Poète Andalou et un Prix Mondial
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
Genres
اختارت في سنة 1904 جوزي أشيجاري، ثم اختارت بعد نحو عشرين سنة نظيره ونقيضه (جاسنتو بينافنتي)، وهما إسبانيان من الأمة الأصيلة بالقارة الأوروبية، ثم نظرت بعد أكثر من عشرين سنة إلى الضفة الأخرى من عالم اللغة الإسبانية، فاختارت أديبة من أمريكا الجنوبية هي جابرييلا مسترال، وعادت بعد إحدى عشرة سنة، فاختارت الشاعر خيمنيز المولود في إسبانيا والمقيم بجزيرة (بويرتريكو) في بحار أمريكا الوسطى، وكل من هؤلاء الأربعة يمثل جانبا من جوانب العبقرية الإسبانية لا يمثله سائرهم، وهم جميعا يبرزون هذه العبقرية على أتمها، ولا ننسى منها نهضتها النسوية.
إن روح العبقرية الإسبانية لم تتجل قديما وحديثا في فن من فنون الأدب كما تجلت في المسرح والأغنية؛ فقد كان المسرح مرآتها التي تنظر فيها إلى أركان قوامها الاجتماعي من الكنيسة والقلعة والضيعة، أو مروج الريف بين غناه وفقره واتساعه وضيقه، فعلى جذور الدين تفرعت موسيقاها وتراتيلها وأنباء قديسيها وأبطالها، وما تداولته من كرامات الأولياء والشهداء، أو مفاخر الأبطال والعظماء، وتألف منه ذلك النسيج الديني والدنيوي الذي يتقارب فيه الفارس المجاهد والقديس المتبتل، ويؤمن به الصالحون ولا يكفر به العصاة، ولو جرت على ألسنتهم فلتات النقمة والتجديف.
وفي الأغنية يودع الشاعر ابتهاله إلى عالم الغيب والإيمان، وابتهاله إلى عالم الحس والعاطفة: قريب من قريب في لغة الفن وفي لغة الحياة، وقريب من قريب في هيام المؤمن بالمعبود، أو هيام العاشق بالمحبوب.
وقد بلغ ارتقاء الفنين أوجه في القرون الوسطى من أثر الثقافة العربية وأثر اليقظة القومية، وتمثلت عبقرية القصة والمسرح في أكبر أعلامها الخالدين أمثال: سرفانيتز، ولوب دي ڨيجا، وكلدرون. فتدفقوا بالفيض الزاخر من ألوان الرواية والملحمة كأنهم الظواهر الطبيعية التي تعطي من أعماق ينابيعها عطاء السيل الأتي والبحر المائج، ولا تتأتى به مع قيود الفن أناة الحوض والساقية، وتشابهت ملكات هؤلاء الأفذاذ وظواهر الطبيعة في نضجها وخشونتها، فلم يعوزها نضج الخامات الصالحة للبناء والتعمير، ولم تفارقها كذلك خشونتها التي تنتظر الصقل ولا بساطتها التي تنتظر التسوية والتنسيق.
أما الأغنية فهي الفن الشائع الذي لا تنفد ذخيرته بين سواد الأمة ولا بين الملأ من العلية والسادة، إذ يكاد كل فتى أن يشعر بفريضة العرف على فتوته وصباه، وأولها الغناء تحت نافذة الحبيبة والترتيل في مجامع الصلاة، ولا يخلو عصر متقدم أو متأخر من غناء يستطيبه أبناؤه وبناته، ولكنهم قد يرتضون الشائع المحفوظ في عصور النكسة والجمود، ويتطلعون إلى المبتكر المتجدد في عصور النهضة والطموح.
وبعد ثلاثة قرون غبرت على الأمة الإسبانية في سبات القرون الوسطى، تنبهت شيئا فشيئا على أصداء العالمين القديم والحديث بعد الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، فلاحت فيها تباشير البعث والإحياء قبيل ختام القرن التاسع عشر، وأدركت ركب الحضارة بعد ذلك في إبان الحركة الجياشة التي شغلت أمم الغرب بين مقدمات الحرب العالمية الأولى ومعقباتها التي تلاحقت إلى أيام الحرب العالمية الثانية، وحدثت في هذه الأثناء ثورتها الأهلية التي تمثل في جانبيها المتنازعين كلا المعسكرين المتقابلين في العالم الإنساني: معسكر الديمقراطية الحرة، ومعسكر الحكم المطلق بصورته الإسبانية. وقلما أخذ الإسبان في تاريخهم العريق صورة من صور الحكم، فلم تصطبغ عندهم بصبغتها القومية التي تميزها من جاراتها في القارتين.
