة الكيميا، ولكنها شعرت بالضياع حين بدأت تتعلم مبادئ اللغة الفرنسية، ولم تكن حقا مبادئ اللغة الفرنسية؛ ذلك أن المدرس اعتقد أن الطلاب درسوا هذه المبادئ من قبل ورسبوا فيها، أو أنهم درسوها من قبل في المدرسة الثانوية، فمر مرورا سريعا على الأجزاء الأولية ثم دخل في الترجمة، ولم تستطع فرانسي - وهي ضعيفة في علم النحو والهجاء والترقيم في اللغة الإنجليزية - أن تفهم اللغة الفرنسية، ولم تكن خليقة بأن تجتاز امتحانها أبدا، وكل ما تستطيعه هو أن تحفظ المفردات كل يوم محاولة أن تساير زملاءها.
وراحت تدرس في ذهابها وعودتها بالقطار المعلق، وتدرس في أوقات راحتها، وتتناول طعامها وقد برز أمامها كتاب على المائدة، وتكتب واجباتها على الآلة الكاتبة في حجرة التعلم لاتحاد المراسلة، ولم تتأخر عن عملها قط أو تتخلف ، ولم تطلب شيئا أكثر من أن تجتاز امتحانين على الأقل من دراساتها.
وأصبح الفتى الذي عاونها في محل الكتب ملاكها الحارس، وكان اسمه بن بليك، وهو فتى عجيب كل العجب، طالب بالصف النهائي في مدرسة ماسبث الثانوية، ومحرر مجلة المدرسة، ورئيس فصله، يلعب ظهيرا مساعدا في فريق كرة القدم، وكان طالبا حائزا على مرتبة الشرف، وكان يتلقى دراسات في الكلية في فصول الصيف الثلاثة الماضية، وخليقا بأن ينتهي من دراسة المدرسة الثانوية، حين يكون قد اجتاز من دراسة الكلية ما يزيد على عام.
وكان إلى جانب دراساته يقضي وقته بعد الظهيرة في العمل بمكتب من المكاتب القانونية، يعد الدعاوى، ويتولى أمر الحضور، ويفحص العقود والسجلات، ويبحث عن السوابق، وكان قد ألف قوانين الولاية وأصبح قادرا على تناول قضية في محكمة، ويكتسب خمسة وعشرين دولارا في الأسبوع إلى جانب تفوقه في الدراسة، وقد أراد له المكتب أن يشتغل فيه كل الوقت بعد تخرجه في المدرسة الثانوية، ويقرأ القانون معهم، ثم يمر أخيرا بامتحان شهادة التأهيل للمحاماة، ولكن بن كان يهزأ بالمحامين غير الجامعيين، واختار كلية عظيمة في الغرب الأوسط، وصمم على أن يكمل دراسته ليحصل على درجة البكالوريوس، ثم يلتحق بمدرسة القانون.
وكان هو في التاسعة عشرة من عمره قد رسم لحياته طريقا مستقيما لا يحيد، وبعد أن حصل على شهادة التأهيل للمحاماة تهيأ ليشتغل بالمحاماة في الريف، واعتقد أن المحامي الناشئ يجد في العمل بالبلدة الصغيرة فرصا سياسية أكثر، بل إنه قد اختار العمل بالفعل، فقد كان عليه أن يخلف قريبا له من بعيد، وهو محام مسن في الريف رسخت أقدامه في ممارسة المهنة، وكان على اتصال دائم بسلفه المقبل، يتلقى منه كل أسبوع رسائل إرشاد وتوجيه.
ودبر بن أن يمارس هذه المهنة وينتظر دوره في تولي منصب مدعي القرية (وكان المحامون قد اتفقوا على تبادل هذه الوظيفة في هذه المقاطعة الصغيرة فيما بينهم على التوالي)، إن ذلك خليق بأن يكون بداية حياته السياسية، وسوف يكد في العمل، ويسعى إلى أن يكون مشهورا أهلا للثقة، ثم ينتخب أخيرا عضوا لمجلس نواب الولاية، وسوف يخدم الناس مخلصا فيعاد انتخابه، ثم يعود إلى المدينة ويعمل من أجل أن يصبح حاكم ولايته، تلك كانت خطته.
والعجيب في هذه القصة كلها أن هؤلاء الذين عرفوا بن بليك، كانوا على يقين من أن كل شيء سوف يتحقق على نحو ما دبر هو.
وفي أثناء ذلك الصيف لسنة 1917م، كانت ولاية الغرب الأوسط المترامية الأطراف، والتي هي هدف وأطماع بن وآماله، ترقد حالمة تحت شمس البرية الدافئة، ترقد حالمة وسط حقول قمحها الفسيحة، وبساتين كرومها الممتدة إلى ما لا نهاية تنبت فيها الأعناب والتفاح، ترقد حالمة لا تدري أن الرجل الذي يدبر خطته ليشغل كرسيا في بيتها الأبيض كأحدث حاكم لها، كان في تلك اللحظة فتى في بروكلين.
كان ذلك هو بن بليك، الأنيق، المرح، الوسيم، اللماح، الواثق بنفسه، المحبوب من زملائه الفتيان، والذي تهيم به الفتيات جميعا، ويخفق له قلب فرانسي نولان بالحب.
وكانت تراه كل يوم، ويبرق قلمه وهو يجوس خلال واجباتها في اللغة الفرنسية، ويراجع عملها في الكيميا ويشرح لها ما يتعذر عليها فهمه في مسرحيات عهد عودة الملكية، وساعدها في رسم خطة دراساتها للصيف المقبل، وحاول في كرم أيضا أن يرسم لها بقية خطة حياتها.
وأحزن فرانسي شيئان حين أوشك الصيف على الانتهاء، ذلك أنها سرعان ما تعجز عن رؤية بن كل يوم، وأنها لن تجتاز امتحان اللغة الفرنسية، وباحت لبن بسبب حزنها الأخير.
وقال لها في خفة: لا تكوني بلهاء، لقد دفعت أجر الدراسة، وحضرت الدروس كل الصيف، إنك لست ضعيفة العقل، وسوف تجتازين الامتحان بجدارة.
وضحكت قائلة: لا، سوف أرسب في الامتحان بجدارة. - إذن أظن الأمر يقتضينا أن نحشد ذهنك بالمعلومات لاجتياز الامتحان الأخير، وسوف نحتاج إلى يوم كامل. وبعد، إلى أين نستطيع أن نذهب؟
واقترحت فرانسي في تهيب: إلى بيتي؟ - لا، سوف يكون هناك أناس.
وفكر لحظة وقال: أنا أعرف مكانا مناسبا، قابليني صباح الأحد في الساعة التاسعة عند منعطف شارعي جيتس وبرودواي.
وكان في انتظارها حين هبطت من عربة التروللي، وتساءلت فرانسي: ترى إلى أي مكان في العالم يأخذها في ذلك الحي، وصحبها إلى الباب الخلفي لمسرح في برودواي قائم عند أول ثنية في الطريق، ودخل من الباب السحري لمجرد قوله للرجل ذي الشعر الأبيض، الجالس في الشمس على كرسي منحرف بجوار الباب المفتوح: «صباح الخير يا بوب.»
ولم تكن قد دخلت إلى المسرح الخلفي من قبل، وبلغت بها النشوة حدا كادت تشعر فيه بارتفاع في حرارتها، وبدا المسرح فسيح الأرجاء، وبدا سقفه بعيدا جدا كأنما هو مفقود، وبينما هي تعبر خشبة المسرح غيرت خطوتها، وسارت في بطء بقدم متصلبة، إذ تذكرت خطوات هارولد كلارنس، وحينما تكلم بن استدارت ببطء في مبالغة تمثيلية، وقالت بصوت يخرج من حلقها: هل (وسكتت لحظة لها مغزاها) تكلمت؟
وسألها: أتريدين أن تري شيئا؟
وجذب الستار فرأت الستار المصنوع من الحرير الصخري، يلتف صاعدا كأنه ظل مارد ضخم، واستدار متجها إلى درجات مقدمة خشبة المسرح وسارت هي على هذه المقدمة، وتطلعت إلى آلاف المقاعد الشاغرة المكدسة تنتظر من يجلس عليها، وأمالت رأسها، وأطلقت صوتها إلى أعلى صف من صفوف الشرفة صائحة: مرحى، يا من هناك!
وبدا صوتها كأنما زادت قوته مئات المرات، وهو يتردد في الفراغ المظلم الذي يقبع منتظرا، وسألها بروح طيبة: استمعي إلي، هل أنت أكثر شغفا بالمسرح، أو بدروسك في اللغة الفرنسية؟ - بالمسرح بلا شك!
وكانت تلك هي الحقيقة، وهنالك طلقت كل طموحها الآخر، وعادت إلى حبها الأول، ألا وهو المسرح.
وضحك بن وهو يقطع الدرجات، وأنزل الستار ووضع كرسيين متقابلين، وكان قد حصل - بطريقة ما - على أسئلة الامتحانات في السنوات الخمس الماضية، ووضع لها أسئلة امتحان مثالية، مستعينا بالأسئلة التي تكررت أكثر من غيرها، وتلك التي لم ترد إلا نادرا، وقضى معظم اليوم يدرب فرانسي على تلك الأسئلة وإجاباتها، ثم حملها على أن تحفظ صفحة من مسرحية موليير «طارطوف»، وترجمتها الإنجليزية، وقال مبينا: سوف يوافيك في الامتحان غدا سؤال يبدو لك كالطلسم، فلا تحاولي أن تجيبي عنه، وإنما افعلي هذا: اكتبي بصراحة أنك لا تستطيعين أن تجيبي عن السؤال، ولكنك تقدمين بدلا منه مختارات من مسرحية موليير مع ترجمتها، ثم اكتبي ما حفظته، وسوف تخرجين بذلك من المأزق. - ولكن افرض أنهم طلبوا تلك الفقرة بالذات في سؤال من الأسئلة؟ - لن يفعلوا، لقد اخترت فقرة غامضة كل الغموض.
والظاهر أنها خرجت من المأزق لأنها اجتازت امتحان اللغة الفرنسية، والحق أنها اجتازته بأقل الدرجات، ولكنها واست نفسها بفكرة أن اجتياز الامتحان هو اجتياز الامتحان، وأجادت كل الإجادة في امتحاني الكيميا والمسرحية.
وعادت إلى الكلية بعد أسبوع، مراعية لإرشادات بن، طالبة نسخة طبق الأصل من درجاتها، ولقيت بن كما اتفقا من قبل، وصحبها إلى محل هيولر ليتناولا شراب الشوكولاتة المعالجة بالصودا، وسألها وهما يشربان الصودا: كم عمرك يا فرانسي؟
وحسبت عمرها بسرعة، كانت في الخامسة عشرة في البيت، وفي السابعة عشرة في العمل، وبن في التاسعة عشرة، ولم يكن خليقا بأن يحدثها مرة أخرى قط، إذا عرف أنها في الخامسة عشرة فحسب، ورأى ترددها فقال: إن أي شيء تقولينه قد يستخدم ضدك.
ووضعت شجاعتها فوق كفها، وارتجف صوتها، وقالت في جرأة: إنني ... في الخامسة عشرة.
وأطرقت في خزي. - إني أميل إليك يا فرانسي.
وقالت بينها وبين نفسها: وأنا أحبك. - إنني أميل إليك أكثر من أية فتاة أخرى عرفتها في حياتي، ولكني بلا شك لا أجد وقتا للفتيات.
وتجرأت على القول: إلى حد أنك لا تستطيع أن تدبر نصف ساعة يوم الأحد؟ - إن ساعات فراغي القليلة من نصيب أمي، فإني كل شيء في حياتها.
ولم تكن فرانسي قد سمعت عن السيدة ليك حتى تلك اللحظة، ولكنها كرهتها؛ لأنها استحوذت على ساعات فراغه كلها، وكان القليل منها خليقا بأن يضفي على فرانسي السعادة، ومضى يقول: ولكني سوف أفكر فيك، وأراسلك لو ملكت لحظة من الوقت. (وكان يسكن في منطقة تبعد عن فرانسي نصف ساعة)، على أنك إذا شعرت بالحاجة إلي في أي وقت - على ألا يكون ذلك بطبيعة الحال لأي سبب تافه - فاتركي لي كلمة، وسوف أحاول أن أراك.
وأعطاها بطاقة من بطاقات المكتب تحمل اسمه كاملا في طرفها، وهو بنيامين فرانكلين بليك، وافترقا خارج محل هيولر بعد أن تصافحا في حرارة، واستدار صائحا وهو يمضي مبتعدا: سأراك في الصيف المقبل.
ووقفت فرانسي تنظر خلفه حتى التفت بالمنعطف، الصيف المقبل! إنها في شهر سبتمبر فحسب، وبدا لها الصيف المقبل كأنه بعيد آلاف الآلاف من السنين.
واستمتعت فرانسي بالمدرسة الصيفية كل الاستمتاع، حتى أرادت أن تحصل على الشهادة الثانوية من الكلية نفسها في ذلك الخريف، ولكنها لم تجد وسيلة ما تدفع بها مصروفات الدراسة المطلوبة التي تزيد على ثلاثمائة دولار، وفي صباح يوم قضته في فحص قوائم الكليات بمكتبة نيويورك في الشارع الثاني والأربعين، اكتشفت كلية للنساء، التعليم فيها بالمجان لسكان نيويورك.
ومضت تسجل اسمها متسلحة بصورة طبق الأصل من درجاتها، وأنبئوها أنها لا تستطيع أن تحصل على الشهادة الثانوية وهي تفتقد الدراسة الثانوية، وبينت لهم كيف سمح لها بدخول المدرسة الصيفية ... آه! كان ذلك مختلفا، فإن الدراسات تعطى هناك للعلم فحسب، ولا تمنح الدرجات في الدراسات الصيفية، وسألت هل تستطيع أن تحضر الدراسات الآن دون أن تنتظر شهادة؟ لا، إلا إذا كانت قد جاوزت الخامسة والعشرين، فإنه يسمح لها أن تلتحق بالكلية كطالبة خاصة، وتتلقى الدروس دون أن ترشح للشهادة، واعترفت فرانسي آسفة أنها لم تبلغ الخامسة والعشرين بعد، وكان هناك حل آخر لذلك على أي حال، فإذا استطاعت أن تجتاز امتحان القبول أو المعادلة، فإنها خليقة بأن تقبل، بصرف النظر عن شهادة المدرسة الثانوية.
وحضرت فرانسي الامتحان، ورسبت في كل المواد ما عدا الكيميا.
وقالت لأمها: كان يجب علي أن أعلم أنه إذا كان الناس يستطيعون أن يدخلوا الكلية بذلك اليسر، لما اهتم أحد بدخول المدرسة الثانوية، ولكن لا تشغلي بالك يا أمي، لقد عرفت ما هي امتحانات القبول الآن، وسوف أشتري الكتب وأدرس، وأدخل هذه الامتحانات في العام المقبل، وأنجح في العام المقبل ، وهو عمل يمكن للمرء أن يفعله، ولأفعلنه، وسوف ترين.
ولكنها لم تكن خليقة بأن تفعل، حتى ولو استطاعت أن تدخل الكلية؛ لأنها عينت في عمل النهار بالرغم من كل شيء، وأصبحت كاتبة برقيات سريعة خبيرة، فاحتاجوا إليها في النهار حين يزدحم العمل، وأكدوا لها أنها تستطيع أن تعود إلى عمل الليل في الصيف إن شاءت، وحصلت على الزيادة التالية في أجرها، وأصبحت تكتسب سبعة عشر دولارا ونصف دولار في الأسبوع.
وعادت الوحدة إلى أمسياتها، وراحت فرانسي تطوف بشوارع بروكلين في ليالي الخريف البديعة، وتفكر في بن. (إذا شعرت بالحاجة إلي في أي وقت فاتركي لي كلمة، وسوف أحاول أن أراك.)
نعم، لقد كانت تحتاج إليه، ولكنها على يقين من أنه لن يأتي إذا كتبت له: إنني أشعر بالوحدة، تعال إلي أرجوك لتسير معي وتتحدث إلي؛ فلم يكن في جدول حياته الصارم أي عنوان يسمى «الوحدة».
وبدا لها الحي هو نفس الحي، بالرغم من أنه كان مختلفا، فقد ظهرت نجوم ذهبية في بعض نوافذ المساكن، وكان الصبية لا يزالون يتجمعون في المساء عند المنعطف، أو أمام محل يبيع الحلوى ببنس، ولكن كان من المنتظر الآن على غير العادة أن يكون صبي من الصبيان مرتديا الزي العسكري.
ووقف الصبية يترنمون، وغنوا أغنية «كوخ في بلدة من الأكواخ القديمة»، وأغنية «حين تتحلين بزهرة السنبل»، وأغنية «عزيزتي الفتاة الحميمة»، وأغنية «إني آسف، لأني أبكيتك» وغيرها من الأغاني.
وكان الصبي المجند يقودهم أحيانا إلى أغاني الحرب: أغنية «هنالك» وأغنية «كا - كا - كا - كاتي»، وأغنية «وردة تنمو في الشقة الحرام».
ولكن بصرف النظر عن الأغنية التي يغنونها، فقد كانوا يختمون دائما بأغنية من أغاني بروكلين الشعبية، مثل أغنية «الأم ماكري»، وأغنية «حينما تبتسم العيون الأيرلندية»، وأغنية «دعيني أناديك يا حبيبتي»، وأغنية «لقد واصلت الفرقة الموسيقية العزف».
ومرت بهم فرانسي في الأمسيات، وتحيرت لم ترن هذه الأغاني جميعا في أذنها حزينة كل الحزن!
50
توقعت سيسي أن تلد طفلها في أواخر شهر نوفمبر، وعانت كاتي وإيفي مشكلات كثيرة لتتفاديا مناقشة الأمر مع سيسي، وكانتا على يقين من أن الطفل لا بد أن يولد ميتا أيضا، وذهبتا إلى أنه كلما قل الحديث عنه قلت ذكراه عند سيسي من بعد، ولكن سيسي قامت بعمل ثوري، حتى إن الأمر اقتضاهما أن تتحدثا عنه؛ لأنها أعلنت أنها سوف تستدعي طبيبا حين ولادة الطفل، وستذهب إلى المستشفى.
