موائدنا مثقلة بالطعام، وكواراتنا فارغة. نقاتل من أجل التوافه جارنا القريب وما هو بعدو، ونغفل عن قتال عدونا الحقيقي وحر أنفاسه يلفح وجوهنا. تستعبدنا الأناقة، ويستهوينا الثراء أيا كانت طرقه. من أيدينا تفوح رائحة الرشوة، ومن أناملنا يقطر دم الفقير. نحن نعيش في حياتنا الاقتصادية والسياسية والأخلاقية في سكرة غطرسة، وليس بعد السكرة إلا وجع الرأس. نتبع القوي الذي ينفعنا ويؤذي جارنا. نريد أن تتقلص آفاقنا حتى يضيق عالمنا فنبدو فيه كبارا.
في زمن يجب أن نماشي به سنة النشوء والارتقاء، ونرفس عنا العادات القبيحة، أحيينا نحن أبناء لبنان؛ بلد العلم والنور، أحيينا عادات في الأفراح والمآتم وشتى المناسبات، عادات نتأدب إن سميناها عادات همجية. حين يفتقر الواحد منا أو يضعف ندوس عليه؛ لأنه فقير ضعيف.
نحن في لبنان نعرف أن نعيش، بل لا ينقصنا لنحذق فن العيش على أتمه إلا أن نتعلم كيف يجب أن نموت. نموت مستبسلين من أجل عشرة قروش، أو وظيفة، أو رأس بندورة، أو شتيمة، ولكن ليست لنا الجرأة الأدبية لأن نتفوه بكلمة قاسية، وليست لنا الشجاعة الجسدية لأن ننهض للمطالبة بحق عام. ما هو بكبير من تستفزه الصغائر. طريق المجد منعت عن الرياء والتملق. ومن قضى حياته منحنيا أمام القوي لا تلمع الشمس على جبينه.
هذا قليل قليل من كثير كثير لا يجمل الآن قوله ولا أنتم تجهلونه، غير أني لا أعدد هذه المصائب لأكون رسول اليأس، لا بل إنني متفائل، فمتى بلغ السائر قعر الوادي فلا يبقى أمامه إلا الصعود.
أعود بكم إلى عام 1935، يوم تذابحنا هنا مسيحيين ودروزا. كانت أياما سوداء، ولكنها مضت إلى الأبد. وكل هذه الآفات التي لا تحسن في نظرنا اليوم ستغيب إلى الأبد؛ ذلك لأنه كما كانوا في عام 1925 حلقات من رجال ناقمة على التعصب الطائفي، كذلك في هذا اليوم ألوف من الرجال يرون عبر هذا اليوم. في لبنان اليوم ألوف من حلقات شبيهة بحلقة تباريس، وقوة هذه الحلقات في كونها غير منظورة وغير مسموعة .
سنة الحياة هي التغير والتبدل.
كنا في ليلة عيد رأس السنة عام 1941 في مانيلا؛ عاصمة الفلبين، في نعمة وزهو وطمأنينة، وصحونا في اليوم الثاني وأعلام الغزاة فوق رءوسنا، وأمتعتنا وأملاكنا وحياة كل منا رهن إشارة. لقد عشنا أربعين شهرا بين الدمار والقتال والجوع، ووجدنا أن أثمن ما يتسلح به الإنسان للطوارئ هو حب جيرانه واحترامهم إياه.
في طقوس الرهبنة المسيحية عادة من أسمى العادات، وهي ما يسميه الكهنة الرياضة الروحية. جميل بنا أن نأخذ عن الرهبان هذا الطقس الديني، فيخلو الواحد منا إلى نفسه يعرفها صامتا؛ إذ ذاك نكتشف أننا في شتى مناحي الحياة في هذا البلد مشينا القهقرى، وأنه يجب علينا أن نصحو من هذه السكرة؛ إذ ذاك نكتشف أننا في لبنان نعيش في صالون الحياة تبهر عيوننا الأنوار التي أضأناها فوق رءوسنا، فلا نرى العتمة التي تكتنف المنزل وتملأ سائر الغرف.
أيها السيدات والسادة، حذار حذار! ماذا أعددتم للطوارئ؟ بعض البراكين يرعد ثم ينفجر، وبعض البراكين ينفجر من غير أن يرعد.
ليس بيننا من لم يكسر قرميدة في حياته، وإني وقد خبرت هذا الجرم أجد أن في لحم القرميدة المكسورة نشوة لذة تفوق الجذل البهيمي الذي يثيره في النفس كسرها.
Page inconnue