Poète Andalou et un Prix Mondial
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
Genres
إنني أوثر العناية بمعدات الأحياء على العناية بذكريات الموتى.
وجاء في رسالة أخرى:
إن غيرتي على تكريم الموتى الذين لا يبالون أنصابنا المرمرية أضعف كثيرا من غيرتي على إعانة الأحياء الذين يشعرون بمضض الفاقة.
وكان سخطه على الواقع - ولا ريب - هو سر هذا التطلع الدائم إلى المثل العليا، وإغراء القادرين عليها بخدمتها والإيمان بها وبإمكان العمل لها في دنياهم، قبل أن يسلمهم الموت إلى عالم الذكرى، أو عالم «الأنصاب المرمرية» كما سماه.
وإن هذا الفراغ الذي أضجره من عيشته وأسخطه على الواقع الملموس في دنياه لعجيب عند من ينظرون إلى شهرة الرجل، ويسمعون بأعماله ومخترعاته، ويعرفون شيئا عن ثرائه ووفرة أرباحه من مصانعه التي انتشرت بين عواصم الغرب وهو في عنفوان شبابه، ولكنه فراغ لا يعجب له من يعلم أنه قضى عمره منذ طفولته دون العاشرة ولم يمتلئ فؤاده قط من شعور الوطن، ولا شعور السكن، ولا شعور الحب والثقة بإنسان من عشرائه وشركائه، ولا بمبدأ من المبادئ التي كانت تروج دعواها بين الناس في زمانه، وهو أعلم من سواه بحقائق هذه الدعوى وراء الستار.
فقد فارق وطنه في طفولته ليلحق بأبيه في عاصمة روسيا التي اختارها مركزا لتجربة مشروعاته ومخترعاته، ثم قضى سائر عمره إلى يوم وفاته متنقلا بين روسيا وأمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وعواصم الدول، أو ضواحي النزهة والاسشفاء، وأتقن في رحلاته هذه ثلاث لغات غير لغته الأصلية وهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية، واستطاع أن يتكلم بغير هذه اللغات الثلاث في محادثاته العاجلة أثناء العمل أو التردد على البلدان المختلفة، ولكنه كان في «حياته اللغوية» مثالا للغربة والانقطاع عن وشائج الفكر في أعماق النفس البشرية، وقد ظهر ذلك من إخفاقه في محاولاته الأدبية؛ لأنه لم يجمع بين قريحته وبين اللغة التي يبث فيها سرائر وجدانه سجية مطبوعة غير منقولة من عبارة الطبع إلى عبارة الترجمة والحكاية، فكان ينظم الشعر بالإنجليزية فيجيد غاية الإجادة التي يملكها الناظم الغريب عن اللسان والبيئة، ولكنها إجادة تقف به دون مرتبة الوحي المبتكر في لسانه الأصيل عفو البديهة، ثم يعود إلى لغة الأم - كما يقال أحيانا عن لغة الوطن - فإذا هو غريب عنها يحاول أن يودعها سرائر وجدانه، فكأنه ينقلها من لسان إلى لسان ومن بديهة إلى بديهة، وكأنه في هذه المحاولة يوسط أحدا بينه وبين نفسه قبل أن يوسط الترجمان بينه وبين القراء. •••
وشعر ألفريد نوبل - السري العالمي - بالحاجة إلى طمأنينة السكن، كما شعر بالحاجة إلى طمأنينة الوطن، وربما كان فقدانه الوطن الصغير الذي يأوي إليه أقسى على نفسه من فقدان الوطن الكبير؛ لأن العلاقات الوطنية لا تنقطع على بعد الديار، وليس بالعسير على مثله أن ينتمي إلى موطنه الفخور به حيث كان، ولا بالمتعذر عليه أن يؤدي لذلك الوطن حقه كلما سنحت له فرصة من فرص الحياة العامة أو مناسبة من مناسبات العلائق الدولية، ولكنه قد يملك ما شاء من الدور والقصور في رحاب الأرض، ولا يجد بينها «البيت» الذي يأوي إليه الأب والابن والقرين والقريب، ولا تفلح في بنائه الأموال والأمتعة إن لم تتوطد له أركانه بين حنايا الصدور.