وذهلت أمها وأخواتها لهذا النبأ، فلم يسبق قط لامرأة من آل روملي أن استدعت طبيبا عند الولادة، ولم يبد ذلك لهن صوابا؛ فالمرأة منهن كانت تستدعي قابلة أو جارة من الجارات أو أمها، وتنتهي من الأمر سرا خلف الأبواب المغلقة دون الرجال، فإن إنجاب الأطفال كان من شأن النساء، أما المستشفيات فالجميع يدركون أن من يذهب إليها إنما يذهب إلى الموت فحسب.
وأخبرتهما سيسي أنهما متخلفتان عن الزمن، وأن القابلات أصبحن أثرا من آثار الماضي، ثم أنبأتهما في فخر أنها لا رأي لها في الأمر، فقد صمم زوجها ستيف على استدعاء الطبيب والذهاب إلى المستشفى، ولم يكن ذلك كل ما في الأمر.
كانت سيسي تنوي استدعاء طبيب من غير دينها، وعللت ذلك لأختيها المندهشتين قائلة: إن الأطباء من غير ديننا يكونون أحنى علينا من أطباء ملتنا في مثل هذا الوقت.
وقالت كاتي: ولكن أظن أنك خليقة بأن تحتاجي إلى وجود طبيب من ملتك في وقت ... (وهمت كاتي بأن تقول الموت لكنها أمسكت في الوقت المناسب) ... في وقت الميلاد.
وقالت سيسي: عجبا لك!
وقالت إيفي وهي تظن أنها تدلي بالحكمة: إن الطيور على أشكالها تقع.
وكانت هذه الولادة كالولادات الأخرى جميعا، ولادة سيسي السهلة المعهودة، التي زادت مهارة الطبيب من سهولتها، وأغمضت سيسي عينيها بقوة حين ولد الطفل، كانت ترهب النظر إليه، وفي يقينها أن هذا الطفل سيعيش، ولكنها الآن، وقد حل الوقت، شعرت من أعماقها أن الأمر سيكون على خلاف ذلك، وفتحت عينيها أخيرا، ورأت الطفل راقدا على منضدة قريبة، ساكنا أزرق وأشاحت بوجهها عنه.
وقالت بينها وبين نفسها: مرة أخرى وأخرى وأخرى، إحدى عشرة مرة ، آه! يا إلهي، لم لا تشاء أن تهبني طفلا؟ طفلا واحدا من أحد عشر؟ ولسوف تنقضي بعد سنوات قلائل سنوات خصوبتي، كم هو مؤلم لامرأة تموت آخر الأمر، وهي تعلم أنها لم تنجب طفلا حيا قط! آه يا إلهي! لم أنزلت علي لعنتك؟!
ثم سمعت كلمة، سمعت كلمة لم تعرفها قط، كلمة «الأوكسيجين»! وسمعت الطبيب يقول: أسرعي! «الأوكسيجين»!
وراقبته وهو يسعف طفلها، ورأت كرامة تفوق كرامات القديسين التي كانت أمها حكت لها عنها، رأت الطفل الميت الأزرق يغدو حيا أبيض، رأت طفلا ليست عليه سمة الحياة يتنفس، ولأول مرة في حياتها سمعت صراخ طفل ولدته، وسألت وهي تخشى أن تصدق ما وقع: هل هو ... هل هو حي؟
وهز الطبيب كتفيه، وقال في بلاغة: وما الذي يكونه غير ذلك؟ لقد أنجبت أجمل طفل رأيته في حياتي. - أمتأكد أنت أنه سيعيش؟ - ولم لا؟
وهز كتفيه مرة أخرى: إلا إذا وقع منك من نافذة في الطابق الثالث!
وأمسكت سيسي يديه وغمرتهما بالقبلات، ولم يشعر الدكتور أرون أرونشتين إزاء عاطفتها الجياشة بالحرج، الذي كان خليقا أن يشعر به طبيب من غير ملتها، وسمعت سيسي الطفل ستيفن أرون، وقالت كاتي: إنني لم أر لها صنيعا يخيب قط، فما على المرأة العقيم إلا أن تتبنى طفلا ثم تطوي صفحة ذلك، ثم تصمم أن تكون لها بعد سنة أو سنتين طفل من دمها، وكأنما يستجيب الله أخيرا لنواياها الطيبة، إنه لشيء جميل أن تربي سيسي طفلين؛ لأنه ليس من الخير أن ينشأ طفل وحيدا.
وقالت فرانسي: إن الفرق بين الصغيرة سيسي وستيفن سنتان فحسب، وهو يكاد يكون الفرق بيني وبين نيلي. - نعم، سوف يكون كل منهما أنيسا للآخر.
وظل ابن سيسي الحي موضع عجب الأسرة العظيم حتى زودهم العم ويلي فليتمان بمادة أخرى يتحدثون عنها، فقد حاول ويلي أن يتطوع في الجيش لكن رفض طلبه، وعندئذ طلق وظيفته في شركة اللبن وعاد إلى البيت، وأعلن فشله وذهب إلى فراشه، ولم يغادر الفراش في الصباح التالي ولا الذي بعده، وقال إنه سيبقى بالفراش لا يغادره ما دام حيا، وإنه قد عاش حياته كلها فاشلا، وهو الآن في طريقه إلى أن يموت فاشلا، وكلما عجل به الموت كان ذلك أفضل.
وبعثت إيفي في طلب أخواتها.
ووقفت إيفي وسيسي وكاتي وفرانسي حول السرير النحاسي الكبير الذي احتمى به الرجل الفاشل، وألقى ويلي نظرة واحدة على دائرة نساء روملي ذوات العزيمة القوية، وصرخ: «إنني فاشل!» وشد الملاءة فوق رأسه.
وعرفت إيفي زوجها على سيسي، وراحت فرانسي ترقب سيسي وهي تسعفه، إذا أحاطته بذراعيها، وضمت الرجل الضئيل التافه إلى صدرها، وأقنعته بأن الرجال الشجعان ليسوا جميعا في الخنادق، وأن الكثيرين من الأبطال يخاطرون بحياتهم كل يوم في سبيل وطنهم في مصانع الذخائر الحربية، وراحت تتحدث وتتحدث حتى اشتدت حماسة ويلي في أن يساعد وطنه على الفوز بالنصر في الحرب، فقفز من السرير وحمل إيفي على أن تبادر وتحضر له سرواله وحذاءه.
وكان ستيف قد أصبح مراقبا للعمال في مصنع للذخائر بشارع مورجان، فحصل لويلي على وظيفة هناك، يتقاضى عنها أجرا طيبا في أوقات العمل الرسمية ونصف أجر في أوقات العمل الإضافية.
وكانت أسرة روملي قد جرت على سنة احتفاظ الرجال لأنفسهم بما يتلقونه من نفحات، أو ما يتقاضونه من أجر إضافي، واشترى ويلي لنفسه طبلة جهيرة وصنجين وراح ينفق كل أمسياته (حين كان الأمر لا يقتضيه أن يقوم بعمل إضافي) يدق الطبلة والصنجين في الحجرة الأمامية، وأهدت إليه فرانسي في عيد الميلاد بوقا صغيرا، ربطه في عصا، وأوصل العصا بحزامه حتى يستطيع أن ينفخ في البوق، كما لو كان يركب دراجة دون الاستعانة بيديه، وحاول أن يعزف على القيثارة، ويدق الطبلة والصنجين، وينفخ في البوق في آن واحد، وكان يمرن نفسه ليكون فرقة موسيقية من رجل واحد.
وهكذا كان يقضي أمسياته في الحجرة الأمامية، ينفخ البوق ويعزف على القيثارة، ويضرب الطبلة الكبيرة، ويقرع الصنجين النحاسيين، ثم يندب حظه لأنه كان فاشلا.
51
ولما غدا الجو باردا شديد البرودة، ولم تستطع فرانسي أن تمارس جولاتها سيرا على الأقدام، التحقت بمدرستين مسائيتين؛ إحداهما للحياكة، والأخرى للرقص.
وتعلمت أن تحل رموز نماذج الثياب المرسومة على الورق، وتدير آلة الحياكة، وأملت في أن تستطيع بمرور الوقت أن تصنع أثوابها بنفسها.
وتعلمت كيف ترقص في صالة حفلات الرقص، بالرغم من أنها لم تتوقع هي ولا زملاؤها في الرقص أن يضعوا أقدامهم فيما يسمى «صالة حفلات الرقص»، وكان مراقصها في بعض الأحيان فتى من فتيان الحي الفاتنين ذوي الشعر الذي يتألق بدهان «البريانتين»، ويكون راقصا سريعا رشيقا، يحملها على أن تنتبه لخطواتها، وفي أحيان أخرى يراقصها صبي صغير في الرابعة عشرة، يرتدي سروالا قصيرا يبلغ ركبتيه فتحمله على أن ينتبه لخطواته، وأحبت فرانسي الرقص وأجادته بغريزتها.
وبدأت تلك السنة تقترب من نهايتها. ••• - ما هذا الكتاب الذي تدرسينه يا فرانسي؟ - إنه كتاب نيلي للهندسة. - ما هي الهندسة؟ - إنها يا أماه مادة لا بد من النجاح فيها لدخول الكلية. - حسنا! لا تسهري إلى وقت متأخر بالليل. •••
وسألت كاتي صراف شركة التأمين: ماذا في جعبتك من أخبار عن أمي وأخواتي؟ - إن أول خبر هو أنني أمنت على حياة سارة وستيفن طفلي أختك. - ولكنها أمنت على حياتهما منذ ولادتهما، وكانت تدفع خمسة سنتات في الأسبوع. - هذا تأمين مختلف، إنه الهبة. - ما معنى ذلك؟ - دفع قيمة التأمين في هذه الحالة ليس مشروطا بموت المؤمن، بل إن كلا منهما يتسلم ألف دولار حين يبلغ الثامنة عشرة، إنه تأمين يساعدهما على دخول الجامعة. - عجبا! عجبا! كان أول شيء هو الولادة في المستشفى على يد طبيب، ثم تأمين الجامعة، ترى ماذا بعد؟ •••
وسألت فرانسي كعادتها حين تعود إلى البيت من عملها: هل جاءت أية رسالات يا أماه؟ - لا، وإنما بطاقة من إيفي. - ما الذي تقوله فيها؟ - لا شيء، سوى أنهم ينتقلون من بيتهم مرة أخرى من أجل دق ويلي على الطبلة. - إلى أين ينتقلون الآن؟ - لقد وجدت إيفي بيتا لأسرة واحدة في سايبرس هيلز، ولست أدري هل يقع هذا الحي في بروكلين أم لا. - إنه يقع إلى الشرق من نيويورك حيث يتغير اسم بروكلين إلى كوينز، وهو في شارع كريسنت الذي هو آخر محطة في طريق برودواي بالقطار المعلق، وأنا أقصد أنه كان آخر محطة حتى امتد طريق القطار المعلق إلى جامايكا. •••
ورقدت ماري روملي في سريرها الأبيض الضيق، وقد علق صليب على الحائط العاري فوق رأسها، تحيط بسريرها بناتها الثلاث وفرانسي كبرى حفيداتها. - آه! لقد بلغت الآن الخامسة والثمانين، وإني لأشعر أن هذا هو آخر عهد لي بالمرض، وإني لأنتظر الموت بالشجاعة التي أكسبتني الحياة إياها، إنني لن أعمد إلى الزيف وأقول لكن «لا تحزن علي حين أرحل»؛ فقد أحببت بناتي وحاولت أن أكون أما صالحة، ومن الصواب أن يحزن من أجلي، ولكن فليكن حزنكن رفيقا وقصيرا، وافتحن قلوبكن للسلوى لتسري إليها، واعلمن أنني سأكون سعيدة؛ لأنني سأواجه أئمة القديسين الذين أحببتهم طوال حياتي. •••
وأخرجت فرانسي الصور الشمسية لتريها لمجموعة من الفتيات في حجرة الراحة. - هذه هي آني لوري أختي الطفلة، لقد بلغت من العمر ثمانية عشر شهرا فحسب، ولكنها تجري في البيت كله، وينبغي لكن أن تسمعنها وهي تتكلم! - إنها لطيفة! - وهذا هو أخي كورنيليوس، سيصبح طبيبا. - إنه ظريف. - وهذه هي أمي. - إنها لطيفة، وتبدو في ريعان الشباب. - وهذه أنا فوق السطح. - إن السطح لطيف.
وقالت فرانسي مشتركة في السخرية: إنني لطيفة. - كلنا ظريفات.
وضحكت الفتيات: إن مشرفتنا لطيفة، تلك الدبة العجوز! وإني لآمل أن تصاب بغصة في حلقها.
وراحت الفتيات يضحكن ويضحكن، وسألت فرانسي: علام نضحك جميعا؟ - على لا شيء.
واشتد ضحكهن. •••
واشتكى نيلي قائلا: ابعثي بفرانسي بدلا مني، لقد طردني البائع من المحل في المرة الأخيرة التي طلبت فيها منه الكرنب المخمر.
وقالت فرانسي: إن الأمر يقتضيك الآن أن تطلب «كرنب الحرية» أيها الأحمق.
وأنبتهما كاتي بلا وعي: لا تتنابزا بالألقاب.
وسألتها فرانسي: هل علمت أنهم غيروا اسم شارع هامبورغ إلى شارع ويلسون؟
وتنهدت كاتي: إن الحرب تجعل الناس يفعلون أشياء سخيفة. •••
وسأل نيلي مذعورا: هل ستنبئين أمي؟
وقالت فرانسي: لا، ولكنك أصغر من أن تخرج مع مثل تلك الفتاة، إنهم يقولون إنها جامحة. - ومن ذا الذي يريد فتاة وديعة؟ - أنا لا يهمني سوى أنك لا تعرف شيئا عن ... عن الجنس. - إنني أعلم أكثر مما تعلمين على أي حال.
ووضع يده على خاصرته وصاح في صوت مصطنع تشوبه لثغة: أوه يا أماه! أتراني أنجب طفلا لو أن رجلا قبلني فحسب؟ أتراني أفعل يا أماه؟ أتراني أفعل؟ - نيلي! إذن لقد كنت تسترق السمع وتتجسس علينا خلسة في ذلك اليوم! - بالطبع! لقد كنت وراء الحجرة تماما في الردهة وسمعت كل كلمة. - إنه لمن أحط الأمور أن ... - أنت تنصتين أيضا، وقد ضبطتك مرات كثيرة وأنت تسترقين السمع إلى حديث أمي مع سيسي أو الخالة إيفي، وكان المفروض أن تكوني نائمة في الفراش. - هذا شيء مختلف، وإن الأمر يقتضيني أن أكتشف الأمور. - هراء! ••• - فرانسي! فرانسي! قد بلغت الساعة السابعة! انهضي! - لماذا؟ - ينبغي لك أن تكوني في عملك في الساعة الثامنة والنصف. - قولي لي شيئا جديدا يا أماه. - لقد بلغت اليوم السادسة عشرة من عمرك. - قولي لي شيئا جديدا، لقد بلغت السادسة عشرة منذ سنتين. - إذن فإن الأمر يقتضيك أن تظلي في السادسة عشرة عاما آخر. - الراجح أنني سأظل في السادسة عشرة طوال حياتي. - سوف لا أدهش لذلك. •••
وقالت كاتي في سخط: إنني لم أكن أتجسس، وإنما احتجت لخمسة سنتات أخرى لبائع الغاز وحسبت أن ذلك لا يضيرك، وإنك لتبحثين في جيبي عن «الفكة» مرات كثيرة.
وقالت فرانسي: هذا شيء آخر.
وأمسكت كاتي في يدها صندوقا صغيرا بلون البفنسج، يحتوي على سجائر معطرة لها طرف ذهبي، وكان الصندوق مليئا بالسجائر إلا من واحدة ...
وقالت فرانسي: نعم، إنك تعلمين الآن أسوأ ما في الأمر، لقد دخنت سيجارة من سجائر ميلو.
وقالت كاتي: إن لها رائحة طيبة على أي حال. - هيا يا أماه، هيا ألقي بموعظتك وانتهي. - إن هذا العالم الذي يموت فيه حشود من الجنود في فرنسا وغيرها لن تنطبق سماؤه على أرضه إذا أنت دخنت سيجارة بين الحين والحين. - وي يا أماه! إنك تأخذين الأمور كلها مأخذ الهزل، مثلما فعلت في العام الماضي، ولم تعترضي على سروالي الحريري الأسود، حسنا! ألقي بالسجائر بعيدا. - لن أفعل ذلك! بل إنني سأنثرها في درج صواني لتعطر قمصان نومي. •••
وقالت كاتي: إني لأحسب أنه من الخير لنا أن ننصرف عن أن نهدي بعضنا بعضا الهدايا في عيد الميلاد هذا، ونجمع المال ونشتري به دجاجة للتحمير، وكعكة كبيرة من المخبز ورطلا من البن الجيد و...
واعترضت فرانسي: إن لدينا ما يكفينا من المال للطعام، ولسنا بحاجة إلى أن نستخدم المال المخصص لعيد الميلاد. - أقصد أن نعطي ذلك لفتاتي تنمور في عيد الميلاد، فلقد انصرف الجميع عن تلقي دروس البيانو عليهما الآن، ويقول الناس إنها متخلفتان عن الزمن، إنهما لا تجدان كفايتهما من الطعام، ولقد كانت الآنسة ليزي طيبة معنا كل الطيبة.
ووافقت فرانسي دون حماسة كبيرة. - نعم، ليكن ...
ورفس نيلي رجل المائدة في حقد: وي!
وضحكت فرانسي: لا تحزن يا نيلي، سوف أعطيك هدية، سأشتري لك جرموقا من الجلد الفضي في هذا العام. - وي! اخرسي!
