كان ذو الوجه الملائكي يود أن يأخذها من هنا في هذه الليلة ذاتها. وبدت له الدقائق أعواما إذ كانت هذه المرأة العجوز تحكي قصتها. - إنكم جميعا سواء أيها الشبان المغرمون! ولكن دعني أكمل لك. بعد أن تركنا «كاسانويفا» لاحظت أن تلك المرأة ترفض أن تفتح عينيها أو أن تنطق حرفا. كنا كأنما نتحدث إلى جدار صامت. ظننت أنها تلعب علينا لعبة أو شيئا من هذا القبيل. والأدهى أنني لاحظت أنها كانت تحتضن رزمة في حجم طفل صغير بين ذراعيها.
واستطالت صورة كميلة في ذهن ذي الوجه الملائكي إلى أن انقسمت نصفين كحرف ثمانية، بالسرعة التي تنفجر بها فقاعة الصابون عند لمسها. - طفل صغير؟ - أجل، واكتشفت طباختي «مانويلا كالفاريو كريستاليس» أن ما كانت المرأة التعسة تهدهده بين ذراعيها هو طفل صغير ميت قد بدأ يتعفن. ونادتني فجريت إلى المطبخ وتعاونا نحن الاثنتين في انتزاعه منها بالقوة، ولكن ما كدنا نفتح ذراعيها - وقد كادت «مانويلا» أن تكسرهما - ونأخذ الطفل الميت منها حتى فتحت عينيها على اتساعهما كالميت يوم القيامة، وأطلقت صرخة لا بد أنها وصلت حتى السوق، وسقطت سطيحة على الأرض. - ميتة ؟ - لقد ظننا ذلك برهة. ثم جاءوا وأخذوها، ملفوفة في إحدى الشراشف إلى مستشفى القديس «خوان الإلهي». لم أكن أريد رؤية ذلك المنظر، فقد أرعبتني حالتها. وقالوا إن الدموع أخذت تنسال من عينيها المغلقتين كأنها ذلك الفائض من المياه التي لا نفع فيها لأحد.
وتوقفت السيدة «تشون» لالتقاط أنفاسها ثم تمتمت: لقد سألت عنها الفتيات اللاتي كن في زيارة للمستشفى ذلك الصباح، ويبدو أنها في حالة سيئة. والآن، هذا هو ما يقلقني، فكما يمكنك أن تتصور، لا يمكنني أن أدع المدعي العام يحتفظ بالعشرة آلاف بيزو التي أعطيتها إياه، وإنني أفكر في طريقة أجعله يعيدها لي، فلماذا بحق السماء يستولي على ما هو حقي؟ لماذا بحق السماء؟ إنني أفضل ألف مرة أن أهب هذا المبلغ منحة لدار الفقراء. - يجب على محاميك أن يعيدها لك، أما بشأن هذه المرأة المسكينة ... - تماما! ولقد ذهب مرتين اليوم ... آسفة لمقاطعتك، لقد ذهب محامي فيداليتاس مرتين لمقابلته، مرة إلى بيته ومرة إلى مكتبه، وفي كل مرة قال نفس الشيء؛ إنه لن يعيد لي شيئا. ها أنت ترى كيف أن هذا الرجل لص حقير. إنه يقول لو أن بقرة نفقت بعد أن بيعت فإن الخسارة تقع على المشتري وليس على البائع. إنه يتحدث عن الناس كما لو كانوا حيوانات! هذا ما قال. أوه، حقا إنني أود أن ...
كان ذو الوجه الملائكي صامتا - من تكون هذه المرأة التي بيعت؟ من يكون ذلك الطفل الميت؟
وظهرت السن الذهبية للسيدة «تشون» وهي تقول متوعدة: آه، ولكن ما أنوي فعله هو أنني سأعطيه علقة لم ينلها في حياته، ولا من أمه. إذا سجنوني فسيكون لأمر رهيب. يعلم الله أن كسب العيش أمر شاق مع وجود هؤلاء الناس الذين يسرقون المرء هكذا! عليه اللعنة ذلك الصعلوك العجوز. لقد قلت لهم بالفعل هذا الصباح أن يلقوا طينا من المقبرة على عتبة دار المدعي العام. سنرى إن كان ذلك يجلب عليه النحس. - وهل دفنوا الطفل؟ - لقد أعددنا جنازا له هنا في هذا البيت. إن الفتيات عاطفيات جدا. وقدمن فطائر الذرة ... - حفل كبير؟ - بالضبط!