في إبان عصر البعث والإحياء نبغ المهندس الرياضي الشاعر الأديب (جوزي أشيجاري)، فتحول إلى الأدب بمفاجأة من تلك المفاجآت العجيبة التي تلازم أطوار النوابغ ذوي الشخصيات النادرة في أعقاب القرون الوسطى، وألف للمسرح وهو يناهز الأربعين، فتدفقت الدرامات من قلمه على تلك الوتيرة التقليدية التي عرف بها أسلافه سرفانتيز ودي ڨيجا وكلدرون، وامتلأت دراماته بالعجيج الصاخب والحركة المتداركة على غير مهل، وعجز المسرح عن ملاحقة التأليف بالتمثيل، فاكتفى منها بما تيسر له إبرازه وإخراجه وهو في طبقة المنسي المغمور.
كان مسرح أشيجاري هو مسرح كلدرون يعود إلى الحياة في أزياء القرن التاسع عشر، فلما استوفى حظه من الذكرى ومن البعث الجديد، جاء بعد أشيجاري نده الذي يضارعه في قوام المردة، ودفعة العمل، وغزارة المحصول. واستطاع هذا الند الحديث - جاسنتو بينافنتي - أن يملأ الفراغ الذي تركه سلفه القريب، ولما يكد يتوارى وراء الستار، ولكنه ملأه بمحصول غير ذلك المحصول، وعلى أسلوب غير ذلك الأسلوب. •••
كان فن أشيجاري كافيا لإحياء التراث الغابر، وإشباع رواد المسرح قبل انتقال المشكلات العصرية إلى ساحة المجتمع الإسباني مع طوارئ الحرب العظمى وأزمات المصنع والمزرعة ومضانك التموين والتمويل، فلما انتقلت إليها تلك المشكلات من وراء حدودها غلبت على مسرح الفن كما غلبت على مسرح الحياة، ولم يفتقد طلاب الفن ضجة الفروسية وصخب المفاجآت التي تخلقها «الملودرامة» من نسج الخيال وافتعال الحوادث؛ لأن مشكلات الصناعة والعمل، وكفاح الطبقات ونوبات النفوس المشدودة بين بقايا الماضي وبوادر الحاضر، قد شغلت الأذهان بما هو أملأ لها من القوارع المولية والشواغل المدبرة على مثال قوارع المسرح وشواغله أيام كلدرون، وأيام أشيجاري خليفته في ثوبه الحديث!
وإلى هذا العهد - عهد «الملودرامة» والأغنية التي تعيش إلى جانبها - كان العرف المسلم به بين قادة الفكر، والذوق أن (خط نصف النهار) في عالم اللغة الإسبانية يمر بمدريد، ولا يتحول عنها مع الذين تحولوا عن أرض الوطن الأصيل إلى أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية. فلما نهضت تلك الجاليات الأمريكية بأعبائها في العالم الجديد نبتت لها مشاكلها، وجاشت معها بواعثها، وظهرت فيها مدارس الأدب المستقلة جنبا إلى جنب مع مدارس التقليد والمحافظة على التراث الموروث، وأبى الإسباني النازح إلى عالمه الجديد أن يسلم لقرينه في الوطن بأصالة أصدق من أصالته، وغيرة أعمق من غيرته، وقدرة أوثق من قدرته على النهوض بأمانته القومية ورسالته الفنية، بل كاد الإسبان المقيمون أن يستروحوا أنفاس الحياة الجديدة في لغتهم، وأنفاس الحرية في دعوتهم الاجتماعية من ناحية إخوتهم الذاهبين مع الشمس وراء البحر الأطلسي، فاستمعوا لغنائهم واستجابوا لهتافهم. ولو قام في الغرب الإسباني مسرحه الذي يقابل مسرح كلدرون وأشيجاري لا تنقل إليه «خط الزوال» الذي علقه أبناء الوطن الأصيل بمدريد، ولكن المسرح الإسباني على ما يظهر نبات تسري جذوره في أرض الوطن ولا تهجره مع المهاجرين من أبنائه، فراحت الأغنية وحدها تسري بين الوطن القديم والوطن الجديد سريان الطير المهاجر بين العدوتين، وانتقل المغني والأغنية معا في طريق هذه الهجرة بعد الحرب الأهلية، فطاب هذا الاغتراب لأكثر من شاعر لا يطيق الوطن الأصيل، أو لا يطاق فيه.
Page inconnue