وأنبتهما كاتي بلا وعي. - لا تتبادلا هذه الكلمة. - إني أسألك النصيحة يا أماه، هناك ذلك الفتى الذي لقيته في المدرسة الصيفية، وقال إنه قد يراسلني، ولكنه لم يفعل، وأريد أن أعلم هل يعد ذلك تسرعا مني، لو أنني أرسلت له بطاقة في عيد الميلاد؟ - تسرعا! هراء! ابعثي إليه بالبطاقة إذا شعرت برغبة في ذلك، إني أكره التمنع والتصنع اللذين تتخذهما النساء حيال الرجال، إن العمر قصير كل القصر، وإذا ما قدر لك أن تجدي رجلا تحبينه، فلا تضيعي الوقت في إدلاء رأسك والابتسام في تكلف، اذهبي إليه مباشرة وقولي له: «أنا أحبك، ما رأيك في أن نتزوج؟».
ثم أردفت بسرعة وهي تنظر إلى ابنتها نظرة ذعر: هذا حين تبلغين من العمر ما يسمح لك بأن تفهمي شعورك.
وقررت فرانسي: سأرسل البطاقة. ••• - لقد استقر رأيي أنا ونيلي يا أماه على أننا نؤثر القهوة على ذلك الشراب الممزوج باللبن. - ليكن .
وأعادت كاتي زجاجة البراندي إلى الصوان. - واجعلي القهوة سوداء جدا وساخنة، واملئي نصف الأقداح بالقهوة، ونصفها باللبن الساخن، وسوف نشرب نخب سنة 1918م قهوة باللبن.
وقال نيلي بالفرنسية: من فضلك.
وقالت الأم: وي! وي! وي! إني أعلم بعض الكلمات الفرنسية أيضا.
وأمسكت كاتي بوعاء القهوة بيد، وبإبريق اللبن الساخن بيد، وأفرغت الاثنين معا في الأقداح، وقالت: إني لأذكر أن أباكما حين يخلو البيت من اللبن يقطع قطعة من الزبد في قهوته، إذا كان بالبيت زبد، وكان يقول إن الزبد كان في أول أمره قشدة، وهو يحل محل اللبن إذا أضيف إلى القهوة سواء بسواء. - أبتاه!
52
وفي يوم أحد من أيام الربيع، خرجت فرانسي من المكتب في الساعة الخامسة، وكانت في السادسة عشرة من عمرها، ورأت أنيتا، وهي فتاة كانت تدير آلة في الصف الذي تجلس فيه فرانسي، تقف في مدخل مبنى المواصلات ومعها جنديان، وكان أحدهما قصير القامة بدينا مشرق الطلعة، يمسك ذراع أنيتا في استحواذ، والآخر طويل القامة نحيل البنية يقف هناك في حرج، وانتزعت أنيتا نفسها من الجنديين، وانتحت جانبا بفرانسي: هلا أخرجتني يا فرانسي من هذا المأزق؟ إن جوي يقضي إجازته الأخيرة قبل أن يمضي مع وحدته فيما وراء البحار، ونحن خطيبان.
وقالت فرانسي مازحة: إذا كنتما خطيبين حقا فإنكما تفعلان الصواب، ولستما بحاجة إلى عون من أحد. - أقصد معاونتي على إيجاد رفيقة لذلك الزميل الآخر، لقد اضطر جوي لأن يحضره معه فأسعفيني، والظاهر أنهما روحان في جسد واحد، إن ذهب أحدهما إلى مكان ذهب إليه الآخر، إن هذا الزميل الآخر قد أقبل من بلدة في بنسلفانيا، ولا يعرف أحدا في نيويورك، وأنا أعلم أنه سوف يلازمنا، ولا أستطيع أبدا أن أنفرد بجوي، فساعديني يا فرانسي على الخروج من هذا المأزق، فقد خذلتني ثلاث فتيات من قبل.
وألقت فرانسي نظرة متفحصة على ذلك الرفيق من بنسلفانيا، الواقف على بعد عشرة أقدام، لم يكن وسيما، فلا عجب أن رفضت الفتيات الثلاث مساعدة أنيتا، ثم التقت عيناه بعينيها، فابتسم ابتسامة بطيئة خجولا، وبدا أنه على الرغم من عدم وسامته ينطوي على شيء أجمل من الوسامة، وقررت فرانسي أن سر ذلك كان في ابتسامته الخجول، وقالت لأنيتا: أصغي إلي ... إذا استطعت أن أدرك أخي في مكان عمله فسوف أحمله رسالة لأمي، وإذا لم أجده فسأكون مضطرة إلى العودة إلى البيت؛ لأن أمي سوف يساورها القلق علي إذا لم أعد إليه في وقت العشاء.
وحثتها أنيتا قائلة: أسرعي إذن واطلبيه في التليفون.
ودست يدها في جيبها: انتظري! سوف أعطيك خمسة سنتات أجر المكالمة.
وطلبت فرانسي نيلي من محل السجائر القائم بالمنعطف، وتصادف أن كان نيلي لا يزال عند ماكجريتي فبلغته الرسالة، ولما عادت وجدت أن أنيتا وخطيبها جوي قد رحلا، والجندي ذا الابتسامة الخجول يقف وحيدا تماما، وسألت: أين أنيتا؟ - إني لأحسب أنها هربت منك، فقد مضت هي وجوي ...
وأسقط في يد فرانسي؛ إذ كانت تتوقع أنهم سيكونون اثنين اثنين، ترى أي شيء في العالم يمكن أن تفعله الآن بهذا الرجل الغريب الطويل؟
وقال: أنا لا ألومهما لأنهما يريدان أن يختليا، فأنا نفسي خطيب أعلم كيف يكون الأمر في الإجازة الأخيرة، مع الفتاة الوحيدة.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: خطيب؟ حسنا! إنه لن يطارحني الغرام على أي حال.
ومضى يقول: ولكن ما من سبب يجبرك على ملازمتي، وإذا أرشدتني إلى طريق النفق الذي يقودني إلى الشارع الرابع والثلاثين - وأنا غريب في هذه المدينة - فسوف أعود إلى حجرتي بالفندق، وإني لأحسب أن المرء يستطيع دائما أن يكتب الرسائل حين لا يجد شيئا آخر يفعله.
وابتسم ابتسامته الخجول التي تنم عن الوحدة. - لقد أنبأت أسرتي بالتليفون أنني لن أعود إلى البيت، فإذا رغبت في أن ... - رغبت! وي! إن هذا من حسن حظي، حسنا، أشكرك يا آنسة ... - نولان. فرانسيس نولان. - إن اسمي هولي راينور، وإنه في الحق ليو، ولكن الجميع ينادونني لي ... إنني جد سعيد بلقائك يا آنسة نولان.
ومد لها يده. - وإني لسعيدة بلقائك يا أيها العريف راينور.
وتصافحا، وابتسم في سعادة قائلا: لا بد أنك لاحظت الأشرطة التي على كتفي، إذ علمت أنني عريف، أظن أنك تشعرين بالجوع بعد العمل طول اليوم، هل هناك أي مكان خاص تودين الذهاب إليه للعشاء؟ - لا، ليس هناك مكان خاص، وأنت؟ - إني أود أن أجرب بعضا من «التورلي» بشطائر اللحم على الطريقة الصينية، وهو صنف سمعت به. - هناك محل جميل في الشارع الثاني والأربعين، تعزف فيه الموسيقى. - هيا نذهب إليه.
وقال وهما متجهان إلى طريق النفق: يا آنسة نولان! أيضيرك أن أناديك فرانسيس؟ - لا يضيرني، فإن الجميع ينادونني فرانسي.
وردد اسمها: فرانسي! فرانسي! هناك شيء آخر، أيضيرك أن أتوهم أنك فتاتي الحبيبة هذا المساء فحسب؟
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: إنه سريع الغزل.
وأدرك ما يدور في رأسها فقال: إني لأحسب أنك تظنين أنني سريع الغزل، ولكن الأمر هو أنني لم أخرج مع فتاة منذ سنة تقريبا، ثم إنني بعد أيام قلائل سوف أركب مركبا متجها إلى فرنسا، وبعد ذلك لا أدري ماذا يكون من أمري؛ لذلك فإني سوف أعد تلك الساعات القليلة التي سأقضيها معك فضلا عظيما منك، إذا لم تجدي في الأمر ما يضيرك. - لا أجد فيه ما يضيرني. - أشكرك.
ومد ذراعه وقال: تعلقي بذراعي يا فتاتي الحبيبة.
وتوقف حين أوشكا على دخول طريق النفق، وقال آمرا متوسلا في آن: قولي «لي».
وقالت: لي. - قولي «مرحى يا لي أنا سعيدة كل السعادة؛ إذ ألقاك ثانية يا عزيزي.»
وقالت في خجل: مرحى لي، أنا سعيدة كل السعادة إذ ألقاك ثانية.
وضغط بذراعه على يدها.
ووضع النادل في محل روبي وعاءين من التورلي بشطائر اللحم على الطريقة الصينية، يتوسطهما إبريق كبير من الشاي، وقال لي: صبي لي الشاي حتى أشعر كأنني في بيتي. - كم قطعة من السكر تريد؟ - أنا لا أريد سكرا. - وأنا كذلك.
وقال: انظري! إن أذواقنا تتفق تماما، أليس كذلك؟
وكان كلاهما جائعا كل الجوع فتوقفا عن الحديث، ليركزا انتباههما في الطعام اللين الهين، وكان يبتسم في كل مرة تنظر إليه فيها فرانسي، وكانت هي في كل مرة ينظر إليها تبتسم في سعادة، وبعد أن فرغا من التورلي والأرز والشاي، أسند ظهره إلى الخلف وأخرج علبة سجائر. - أتدخنين؟
وهزت رأسها بالنفي: لقد جربت التدخين مرة ولم يرق لي. - حسنا، فإني لا أحب الفتاة التي تدخن.
ثم بدأ يتكلم، وحكى لها كل ما يذكره عن نفسه، حكى لها عن صباه في بلدة صغيرة بولاية بنسلفانيا (وتذكرت المدينة من قراءتها لصحيفتها الأسبوعية في مكتب قصاصات الصحف)، وحكى لها عن أبويه وإخوته وأخواته، وتحدث عن أيامه التي قضاها في المدرسة والحفلات التي حضرها، والوظائف التي شغلها، ثم قال إنه في الثانية والعشرين من عمره، وروى كيف اضطر إلى التطوع وهو في الحادية والعشرين، وأنبأها بقصة حياته في معسكرات الجيش وكيف نال رتبة العريف، أنبأها بكل شيء وقع له، وأنه ينتظر عودة الفتاة التي تمت خطبتها له.
وحدثته فرانسي عن حياتها، لم تخبره إلا بالنواحي السعيدة منها، وكيف أن أباها كان وسيما، وأمها عاقلة حكيمة، وأخاها نيلي مزهو معجب نفسه، ومبلغ ما عليه أختها الطفلة من ذكاء، وحدثته عن الإناء البني الذي كان قائما على درج المكتبة، وعن ليلة رأس السنة التي قضتها هي ونيلي يتجاذبان أطراف الحديث على سطح البيت، ولم تذكر له شيئا عن بن بليك لأنه لم يكن قد دخل في نطاق تفكيرها قط، فلما فرغت من حديثها قال: لقد قضيت كل حياتي وحيدا، لا يؤنس وحشتي أحد، وحيدا في المحافل المزدحمة بالناس، أستشعر الوحدة وأنا مستغرق في تقبيل فتاة من الفتيات، وأحس بنفس الوحدة في المعسكر، وأنا بين مئات من الزملاء، ولكنني الآن لم أعد أستشعر الوحدة.
وابتسم ابتسامته الخجول المعهودة، واعترفت له فرانسي قائلة: كان هذا شأني أيضا، مع اختلاف واحد، هو أنني لم أقبل أي فتى قط، وها أنا ذي الآن لأول مرة في حياتي لا أشعر بالوحدة.
وعاد النادل وملأ لهما قدحي الماء اللذين كانا مترعين أو يكادان، وأدركت فرانسي أن ذلك تلميح منه بأنهما قد لبثا بالمحل أكثر مما ينبغي، فقد كان الناس ينتظرون خلو المناضد من شاغليها، وسألت فرانسي لي عن الوقت، وكانت الساعة قد أشرفت على العاشرة! وأنفقا في الحديث ما يقرب من أربع ساعات.
وقالت في أسف: لقد آن أوان عودتي إلى المنزل. - سأصحبك إليه، أتسكنين قرب جسر بروكلين؟ - لا، جسر ويليمسبرج. - وددت أن يكون جسر بروكلين، فإني لأحسب أن الظروف لو اقتضتني ذات مرة أن أبلغ نيويورك، لآثرت أن أجتاز جسر بروكلين سيرا على قدمي.
واقترحت عليه فرانسي قائلة: لم لا؟ إني أستطيع أن أركب التروللي المار بشارع جراهام من نهاية بروكلين، فيؤدي بي ذلك مباشرة إلى المنعطف الذي فيه بيتي.
وركبا قطار النفق السريع الذي يصل بين الأحياء حتى جسر بروكلين، ثم خرجا من النفق وبدآ يعبران الجسر سيرا على الأقدام، وتوقفا عند منتصف الجسر، وأخذا يطلان من فوقه على نهر إيست، وقفا متلاصقين وقد أمسك هو بيدها، ومدا بصرهما إلى الأفق عند شاطئ مانهاتان: نيويورك! لقد كنت دائما مشوقا إلى رؤيتها، وأنا الآن قد رأيتها، وتحقق ما يقوله الناس، إنها أعجب مدينة في العالم. - إن بروكلين أفضل منها. - ترى هل فيها ناطحات سحاب مثل نيويورك؟ - لا، ولكنها نابضة بضرب من الإحساس لا أستطيع تأويله، ولست بمستطيع أن تدركه وتستشعره إلا إذا عشت فيها.
وقال في هدوء: سنعيش في بروكلين يوما ما.
وقفز لذلك قلب فرانسي، ورأت أحد رجال الشرطة يعس على الجسر قادما نحوهما، وقالت في قلق: خير لنا أن نمضي، فإن حوض سفن بروكلين يقع قريبا، وذلك المركب المستخفي الذي ألقى مراسيه هناك يشحن الآن، ويقيم رجال الشرطة دائما على الحراسة خشية الجواسيس.
وما إن أدركهما الشرطي حتى قال له لي: لا نقصد أن ننسف أي شيء، وإنما نحن نمتع النظر بنهر إيست.
وقال الشرطي: صدقت، صدقت، أتراني أغفل عن المتعة التي تصيب المرء في مثل هذه الليلة من ليالي الربيع؟ ألم أكن أنا نفسي شابا في يوم من الأيام؟ ولعلكما تدركان أن ذلك كان من عهد ليس ببعيد؟
وابتسم لهما، ورد لي ابتسامته بابتسامة، وابتسمت فرانسي للرجلين، ونظر الشرطي خلسة إلى كم لي، وقال: حسنا! إلى اللقاء يا جنرال، وأصلهم نار الجحيم حين تصل إلى هناك.
ووعده لي قائلا: لأفعلن.
ومضى الشرطي في طريقه، وقال لي معلقا: إنه رجل لطيف مرح.
وقالت فرانسي سعيدة: إن كل إنسان بهذا اللطف.
فلما بلغا جانب بروكلين قالت إن من الأنسب ألا يصحبها بقية الطريق إلى المنزل، فإنها اعتادت في كثير من الأحيان أن تعود إلى منزلها وحيدة، وقد تأخر الليل حين كانت تؤدي نوبتها الليلية في العمل، ثم إنه خليق بأن يضل الطريق في عودته إلى نيويورك من الحي الذي تسكن هي فيه؛ لأن طرق بروكلين في هذا الحي خليقة أن تضل الناس، وقالت إن الأمر يقتضيه أن يعيش فيها، حتى يستطيع أن يهتدي إلى الطريق بمفرده.
والحق أنها لم تكن تريد أن يعلم أين تسكن، فقد كانت تحب حيها ولا تخجل منه، ولكنها أحست بأن الغريب الذي لا يعلم عن هذا الحي ما علمت، قد يرى فيه أنه حي وضيع قذر.
وهدته أول الأمر إلى الطريق الذي يبلغ به القطار المعلق، حتى يعود إلى نيويورك، ثم سارا إلى حيث يمكنها أن تركب التروللي، ومرا بمحل من محال الوشم له نافذة واحدة، وكان يجلس في داخله بحار شاب شمر عن كمه، وجلس صانع الوشم أمامه على مقعد، وإلى جانبه إناء به محابر، وراح يشم على ذراع الفتى البحار قلبا ينفذ فيه سهم، ووقفت فرانسي ولي يحملقان في نافذة المحل، وأخذ البحار يلوح لهما بذراعه الطليقة، فردا عليه تحيته بتلويح أيديهما، ورفع صانع الوشم بصره إليهما، وأشار لهما بما يدل على أنهما سيلقيان منه الترحيب إذا دخلا محله، وعبست فرانسي وهزت رأسها علامة على رفضها الدخول.
وابتعدا عن المحل، وقال لي في صوت يغشاه العجب: تصوري أن ذلك الفتى كان يشم ذراعه بالفعل.
وقالت له فرانسي في جد يمازجه العبث: إياك أبدا أن أضبطك مرة متلبسا بفعلة الوشم.
وقال في استسلام: سمعا وطاعة يا أماه!
ثم ضحكا ووقفا عند منعطف الطريق ينتظران التروللي، وساد بينهما سكوت محرج، وقفا منفصلين، ومضى هو يشعل السجائر، ثم يلقي بها قبل أن يأتي على نصفها، ثم لاحت لهما أخيرا عربة تروللي قادمة، وقالت فرانسي: ها هي ذي العربة التي سأركبها قد أقبلت.
ومدت له يدها اليمنى قائلة: سعدت مساء يا لي.
وقذف بالسيجارة التي كان أشعلها وشيكا، وفتح لها ذراعيه وقال: فرانسي؟
فمضت إليه وقبلها؟
وفي صبيحة اليوم التالي ارتدت فرانسي حلتها الجديدة من الحرير الأزرق السماوي بلون سترات البحارة، وهي تشتمل على صدار من الحرير الأبيض الرقيق، ولبست حذاءها المصنوع من الجلد اللامع الذي اعتادت أن ترتديه في أيام الآحاد، ولم يكن بينها وبين لي موعد؛ لأنها لم تكن قد دبرت أن تلقاه مرة أخرى، ولكنها تعلم أنه سوف يكون في انتظارها في الساعة الخامسة، وغادر نيلي فراشه وهي توشك على الخروج، وطلبت منه أن يخبر أمها بأنها لن تعود إلى البيت لتدرك العشاء معهم.
