وانتحى بك جانبا، وراح يقول وهو سكران تماما: لا تنس الأيام الأليمة، لا تنس الحب أبدا، تذكر أنه لم يعد لها أهل في هذه الدنيا، مقطوعة من شجرة، ولا أحد لها سواك.
تزوجت قلبا نابضا لا حدود لحيويته، وشخصية فاتنة حقا، تلميذة مثالية للراهبات، مهذبة بكل معنى الكلمة، مدبرة حكيمة كأنما خلقت للتدبير والحكمة، وقوة دافعة للعمل لا تعرف التواني، ونظرة ثاقبة في استثمار المال. ارتفعت في عهدها من غمار العدم إلى التفوق الفريد والثروة الطائلة، ووجدت في حرارة حبها عزاء عن الفشل، والشعر، والجهاد الضائع، رمز الجنس، والمال، والشبع، والنجاح، فماذا جرى؟
تقلبت في الفراش على وجهها؛ فانحسر طرف القميص عن نصفها التحتاني العاري، فانزلق من الفراش متجها نحو الشرفة، ودخل ثم أغلق الباب وراءه. طوقه هواء عاصف، ورأى الأمواج وهي تركض بجنون نحو الشاطئ، فتلطم بزبدها الفائر أرجل الكباين، تحت قبة باهتة انتشرت قطعان السحب في جنباتها، وغام جو الصباح الباكر باللون الرمادي المشع منها. ولم تدب قدم بعد فوق الأرض، ولم تنفتح نفسك لشيء، ولم ينعشك الهواء. وحتى متى تنتظر الشفاء؟ أين مصطفى لأسأله عن معنى هذه المتناقضات؟ عنده من الأفكار مدخر كثير، رغم أنه لم يعد يبيع اليوم إلا اللب والفشار. لماذا يجيء دور زينب بعد العمل؟ وها هي موجة تعلو علوا غير عادي، ثم تنكسر عن أطنان من الزبد، ثم تنداح في تدهور مسلمة الروح. يا إلهي إنهما شيء واحد، زينب والعمل، والداء الذي زهدني في العمل هو الذي يزهدني في زينب. هي القوة الكامنة وراء العمل، هي رمزه، هي المال والنجاح، والثراء، وأخيرا المرض. ولأني أتقزز من كل أولئك؛ فأنا أتقزز من نفسي، أو لأني أتقزز من نفسي؛ فأنا أتقزز من كل أولئك. ولكن من لزينب غيري؟ الليلة الماضية كان الحب تجربة مريرة. ضمر ونضب فلم يبق منه سوى ارتفاع في الحرارة، وسرعة في النبض، وزيادة في ضغط الدم، وتقلص في المعدة، تتلاحق في وحدة رهيبة؛ وحدة الموجة التي يمتصها رمل الشاطئ، فلا يتقهقر منها إلى البحر شيء. هي تترنم بأهازيج الغرام وأنا أبكم، هي تطارد وأنا شارد اللب، هي تحب وأنا كاره، هي حبلى وأنا عقيم، هي حساسة حذرة وأنا بليد. وقالت: أنت لا تتكلم كعادتك. فقلت: بل لا يسمع لي صوت. وقلت: تصور أن تكسب القضية اليوم؛ فتمتلك الأرض ثم تستولي عليها الحكومة غدا. فقال: ألسنا نعيش حياتنا، ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟ ورغم الجفاء والجفاف فإن الموجة تعلو لحد الجنون، ثم تتكسر عن الزبد، ثم تسلم الروح. ويزدردك قبر النوم بلا راحة، ويظل عقلك يتابع هواجسه، حتى الطبيب تفكر في زيارته مرة أخرى، مسلما بأنك تغيرت أكثر مما كنت تتصور. فيا ترى ماذا أريد؟ أجل، ماذا أريد؟ الفقه لا يهم، والحكم لصالح موكلي لا يهم، وإضافة مئات جديدة لحسابي لا يهم، ونعمة البيت السعيد لا تهم، وقراءة عناوين الصحف لا يهم، فما رأيك في رحلة في الفضاء؟ في ركوب الضوء شكرا لسرعته الثابتة. الشيء الوحيد الثابت في هذا الكون الذي لا يعرف الثبات، المتغير بلا توقف، المتحرك في جنون.
وها هو قد وصل أول مكتشفين للفضاء، بياع الجراثيم، وبياع الأنباء الكاذبة.
6
في آخر أغسطس رجعت الأسرة إلى القاهرة. وامتعض عمر لمرأى ميدان الأزهار، وهو في سبيله إلى عمله، وقال إنه لم يتغير عما تركه، وإنه ما زال معبرا كالحا للذاهبين إلى أعمالهم. واستقبل استقبالا حارا، وبخاصة من مساعده الأستاذ محمود فهمي، وسرعان ما حملت إليه ملفات القضايا المؤجلة، والتي تحت البحث. ولم يخل سبتمبر من أيام لزجة، ولكن جرت به نسائم لطيفة، وظللت بواكير صباحه طلائع سحب بيضاء. وعانقه مصطفى المنياوي طويلا وتبادلا القبلات، ووقفا طوال الاستقبال وجها لوجه. عمر بقامته المديدة، ومصطفى رافع وجهه نحوه، وصلعته مائلة إلى الوراء تلمع تحت ضوء المصباح الفضي. وقال وهو يجلس على المقعد الجلدي الكبير أمام المكتب: أراك في رشاقة الغزال، برافو.
وتناول سيجارة من العلبة الخشبية المطعمة بالصدف التي تعزف أنغامها عند فتحها، ثم أشعلها وهو يقول: فكرت مرات أن أزورك في الإسكندرية، ولكن واجب الزوجية كان يناديني إلى رأس البر، فضلا عن أنني شغلت طيلة الوقت بإعداد مسلسلة جديدة للراديو.
ونظر إلى ملفات القضايا، ثم إلى عيني صاحبه مستجديا كلمة مشجعة؛ فابتسم عمر ابتسامة غامضة، فألحق النظرة بالاستجداء حتى قال عمر: عملت صباح اليوم ساعات متواصلة.
فتنهد مصطفى في ارتياح غير أن الآخر تمتم: ولكن ...
فتساءل مصطفى في قلق: ولكن! - بالصراحة لم أسترد للعمل أية رغبة.
Page inconnue