فهاج الخليفة وصاح بي غاضبا: «أليس في الرسالة اسم إلياس باشا واسم محمد أبو حرجة؟»
فقلت بلهجة التهكم: «لقد صدق من أخبرك بهذا فإني يمكنني أن أقرأ اسميهما، ولكن لا أفهم شيئا عما يقصد من ذكرهما، ولعل الذي أخبرك بهذين الاسمين يمكنه أن يفسر سائر ما في الرسالة، ثم إني أجد فيها أيضا رقم 10000، ولكن لا أعرف هل المقصود منه عدد الجنود أو غير ذلك.»
فأخذ الورقة من يدي وهو يقول: «إني مهما عجزت عما في هذه الورقة فإن غوردون سينهزم وستسقط الخرطوم.» ثم تركني مع الحرس.
والآن عرفت أن غوردون يقول إنه يمكنه الثبات إلى آخر يناير، وكنا في أواخر ديسمبر فهل يمكن إنقاذ البلدة قبل فوات الفرصة؟ ولكن ماذا يعنيني من كل ذلك؟ ها أنا ذا مقيد بالسلاسل ولست أقدر على عمل شيء يغير مجرى الحوادث.
وبلغنا أول يناير الذي يقول غوردون إنه يمكنه أن يثبت فيه إلى آخره، وأخذت أشعر أن الساعة الحاسمة تقترب.
واشتد القتال بين قلعة أم درمان وبين الدراويش، وكان فرج الله باشا يجهد جهده، وحاول على الرغم من قلة عدد الحامية أن يفتق فتقا في القوة المحاصرة ويخرج، ولكنه رد إلى القلعة ثانيا، وفقدت مئونة القلعة وشرع عندئذ في مفاوضات التسليم، وكان فرج الله قد خاطب غوردون بالرايات عن التعليمات الواجب اتباعها، فأذن له غوردون في التسليم إذا لم يكن قادرا على الثبات، وعفا المهدي عن جميع رجال الحامية، ولما خرجت الحامية دخل رجال المهدي ولكنهم خرجوا في الحال؛ لأن مدفعية الخرطوم أمطرتهم وابلا من القنابل، وكان في القلعة مدفعان ولكن مداهما أقصر من المسافة التي بينهما وبين البلدة، وحدث التسليم في 15 يناير سنة 1885.
ووقع أن أم درمان سقطت؛ فإن المهدي لم يرسل أي أمداد للمحاصرين في شرقي الخرطوم وجنوبها؛ لأنه كان يعرف أن القوة المحاصرة تكفي للمهمة المنتدبة لها. وكان كما كانت حامية الخرطوم، كلاهما ينظر بعين القلق الشديد إلى الشمال حيث تكون الكلمة الفاصلة.
وكان غوردون باشا قد أرسل إلى متمة خمس بواخر بقيادة خشم الموس وعبد الحميد واد محمد؛ لكي تنتظر مجيء الإنجليز وتجيء بهم إلى الخرطوم بأسرع ما يمكنها، وكان غوردون ينتظر مجيئهم بغاية القلق، وكان قد خاطر بكل شيء على مجيء القوة الإنجليزية، ولكن كل إنسان كان يجهل ما تم في أمرها.
وأذن غوردون في أوائل الشهر لجملة عائلات بمبارحة الخرطوم، ولم يكن إلى هذا الوقت يجيز لنفسه طردهم؛ ولذلك اضطر إلى توزيع المئونة عليهم، فكان يوزع مئات الأوقات من البسكويت والذرة على الفقراء كل يوم، وهو على هذا العمل يستحق مكافأة الله، ولكنه في الوقت نفسه قضى على نفسه وعلى رجاله، فقد نفد الزاد وصار كل إنسان يبكي ويطلب الخبز، وعاد الآن إلى إغراء الأهالي بالخروج من المدينة، وهو لو كان قد فعل ذلك منذ شهرين أو ثلاثة لكان عنده من المئونة ما يكفي رجاله مدة طويلة، ولكنه كان يعتمد على مجيء الجيش؛ وكان لذلك لا يعنى بادخار المئونة، فهل كان يعتقد أنه لا يمكن جيشا إنجليزيا أن يتأخر عن ميعاده؟
وبعد ستة أيام من سقوط أم درمان سمعت عويلا في المعسكر لم أسمع مثله منذ خروجي من دارفور، وكان المهدي يمنع الناس من إظهار الحزن على الموتى أو القتلى؛ لأنهم في مذهبه يدخلون النعيم، ففهمت أنه لا بد أن قد حدث شيء غير عادي حتى يخالف الناس مذهب المهدي، وكان الحراس المكلفون بحراستي يتطلعون لمعرفة سبب هذا العويل، وقد تركوني لهذه الغاية، وعادوا بعد قليل يقولون إن طلائع الجيش الإنجليزي التقت بالقوات المجموعة من البرابر والجعالين والدغيم وكنانة الذين يقودهم موسى واد حلو، وهزمتهم في أبو نلا - أبو كلبة - وقد هلك كثيرون ولم ينج إلا عدد قليل عادوا وأكثرهم به جراحات وقد فني الدغيم وكنانة تقريبا، وقتل موسى واد هلو وعدد من الأمراء أيضا.
Page inconnue