وراح نيلي ينشد ويغني: لقد أصبح لفرانسي حبيب آخر الأمر! لقد أصبح لفرانسي حبيب آخر الأمر!
ومضى إلى لوري التي كانت جالسة بجوار النافذة في كرسيها المرتفع، وكان على رف الكرسي إناء يحتوي على عصيدة الشوفان، والطفلة مستغرقة في تناول العصيدة، مسقطة إياها على الأرض، وغمزها نيلي تحت ذقنها، وقال: إيه أيتها الحمقاء! لقد أصبح لفرانسي حبيب آخر الأمر!
وارتسم خط باهت على الحافة الداخلية لحاجب الطفلة (وهو ما كانت تسميه كاتي خط آل روملي)، وهي تحاول وقد بلغت الثانية من عمرها فحسب، أن تفهم ما يقول:
وقالت في لهجة متحيرة: فران ... ي ...
وقالت له فرانسي: اسمع يا نيلي، لقد أخرجتها من الفراش، وزودتها بطعامها من الشوفان، وعليك الآن أن تطعمها، ولا تسمها حمقاء.
وخرجت فرانسي من الردهة منطلقة إلى الشارع، فسمعت من يناديها باسمها فرفعت رأسها، ووجدت نيلي متدليا من النافذة بمنامته، وانبعث ينشد بأعلى صوته:
ها هي ذي تسير هناك
على أطراف أصابعها،
وقد تحلت
بكامل زينتها،
مرتدية ملابس يوم الأحد.
وصاحت فرانسي وهي رافعة بصرها إليه: نيلي! إنك لفظيع! نعم فظيع!
وتظاهر بأنه لم يفهم قولها، وقال: هل قلت إنه فظيع؟ هل قلت إن له شاربا صغيرا ورأسا أصلع؟
فصاحت فرانسي مجيبة إياه: خير لك أن تطعم الطفلة. - هل قلت إنك سوف تنجبين طفلة يا فرانسي؟ هل قلت إنك سوف تنجبين طفلة؟
وكان هناك رجل يسير عندئذ في الطريق، فغمز لفرانسي بعينه، وأقبلت فتاتان وقد تشابكت ذراعاهما وانطلقتا تقهقهان قهقهة مجنونة، وصاحت فرانسي في غضب مكبوت: يا لك من صبي ملعون!
فرد عليها نيلي مترنما: أنت تسبين! لأخبرن أمي، نعم لأخبرن أمي أنك تسبين!
وسمعت فرانسي التروللي قادما فلم تجد بدا من العدو للحاق به.
وكان لي ينتظرها عندما خرجت من عملها، ولقيها بابتسامته المعهودة، ووضع ذراعها في ذراعه وقال: مرحى يا فتاتي الحبيبة. - مرحى يا لي، أنا سعيدة برؤيتك مرة أخرى.
فقال مسرعا: ... حبيبتي.
ورددت هي: حبيبي.
وأكلا في المطعم الآلي، وهو مكان آخر كان يود أن يراه، وكان التدخين ممنوعا داخل المحل، ولم يكن لي ليصبر طويلا على الجلوس من غير تدخين، فلم يمكثا في المحل يتجاذبان أطراف الحديث مدة طويلة، بعد تناول القهوة والحلوى، واستقر رأيهما على المضي للرقص، ووجدا مكانا كائنا بعد برودواي مباشرة، الرقصة فيه بعشرة سنتات، ويتقاضى الندل فيه نصف ما يستحقون، واشترى لي شريطا من عشرين تذكرة بدولار وبدآ يرقصان.
وما إن بلغا منتصف الطريق إلى الطابق الذي تقع فيه صالة الرقص، حتى اكتشفت فرانسي أن نحوله وتهافته لم يكونا إلا مظهرا خادعا كل الخديعة؛ ذلك أنه كان راقصا بارعا خفيف الحركة، وراحا يرقصان وقد التصق كل منهما بالآخر، فلم يعد ثمة حاجة إلى الحديث.
وكانت فرقة الموسيقى تعزف أغنية من الأغاني الحبيبة إلى نفس فرانسي، وهي «في صبيحة يوم من أيام الأحد». ... في صبيحة يوم من أيام أيام الأحد،
والجو صاف جميل.
وأخذت فرانسي تترنم بالمقطع الأخير للأغنية، والمغني يردده: ... وأنا مرتدية ثوبي
من القطن المزركش،
أية عروس حسناء
سوف أغدو ...
وأحست بذراع لي يزداد ضغطا حول خصرها.
ومضت الأغنية تقول: ... إني لأدرك
أن صديقاتي من الفتيات
سيأكل قلوبهن الحسد مني.
وكانت فرانسي سعيدة كل السعادة، ودارا دورة أخرى في الصالة، وهناك راح المغني ينشد المرجع مرة أخرى، وقد أدخل عليه بعض التغيير إكراما للجنود الحاضرين.
أي عريس مليح
سوف أغدو
وأنا مرتد الزي العسكري!
وازداد ضغط ذراعها على كتفيه، وأسندت خدها على صدره، وراودتها نفس الفكرة التي راودت كاتي منذ سبعة عشرة عاما وهي تراقص جوني؛ إذ أحست بأنها ترحب ببذل أية تضحية، وتحمل أي إصر لو أتيح لها بقاء هذا الرجل قريبا منها دائما أبدا، ولم تفكر فرانسي في الأطفال الذين قد يساعدونها في تحمل هذا الشقاء، ومكابدة هذه التضحية.
وكانت طائفة من الجنود تغادر الصالة، فقطعت فرقة الموسيقى، جريا على العرف السائر، الأغنية التي كانت تعزفها، ومضت تعزف أغنية «حتى نلتقي مرة أخرى»، وتوقف الجميع عن الرقص، وراحوا ينشدون مودعين الجنود، وتشابكت يدا فرانسي ولي، وانطلقا يغنيان وإن كان كلاهما لا يدركان تمام الإدراك كلمات الأغنية:
سأعود إليك
حين يولي السحاب،
وهنالك تصفو السماء،
وتشرق بالزرقة ...
وتعالت الصيحات مرددة: «وداعا أيها الجندي!»، «أتمنى لك حظا سعيدا أيها الجندي!»، «حتى نلتقي ثانية أيها الجندي!» وعندئذ وقف الجنود الراحلون جماعة وانبعثوا يغنون الأغنية، وجذب لي فرانسي ماضيا بها نحو الباب وقال: لنغادرن الصالة الآن، فإن هذه لهي اللحظة التي سوف تبقى حية في ذاكرتنا.
وأخذا يتحدثان وهما يهبطان السلم في بطء، والأغنية تلحق بهما، فلما بلغا الطريق انتظرا حتى غابت الأغنية عن الأسماع: ... صلي من أجلي كل ليلة،
حتى نلتقي ثانية.
ثم همس لها: فلتكن هذه أغنيتنا، واذكريني كلما سمعتها.
وأمطرت السماء وهما يسيران، واضطرا إلى العدو حتى يجدا حمى يحتميان به من المطر، فلاذا بمدخل محل خال، ووقفا في المدخل المظلم في حمى من المطر، وأمسك كل منهما بيد الآخر، وراحا يرقبان المطر وهو يسقط.
وفكرت فرانسي بينها وبين نفسها: إن الناس يحسبون دائما أن السعادة هدف بعيد، هدف معقد صعب المنال ، لكن ما أصغر الأشياء التي تتوقف عليها السعادة ... مكان يأوي إليه الإنسان حين تمطر السماء ... قدح من القهوة المركزة الساخنة حين ينال منك البرد ... لفافة يدخنها الرجل فترضى بها نفسه ... كتاب يقرأ حين يحس المرء بالوحشة ... لقاء يجمعك بشخص تحبه! إن هذه الأشياء هي التي تصنع السعادة.
وقال لي: إني لراحل في باكورة الصباح.
وغادرتها سعادتها فجأة، وقالت: أظن أنك لست راحلا إلى فرنسا توا؟ - لا، لست راحلا إلى فرنسا، بل سأعود إلى داري، فإن أمي تريد أن أبقى معها يوما أو يومين قبل أن ... - أواه! - إني أحبك يا فرانسي. - ولكنك خطيب فتاة أخرى، وهذا هو أول شيء قلته لي؟
فقال في مرارة: خطيب، إن كل إنسان خطيب، كل إنسان في بلد صغير خطيب أو متزوج أو واقع في ورطة، وما من شيء آخر يستطيع أن يفعله الإنسان في بلد صغير، فالفتى منا يذهب إلى المدرسة، ويشرع في السير عائدا إلى بيته في صحبة فتاة، ولعله لا يفعل ذلك إلا لأمر واحد هو أنها تسكن بالقرب منه، ثم يشتد عوده فتدعوه الفتاة إلى حفلات تقيمها في منزلها، ويذهب هو إلى حفلات أخرى، فيطلب منه الناس أن يصحبها معه، ثم ينتظرون منه أن يوصلها إلى بيتها، ثم لا تلبث الفتاة ألا تجد غيره يخرج بها من البيت، فيظن كل الناس أنها أصبحت فتاته وهنالك يحس بالحرج إذا لم يخرج بها، ثم يتزوج لأنه لا يجد شيئا آخر يفعله، ثم تحسن عاقبته إذا كانت الفتاة مهذبة (وهي كذلك في معظم الحالات)، وكان الفتى على شيء من التهذيب، وعند ذلك لا يحس بعاطفة كبيرة، وإنما يحس بنوع من الرضا الحاني، ثم يأتي الأطفال فيبذل لهم حبه الكبير الذي يفتقده الزوجان، ويكون الأطفال هم الرابحين آخر الأمر.
نعم، أنا خطيب حقا، ولكن ما بيني وبينها ليس هو ما بيني وبينك. - ولكنك ستتزوجها؟
وسكت لي فترة طويلة قبل أن يجيب: لا!
وأحست فرانسي بالسعادة ترتد إليها، وهمس: قوليها يا فرانسي، قوليها ...
فقالت فرانسي: أنا أحبك يا لي.
وقال لي وفي صوته لهفة: فرانسي! قد لا أعود من رحلتي الطويلة هنالك، وإني لخائف ... خائف، فقد أموت ... أموت، ولم أظفر في حياتي بشيء قط ... فرانسي، ألا يمكننا أن نبقى معا لحظة قصيرة؟
وقالت فرانسي في براءة: نحن الآن معا! - أقصد في غرفة ... وحيدين ... إلى الصباح فحسب، حين يحل أوان الرحيل؟ - أنا ... لا أستطيع. - ألا تريدين ذلك؟
فأجابت في صدق: أجل أريده. - إذن لماذا ...؟
فاعترفت في شجاعة: أنا في السادسة عشرة من عمري فحسب، ولم أختل قط ... بأحد، ولست أدري لذلك سببا. - يستوي الأمر. - ولم أغب عن بيتي قط طول الليل، لسوف تقلق أمي. - ألا تستطيعين أن تقولي لها إنك أنفقت الليلة مع فتاة من صديقاتك؟ - إنها تعلم أن ليس لي صديقة. - ألا تستطيعين أن تلتمسي عذرا ... غدا. - ما من حاجة تدعوني إلى التفكير في عذر، وإني لخليقة بأن أخبرها بالحقيقة.
فسألها في دهشة: خليقة؟ - إني أحبك، ولست خليقة بأن أخجل ... من بعد إذا بقيت معك، ولسوف أكون فخورا وسعيدة، وما من داع يدعوني إلى الكذب في ذلك.
وهمس كأنما يهمس إلى نفسه: ما كان في وسعي أن أعلم ... ما كان في وسعي أن أعلم ... - أظنك لست تريد أن يكون ذلك شيئا ... حراما، أليس كذلك؟ - فرانسي، سامحيني، لقد كان الواجب يقتضيني ألا أطلب منك ذلك، ولكن أنى لي أن أعلم.
وسألته فرانسي متحيرة: تعلم؟
وطوقها بذراعيه، وضمها إليه ضما قويا، ثم رأت فرانسي أنه كان يبكي ... - فرانسي، إني لخائف ... خائف كل الخوف، خائف أن أرحل فأفقدك، ولا أراك مرة أخرى أبدا، مريني بألا أعود إلى داري، فأبقى معك، وأمامنا الغد وبعد الغد نأكل فيه معا، ونسير معا ونجلس في متنزه، أو نركب في الدور العلوي لسيارة من السيارات العامة، ونتحدث فحسب، ونكون معا، مريني بألا أذهب. - أظن أن الواجب يقتضيك أن تذهب، وإني لأحسب أنه من الصواب أن ترى أمك مرة أخرى قبل ... - لست أدري، ولكني أظن أن ذلك هو الصواب. - فرانسي! هل تتزوجينني عندما تنتهي الحرب، ويقدر لي أن أعود؟ - لأتزوجنك حين تعود. - أصحيح يا فرانسي ...؟ قولي لي من فضلك أصحيح؟ - نعم. - قوليها مرة أخرى. - لأتزوجنك حين تعود يا لي. - وسنعيش في بروكلين يا فرانسي؟ - سنعيش أينما تحب. - إذن سنعيش في بروكلين. - إنما يكون ذلك إذا رغبت يا لي. - وهل ستكتبين إلي كل يوم؟ كل يوم؟
ووعدت قائلة: كل يوم. - أتكتبين إلي هذه الليلة حين تعودين إلى دارك، وتنبئينني عن مبلغ حبك لي، حتى تكون رسالتك في انتظاري حين أعود إلى داري؟
فوعدته بذلك، وقال: أتعدينني بألا تسمحي لأحد أن يقبلك أبدا؟ وألا تخرجي مع أحد أبدا؟ وأن تنتظريني مهما يطل الانتظار، فإذا لم تكتب لي العودة، أمسكت طول حياتك عن الزواج بأي رجل؟
ووعدته.
وطلب منها أن تقف حياتها كلها عليه بنفس البساطة التي يطلب بها موعدا، ووعدته أن تقف حياتها عليه بنفس البساطة التي تمد بها يدها للتحية أو الوداع.
ثم انقطع المطر بعد لحظة، وأشرقت السماء بالنجوم.
53
وكتبت له تلك الليلة - كما وعدته - رسالة طويلة بثتها ذوب حبها كله، ورددت الوعود التي بذلتها له.
وغادرت بيتها إلى عملها مبكرة عما ألفت، ليتسع لها الوقت لتسجيل الرسالة من مكتب البريد القائم بالشارع الرابع والثلاثين، وأكد لها الكاتب الذي يجلس خلف النافذة أن الرسالة ستصل إلى الجهة المرسلة إليها في عصر نفس اليوم، وكان اليوم يوم الأربعاء، وتمنت أن يصلها الرد ليلة الخميس، ولكنها لم تحاول أن تتوقع وصوله.
ولم يكن الوقت ليتسع له حتى يكتب إليها إلا إذا كان قد كتب لها بعد افتراقهما مباشرة أيضا، ولعل الأمر كان يقتضيه بطبيعة الحال أن يحزم أمتعته ويستيقظ مبكرا حتى يلحق القطار (ولم يكن قد خطر لها قط أنها هي أفلحت في تدبير الوقت) رغم كل مشاغلها، ولم تصلها رسالة في ليلة الخميس.
وفي يوم الجمعة اضطرت إلى مواصلة العمل بلا انقطاع في نوبة قدرها ست عشرة ساعة؛ لأن الشركة التي تعمل بها ينقصها الموظفون لتفشي وباء الإنفلونزا، وعادت إلى منزلها قبل الساعة الثانية صباحا، فوجدت رسالة بارزة مسندة إلى إناء السكر على مائدة المطبخ، وفضتها بلهفة: «عزيزتي الآنسة نولان.»
وتبددت سعادتها؛ لأن هذه الرسالة لا يمكن أن تكون من لي، ولو كانت منه لكتب عزيزتي فرانسي، وقلبت الصفحة، ونظرت إلى التوقيع فوجدته السيدة إليزابيث راينور. ... آه، إنها أمه، أو لعلها زوجة شقيقه، وربما كان مريضا لا يستطيع الكتابة، أو ربما كانت قوانين الجيش تقضي ألا يكتب الجنود المقدمون على السفر فيما وراء البحار أي رسائل لأحد، فلم يجد بدا من أن يطلب من شخص آخر أن يكتب الرسالة نيابة عنه، وهذا أمر طبيعي، بل هذا هو الذي وقع.
وبدأت تقرأ الرسالة.
لقد حدثني بكل شيء عنك، وإني لأود أن أشكرك على معاملتك التي تدل على عظيم طيبتك وصدق مودتك له حين كان في نيويورك، لقد وصل إلى داره عصر يوم الأربعاء، واضطر إلى الرحيل للمعسكر في الليلة التالية، ولم يمكث بالدار إلا يوما ونصف يوم، وكانت حفلة الزفاف هادئة كل الهدوء، لم يحضرها إلا أسر الزوجين وقليل من الأصدقاء ...
وألقت فرانسي بالرسالة، وقالت بينها وبين نفسها: لقد ظللت أعمل ست عشرة ساعة في الصف، وأنا الآن متعبة، ولقد قرأت اليوم آلاف الرسائل، وما من كلمات يمكن أن تحمل لي الآن أي معنى، ومع كل ألفت عادات سيئة في القراءة بالمكتب، أقرأ نهرا في لمحة فلا أرى فيه إلا كلمة واحدة، ولأبدأ الآن بطرد النوم من عيني وتناول شيء من القهوة، ثم أقرأ الرسالة ثانية، ولسوف أقرؤها هذه المرة قراءة صحيحة.
وأخذت فرانسي، والقهوة تسخن على النار، تنضح وجهها بالماء البارد مؤمنة بأنها حين تبلغ الموضع الذي تتحدث فيه الرسالة عن «الزفاف»، فإنها خليقة بأن تواصل القراءة، فتتكشف لها الكلمات التالية لذلك عن: «لقد كان لي هو شاهد زواجي، وقد تزوجت شقيقه ...» ذلك ما تصورت فرانسي أنها ستقرؤه في الرسالة.
