نقيم الأفراح للأولى، وللثانية المناحات والمآتم.
أما أنا ففي هذا المعبد، هنا في عبية، وفي هذه الساعة أجد أني أهم أن تصيبني في حياتي حادثة ثالثة هي حادثة الكهولة.
فحين أمد يدي إلى جيبي وانتزع منها هذه النظارات لأضعها على عيني أكون قد فعلت هذا لأول مرة في حياتي. هكذا أعترف أنني أصبحت كهلا.
حين يولد الطفل يأتي المهنئون فنطعمهم «المغلي»، ولو أني أقمت حفلة لكهولتي وجاءني الناس، لطفت عليهم بكئوس ملأت أنصافها بالمغلي، والأنصاف الثانية بزوم الزيتون، ووضعت في كل كأس شيئا من حب الصنوبر؛ لأذكرهم بأفراح الحياة، وشيئا من شظايا حجارة الصوان؛ لأذكرهم بتلك البلاطة التي ستعلو صدورنا حين نموت؛ تلك البلاطة التي ستغطي القميص الحريري، أو القميص القطني، أو الجسد الذي لا يرتدي قميصا.
وبعد، فقد لا يكون من مغزى لكأس ملئت بالمغلي وبزوم الزيتون، ومزجت بحبوب الصنوبر وحصى الصوان، فنحن في كل يوم نحيا قليلا ونموت قليلا.
يسمون هذا الشهر شهر توزيع الشهادات المدرسية، موسم الخطابة، غير أنه وقد كثرت وقفاتي في هذا الموسم لا أدري إن كنت زارعا أو حاصدا، ولا أعرف إن كنت جئت لأبيع أو لأشتري. في الأحد الماضي، كنا في حفلة مدرسة الشوير حيث ألقيت خطابا، وفي الساعة نفسها كانت مدرسة كفر شيما تقيم حفلتها، وكان يلقي فيها خطابا أخي بهيج.
وتقدمت سيدة من بهيج تقول: أنت هنا وسعيد في الشوير، وفي الأسبوع القادم خطاب في عبية؟!
أجاب بهيج: ما العمل؟ هذه بضاعتنا.
سؤال عادي، وجواب قد يكون عاديا، ولكن الحكيم يجد المغازي في الأقوال العادية. كلنا صاحب بضاعة، كلنا بائع وشار، مصدر ومستورد، منتج ومستهلك. هذا المعهد تشترون فيه الثقافة بمال جناه آباؤكم من بضاعة باعوها، وبأموال أخرى قدمها رجال جنوها من بضاعة باعوها. ليس الاتجار بعار. العار إن ساءت البضاعة أو فسدت السوق. كلنا يذكر الحداء: «نحن نبيع الروح للي يشتري.» لقد باعها - وهي كل ما يملك من بضاعة في السوق التي تعرفونها - فتى الجبل فتاكم: عادل النكدي.
في مثل هذا المعهد تدرسون وتجهدون لأمرين؛ الأول: لتعدوا نفوسكم لبيع البضاعة غير المغشوشة، والثاني: لتتدربوا على شراء البضاعة غير المغشوشة. بين الاثنين علاقة وثيقة؛ لأن الحياة مثل التجارة: عرض وطلب. وصحيح القول أنه من الصعب أن يجزم المفكر في أيهما أكبر أهمية؛ معرفة ما يبيعه الإنسان أو معرفة ما يشتريه؛ لأن الطلب يخلق العرض. لقد راجت في لبنان بضائع لم يعرف مثلها الألمان ولا الأميركان ولا الإنكليز ولا الطليان، ولا شهدوا لها شبيها لا في الصين ولا في الأرجنتين ولا في اليابان ولا في بلوخستان، وربح بها تجارها وأثروا واعتزوا؛ ذلك لأن تلك البضاعة نحن نشتريها.
Page inconnue