والشرطة؟ ماذا فعلت؟ - لقد دفعنا كيما يعطوننا شهادة وفاة. وفي اليوم التالي، دفنا الطفل في الجزيرة في كفن جميل مطرز بالساتان الأبيض. - ألا تخافين وجود أقارب للطفل يطالبون بالجثمان أو يشكون من عدم إبلاغهم بالأمر؟ - هذا يكون القشة التي تقصم ظهر البعير! ولكن ... من ذا الذي سيطالب به؟ إن الأب «روداس» في السجن، والأم في المستشفى كما قلت لك.
وابتسم ذو الوجه الملائكي في سريرته؛ فقد انزاح حمل ثقيل من على نفسه. لا علاقة لذلك الطفل ولا تلك المرأة بكميلة. - بماذا تنصحني يا سيد ميغيليتو؟ إنك ماهر جدا. كيف لي أن أمنع ذلك البخيل العجوز من الاحتفاظ بنقودي؟ إنها عشرة آلاف بيزو، أتذكر ذلك؟ إنه مبلغ ليس بالقليل! - إن نصيحتي هي أن تذهبي لرؤية السيد الرئيس وتشتكي له. اطلبي مقابلة وقصي عليه الحكاية. وثقي أنه سيصحح الوضع؛ إذ إن ذلك من سلطته. - هذا ما فكرت فيه، ولسوف أنفذه. سوف أرسل له غدا برقية عاجلة أطلب مقابلته. ونحن أصدقاء قدماء لحسن الحظ. كان يحبني حين كان لا يزال وزيرا فحسب. لقد كان هذا منذ وقت طويل. كنت شابة وجميلة آنذاك، دقيقة الخصر كعود الخيزران، مثل تلك الصورة التي هناك. أتذكر أنني كنت أسكن حي «سيليتو» مع أمي - عليها رحمة الله - حين نقر ببغاء عينها فأعماها، هلا سمعت عن مثل سوء حظ كهذا! لا بد أن أعترف أنني قد شويت ذلك الببغاء، وكنت سعيدة تماما بهذا، وأعطيته للكلب، وأكله ذلك الكلب الغبي وأصيب بالسعار لوقته. ولعل أكثر ما أتذكره من تلك الأيام بهجة هو أن البيت كان يقع في الطريق الذي يجب أن تمر به جميع الجنازات في طريقها إلى المقبرة. وكانت الجثث تمر بنا على الدوام كل يوم. لقد كان هذا هو السبب الذي قطع لأجله السيد الرئيس علاقته بي إلى الأبد. لقد كان يخشى الجنازات . أما أنا، فماذا يهمني من ذلك؟ إنها ليست غلطتي. لقد كان كالطفل الصغير، رأسه مليء بالأوهام . كان يصدق أي شيء يقوله له أي شخص، سواء بالخير أو بالشر. كنت في البداية حريصة عليه، واعتدت أن أواصل تقبيله طوال الوقت الذي تستغرقه الجنازات في المرور بمختلف ألوان النعوش أمام المنزل، حتى لا يلحظ مرورها. ولكني مللت من ذلك ولم أعد أفعله. كان أحب شيء إليه أن تلعق له إحداهن أذنه، رغم أن طعمها يكون كريها أحيانا. إن بإمكاني أن أراه الآن، جالسا حيث أنت جالس، ومنديله الحريري الأبيض معقود بعناية وإحكام حول عنقه، وقبعته العريضة، وغطاء حذائه بحوافه الوردية، وحلته الزرقاء. - وبعد ذلك، أظن أنه لا بد وكان قد أصبح رئيسا للجمهورية بالفعل حين كان شاهدا على عرسك؟ - كلا، بالمرة. إن المرحوم زوجي - رحمه الله - لم يكن يهتم بمثل هذه الأشياء. وكان يقول: إن الكلاب وحدها هي التي تحتاج إلى شهود وأناس تحملق فيها حين تتزوج، ثم ينطلق العروسان وخلفهما شريط من الكلاب الأخرى، وكلها سائلة اللعاب متدلية الألسن ...
الفصل الخامس والعشرون
حاجز الموت
وصل القس على جناح الطير. وقال في نفسه: ثمة أناس على استعداد لأن يهرعوا مقابل جزء من هذا. فماذا هناك أغلى من نفس إنسانية؟ وثمة أناس يفرغون من طعامهم ومعدتهم لا تزال تضج طلبا للمزيد مقابل جزء من هذا. مع ... دة! إني أؤمن بثلاثة أشخاص منفصلين في الثالوث، وإله حقيقي واحد. ضجيج المعدة ليس هناك، بل هو هنا، عندي، عندي، عندي، عندي، في معدتي، في معدتي، في معدتي ... من معدتك، يا يسوع، ... هناك المائدة جاهزة، المفرش الأبيض، الأطباق البورسلين الناصعة البياض، والخادمة العجفاء ...
Page inconnue