وكانت كاتي راقدة في سريرها مستيقظة، وسمعت فرانسي تتحرك من المطبخ، فظلت راقدة مشدودة الأعصاب ... تنتظر، وتساءلت من الذي تنتظره فرانسي؟
وقرأت فرانسي الرسالة مرة أخرى: ... الزفاف ولم يحضرها إلا أسر الزوجين وقليل من الأصدقاء، وقد طلب مني لي أن أكتب إليك، وأبين السبب الذي دعاه إلى عدم الرد على رسالتك، وإني لأعود فأشكرك على مبلغ ما بذلت في الترفيه عنه حين كان في مدينتكم.
المخلصة إليزابث راينور
وكان في ذيل الرسالة حاشية:
لقد قرأت الرسالة التي بعثت بها إلى لي، وكان من الخسة أن يتظاهر بأنه يحبك، وقد قلت له ذلك، وطلب مني أن أخبرك بأنه آسف كل الأسف على ما فعل.
إ. ر
وراحت فرانسي تنتفض في شدة وعنف، وانطلقت من بين أسنانها أصوات يغشاها ألم ممض. وأنت: «أماه، أماه».
وسمعت كاتي القصة، وقالت بينها وبين نفسها: لقد حان أخيرا الوقت الذي لا تستطيعين فيه أن تدفعي عن أطفالك ما تنفطر له قلوبهم، وكنت حين يشح الطعام في البيت، تتظاهرين بأنك لا تستشعرين الجوع حتى تستطيعي أن تعطيهم المزيد، فإذا جاءت ليالي الشتاء ببردها نهضت من فراشك، وطرحت غطاءك على فراشهم، حتى لا يشعروا ببرد، وكنت تقتلين كل من يسعى أن يمسهم بضر. نعم، بذلت ما في وسعي لقتل ذلك الرجل في الردهة ... ثم يجيء يوم مشرق يخرجون فيه من الدار، ولا يحملون في قلوبهم إلا البراءة الطاهرة في أكمل معانيها، وإذا بهم يوغلون في غاشية حزن، وددت لو تبذلين حياتك ثمنا لتجنيبهم شر التردي فيها.
وأعطت فرانسي الرسالة لأمها، فراحت تقرؤها في بطء، وخيل إليها وهي تقرؤها أنها تعلم كيف وقعت القصة، فهاك رجلا في الثانية والعشرين من عمره، من البين (إذا استعرنا تعبير سيسي) أنه شخص محنك، وهاك فتاة في السادسة عشرة من عمرها تصغره بست سنين؛ فتاة كانت لا تزال تشع في أوصالها طهارة البراءة، على الرغم من قلم الأحمر المشرق الذي تطلي به شفتيها، وثيابها التي لا تلبسها إلا النساء الناضجات ، وقدر من المعرفة التقطته من هنا ومن هناك، فتاة صادفت وجها لوجه بعض شرور هذا العالم، وكثيرا من محنه المريرة القاسية، ولكنها ظلت على نحو عجيب بمنجاة من أن يمسها هذا العالم بشر، نعم لقد أدركت السر الذي جعل فرانسي تستهوي هذا الفتى.
إيه: ماذا عساها أن تقول؟ أتقول إن ذلك الفتى لم يكن فتى صالحا، أو أنه على أحسن الأحوال ليس إلا رجلا ضعيفا، يستجيب بسهولة لكل موقف يجد نفسه فيه! لا، إنها لا يمكن أن تبلغ من القسوة ما يبيح لها أن تقول هذا القول، ثم إن الفتاة خليقة بألا تصدقها على أي حال.
وابتهلت فرانسي إليها: قولي أي شيء، ما بالك لا تقولين شيئا؟ - ماذا عساي أن أقول؟ - قولي إنني فتاة صغيرة غريرة، وسأتغلب على محنتي، هيا قولي ذلك، هيا اكذبي! - إني أعلم ما يقوله الناس، إنك ستتغلبين على هذه المحنة، وإني لخليقة بأن أقول ذلك أيضا، ولكني أعلم أن هذا القول ليس هو الحق ... آه! إنك ستنالين السعادة مرة أخرى، فلا تخافي أبدا، ولكن لن تنسي، فما من مرة تقعين فيها في الحب إلا يكون سبب ذلك هو أن شيئا في الرجل يذكرك «به». - أماه ... - أماه؟
وتذكرت كاتي، تذكرت أمها هي، حتى بلغت في تذكرها اليوم الذي أخبرتها فيه أنها ستتزوج جوني، فقد قالت لأمها آنئذ: «أماه! إني سأتزوج ...» ولم تلفظ بعد ذلك بكلمة أماه قط؛ لأنها أتمت مرحلة النمو والنضج فكفت عن أن تنادي أمها بيا أماه، وها هي ذي فرانسي تقول ... - أماه! لقد طلب مني أن أبقى معه طول تلك الليلة، أترين أن الأمر كان يقتضيني أن أبقى معه؟
وحار عقل كاتي يلتمس كلمات ترد بها على ابنتها.
وقالت فرانسي: لا تحاولي الكذب يا أماه، بل قولي لي الحق.
وعز على كاتي أن تجد الكلمات الصائبة التي تقال: إني لأعدك بأني لن أمضي مع رجل إلا إذا تزوجته أولا ... إذا قدر لي أن أتزوج أبدا، وإذا احسست أنه يجب علي أن أفعل ذلك دون أن أتزوج، فسوف أخبرك أولا، وهذا عهد أعاهدك عليه، ولن أحنث به، فقولي لي الحق إذن، ولا تخشي علي أن أضل إذا عرفت الحق.
وقالت كاتي آخر الأمر: إن هناك حقيقتين؛ فإني كأم أقول لك إنه لشيء رهيب أن تنام فتاة مع رجل غريب عنها، رجل لم يمض على معرفتها به إلا أقل من ثمان وأربعين ساعة، لقد كنت خليقة بأن تحدث لك أمور فظيعة، بل لقد كنت خليقة بأن تدمري حياتك كلها، وأنا أمك أقول لك الحق.
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لقد كنت أريد أن أذهب، ولكنني لم أذهب، وأنا الآن لا أريده كما كنت أريده؛ لأن فتاة أخرى قد امتلكته، ولكنني أردته ولم أذهب معه، وقد فات الأوان الآن.
وألقت برأسها على المنضدة وبكت.
وقالت كاتي بعد لحظة: لقد جاءتني رسالة أنا أيضا.
وكانت هذه الرسالة قد وصلتها منذ عدة أيام، ولكنها كانت تنتظر الوقت المناسب للإفضاء بها، واستقر رأيها على أن هذا الوقت كان هو الوقت المناسب.
ورددت قولها: لقد جاءتني رسالة.
وقالت فرانسي وهي تنشج: من ... من أرسلها؟ - السيد ماكشين.
فازداد نشيج فرانسي.
وقالت أمها: ألا يهمك هذا الأمر؟
وحاولت فرانسي أن تكف عن البكاء.
وسألت في غير اكتراث: حسنا! وماذا يقول؟ - لا شيء، إلا أنه قادم لرؤيتنا في الأسبوع المقبل.
وانتظرت، ولم تظهر فرانسي بعد أية علامة من علامات الاهتمام. - إلى أي حد تودين أن يكون السيد ماكشين بمثابة أبيك؟
وانتفضت فرانسي رافعة رأسها: أماه! إن رجلا يكتب أنه قادم إلى بيتنا، فترتبين من فورك أمورا على ذلك، ما الذي يدعوك إلى الاعتقاد أنك تعلمين كل شيء دائما؟ - إني لا أعلم، لا أعلم شيئا قط حقا، وإنما أحس، وحين يكون إحساسي قويا، فإنما أقول إنني أعلم، ولكني لا أعلم، فما قولك في أن يكون لك بمثابة الأب؟
وقالت فرانسي في مرارة (ولم تبتسم كاتي): إني بعد الجرح الذي أصاب حياتي، أعتبر نفسي آخر شخص يستطيع أن يدلي بالنصح ... - إني لا أسألك النصح، وكل ما أريده هو أن أزداد معرفة بموقفي، إذا علمت شعور أبنائي نحوه.
وشكت فرانسي في أن أمها تتحدث عن ماكشين، متخذة من ذلك الحديث حيلة تصرف فرانسي عن تفكيرها، وأنها غضبت لأن الحيلة أوشكت أن تجوز عليها. - لا أعلم يا أماه، لا أعلم شيئا ... ولست أريد أن أتحدث عن أي شيء، فاتركيني من فضلك، اتركيني، اتركيني وحدي.
وعادت كاتي إلى فراشها.
حقا إن المرء يستطيع أن يبكي وحيدا وقتا طويلا، ثم لا يجد مناصا من أن يشغل وقته بشيء آخر غير البكاء، لقد كانت الساعة قد بلغت الخامسة، ورأت فرانسي أنه ما من فائدة ترجى من إيوائها إلى الفراش، فقد كان لا مناص لها من أن تستيقظ مرة أخرى في الساعة السابعة، وأحست بالجوع الشديد، ولم تكن قد أصابت طعاما منذ ظهيرة الأمس، اللهم إلا شطيرة تبلغت بها بين نوبتي النهار والليل، وأعدت لنفسها قدحا من القهوة الطازجة وبعض الخبز المحمص، ومزجت بيضتين، وعجبت لأنها استطابت أصناف هذا الطعام جميعا، ولكن عينيها اتجهتا وهي تأكل إلى الرسالة، فطفرت الدموع منهما مرة أخرى، ووضعت الرسالة في الحوض وأشعلتها بعود من الثقاب، ثم فتحت الصنبور وراقبت رماد الرسالة المتفحم، وهو ينساب إلى البالوعة، وهنالك استأنفت إفطارها، ثم تناولت الصندوق الذي يحوي أوراق الكتابة من فوق الصوان، وجلست تكتب رسالة، كتبت تقول:
عزيزي بن ... لقد قلت لي أن أكتب إليك إذا أحسست بالحاجة إلى ذلك، وها أنا ذي أكتب إليك ...
ثم قطعت الورقة نصفين وقالت: لا، لست أريد أن أكون بحاجة إلى أي إنسان، وإنما أريد إنسانا يحتاج إلي ... أريد إنسانا يحتاج إلي.
ثم بكت مرة أخرى، ولكن بكاءها لم يبلغ من المرارة ما بلغه من قبل.
54
وكانت هذه هي المرة الأولى التي رأت فيها فرانسي ماكشين بدون زيه الرسمي، ورأت أن منظره يؤثر في النفس أبلغ الأثر بحلته الرمادية ذات القلابتين التي خيطت في بذخ، ولا شك أنه لم يكن يبلغ في حسن الطلعة مبلغ أبيها، مع أنه أطول منه قامة، وأضخم بنيانا ، ولكنه في رأي فرانسي وسيم على طريقته الخاصة، ولو أن شعره كلله المشيب، ومع ذلك فإنه كان أكبر سنا بكثير من أن يناسب أمها، حقا إن أمها ليست صغيرة السن أيضا، فإنها مشرفة على الخامسة والثلاثين، ولكنها مع ذلك أصغر كثيرا من سن الخمسين، ومهما يكن من شيء فما من امرأة تخجل من أن تتخذ ماكشين زوجا لها، كان صوته عذبا حين يتكلم، على حين كان منظره منظر السياسي الأريب الذي كان عليه حقا.
وكانوا قد أعدوا القهوة والكعك، ولاحظت فرانسي، والألم يحز في قلبها، أن ماكشين جالس إلى المائدة في مقعد أبيها، وكانت كاتي قد فرغت وشيكا من إنبائه بما حدث لهم منذ وفاة جوني، وبدا على ماكشين أنه قد عجب لما أصابوه من نجاح في الحياة، ونظر إلى فرانسي: «أوهكذا استطاعت هذه الطفلة أن تلحق نفسها بالكلية في الصيف الماضي!»
وقالت كاتي في فخر: وستعود إلى الكلية هذا الصيف. - هذا شيء رائع بالنسبة لكم. - وقد دخلت في معترك العمل، وهي تكسب الآن عشرين دولارا في الأسبوع.
وسأل في دهشة صادقا: كل ذلك مع الصحة السابغة أيضا؟ - وقد بلغ الصبي منتصف الطريق في دراسته الثانوية. - صحيح؟ - وهو يعمل هنا وهناك في المساء، ويكسب أحيانا مبلغا يصل إلى خمسة دولارات في الأسبوع خارج وقت الدراسة. - إنه لصبي ماهر، بل من خيرة الصبيان، انظروا إلى علائم الصحة البادية عليه، أليس كذلك؟
وعجبت فرانسي لحديثه المستفيض عن الصحة، التي هي في نظرهم دائما شيء طبيعي مسلم به، ثم تذكرت حال أطفاله وكيف كان معظمهم يولدون وقد كتب عليهم أن يمرضوا ويموتوا قبل أن يشتد عودهم، فلا عجب أن يرى العافية شيئا جديرا بالإشادة.
ثم سأل: والطفلة؟
وقالت كاتي: اذهبي يا فرانسي واحمليها إلينا.
وكانت الطفلة في مهدها بالغرفة الأمامية التي كان مفروضا أن تكون هي غرفة فرانسي، إلا أن الأسرة كلها اتفقت على أن الطفلة في حاجة إلى النوم في غرفة جيدة التهوية، وحملت فرانسي الطفلة النائمة وفتحت الطفلة عينيها، ولم تلبث أن بدا عليها الاستعداد للاستجابة لأي شيء.
وسألت: ها، ها، فراني، المتنزه؟ المتنزه؟
وقالت فرانسي: لا يا حبيبتي، سأقدمك إلى رجل.
فقالت لوري متشككة: رجل؟ - نعم، رجل ضخم!
ورددت الطفلة قولها في سعادة: رجل ضخم!
وحملتها فرانسي خارجة إلى المطبخ، وكانت الطفلة حقا شيئا جميلا يسر الناظرين، وبدا محياها غضا نديا في منامتها من الفانلة الوردية، وشعرها إكليلا غزيرا من الخصل السوداء المجعدة الناعمة، وعيناها التي اتسعت الفرجة بينهما مشرقتين، ويغشى خديها لون وردي داكن.
وترنم ماكشين قائلا: آه! الطفلة، الطفلة! إنها لوردة، وردة برية!
وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لو كان أبي بيننا لراح يغني أغنية «وردتي الأيرلندية البرية»، وسمعت أمها تتنهد، وتساءلت أتراها هي أيضا تفكر ...
وحمل ماكشين الطفلة، وجلست على ركبتيه، وشدت ظهرها مبتعدة عنه، وحملقت فيه في ارتياب، وودت كاتي ألا تبكي، وقالت: لوري، السيد ماكشين! قولي السيد ماكشين!
ونكست الطفلة رأسها ثم تطلعت من خلال رموشها، وابتسمت ابتسامة العارف وهزت رأسها رافضة، وقالت: لا ... لا ... راجل. ... ثم صححت قولها بنفسها قائلة: رجل.
فصاحت أمها في انتصار: رجل ضخم!
وابتسمت لوري لماكشين، فقالت في إغراء ودلال: خذ لوري إلى الحديقة، الحديقة؟
ثم أسندت خدها على سترته، وأغمضت عينيها، وترنم ماكشين قائلا: هوه، هوه.
ونامت الطفلة بين ذراعيه. - يا سيدة نولان! إنك لتعجبين من حضوري الليلة، فدعي العجب، لقد أتيت في أمر شخصي.
ونهضت فرانسي ونيلي ليغادرا الحجرة. - لا، لا تغادرا الحجرة أيها الطفلان، فالأمر يخصكما كما يخص أمكما.
وعادت فرانسي ونيلي إلى الجلوس، ثم تنحنح ماكشين وقال: يا سيدة نولان! لقد مضى وقت على وفاة زوجك رحمه الله ... - نعم، مضت سنتان ونصف سنة، رحمه الله.
ورددت فرانسي ونيلي: رحمه الله. - وقد مضى على وفاة زوجتي سنة، رحمها الله.
فرد آل نولان قائلين: رحمها الله. - لقد صبرت عدة سنين، والآن حان الوقت الذي لم يعد فيه الإفصاح مسيئا إلى ذكرى الموتى، يا كاترين نولان! إني أطلب منك أن نعيش معا، وأن يكون الزفاف في الخريف.
ونظرت كاتي سريعا إلى فرانسي وعبست، وتساءلت فرانسي بينها وبين نفسها: ترى ماذا دهى أمها على أية حال؟ ولم تكن فرانسي لتفكر حتى في الضحك. - إني لفي مركز يسمح لي بأن أعنى بك وبأطفالك الثلاثة، وإن إيرادي من معاشي ومرتبي، ودخلي من ضيعتي في وودهافن وريتشموند هيل يبلغ أكثر من عشرة آلاف دولار في السنة، ولدي تأمين أيضا، وإني لأعرض عليك أن أدخل الصبي والفتاة في الكلية، وأعدك بأن أكون زوجا مخلصا في المستقبل، كما كنت في الماضي. - هل فكرت في الأمر مليا يا سيد ماكشين؟ - ما من حاجة تدعوني إلى التفكير، ألم يستقر عزمي على ذلك منذ خمس سنوات، حين رأيتك لأول مرة في رحلة ماهوني؟ وقد سألت الفتاة آنئذ إذا كنت أنت أمها؟ - إني امرأة أعمل في تنظيف البيوت، ولم أتعلم.
قالت ذلك تقريرا لحقيقة، وليس اعتذارا. - تعليم! وي! ومن علمني القراءة والكتابة؟ لم يعلمني أحد إلا نفسي. - ولكن رجلا مثلك يشتغل بالحياة العامة يحتاج إلى زوجة تعرف آداب المجتمع، وتستطيع أن تحتفي بأصدقائك من رجال الأعمال ذوي الجاه والنفوذ، ولست امرأة من هذا الطراز. - إن مكتبي هو المكان الذي أرحب فيه بعملائي، وبيتي هو المكان الذي أعيش فيه، ولا أقصد الآن أنك سوف لا تكونين ذخرا لي، فإنك أهل لأن تكوني ذخرا لرجل أفضل مني، ولست في حاجة إلى امرأة تساعدني في أداء أعمالي، فأنا أستطيع أداءها بنفسي، وشكرا لك. هل من داع يدعوني إلى التوكيد بأنني أحبك ... يا ...
