وقال «شطة» وهو ممسك بالرأس أمامي: «أليس هذا رأس عمك الكافر؟»
فقلت بهدوء: «وما في ذلك؟ جندي شجاع وقع وهو يقاتل، إنه لسعيد إذ قد انتهت آلامه.»
فقال شطة: «ها، ها، لا تزال تمدح الكافر، ولكنك سترى النتيجة.»
ثم تركوني وذهبوا إلى المهدي ومعهم إشارة النصر المفزعة هذه ووراءهم جمهور يبكي.
ثم عدت إلى خيمتي وقد ماتت نفسي في جسمي، أجل لقد سقطت الخرطوم ومات غوردون، وهذا إذن هو نهاية حياة هذا البطل الذي وقع وسيفه في يده، هذا الرجل الذي لم يكن يعرف الخوف والذي كان له من الخصال ما أذاع شهرته في العالم أجمع.
فما هي فائدة الجيش الإنجليزي الآن؟ لقد تأخر في متمة وكان في تأخيره هلاك الخرطوم، لقد وصلت طلائع الإنجليز إلى جوبات على النيل في 20 يناير، ووصلت بواخر غوردون الأربع في 21 منه، فلماذا لم يرسلوا على هذه البواخر جنودا إلى الخرطوم مهما كان عددهم قليلا؟! فلو أن الحامية رأت عددا من هؤلاء الجنود لامتلأت قلوبهم حماسة وقوة ورجاء، ولاستطاعوا أن يتصدوا للعدو، وكان السكان الذين فقدوا كل ما عندهم من ثقة في وعود غوردون تعاودهم ثقة جديدة ويحاربون إلى صف الحامية لتأكدهم بأن القوة الإنجليزية توشك أن تنجدهم.
وقد جهد غوردون جهده لكي يثبت وقد أعلن أن جيشا إنجليزيا قادم إليه، وطبع نقودا من الورق وكان يوزع الأوسمة والرتب كل يوم بلا حساب لكي يشجع الجنود، ولما أخذت الأحوال تسوء واليأس يحل، كان هو يجاهد في تحميس الجنود وترجيتهم، ولكن اليأس قلب الرجاء، فلم يعودوا يروا فائدة في هذه الأوسمة والرتب، أما نقود الورق فربما كان هناك من يشتري ورق الجنيه بقرشين آملا أملا ضعيفا في الربح إذا جاءت المصادفات بانتصار للحكومة.
ولم يكن أحد يصدق وعود غوردون الآن، ولو أن باخرة واحدة حملت بعض الجنود وجاءت بهم إلى الخرطوم وأخبرتهم بأن الإنجليز انتصروا، لامتلأت قلوب السكان والجنود حماسة وصدقوا وعود غوردون، وكان عندئذ يمكن لضابط إنجليزي أن يرى الجزء الذي دمره فيضان النيل من حصون المدينة وكان في الحال يأمر بإصلاحه، ولكن ماذا كان يمكن أن يصنعه غوردون وهو وحيد وليس معه مساعد أوروبي؟
ولم يكن في مستطاعه أن ينظر في كل شيء، كما أنه لم تكن بين يديه الوسائل التي تمكنه من التحقق من مرءوسيه؛ هل ينفذون أوامره أم لا. وكيف كان يمكن قائدا أن ينتظر من جنوده القيام بتنفيذ أوامره إذا كان غير قادر على أن يضمن لهم قوتهم؟
وفي الليلة المشئومة ليلة 25 يناير علم غوردون بأن المهديين سيهجمون على المدينة، فأرسل أوامره يخبر القواد هذا الخبر، ولعله كان يشك في صدق نيتهم في الهجوم في بكور اليوم التالي، وفي الوقت الذي عبر فيه المهدي إلى الضفة الشرقية كان غوردون قد أمر بإطلاق بعض الأسهم النارية في الفضاء، وكانت ألوانها كثيرة مختلفة، وكانت الموسيقى تعزف في الوقت نفسه، والغرض من كل ذلك تحميس الجنود الذين أضناهم الجوع حتى يثوب إليهم نشاطهم. وانتهت الأسهم النارية وسكتت الموسيقى، ثم نامت الخرطوم وشرع العدو يزحف في حذر وصمت. وكان رجال العدو يعرفون أماكن الضعف في الحصون، وكانوا يعرفون أن الجنود النظاميين قد وضعوا في الأماكن القوية، في حين أن الخندق المتهدم القريب من النيل الأبيض وأيضا مصطبة الخندق لم يكن يحميها سوى الأهالي الضعاف.
Page inconnue