وكانت ساقاي قد تخدرتا من القعدة الطويلة حتى ما كدت أقوى على المشي عليهما، ولم يبد على سيد بك ألم؛ لأنه معتاد هذه القعدة، أما ديمتري فسار وراءنا وهو يتلفظ ألفاظا خافتة باللغة الإغريقية يلعن فيها المهدي، ورافقنا ملازم إلى منزل الخليفة حيث قعدنا إلى وقت العشاء.
وأخبرنا الخليفة بأنه بعد أن رآنا في الصباح وفد إليه حسين خليفة مدير بربر، فثبت لدينا من ذلك سقوط بربر، وكانت الإشاعات قد بلغتنا ونحن على حدود دارفور، ولكننا لم نلاق أحدا نتحقق منه هذا الخبر، ويبدو أن المدينة سقطت على يد الجعالين، وبذلك انقطعت المواصلات بيننا وبين مصر، وكان هذا الخبر سيئا للغاية، وكنت أنتظر لقاء حسين خليفة لكي أتعرف منه صدق هذا الخبر.
وغادرنا الخليفة لكي ينام فمد كل منا ساقيه على عنجريبه واستسلم للأقدار.
وفي الصباح بعد فطور العصيدة واللبن، سمعنا قرع الطبول تؤذن بخروج الخليفة، وأسرجت الخيول في الحال، وأشرت على الخدم بأن يعدوا لنا أنا والسيد بك جمعة جوادين امتطيناهما وأدركنا بهما الخليفة الذي كان قد سبقنا، وكان راكبا جواده بقصد النزهة فقط. وكان معه عشرون من المشاة وكان على يمينه رجل أسود ضخم من قبائل الدنكا، وعلى يساره عربي طويل جدا يدعى أبا تشيكة كان يعاونه في الركوب والنزول، ولما بلغ الرحبة التي كان بها في الأمس أمر الفرسان بأن يكرروا الرياضة التي قاموا بها أمس، وبعد مدة سرنا إلى نهاية المعسكر؛ حيث أراني الخليفة آثار زريبة وخنادق وأخبرني أنها من عمل هكس قبل أن تباد قوته، وكان قد مكث هناك ينتظر المدد من تاج الله، وكانت هذه الخنادق مصنوعة لمدافع كروب، وقد أثار هذا المنظر في نفسي ذكرى أليمة عن تلك الآلاف التي أبيدت عن آخرها تقريبا، وأن هذه النكبة هي سبب وجودي في مكاني هذا الآن.
وعند رجوعنا عرج بنا الخليفة إلى منزل أخيه يعقوب الذي كانت عشته قريبة من عشة الخليفة؛ إذ لم يكن بين سياج كل منهما سوى ممر ضيق. وتلقاني يعقوب بالبشاشة، وبدا عليه من دلائل السرور مثل ما بدا على أخيه ونصح لي بأن أخدم الخليفة بأمانة.
ويعقوب أقصر من الخليفة عريض الأكتاف مستدير الوجه وبه آثار الجدري، وله أنف يرتفع من طرفه وشاربان ولحية خفيفة، وحظه من الدمامة أكثر من حظه من الجمال، ولكن طريقته في الحديث عجيبة من حيث إظهاره عطفه على محدثه، وكان يخاطبنا وهو يبتسم كما يفعل الخليفة والمهدي، ولا غرابة في ذلك ما دامت أحوالهم في هذا الرواج، ويعقوب يقرأ ويكتب وقد حفظ القرآن عن ظهر قلبه، أما الخليفة فبالمقابلة إلى أخيه يعتبر جاهلا، وهو أصغر سنا من الخليفة، ولكنه مستشاره الأمين وصاحب الرأي الذي لا يعلى عليه، وويل لمن يرتئي رأيا يخالف يعقوب أو يشتبه في أنه يدس له؛ إذ لا رجاء في حياته.
وأصبنا شيئا من البلح الذي قدمه لنا ثم استأذنا في الخروج وعدنا إلى رقوبة؛ حيث قصدنا إلى المسجد وقعدنا إلى الغروب كما فعلنا البارحة، وجاء المهدي فوعظ الناس في الزهد في الدنيا والجهاد حتى ينالوا نعيم الفردوس، وتحمس المصلون وقد أسكرهم التواجد فصاحوا بمدائح المهدي، أما نحن التعساء فكنا نتألم من قعدتنا ونلعن في قلوبنا المهدي والخليفة وجميع من حولهما من السفلة المنافقين.
وفي اليوم التالي طلبنا الخليفة وسألنا هل نرغب في السفر إلى دارفور، وكنت أعرف أن هذا السؤال لم يوجه إلينا إلا على سبيل الامتحان، فأجبنا بصوت واحد إننا نأسف أشد الأسف لفراق المهدي، ورأيت أنه كان ينتظر هذا الجواب فابتسم وامتدحنا لحسن اختيارنا.
واقترح علينا الخليفة أن نترك عشتنا، وأرسل ديمتري مع ملازم إلى أميره وكان يونانيا أيضا وأمر بمنحه عشرين ريالا، فلما غادرنا التفت إلى سيد بك وقال: «وأنت يا سيد جمعة مصري، وكل إنسان يحب بني وطنه، وعندنا كثير من المصريين وكلهم ابن مجرب، ثم أنت شجاع يمكن الاعتماد عليك؛ ولذلك يجب أن ترافق أمير المصريين حسن حسين وسيعطيك منزلا ويقضي لك حوائجك، وسأعمل أنا أيضا كل ما فيه راحتك.»
وسر سيد بك جمعة لهذا الترتيب ثم التفت الخليفة إلي وقال: «أما أنت يا عبد القادر فغريب وليس لك أحد سواي، وأنت تعرف العرب في جنوبي دارفور معرفة جيدة، فبناء على أمر المهدي يجب أن تبقى معي ملازما لي.»
Page inconnue