ثم تردد قبل أن يناديها باسمها المجرد: - ... يا كاترين، ألم يحن الوقت لأن تفكري في الأمر مليا؟ - لا، لست في حاجة إلى التفكير في الأمر، فإني سأتزوجك يا سيد ماكشين لا لدخلك، وإن كنت لا أتغاضى عن ذلك، فإن عشرة آلاف دولار في السنة مبلغ كبير، بل إن ألف دولار فقط مبلغ كبير بالنسبة لنا، فنحن لا نملك من المال إلا القليل، وقد بلونا أن نعيش بدونه، ولست أتزوجك لتلحق طفلي بالكلية، ولو أن مساعدتك ستيسر الأمر كثيرا، ولكنني أعلم أننا من غير مساعدة على الإطلاق، خليقون بأن نسعى لتحقيق ذلك بوجه من الوجوه، ولست أتزوجك لمركزك الكبير في المجتمع، وإن كان يطيب لي أن أتخذ زوجا أفخر به، إنما أتزوجك لأنك رجل صالح أحب أن تكون لي زوجا.
وكان ما قالته حقا، ذلك أن كاتي استقر رأيها على أن تتزوجه إذا طلب يدها، لا لشيء إلا لأن حياتها لا يمكن أن تكتمل دون أن يحبها رجل، ولم يكن للأمر صلة بحبها لجوني، فإنها سوف تقيم على حبه أبدا، كان شعورها حيال ماكشين أهدأ وأرصن، فهي تعجب به وتحترمه، وتعلم أنها سوف تكون زوجة صالحة له.
وقال ماكشين في تواضع خالص من الزيف: شكرا لك يا كاترين فما أيسر ما أعطيه حقا لقاء زوجة جميلة شابة وثلاثة أطفال أصحاء؟
والتفت إلى فرانسي وقال: أتوافقين أنت يا أكبر الأطفال؟
ونظرت فرانسي إلى أمها التي بدا عليها أنها تنتظر منها أن تفصح عن رأيها، ونظرت فرانسي إلى أخيها فأومأ برأسه موافقا. - إني لأحسب أن أخي وأنا نود أن نتخذك ...
وطفرت الدموع من عينيها، إذ فكرت في أبيها، ولم تستطع أن تقول الكلمة التالية.
وقال ماكشين مخففا عنها: لا عليك، لا عليك، فإني لا أريد أن أسبب لك حرجا.
ثم التفت إلى كاتي وقال: لست أطلب من الطفلين الكبيرين أن ينادياني بيا أبي، فقد كان لهما أب كأحسن ما خلق الله ... كان دائما مرحا بشوشا طروبا.
وأحست فرانسي بغصة في حلقها. - ولست أريد أن يسميا باسمي، فإن اسم نولان اسم جميل. - ولكني أتمسك بهذه الطفلة الصغيرة، تلك الطفلة التي لم تفتح عينيها قط على وجه أب، هل تتفضلين فتدعينها تناديني بأبي، وهل تسمحين لي بتبنيها شرعا، وتسبغين عليها الاسم الذي ستحملينه أنت وأنا معا؟
وتطلعت كاتي إلى فرانسي ونيلي، ترى كيف يتقبلان أن تنسب أختهما لماكشين، بدلا من نولان، وأومأت فرانسي موافقة، وكذلك فعل نيلي.
وقالت كاتي: سنهب لك الطفلة.
وقال له نيلي فجأة: لا نستطيع أن ندعوك بأبينا، ولكننا قد ندعوك بعمنا .
وقال ماكشين ببساطة: إني أشكركما.
ثم هدأت أعصابه وابتسم لهم. - وبعد، أتراني أستطيع أن أدخن غليوني؟
فقالت كاتي في دهشة: عجبا! إنك تستطيع أن تدخن في أي وقت تشاء من غير سؤال.
فقال مفسرا: لست أريد أن تكون لي حقوق قبل أن يتهيأ لي الحصول عليها، وأخذت فرانسي الطفلة النائمة من بين ذراعيه، حتى تتيح له أن يدخن.
وقالت فرانسي: أعني على وضعها في الفراش يا نيلي.
وكان نيلي يستمتع بالحديث كل الاستمتاع، ولا يريد أن يغادر الغرفة، فقال لها: لماذا؟ - لتثبيت الأغطية في المهد، فإن الأمر يقتضي أن يفعل ذلك أحد وأنا أحمل الطفلة.
ترى هل كان نيلي يجهل كل شيء؟ ألم يكن يعلم أن ماكشين وأمه، قد يكونان في حاجة إلى أن يخلو كل منهما إلى الآخر لحظة على الأقل؟
وهمست فرانسي إلى أخيها في ظلمة الحجرة الأمامية: ما رأيك في ذلك؟ - لا شك أن فيه ترويحا عظيما لأمنا، صحيح أنه ليس أبانا ... - لا، لن يكون لنا أبدا أب غير أبينا، ولكن بصرف النظر عن ذلك فإنه رجل صالح. - ستتيسر الحياة للوري كل اليسر. - آني لوري ماكشين! إنها لن تلقى أبدا من الشدائد ما لقينا، أليس كذلك؟ - نعم، ولن تلقى من المفارقات ما لقينا. - وي! لقد لقينا في حياتنا مفارقات عجيبة، أليس كذلك يا نيلي؟ - ما أكثر ما لقينا!
وقالت فرانسي في أسى وإشفاق: مسكينة لوري!
الباب الخامس
55
وقفزت فرانسي، إذ أحست بشخص يربت كتفها، ثم هدأت أعصابها وابتسمت، وكان من الطبيعي أن تبتسم! لأن الساعة كانت قد بلغت الواحدة صباحا، وانتهت فرانسي من عملها، وأقبلت بديلتها لتتسلم منها آلة الكتابة.
ورجتها فرانسي قائلة: دعيني أبعث برسالة واحدة أخرى.
وابتسمت البديلة وقالت: ما أكثر ما يحب بعض الناس عملهم.
وكتبت فرانسي على الآلة رسالتها الأخيرة في بطء وإقبال، وقد سرت لأنها كانت تزف خبر ميلاد ولا تنبئ بوفاة، وهذه الرسالة آخر عهدها بالمكتب، ولم تكن قد أخبرت أحدا بأنها سترحل، فقد خشيت أن تنهار وتبكي إذا طافت بزميلاتها مودعة، كانت كأمها، تخشى أن تفصح عن عواطفها للناس.
ولم تذهب فرانسي مباشرة إلى أمين المكتب، بل وقفت دون ذلك في قاعة الاستراحة الكبرى، حيث كانت بعض الفتيات ينعمن بكل ما يمكن أن ينعمن به من فترة راحتهن البالغة خمس عشرة دقيقة، وكن قد التففن حول فتاة تعزف على البيانو، وتغني:
هيا يا عاملة الخط الرئيسي،
وأوصليني بالأرض الحرام.
وبينما فرانسي تدخل عليهن، إذا بعازفة البيانو تنتقل إلى أغنية أخرى، أوحتها إليها حلة فرانسي الجديدة الرمادية المناسبة للخريف، وحذاؤها الرمادي ذو الكعب العالي من الطراز السويدي، وراحت الفتيات يغنين أغنية: «هنالك صحابي جليل،
1
في بلد صحابي»، ووضعت إحدى الفتيات ذراعها حول فرانسي وجذبتها إلى الحلقة، وأخذت فرانسي تغني معهن:
إني لأعلم أنها في أعماقها، ليست جامدة، ... العاطفة كل هذا الجمود ... - فرانسي، من أين لك بهذه الفكرة التي جعلتك ترتدين ملابسك كلها رمادية اللون؟ - لست أدري، وقد أوحت إلي بذلك ممثلة رأيتها وأنا صبية، ولست أذكر اسمها، ولكني أذكر أن المسرحية كانت «حبيبة راعي الكنيسة». - يا لها من ذكية! «لقد كانت نظرة فتاتي الصغيرة الصحابية،
هنالك في البلد الصحابي
تقول: قابلني غدا ...»
وراحت الفتيات يرددن المقاطع الأخيرة من الأغنية ختاما جليلا قائلات:
هنالك ... في البلد ...
ثم غنين أغنية:
لنجدن ديكسي لاند العريقة في فرنسا.
ومضت فرانسي لتقف بجوار النافذة الكبيرة، التي تستطيع أن ترى منها نهر إيست يجري أسفل الطوابق العشرين، وكانت هذه آخر مرة تنظر فيها إلى النهر من النافذة، وشعرت فرانسي أن نهاية كل شيء فيها مرارة الموت نفسه، وقالت بينها وبين نفسها: إن هذا الذي أراه الآن، لن أراه بعد ذلك على هذه الصورة، آه! إن آخر نظرة هي النظرة التي يتجلى لك فيها كل شيء
أن تستوعبه استيعابا حين كنت تراه كل يوم.
ما الذي قالته جدتي ماري روملي؟ قالت: عليك بالنظر إلى كل شيء كأنما أنت تراه للمرة الأولى أو المرة الأخيرة، وهكذا تمتلئ حياتنا على الأرض بالمجد.
يا لك من جدة رائعة يا ماري روملي.
لقد ظلت تطاول الحياة شهورا في مرضها الأخير، ولكن حان الحين فأقبل ستيف قبل الفجر مباشرة، منبئا إياهم: لسوف أفتقدها، لقد كانت سيدة عظيمة.
فقالت كاتي: إنك تقصد أن تقول: كانت امرأة عظيمة.
وتساءلت فرانسي متحيرة: لم اختار العم ويلي ذلك الوقت ليترك أسرته؟ ورأت زورقا ينساب تحت الجسر قبل أن تعاود أفكارها، ترى هل كان غياب امرأة من نساء روملي هو الذي جعله يحس بأنه غدا أكثر تحررا؟ ترى هل أوحى له موتها بفكرة وجود شيء اسمه الهرب؟ أم ترى أنه كما زعمت إيفي قد أتيح له في حقارته وضعته، أن يستغل الاضطراب الذي أحدثته جنازة الجدة للفرار من أسرته؟ ومهما يكن من شيء فقد هرب ويلي.
ويلي فليتمان!
وكان قد تمرس على العزف في إقبال، حتى استطاع أن يعزف على جميع الآلات في وقت واحد، وتمثلت في شخصه وحدة فرقة موسيقية بأسرها، فدخل في منافسة مع فرق أخرى في دار للسينما أقيمت فيها حفلة للهواة، وفاز بالجائزة الأولى وقدرها عشرة دولارات.
ولم يعد قط إلى المنزل بجائزته وآلاته، ولم يره أحد من الأسرة بعد ذلك، وإنما كانوا يسمعون بخبره من حين إلى حين، والظاهر أنه كان يتجول في طرقات بروكلين، كفرقة موسيقية قوامها رجل واحد، ويعيش على البنسات التي يجمعها من الناس.
وقالت إيفي: إنه سوف يعود إلى البيت مرة أخرى حين ينجلب الثلج، ولكن فرانسي وحدها شكت في الأمر.
وحصلت إيفي على عمل في المصنع الذي كان يعمل فيه، وكانت تتقاضى ثلاثين دولارا في الأسبوع، وسارت في عملها على ما يرام إلا في الليل؛ إذ كانت شأن نساء روملي جميعا، تجد صعوبة في أن تمضي في سبيلها من غير رجل.
ووقفت فرانسي بجوار النافذة التي تطل على النهر، وأخذت تذكر أن العم ويلي فيه دائما شيء من طبيعة الحالمين، ولكن كثيرا من الأشياء تبدى لها في ذلك الحين كأنه أحلام ، كذلك الرجل الذي صادفته في الردهة في ذلك اليوم المعهود، لا شك أن ذلك كان حلما! والأسلوب الذي ظل يتبعه ماكشين في انتظار أمها تلك السنين جميعا كان حلما، لقد توفي أبوها، وظل ذلك وقتا طويلا يبدو لها حلما من الأحلام، ولكن أباها غدا الآن أشبه بشيء لم يكن له من قبل وجود قط! والطريقة التي خرجت بها لوري إلى نور الحياة بدت أيضا كأنها حلم من الأحلام، لقد تكشف الحلم عن ولادة طفلة حية لأب مات منذ خمسة أشهر! لقد كانت بروكلين حلما، وكل ما حدث من أمور هناك لا يمكن أن يكون له نصيب من الواقع، أكانت هذه الأمور من نسيج الأحلام! أم تراها كانت كلها حقيقة وواقعا، وكانت فرانسي نفسها هي التي تراودها هذه الأحلام.
وأيا ما كان الأمر، فإنها سوف تكتشف حقيقة ذلك حين تمضي إلى ميتشيجان، فإذا راودها هذا الشعور بالأحلام حول ميتشيجان، فإن فرانسي سوف تعلم أنها هي التي تحلم.
مدينة آن آربور!
لقد كانت جامعة ميتشيجان قائمة في ذلك المكان، وسوف تكون بعد يومين اثنين راكبة القطار متجهة إلى مدينة آن آربور، لقد ولى عهد المدرسة الصيفية، وكانت فرانسي قد نجحت في المواد الأربع التي اختارتها، وقد حشد بن عقلها بالمعلومات، فاستطاعت أن تنجح في امتحانات المعادلة التي تخول لها الالتحاق بالكلية، ومعنى ذلك أنها وقد بلغت السادسة عشرة وستة أشهر من عمرها، تستطيع الآن أن تلتحق بالكلية، وقد حصلت على الدرجات التي يحصل عليها طالب في الفترة الأولى من الدراسة بالكلية، وأرادت أن تلتحق بجامعة كولومبيا في نيويورك أو بجامعة أدلفي في بروكلين، ولكن بن قال لها إن تكيف الطالب بالبيئة الجديدة يعد جزءا من التعليم، ووافقت أمها وماكشين على هذا الرأي، بل إن نيلي قال إن من مصلحتها أن تذهب إلى كلية بعيدة، حتى تتخلص من اللكنة التي اكتسبتها في بروكلين، لكن فرانسي لم تكن ترغب في أن تتخلص من لكنتها، كما لم تكن ترغب من قبل في أن تتخلى عن اسمها، فقد كان ذلك يدل على أنها تنتمي إلى مكان بعينه، كانت فتاة من بروكلين وعلى اسمها مسحة بروكلين، وفي حديثها لكنة بروكلين وتأبى أن تتغير فتصبح فتاة فيها من هذا وذاك.
وكان بن قد اختار لها جامعة ميتشيجان، وقال إن بتلك الجامعة كلية آداب من كليات الولاية، وفيها قسم للغة الإنجليزية يجيد التعليم ومصروفاته قليلة. وتحيرت فرانسي متسائلة إذا كانت هذه الكلية قد بلغت هذا المبلغ من الكفاية، فما باله لم يحصل على شهادة التخرج فيها، بدلا من حصوله عليها من جامعة أخرى في ولايات الغرب الأوسط؟
وفسر لها الأمر قائلا: إنه سينتهي به المطاف إلى ممارسة مهنته في تلك الولاية، ويدخل في معترك السياسة فيها، بل إنه سوف يكون له أيضا زملاء من أيام الدراسة بين مواطنيها البارزين في المستقبل.
وكان بن قد بلغ العشرين، وأصبح من ضباط الاحتياط في فرقة التدريب بكليته، وكان منظره وسيما كل الوسامة في سترته العسكرية.
بن!
ونظرت إلى الخاتم في إصبعها الوسطى من يدها اليسرى، خاتم من طالب المدرسة الثانوية سنة 1918م، وقد نقش عليه من الداخل: «من ب. ب. إلى ف. ن.»، وكان قد أخبرها أنه إذ يدرك ما يستهدفه، فإنها كانت أصغر من أن تدرك ما تستهدفه هي، وكان قد أعطاها الخاتم رمزا لما أسماه التفاهم المتبادل بينهما، وقال إن أمامه بطبيعة الحال خمس سنوات، قبل أن يكون في موقف يسمح له بالزواج، وما إن يحل هذا الوقت حتى تكون هي قد بلغت من النضج ما يسمح لها بأن تدرك ما تستهدفه، فإذا حل، وظل هذا التفاهم قائما، فإنه خليق بأن يسألها أن تقبل منه خاتما من نوع آخر، أما وقد كانت المهلة الممنوحة لفرانسي لتستقر على رأي تبلغ خمس سنوات، فإن مسئولية الانتهاء إلى رأي بالزواج من بن، أو بالتحلل من ذلك العهد لم تكن تثقل كاهلها كثيرا.
ألا ما أروعك يا بن!
كان بن قد تخرج في المدرسة الثانوية في يناير سنة 1918م، والتحق بالكلية واختار عددا عجيبا من المواد، ثم عاد إلى المدرسة الصيفية في بروكلين ليزداد علما، ويعود إلى مزاملة فرانسي مرة أخرى، كما اعترف بذلك في نهاية الفترة الدراسية، وها هو ذا في سبتمبر سنة 1918م قد عاد إلى الكلية ليبدأ السنة الدراسية الأولى!
ما أروعك أيها الصديق العزيز القديم بن!
بن المهذب النبيل الذكي، لقد كان يدرك ما يستهدفه، ولم يطلب من فتاة أبدا أن تتزوجه، ثم يولي عنها في اليوم التالي، ويتزوج فتاة أخرى، ولم يطلب منها أبدا أن تكتب إليه مفصحة عن حبها، ثم يدع شخصا آخر يقرأ رسالتها، إن بن لا يفعل ذلك، إن بن لا يفعل ذلك! لقد كان بن فتى رائعا، ومن دواعي فخارها أنه صديقها، ولكنها فكرت في لي!
لي!