وعاش السري العالمي بحاجة إلى هذا البيت في شبيبته الأولى، وربما استغنى عنه في ريعان شبابه، أو شغل عنه بشواغل العمل وشواغل اللهو التي تتسع لها أوقات الشباب، ولكن صاحب الأعمال الجسام الذي يلتقي كل يوم بأنداده من أرباب الأسر وملوك المال لا يستغني عن «المركز الاجتماعي» في مسكنه الجدير بمكانته العالمية، ولا بد له - مع مكتب العمل - من ملتقى تتصل فيه علاقاته بالناس في غير دواعي البيع والشراء وصفقات الصناعة والتجارة، وأحوج ما يكون الرجل إلى هذا «البيت» إذا أحوجته إليه متاعب الجسد المتوعك ومتاعب الفكر المشغول بمقلقات الدنيا على اتساعها، وهل من قلق في هذه الدنيا الواسعة أشد من قلق الصناعة التي عمل فيها ولم ينقطع عنها؟! هل من صناعة أقرب إلى القلق من صناعة «المتفجرات» في عصر الحروب وعصر الهدم والبناء؟
كان الرجل يتمنى أن يسلم هذا البيت إلى الفتاة التي يهواها ولكنه فقدها في إبان صباها، ثم أوفى على السن التي ينظر فيها الرجل إلى تقرير مصيره «البيتي» قبل فوات أوان التفكير في هذا المصير، وأوشك أن يجد «ربة البيت» التي توافقه في سنه وتوافقه في مزاجه وتوافقه في عمله، فعملت عنده النبيلة «برتا كنسكي» النمسوية كاتبة لرسائله ومديرة لبيته، وكانت في الثالثة والثلاثين، وهو في الثالثة والأربعين، فلما أحس ذات يوم أنه يحبها ويرتضيها قرينة لحياته لم يشأ أن يستغل حاجتها إليها، وأن يفاتحها بهواه قبل أن يتبين جوابها المنتظر لما سيعرضه عليها في غير حرج ولا اضطرار إلى المواربة، فسألها: أهي طليقة القلب؟ ولم يكن جوابها إلى اليأس ولا إلى الأمل؛ لأنه علم منها أنها أحبت فتى من نبلاء بلادها وأحبها الفتى، فنهاه أهله عن الاقتران بها لفقرها وتفاوت السن بينه وبينها، وأنها هجرت وطنها لتنسى، ولعلها وشيكة أن تنسى، ولكنه ذهب في رحلة من رحلاته، فكتبت إليه في غيبته تستودعه وتعتذر إليه من سفرها قبل عودته، ثم علم أنها استجابت لدعوة عاجلة من فتاها، وأنه تمرد على مشيئة أسرته، فتزوج بها وأرجأ إعلان الزواج إلى أن يقنع الأسرة بقبوله، وقضي على السري العالمي مرة أخرى أن يأوي إلى العالم كله، ولا يأوي إلى بيت!
وقد ربح ألفريد نوبل منذ شبابه ثروة عريضة من مخترعاته ومقاولاته، وربح في كهولته ثروة أعرض منها وأوسع انتشارا بين حواضر العالم وعواصم الدول ومراكز الحياة الاجتماعية، فلم تعطه الثروة العريضة في شبابه وكهولته تلك الثقة التي كان يفتقر إليها ويود أن يطمئن إلى ركن من أركانها؛ لأنه كسب الثروة من صناعة «المتفجرات»، وهي يومئذ تنوء بأوزار قضية التسليح وقضية السلام، وتتجسم بين أيدي العاملين فيها فضائح الرياء في دعوات المجد الوطني ودعوات الأخوة الإنسانية على السواء، فربما ارتفعت الصيحة إلى شراء السلاح باسم الحماية من خطر الأعداء، وهو يعلم من أسرارها أنها صفقة من صفقات السمسرة والرشوة، وربما قابلتها صيحة أخرى من صيحات الدعوة إلى السلام، وهي في باطنها وسيلة إلى إحباط تلك الخطة للنكاية أو للمساومة على السكوت، وبين هذا وذاك مكائد الجاسوسية والمنافسة التي لا بد منها في كل صناعة تقترن باستعداد الدول للدفاع والهجوم، وتقترن في الوقت نفسه بأسرار المخترعات ومنازعات البيوت التجارية على توريد الأسلحة والذخائر، وإبرام العقود واحتكار الأسواق الدولية.
Page inconnue