فكتبت الخطابات إلى الحكومة ووصفت الحالة في دارفور، وبعد ثلاثة أيام خرج زوجال في رحلته ومعه ثلاثة من الخدم قاصدا الأبيض عن طريق طويشة، وكان معروفا في كل مكان أنه من قرابة المهدي، فلم يكن لذلك يخشى أحدا، وعلمت بعد ذلك أنه قوبل في كل مكان بحفاوة وإكرام.
وأخذت على عاتقي الآن أن أركز مدافع جديدة في زوايا القلعة، وجمعت كل ما أمكنني جمعه من القمح، ولكن هذه المدة القصيرة من السكينة لم تدم طويلا؛ فقد حرض الشيخ الطاهر الدجوي زوج ابنته بشاري بك واد بكير على الغارة على دارة، وكان بشاري بك رئيس قبيلة بني حلبة، فأرسلت له خطابا أهدده فيه، ولكنه أغار على عرب المصرية وقتل منهم عددا وأسر نساء وأطفالا، فعبأت 250 من الجنود النظاميين و100 من البازنجر، وسلمت قيادتهم إلى مطر؛ أحد قرابة زوجال، ولم أستطع أن أجمع من الخيول سوى 25 فرسا؛ لأن مرضا غريبا انتشر بينها، وبهذه القوة خرجت قاصدا دارة.
وبعد مسير ثلاثة أيام بلغنا أمكة، حيث أغار علينا بنو حلبة بقيادة بشير بك، وكان معهم صديقي القديم جبر الله، ولكن لم يكن معهم من الآلات النارية إلا عدد قليل؛ ولذلك فرقناهم بسهولة. وفي اليوم التالي عاودوا الغارة في كلمباسي، وهي على مسيرة يوم ونصف من أمكة، وهنا أيضا اضطررناهم إلى الفرار بسهولة.
وقد عزا رجالنا قلة خسائرنا إلى صلاتي يوم الجمعة معهم لا إلى قلة البنادق عند العدو، ثم سرنا إلى خشبة وأخرجنا شيخها وعرضنا عليه صلحا ولكنه رفض، ثم سرنا إلى جورو على مسيرة نصف يوم، وبينما نحن في الطريق كانت تتقدمنا طليعة مؤلفة من 12 فارسا، فأغار عليهم بشاري بك وحده واخترق صفهم وجرح أحدهم جرحا بسيطا، ثم ثني جواده هو بين الطليعة وبيننا على حدود الغابة وعلى بعد 800 ياردة تقريبا منا.
ثم تقدمت نحوه ثلاثمائة خطوة فعرفته، ولكني لم أرمه، وأرسلت إليه خادما أعزل لكي يقول له: «إن الحاكم يقدم لك تحيته ويخبرك بأنك إذا كنت ترغب في أن تظهر بسالتك لزوجتك، فليست هذه هي الطريقة لإظهار ذلك، وأنك إذا عدت إلى مثل ما فعلت فإنك لا بد مقتول.»
وكانت الطريق بيننا وبينه خالية إلا من بعض الأشجار هنا وهناك، ورأيت الخادم يذهب إليه ويقف أمامه بضع ثوان ثم عاد إلينا مسرعا وقال: «إن بشاري بك يقدم لك تحيته وهو يقول إنه لا يرغب في الحياة بل يشتهي الموت.»
يا لغفلة الرجل، لقد وجد ما اشتهاه!
ولما بلغنا جورو صنعنا زريبة وكنت متأكدا بأن بشاري بك سيتهور ويغير علينا؛ ولذلك أمرت الجنود بأن يخرجوا من الزريبة نحو ثلاثمائة خطوة، ووضعت الخيالة على الجانبين وأرسلت عشرين فارسا إلى الغابة لكي يغتر العرب بهم ويخرجوا إليهم، وما كاد هؤلاء العشرون يخرجون في مهمتهم هذه، حتى رأينا عربيين راكبين قد ركضا فرسيهما إليهم وفي يد كل منهما حربة قد أشرعها، وكان هذان الرجلان بشاري بك وخادمه، وقبل أن يبلغ رجالنا عثر فرسه ووقع، وبينما كان خادمه يساعده على النهوض والركوب أغار عليه رجالنا ورموه بمطرد في وجهه نفذ في عينه فكبه. أما خادمه فقد أصيب بحربة نفذت في ظهره وقتلته، وركضت فرسي أنا إليه فوجدته في النزع، فإن رجالنا طعنوه بعد وقوعه مرتين بالحراب، وهجم علينا ابنه لكي يخلصه فجرح ولكنه نجا بنفسه، وقد كان معه شيخان؛ وهما شرطيه حبيب الله والتوم، قتلا كلاهما، فقبضنا على خيولهم جميعا ثم هتفت بالجنود فحضروا إلينا، فأركبت وراء كل خيال واحدا من المشاة وطلبت منهم أن يطاردوا العدو؛ لاعتقادي أنهم لن يثبتوا للقتال بعد موت قادتهم.
وركضنا خيولنا نحو ميلين فوجدنا العرب وهم في فرارهم، فأمرت الجنود بالنزول عن الخيول وإطلاق النار عليهم، ثم حولت الخيالة إلى بني حلبة، ولم نشفق على أحد في هذا القتال؛ لأن رجالنا كانوا مصرين على الانتقام للشيخ عفيفي الذي قتل قريبا من هذا المكان.
وبعد ساعات قليلة تم تشتيت العدو فعدنا إلى الزريبة، ونحن في طريقنا وجدنا جثة بشاري بك فطلب مني الضباط أن يقطعوا رأسه لكي يرسلوه إلى دارة، ولكني احتراما لابن أخته الذي طلب الصلح بالأمس كففتهم عن هذا العمل، وأعطيته الجثة في كفن من القماش ، وحضرت أنا بنفسي حفلة دفن هذا الصديق القديم، الذي صار عدونا على الرغم منه واشتهى الموت فوجده.
Page inconnue