أين لي الآن؟
لقد أبحر مبعدا في رحلة على متن ناقلة، كما فعل ذلك الرجل الذي رأته الآن ينسل من الميناء سواء بسواء، على متن مركب طويل عليه لفائف للتعمية والتمويه، وقد راحت الوجوه البيض الساكنة لألف من ركابه الجنود تنظر من حيث وقفت، كأنها رءوس بيض لدبابيس رشقت في وسادة للدبابيس طويلة خشنة «فرانسي، إني لخائف ... خائف كل الخوف، خائف أن أرحل فأفقدك ... ولا أراك مرة أخرى أبدا ... مريني ألا أعود ...». «أظن أن الواجب يقتضيك أن تذهب، وإني لأحسب أنه من الصواب أن ترى أمك مرة أخرى قبل ... لست أعلم ...».
لقد كان جنديا في فرقة قوس قزح، وهي الفرقة التي كانت تشق طريقها عندئذ في غابات الأرجون، أتراه الآن يرقد صريعا في فرنسا، وقد وضع فوقه صليب بسيط أبيض؟ ترى من ينبئها بأنه لقي حتفه؟ لن تكون هي المرأة التي في بنسلفانيا (السيدة إليزابيث راينور).
وكانت أنيتا قد رحلت منذ شهور لتعمل في مكان ما خارج بنسلفانيا، ولم تترك وراءها عنوانا، وما من أحد يستطيع أن يسأل ... يسأل لها ... وما من أحد يستطيع أن ينبئها، واستبدت بها الرغبة الجامحة في أن يكون قد مات، حتى لا تناله أبدا تلك المرأة التي من بنسلفانيا، ثم لم تلبث أن ابتهلت قائلة: آه يا إلهي! لا تكتب عليه القتل، ولن أشكو، سواء أنالته هذه الفتاة أم تلك ... أتوسل إليك ... أتوسل إليك ...!
إيه أيها الزمن! أيها الزمن! اطو بي السنين حتى أنسى! «إنك ستنالين السعادة مرة أخرى، فلا تخافي أبدا، ولكن لن تنسي ...» كانت أمي مخطئة؟ ولا بد لها أن تخطئ، وفرانسي تود أن تنسى، لقد مضى عليها أربعة أشهر منذ عرفته ولكنها لم تستطع أن تنسى «ستنالين السعادة مرة أخرى ... ولكن لن تنسي ...» كيف يمكن أن تعاودها السعادة وقد عز عليها النسيان؟
إيه أيها الزمن! يا خير من تأسو الجراح، اطوني في رحابك حتى أنسى «ما من مرة تقعين فيها في الحب إلا ويكون السبب في ذلك، هو أن شيئا في الرجل يذكرك به.»
وكان بن يتميز بنفس تلك الابتسامة البطيئة، ولكنها ظنت أنها تحب بن في السنة الماضية، قبل أن ترى لي بوقت طويل، وهكذا لم يتحقق ما كانت تظن.
لي لي!
وانتهت فترة الراحة، وأقبلت طائفة جديدة من الفتيات حلت فترة راحتهن، واحتشدن حول البيانو وبدأن يغنين سلسلة من الأغاني، التي تتردد فيها عبارة «ابتسمي!»، وأدركت فرانسي ما سوف يعقب ذلك. «اهربي، اهربي أيتها الحمقاء قبل أن تدركك أمواج الألم التي تودي بك! ولكنها عجزت عن أن تتحرك.»
وغنت الفتيات أغنية «تد لويس»: «إذ حين يبتسم لي طفلي»، ولم يكن بد من أن ينتقلن من هذه الأغنية إلى أغنية: «إن من البسمات ما يعمر قلبك بالسعادة».
ثم تلا ذلك:
ابتسمي حين تقبلينني
قبلة الفراق الحزينة ...
ثم تذكرت قول لي «... واذكرني كلما سمعتها، اذكريني.»
وجرت خارجة من الحجرة، وخطفت قبعتها الرمادية، وكيسها الرمادي الجديد، وقفازها من أمين المكتب، وانطلقت تعدو صوب المصعد، وأخذت تلقي بنظراتها صاعدة هابطة إلى الشارع الذي يشبه الأخدود، وكان الشارع مظلما موحشا، وقد وقف رجل طويل القامة يرتدي سترته العسكرية في مدخل العمارة التالية المعتم، ثم خرج من الظلمة واتجه نحوها مبتسما ابتسامة خجولا تنم عن الوحدة، وأغمضت فرانسي عينيها، وكانت جدتها قد قالت إن نساء روملي رزقن القدرة على رؤية أشباح موتاهم الأعزاء، ولم تكن فرانسي تصدق ذلك أبدا؛ لأنها لم تستطع أن ترى أباها أبدا، ولكن الآن ... الآن ... - مرحى يا فرانسي!
وفتحت عينيها، ولم يكن الماثل أمامها شبحا من الأشباح ... - لقد دار بخلدي أنك تشعرين بالبرد الشديد في ليلتك الأخيرة التي تقضينها في عملك؛ ولذلك أتيت لأصحبك إلى المنزل، أتعجبين لذلك؟
فقالت: لا، لقد حسبت أنك سوف تأتي. - أجائعة أنت؟ - إني أتضور جوعا! - إلى أين تريدين أن نمضي؟ أتودين أن نحتسي شيئا من القهوة في المطعم الآلي، أم تودين أن تأكلي التورلي بشرائح اللحم على الطريقة الصينية؟ - لا، لا! - أتريدين الذهاب إلى محل تشايلد؟ - نعم، فلنذهب إلى محل تشايلد، ونتناول الكعك بالزبد مع القهوة. - فرانسي! إنك تبدين غريبة كل الغرابة هذه الليلة، إنك لست غاضبة، أليس كذلك؟ - لا. - أمسرورة أنت لمجيئي؟
وقالت في هدوء: نعم، إن لقاءك يسعدني يا بن!
56
يوم السبت!
إنه آخر يوم لهم في مسكنهم القديم، وكان اليوم التالي هو يوم زفاف كاتي الذي ينتقلون فيه إلى مسكنهم الجديد، بعد خروجهم من الكنيسة مباشرة، وكان الحمالون سيأتون في صبيحة يوم الإثنين لنقل متاعهم، وقد استقر رأي النازحين على أن يتركوا معظم أثاثهم للخادمة الجديدة، ولا يحملوا معهم إلا حاجاتهم الشخصية، وأثاث الغرفة الأمامية.
وكانت فرانسي ترغب في السجادة الخضراء المحلاة بوردة كبيرة قرنفلية اللون، والستائر المصنوعة من المخرمات في لون القشدة، والبيانو الصغير الجميل. واستقر رأيهم على أن توضع هذه الأشياء في الغرفة التي ستخصص لفرانسي في مسكنهم الجديد.
وأصرت كاتي على أن تقوم بعملها المألوف في صبيحة ذلك السبت الأخير، وضحكت الأسرة حين خرجت الأم ومعها مكنستها ودلوها، وكان ماكشين قد أعطاها صكا على حسابه بألف دولار هدية الزواج، وبذلك أصبحت كاتي في عرف آل نولان غنية لا يضطرها الأمر إلى الاشتغال بعمل ما أيا كان، ومع ذلك أصرت على العمل في ذلك اليوم الأخير، وشكت فرانسي في أن أمها تربطها بتلك البيوت التي كانت تعمل فيها، عاطفة حملتها على أن تنظف لها بيوتها أحسن تنظيف في آخر يوم لها بالعمل قبل أن تتركه.
وأخذت فرانسي تبحث في غير خجل عن دفتر الشيكات في كيس أمها، وتتفحص الكعب الوحيد في هذا الكيس الأسطوري.
رقم: 1.
التاريخ: 9 / 2 / 1918م.
إلى: إيفا فليتمان.
من أجل: لأنها أختي.
جملة المبلغ: 1000 دولار.
يصرف بمقتضى هذا الشيك: 200 دولار.
الباقي: 800 دولار.
وتساءلت فرانسي لم هذا المبلغ؟ ولم لم يكن خمسين دولارا أو خمسمائة دولار؟ ولم لا يكون مائتي دولار؟ ثم أدركت الأمر، لقد كان مبلغ مائتي دولار هو المقدار الذي أمن به الخال ويلي على حياته، وهو ما كانت إيفي خليقة بأن تقبضه لو أنه مات، ولا شك أن كاتي تحسبه في عداد الأموات.
ولم يحرر أي شيك لثوب زفاف كاتي، وأوضحت كاتي الأمر بأنها لم تكن ترغب في أن تنفق شيئا من ذلك المبلغ على نفسها حتى يتم زواجها بصاحبه؛ ولذلك اقترضت كاتي المال الذي ادخرته لفرانسي لشراء هذا الثواب، واعدة إياها أن تحرر لها شيكا به بمجرد أن تنتهي حفلة الزفاف.
وفي صبيحة ذلك اليوم، أي يوم السبت الأخير، حملت فرانسي لوري في عربتها ذات العجلتين، وهبطت بها إلى الشارع، ووقفت عند المنعطف مصعدة في شارع مانهاتن، ترقب الصبية وهم يجرون نفاياتهم حتى حانوت كارني للنفايات، ثم مضت في ذلك الطريق ودخلت محل تشارلي الرخيص الأسعار، في فترة سكنت فيها حركة البيع والشراء، ووضعت قطعة من ذوات الخمسين سنتا على مائدة الصرف، وأعلنت أنها تريد أن تشتري كل الأرقام دفعة واحدة.
وقال الرجل: وي يا فرانسي! مرحى يا فرانسي! - لست أريد أن أشغل بالي باختيار الأرقام، وحسبك أن تعطيني كل ما تعرضه على اللوحة. - وي! اسمعي! - إذن فليس عندك أية أرقام رابحة في ذلك الصندوق، أليس كذلك يا تشارلي؟ - وحق المسيح يا فرانسي، إن كل امرئ يود أن يكسب معاشه، ولا يكسب إلا القليل في هذه المهنة ... بنس كل مرة. - كنت أعتقد دائما أن هذه الجوائز غش وخداع، وإنك لحري بأن تخجل من الضحك على عقول هؤلاء الصبيان الصغار بهذه الطريقة. - لا تقولي ذلك، فإني أعطيهم ما يساوي بنسا من الحلوى عن كل سنت ينفقونه هنا، وتكون الأرقام بذلك أكثر تشويقا وطرافة. - وهي تحملهم على أن يعودوا إليك دائما يداعبهم الأمل. - إذا لم يجيئوا إلي فإنهم خليقون بأن يذهبوا إلى محل جيمبي، ألا ترين؟ وإنه لخير لهم أن يجيئوا إلى هنا لأنني رجل متزوج.
قال ذلك في لهجة مهذبة، ثم أردف: ثم إنني لا آخذ إلا البنات الصغيرات إلى غرفتي الخلفية؟ ألا ترين؟ - آه! حسنا! إني لأحسب أن في كلامك شيئا من الصدق، اسمع! ألديك دمية من الدمى التي تباع بخمسين سنتا؟
وأخرج دمية دميمة الوجه من تحت مائدة الصرف. - ليس لدي إلا دمية بتسعة وستين سنتا، ولكني سأبيعها لك بخمسين سنتا فحسب. - سأدفع لك هذا المبلغ إذا عرضتها جائزة، وجعلت صبيا من الصبية يفوز بها. - ولكن اسمعي يا فرانسي! صبي يفوز بها؟ إن جميع الصبية سيتوقعون عندئذ أن يفوزوا بها، ألا ترين ذلك؟ إنه لمثل سيئ وسابقة خطيرة.
وقالت في لهجة يشوبها الابتهال الديني: آه! أستحلفك بالمسيح أن تجعل صبيا من الصبية يفوز بجائزة، ولو مرة واحدة! - وهو كذلك! وهو كذلك! لا تتركي لعواطفك العنان الآن. - إن كل ما أريده هو أن يفوز صبي صغير بشيء دون مقابل. - سأدبر ذلك، ولست أريد أن أخرج الرقم من الصندوق أيضا بعد أن تغادري المحل، أراضية أنت؟ - شكرا لك يا تشارلي. - وسأخبر الفائز بأن الدمية اسمها فرانسي أترين؟ - أوه! لا، لا تفعل ذلك! لا تفعل بدمية لها مثل هذا الوجه الدميم. - أتعلمين يا فرانسي؟ - أعلم ماذا؟ - أتعلمين أنك قد كبرت وغدوت فتاة ناضجة، كم سنك الآن؟ - سأبلغ السابعة عشرة بعد بضعة أشهر. - إني لأذكر أنك كنت صبية نحيلة طويلة الساقين، وأحسب أنك سوف تصبحين يوما امرأة بهية الطلعة، لا أقول جميلة ولكن فيها جمال.
فضحكت وقالت: أشكرك على كل حال.
ثم أومأ برأسه إلى لوري، وقال: أهي أختك الطفلة؟ - نعم، نعم. - إنك لتعلمين أن أول شيء سوف تفعله هو أن تجر نفاياتها وتأتي إلى هنا ببنساتها، فإن الصبية يكونون في أول أمرهم أطفالا يرقدون في عرباتهم الصغيرة، ثم لا يلبثون أن يأتوا إلى هنا لتجربة حظهم، إن الصبية يشتد عودهم بسرعة في هذا الحي. - لن تجر لوري النفايات أبدا، ولن تأتي إلى هنا أبدا أيضا. - صدقت، لقد سمعت أنكم في سبيلكم إلى النزوح من هذا الحي. - نعم، سننتقل من هذا الحي. - حسنا! أتمنى لكم أحسن التوفيق يا فرانسي.
ومضت فرانسي بلوري إلى المتنزه، وأخرجتها من العربة، وأطلقتها تجري على المرج وأقبل صبي يبيع الفطائر المملحة فاشترت فرانسي واحدة ببنس، وقطعتها قطعا صغيرة ونثرتها فوق المرج، وظهر سرب من القنابر القاتمة اللون فجأة من حيث لا تدري، والتهمت قطع الفطيرة، وأخذت لوري متعثرة تحاول أن تمسك بواحدة منها، وتركتها الطيور القلقة تقترب حتى غدت على بعد بوصات منها، ثم انطلقت مسلمة أجنحتها للريح، وكانت الطفلة تصرخ ضاحكة في ابتهاج كلما طار طائر منها.
وجذبت فرانسي الطفلة وأعادتها إلى عربتها، ومضت تلقي نظرة أخيرة على مدرستها القديمة، وكانت المدرسة على بعد عمارتين أو نحوهما من المتنزه الذي تزوره كل يوم، ولكن فرانسي لسبب أو لآخر لم تكن قد عادت قط لترى المدرسة منذ الليلة التي احتفل فيها بالتخرج.
وعجبت فرانسي لما بدا على المدرسة من صغر في نظرها الآن، واعتقدت أن المدرسة كانت في نفس حجمها الذي ألفته دائما، غير أن عينيها كانتا قد اعتادتا أن تريا عمائر أكبر حجما.
وقالت للوري: هاك المدرسة التي كانت تذهب إليها فرانسي.
ووافقتها لوري قائلة: فرانسي ذهبت إلى المدرسة؟ - وإن أباك قد صحبني يوما إليها وغنى أغنية.
وسألت لوري متحيرة: أبي؟ - لقد نسيت، أنك لم تري أباك قط. - لوري رأت أباها وهو رجل، رجل كبير.
قالت ذلك الطفلة، وهي تظن أن فرانسي كانت تعني ماكشين.
ووافقت فرانسي قائلة: هذا صحيح؟
وكانت فرانسي في السنتين اللتين مضتا منذ رأت المدرسة آخر مرة، قد تغيرت وانتقلت من طفلة إلى امرأة.
وعادت إلى البيت مارة بالمنزل الذي ادعت أنه منزلها، وبدا المنزل في نظرها الآن صغيرا حقيرا، ولكنها ظلت تحبه.
ومرت بحانة ماكجريتي، ولم يكن ماكجريتي يمتلكها الآن؛ ذلك أنه كان قد تركها في باكورة الصيف، وأسر لنيلي بأنه رجل يحس بالنذر، ومن ثم فهو يتوقع أن يصدر في القريب قانون تحريم الخمر، وكان قد استعد لذلك كل الاستعداد، فاشترى محلا كبيرا في همبستيد تير نبايك هنالك في لونج أيلاند، وأخذ يخزن المشروبات في أقبيته على نحو منظم استعدادا لذلك اليوم، وكان قد تهيأ لفتح ناد بمجرد صدور قانون التحريم، واختار له اسم نادي ماي ماري، حيث قدر أن ترتدي زوجته ثوب السهرة وتعمل مضيفة، وهو شيء كان يناسبها ويتفق مع هواها كما قال ماكجريتي، وكانت فرانسي موقنة تماما أن السيدة ماكجريتي سوف تكون سعيدة كل السعادة إذ تقوم بهذا الدور، وأملت أيضا بأن السيد ماكجريتي سوف يكون سعيدا يوما ما.
وتناولت فرانسي طعام الغداء، ثم مضت إلى المكتبة لتعيد للمرة الأخيرة الكتب التي استعارتها، وختمت أمينة المكتبة بطاقتها، ودفعتها إليها كشأنها دون أن ترفع بصرها إليها.
وسألتها فرانسي: هل لك أن تختاري كتابا جيدا لفتاة؟ - كم سنها؟ - إنها في الحادية عشرة.
وأحضرت أمينة المكتبة لها كتابا من تحت مكتبها، ورأت فرانسي عنوانه: «لو كنت ملاكا». - لست أريد حقا أن أستعيره في الخارج، كما أنني لست في الحادية عشرة.
ورفعت أمينة المكتبة بصرها إلى فرانسي لأول مرة، وقالت فرانسي: لقد دأبت على الحضور إلى هنا منذ كنت بنتا صغيرة، ولم ترفعي بصرك إلي قط حتى الآن.
وقالت أمينة المكتبة في ضجر: كان يفد إلي عدد كبير جدا من الأطفال، وما كنت لأستطيع أن أنظر إلى كل طفل منهم، أتريدين شيئا آخر؟ - كل ما أريد هو أن أقول كلمة عن الوعاء البني ... وما كان يثيره في نفسي ... والزهرة التي كانت توضع فيه دائما.
ونظرت أمينة المكتبة إلى الوعاء البني، كان فيه غصن قرنفلي اللون من زهر النجيم، وكانت تدور بعقل فرانسي فكرة، هي أن أمينة المكتبة كانت هي أيضا ترى هذا الوعاء البني لأول مرة.
