ولم يدر أحد منهم متى أخرجوهم من هذا القبو، وربما كان ذلك في منتصف الليل؛ فالتحقيق يتناول جريمة سياسية كما قال لهم أحد الرجال ربعة القامة معرورق الوجه زعفراني اللون، ذو شارب ينسدل على شفتيه الغليظتين في إهمال، أفطس الأنف قليلا، وذو عينين مقنعتين. وقد انتهى هذا الرجل بسؤالهم جميعا فردا فردا عن مدى علمهم بالمسئول أو المسئولين عن جريمة «رواق الرب» التي ارتكبت في الليلة الفائتة في شخص أحد كبار رجال الجيش.
وكان ثمة مصباح يتصاعد منه الدخان يضيء الحجرة التي نقلوهم إليها، فبدا ضوءه الباهت كأنما يمر من خلال عدسات مملوءة بالمياه. ما هذا الذي يجري هنا؟ ما هذا الجدار؟ وما هذا الرف المليء بالأسلحة والذي يبدو أشد شراسة من أنياب النمر؛ وزنار الشرطي المليء بالذخيرة؟
وأثارت إجابات الشحاذين أعصاب المحقق، المدعي العسكري العام، فقفز من مقعده وصاح قائلا وهو يفتح عينيه الحجريتين من وراء نظارته الطبية السميكة ويضرب المائدة التي يستخدمها كمكتب بقبضة يده: سأستخلص منكم الحقيقة! وردد الواحد منهم بعد الآخر أن مقترف الجريمة هو الأبله، زميلهم الشحاذ ووصفوا بدقة تفاصيل الجريمة التي شاهدوا وقائعها بأعينهم.
وأشار المحقق من طرف خفي، فهجم رجال الشرطة، الذين كانوا يرهفون سمعهم من وراء الباب، على الشحاذين يوسعونهم ضربا ويدفعونهم نحو إحدى الردهات العارية من كل شيء، إلا من حبل غليظ يتدلى من سقفها.
وصرخ أول المعذبين في محاولة محمومة للهرب من التعذيب بذكر الحقيقة: إنه الأبله! إنه الأبله يا سيدي! إنه الأبله! إنه الأبله، إنه الأبله بحق الإله! الأبله، الأبله، الأبله! ذلك الأبله. الأبله. ذاك، ذاك، ذاك! - لقد نصحوكم أن تقولوا لي ذلك. ولكن هذه الأكاذيب لا تجدي معي! الحقيقة أو الموت! هل أنت عارف، أتسمع؛ اعرف، إن لم تكن تعرف.
وانساب صوت المحقق كالدم السيال في سمع الشقي الذي لم ينقطع عن الصراخ إذ هو معلق من أصابعه دون أن يستطيع وضع قدميه على الأرض: «إنه الأبله، الأبله هو. إنه الأبله بحق الإله! إنه الأبله! إنه الأبله! إنه الأبله، إنه الأبله ...»
وأعلن المحقق: «كذب!» ثم قال بعد فترة صمت: «هذا كذب، وأنت كاذب. سوف أذكر لك من قتل الكولونيل «خوسيه باراليس سونرينتي» ولنر إذا كنت تجسر على إنكار ذلك. سوف أذكر لك اسمهما، إنهما الجنرال «يوسبيو كاناليس» والمحامي «قابيل كارفاخال»!»
وتلا كلامه صمت جليدي، وبعده، وبعده، أنين، وأنين آخر بعد ذلك، ثم أخيرا كلمة «أجل!» وحين أطلقوا الحبل ارتمى «فيودا» على الأرض دون حراك. وبدت وجنتا هذا الشحاذ الخلاسي غارقتين في العرق والأنين، كالفحم الذي بللته مياه الأمطار. وتتالى بعده استجواب رفاقه الذين كانوا يرتجفون كالكلاب الضالة التي تقتلها الشرطة بالسم في الشوارع ، وكلهم أمنوا على كلام المحقق، كلهم، عدا «الذبابة»؛ كان وجهه ينم عن مزيج من الخوف والاحتقار. وعلقوه من أصابعه لأنه كان يؤكد وهو على الأرض، نصف مدفون - مدفون حتى وسطه كحال كل من لا ساقين له - أن زملاءه يكذبون حين يلقون تبعة الجريمة على شخصين غريبين عنهما، في حين أن المسئول الوحيد عنها هو الأبله.
والتقط المحقق الكلمة: مسئول! كيف تجسر على أن تقول إن أبله مسئول؛ أترى كذبك؟ مسئول غير مسئول. - فليرد هو على هذا الكلام.
فاقترح شرطي له صوت نسائي أن يضربوه، بينما ساطه شرطي آخر على وجهه.
Page inconnue