وقالت الأمينة نافدة الصبر: وي! أتقصدين ذلك الوعاء؟ إن الخادمة تضع الزهور فيه، أو لعل شخصا آخر غيرها هو الذي يفعل ذلك، أتريدين شيئا آخر ؟
ودفعت فرانسي بطاقتها المتغضنة البالية الأطراف المغطاة بالأختام المؤرخة إلى المكتبة، وقالت: إني أعيد إليك بطاقتي.
والتقطتها أمينة المكتبة، وهمت بأن تمزقها نصفين، وإذا بفرانسي تستردها منها، وقالت فرانسي: إني لأحسب أنني سوف أحتفظ بها على كل حال على سبيل التذكار.
وخرجت فرانسي من المكتبة، وألقت على مبناها الصغير الحقير نظرة طويلة أخيرة، وأدركت أنها لن ترى المكتبة أبدا مرة أخرى، إن العيون لتتغير حين تنظر إلى الأشياء الجديدة، وإذا قدر لها أن تعود إلى المكتبة في السنين المقبلة، فإن عينيها الجديدتين لخليقتان بأن تجعلا كل شيء يبدو مختلفا عما تريانه الآن، وإن منظره الآن هو المنظر الذي كانت تريد أن تحتفظ به في ذكراها.
نعم، إنها لن تعود أبدا إلى هذا الحي القديم.
ثم إنه لن يكون هناك حي قديم تعود إليه في السنين القادمة؛ ذلك أن أهل المدينة بعد الحرب أحرياء بأن يهدموا المساكن القديمة، والمدرسة القبيحة، حيث ألفت المديرة أن تضرب الصبية الصغار بالسوط، وأن يضعوا تخطيطا لبناء حي سكني نموذجي في هذا الموقع، حي سكني تغمره أشعة الشمس ويتخلله الهواء النقي، حي يقوم تشييده على أساس مدروس بدقة وحساب، بحيث يكون لكل ساكن فيه اعتبار.
وقذفت كاتي بمكنستها ودلوها إلى الركن في صوت مجلجل، هو ذلك الصوت الذي يدل على أنها نفضت يديها من هذا العمل، ثم التقطت المكنسة والدلو مرة أخرى ووضعتهما في مكانهما برفق.
وبينما هي تتهيأ للخروج أخذت تسوي ثوبها المخملي الأخضر في لون اليشب على جسمها التسوية الأخيرة، وهو الثوب الذي اختارته لحفلة الزفاف، وتضايقت كاتي لأن الجو كان معتدلا غاية الاعتدال، بالنسبة لحلول آخر شهر سبتمبر، وظنت أن الجو أكثر حرارة من أن يسمح لها بأن تلبس ثوبا من المخمل، وغضبت لأن الخريف أقبل متأخرا جدا في تلك السنة، وراحت تجادل فرانسي حين رأتها مصرة على أن الخريف قد حل بالفعل.
كانت فرانسي تعلم أن الخريف قد حل حقا، ولا بأس من أن تهب الريح ساخنة، ومن أن تقبل الأيام حارة شديدة الحرارة، ومع ذلك فإن الخريف كان قد حل في بروكلين، وفرانسي تعلم أن الأمر كما زعمت؛ ذلك أن بائع الكستناء (أبو فروة) الساخنة، كان ينصب مظلته عند منعطف الشارع، بمجرد أن يقبل الليل وتضاء فوانيس الشارع، وكانت حبات الكستناء تشوى في إناء من الصفيح مغطى فوق موقد يشعل بالفحم، ويمسك الرجل حبات الكستناء الطازجة في يده، ويحززها حزوزا على هيئة الصلبان بسكين مثلومة، قبل أن يضعها في الإناء.
نعم، لقد حل الخريف بلا ريب بظهور بائع الكستناء الساخنة، ولا عبرة بالجو الذي ينبئ بأنه لم يحل.
وحزمت فرانسي أشياءها القليلة الأخيرة في صندوق خشبي من صناديق الصابون، بعد أن وضعت لوري في مهدها، وثبتت فوقها الغطاء لتخلد إلى قيلولة الظهيرة، ثم تناولت فرانسي من فوق المدفأة الصليب، وصورتها هي ونيلي التي التقطت يوم تثبيتهما في دينهما، ولفت هذه الأشياء في خمارها الذي تناولت به قربانها المقدس الأول، وطوت مريلتي الندل الخاصتين بأبيها ووضعتهما في الصندوق، ولفت كأس الحلاقة التي نقش عليها اسم «جون نولان» بالأحرف الذهبية في إزار من الحرير الأبيض الهفهاف، كانت كاتي وضعته في سلة المهملات؛ لأن مخرماته تمزقت شر ممزق أثناء الغسيل، وكان هذا الإزار هو الذي ارتدته فرانسي في تلك الليلة الممطرة، عندما وقفت في مدخل الباب هي ولي، ثم وضعت الدمية المسماة ماري، والصندوق الصغير الجميل الذي احتفظت فيه يوما ببنساتها المذهبة العشرة، ثم أدخلت بالصندوق كتبها القليلة، وهي إنجيل جديون، ومؤلفات وليام شكسبير الكاملة، ومجلد مهلهل هو «أوراق الكلأ» والدواوين الثلاثة من القصاصات وهي «مجلد نولان من الشعر الحديث»، و«مجلد نولان من الأشعار القديمة»، وكتاب «آني لوري».
ثم مضت إلى حجرة نومها وقلبت «مراتبها» حشياتها، والتقطت من تحتها مفكرة كانت تحتفظ فيها بيوميات متناثرة، كتبتها في سن الثالثة عشرة، وغلافا مربعا من المانيلا، وركعت أمام الصندوق، وفتحت اليوميات، وقرأت ما كتبته اتفاقا في يوم تاريخه 24 سبتمبر منذ ثلاث سنوات مضت:
اكتشفت الليلة حين كنت أغتسل أنني غدوت امرأة، لقد حان الأوان.
وعبست حين وضعت اليوميات في الصندوق، ونظرت إلى ما كتب على المظروف:
عدد
المحتويات
1
مظروف مختوم يفتح سنة 1967م
1
دبلوم
4
قصص
أربع قصص طلبت منها الآنسة جاردنر أن تحرقها، آه لقد تذكرت فرانسي كيف أقسمت بالله أن تطلق الكتابة إذا لم يأخذ الله أمها إليه، وبرت بقسمها ولكن معرفتها بالله كانت قد زادت الآن، وأيقنت بأنه تعالى لا يعنيه في شيء أن تعاود فرانسي الكتابة مرة أخرى، حسنا! لعلها خليقة بأن تحاول ذلك يوما من الأيام، وأضافت إلى محتويات المظروف بطاقة المكتبة الخاصة، وكتبت البطاقة على محتويات الغلاف ثم وضعته في الصندوق، وبذلك انتهت من حزم حاجاتها، نعم لقد حزمت كل حاجاتها من الصندوق إلا ملابسها.
وأقبل نيلي يعدو صاعدا السلم، مصفرا لحن «في مرقص المختالين في دار كتاون»، ثم انطلق يخلع معطفه وقال: إني عجل يا فرانسي، هل لدي قميص نظيف؟ - هناك قميص نظيف ولكنه لم يكو، وسأكويه لك.
ووضعت المكواة على الموقد لتسخن، وراحت تنضح القميص بالماء، ثم نصبت لوحة الكي على كرسيين، وأخرج نيلي طلاء الأحذية من المخزن، ومضى يزيد في تلميع حذائه، الذي كان لامعا بالفعل لا تعلوه غبرة.
وسألته فرانسي: إن أين؟ إلى أين؟ - وي. ليس أمامي إلا لحظات لألحق بالمسرح، حيث يظهر الليلة «فان وشينك والصبي»، تري هل يستطيع شينك أن يغني؟ إنه يجلس إلى البيانو على هذا النحو.
وجلس نيلي إلى مائدة المطبخ، وأخذ يستعرض: إنه يجلس بجنب، ويربع رجليه ملتفتا إلى النظارة، ثم يتكئ بمرفقه الأيسر على دساتين البيانو، ويتحسس اللحن بيده اليمنى وهو يغني ...
وأخذ نيلي في تقليده تقليدا جيدا في غنائه الواله: حين تكون بعيدا ... بعيدا جدا ... من دارك. - وي: إنه لمختال فخور، يغني على نحو ما كان أبي يغني، بعض الشيء أبي ...
ونظرت فرانسي إلى شارة الاتحاد المنقوشة على قميص نيلي، وكوت ذلك أولا. - إن هذه الشارة كالحلية، إنها تشبه الوردة التي تضعها في عروة سترتك.
وكان آل نولان يبحثون عن شارة الاتحاد في كل شيء يشترونه، وهي الذكرى التي يحتفظون بها لجوني.
ونظر نيلي إلى نفسه في المرآة المعلقة على الحوض، وسأل فرانسي: أتظنين أن الامر يقتضيني أن أحلق ذقني. - وي! اخرس.
وقالت فرانسي مقلدة أمها: لا تتبادلا هذه الكلمة.
وابتسم نيلي، وبدأ يمسح وجهه ورقبته وذراعيه ويديه، وراح يغني وهو يغتسل:
إن في عينيك الحالمتين ذكرى من مصر،
وفي طريقتك نفحة من القاهرة.
وأخذت فرانسي تكوي راضية النفس.
وأكمل نيلي لباسه أخيرا، ووقف أمامها بحلته الزرقاء القاتمة ذات القلابتين، وقميصه الأبيض النظيف ببنيقته المثناة إلى أسفل في رفق، وربطة عنقه المنقطة من طراز بولكا، وأضفى عليه الاغتسال رائحة منعشة نظيفة، وأخذ شعره الأشقر المجعد يلمع. - ما رأيك في منظري أيتها الممثلة الأولى؟
وزرر معطفه في أناقة، وأدركت فرانسي أنه يضع في إصبعه خاتم أبيه.
إذن لقد صدقت جدتها حين قالت: إن نساء روملي قد رزقن موهبة رؤية أشباح موتاهم الأحياء، وها هي ذي فرانسي قد رأت أباها. - فرانسي، أما زلت تذكرين مولي مالون.
ووضع إحدى يديه في جيبه، وأشاح عنها مغنيا:
في مدينة دابلن الجميلة،
تبدو الفتيات في غاية من الجمال.
أبتاه ... أبتاه ...
لقد كان صوت نيلي يمتاز بتلك النبرة الصافية الصادقة المعهودة، وما كان أروع وسامته التي فاقت الوصف! نعم، كان غاية في الوسامة، حتى إن النساء كن يلتفتن لينظرن إليه، وهو بعد لم يكن قد بلغ السادسة عشرة من عمره، ينظرن إليه متنهدات وهو يسير هابطا الشارع، كان أنيقا أعظم الأناقة، حتى إن فرانسي كانت تحس وهي تسير بجواره، كأنها قطعة من القماش الداكن الأغبر. - نيلي، أتظن أن منظري جميل. - اسمعي يا فرانسي، لماذا لا تصلين تسعة أيام للقديسة تريزا من أجل ذلك؟ أظن أن كرامة من الكرامات سوف تصلح من شأنك. - لا، إني أقصد ما أقول. - لماذا لا تقصين شعرك، وتجعلين منه خصلا مجعدة كما تفعل الفتيات الأخريات، بدلا من أن يلتف حول رأسك؟ - علي أن أنتظر حتى أبلغ الثامنة عشرة كرأي أمي، ولكن أتظن أنني جميلة المنظر؟ - فلتعودي إلى سؤالي حين يمتلئ جسمك قليلا. - أرجوك أن تجيبني.
وأخذ يتفحصها في عناية، ثم قال: إنك مقبولة.
ولم تكن فرانسي تجد بدا من الرضا بما قال.
لقد سبق أن أخبرها أنه في عجلة من أمره، فما باله الآن قد بدا عليه التردد في الانصراف. - فرانسي! ماكشين ... أقصد عمي، أترين أنه سيأتي هنا الليلة للعشاء، فإني سأذهب إلى عملي بعد المسرح، وسوف يكون الزفاف غدا، وسيقام حفل في المسكن الجديد غدا أيضا، وعلي أن أذهب إلى المدرسة يوم الإثنين، وستكونين أنت راكبة القطار إلى ميتشيجان، وأنا في المدرسة، ولن تتاح لي فرصة لأودعك بيني وبينك؛ لذلك سأقولك لك إلى اللقاء الآن. - سأعود إلى البيت يا نيلي في عيد الميلاد. - ولكن لن يكون الأمر كما هو الآن. - أعلم ذلك.
وانتظر، ومدت له فرانسي يدها اليمنى فدفع يدها جانبا، وأحاطها بذراعيه وقبلها على خدها، وتعلقت فرانسي به، وبدأت تنشج، فدفعها بعيدا عنه وقال: وي! إن الفتيات يصيبونني بالدوار، إن العاطفة تغلبهن دائما، ولكن صوته كان متمزقا كأنما كان هو الآخر مشرفا على البكاء.
واستدار وخرج من الشقة عدوا، وانطلقت فرانسي إلى الردهة، وأخذت ترقبه وهو يهبط السلم جريا، وتوقف في غمرة الظلام في نهاية السلم، ثم التفت لينظر إليها، وألفى المكان الذي تقف فيه مشرقا بالضياء، وإن كانت الظلمة تغمره.
وأخذت تسرح بأفكارها قائلة بينها وبين نفسها: ما أشبهه بأبي ... ما أشبهه بأبي ... ولكن في وجهه من أمارات القوة أكثر مما كان في وجه أبي.
ثم لوح لها بيده ومضى.
الساعة الرابعة.
واعتزمت فرانسي أن ترتدي ملابسها أولا، ثم تعد العشاء، حتى تكون مستعدة كل الاستعداد حين يقبل بن، وكان قد اشترى تذكرتين ليشاهدا بهما الممثل هنري هل في مسرحية «الرجل الذي عاد»، وكان هو موعدهما الأخير قبل أن يحل عيد الميلاد؛ لأن بن كان قد اعتزم أن يرحل ليلتحق بكليته غدا، كانت تميل إلى بن، تميل إليه كثيرا، وتود لو استطاعت أن تحبه، آه لو أنه لم يكن بالغ الثقة بنفسه إلى هذا الحد في كل حين، آه لو كان يضعف ولو مرة واحدة! آه لو كان يحس بحاجته إليها، آه! ... ولكن أمامها خمس سنوات حتى تفكر في ذلك مليا.
ووقفت أمام المرآة في ردائها الأبيض، وبينما هي تثني ذراعها فوق رأسها وهي تغتسل، تذكرت كيف كانت تجلس على سلم الطوارئ الخلفي حين كانت صبية صغيرة، وترقب الفتيات الكبيرات في مساكنهن من وراء أفنية المنازل، وهن يتهيأن للحاق بمواعيدهن الغرامية، ترى هل كان أحد ليراقبها وهي تقف مرة ترقبهن؟
وحولت بصرها نحو النافذة، نعم! كانت هناك بنت صغيرة تجلس فيما وراء فناءين من مسكنها هي على سلم الطوارئ، وقد وضعت في حجرها كتابا وأمسكت في يدها بكيس من الحلوى، كانت البنت تتفرس في فرانسي من خلال القضبان، وفرانسي تعرف البنت أيضا، فهي صبية صغيرة نحيلة في العاشرة من عمرها، اسمها فلوري وندي.
وأخذت فرانسي تمشط شعرها الطويل وتضفره وتلف ضفائرها حول رأسها، ثم ارتدت جوارب جديدة وحذاء أبيض ذا كعب عال، وراحت تذر مسحوقا معطرا بالبنفسج على قطعة مربعة من القطن، وتربطها في داخل مشد صدرها، فعلت ذلك قبل أن ترتدي رداء نظيفا من الفانلة القرنفلية اللون.
وخيل إليها أنها سمعت عربة فريبر قادمة، فمالت بجسمها على النافذة ونظرت. نعم، كانت العربة قادمة، لكنها لم تكن عربة الآن، بل كانت قد غدت سيارة صغيرة كستنائية اللون، وقد نقش على جوانبها الاسم بأحرف مذهبة، ولم يكن الرجل الذي يتهيأ لغسلها، هو فرانك المليح المتورد الخدين، نعم ذلك الفتى المقوس الساقين، الذي لم يعد يسحب جوادا.
وراحت فرانسي تنظر فيما وراء الأفنية، فرأت فلوري لا تزال تتفرس فيها من خلال قضبان سلم الطوارئ، ولوحت فرانسي لها بيدها ونادتها قائلة: مرحى يا فرانسي!
وصاحت البنت الصغيرة مجيبة: إن اسمي ليس فرانسي، بل هو فلوري، وأنت تعلمين ذلك أيضا.
قالت فرانسي: نعم أعلم.
وأرخت فرانسي بصرها نحو الفناء، فرأت الشجرة - التي كانت أوراقها تنتشر كالمظلات، وتلتف بسلم الطوارئ المألوف من فوقه ومن تحته - قد قطعت؛ لأن ربات البيوت كن قد اشتكين من أن الملابس المنشورة على الحبال، كانت تشتبك بأغصان الشجرة، فأرسل صاحب العمارة رجلين من قبله فقطعا هذه الأغصان.
ولكن الشجرة لم تمت ... نعم لم تمت ...
فقد انبثقت من جذعها شجرة جديدة، ونما الجذع على الأرض حتى بلغ مكانا لا تمتد فوقه حبال الغسيل، ثم بدأ ينمو ضاربا في السماء مرة أخرى.
وكانت آني، شجرة الشربين المعهودة، التي كان آل نولان يرعونها بالسقي والتسميد، قد أصابها الوهن منذ أمد طويل وماتت، ولكن هذه الشجرة القائمة بالفناء، هذه الشجرة التي اجتث الرجلان منها ما اجتثاه ... هذه الشجرة التي أقاموا حولها نارا محاولين أن يحرقوا جذعها، قد عاشت!
نعم، عاشت!
وما من شيء يستطيع أن يقضي عليها.
ثم عادت فرانسي فنظرت إلى فلوري وندي، وهي تقرأ جالسة على سلم الطوارئ.
وهمست: وداعا! يا فرانسي!
وأغلقت النافذة.
Page inconnue