وقد استدعاني الخليفة ذات يوم وسلمني بعض أوراق مكتوبة بالفرنسية وطلب إلي ترجمتها، وهي تحتوي خطابين من اللفتنانت دي كنيل إلى مساعديه، يشملان أوامر أصدرها إليهم. وسلمني أيضا نص معاهدة موقع عليها من مندوب حكومة الكنغو الحرة والسلطان حامد واد موسى، تاريخها 4 أغسطس سنة 1894، والشاهدان فيها «سلطان ريميو» و«سلطان تيجا»، وهما موقعان بالإفرنجية. فترجمت هذه الأوراق بكل سرعة شفويا للخليفة. ولقد أراد أن يظهر لي عدم اكتراثه فقال: «لم أطلب إليك ترجمة هذه الأوراق لا لأن في الأمر شيئا خطيرا، كلا فقد أصدرت أمري إلى محمود أحمد ليطرد هؤلاء النصارى الذين اخترقوا الحدود، ولكن هناك أمر يهمني أن أصرح لك به، وهو؛ بما أننا نعتبرك كواحد من عائلتنا، فإني أود أن أشعرك بحقيقة هذا الحال، وعلى ذلك قررت أن أزوجك واحدة من بنات أعمامي. فماذا ترى؟»
وبطبيعة الحال لم تدهشني هذه المنحة؛ فقد عودني الخليفة أمثالها من قبل، وتيقنت من حقيقة ما يقصده، فهو يريد أن يبعث لي بمن تكون رقيبة على أحوالي بمنزلي، هو يريد أن يعلم حقيقة أسراري، يريد أن يعرف إذا كانت هناك صلات بيني وبين أي مخلوق آخر، فقلت له: «يا مولاي إنني أدعو لك بالنصر على كل أعدائك، إن هذا الذي تريد أن توليني إياه باقتراني بابنة عمك شرف عظيم، وإني أقول لك يا مولاي إن ابنة عمك هذه لم تكن من بيت الملك فقط، بل هي من سلالة النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام - وعلى ذلك يجب أن تكون موضع كل عناية، ومشمولة بكل رعاية؛ ولما كان من سوء الحظ أني مصاب بداء الحماقة، والحماقة أعيت من يداويها، وقد لا يمكنني أن أحكم عواطفي عند حدوث أي حادث، ولا تخفى نتيجة هذا بين الزوج وزوجته، وقد يؤدي هذا إلى نفور قد يحصل - لا سمح الله - بيني وبين مولاي؛ فأرجو معذرتي إذا رجوت سيدي أن يترك هذا الرأي.»
فقال لي: الآن وقد عشت بين ظهرانينا عشرة أعوام خبرناك فيها وعرفنا خصالك وعاداتك، فلم أسمع عنك إلا كل طيب، وكل ما يخيل لي من أمرك هذا أنك لا تود تغيير العادة التي ورثتها من قبيلتك الأصلية بأنك لا تريد إلا زوجة واحدة (والخليفة يقصد من كلامه هذا أنه باعتباري مسيحيا فلا أتزوج إلا واحدة؛ ولذلك أرفض أن أتزوج بابنة عمه). فقلت له: «لا يا مولاي، فإني لا أتبع عادة بلادي مطلقا، وإن كنت أتبعها فلماذا تزوجت بثلاث نساء قبل الآن.» فأجابني: «فهمت على كل حال، فأنت ترفض زواج ابنة عمي!» فقلت له: «كلا يا سيدي، فأنا لا أرفض ولكني أريد قبل الإقدام على أي شيء أن أوضح لك حقيقة أخلاقي، وبذلك أضمن العواقب. وبطبيعة الحال إنه لمما يشرفني الانتساب إلى قبيلتكم، إلا أني أود قبل كل شيء أن يكون مولاي على علم تام.» والآن وقد تيقن من أن محاولاتي هذه كلها علامة الرفض، أمرني بالانصراف.
وقد وضعت نفسي بعدم القبول هذا في مركز حرج للغاية، وهذا مما جعلني أزيد في جهدي لتدبير أمر الهروب.
وقبل هذه الحادثة ببضعة أشهر، كنت قد كلفت تاجرا سودانيا بالذهاب إلى القاهرة ومقابلة القنصل النمساوي ليطلب إليه أن يعمل غاية جهده على تمكيني من الهروب، ولكن متى تتحقق هذه الآمال؟!
الفصل الخامس عشر
ملاحظات متنوعة
سأحدث القراء الآن عن شخص الخليفة وعاداته وأخلاقه فأقول: هو السيد عبد الله ابن السيد محمد، ينتمي إلى قبيلة التعايشة من أولاد أم سار من أسرة الجبارات، وقد اتصل بالمهدي وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان في ذلك الوقت قوي البنية إلا أن الشواغل قد أنهكت قواه الآن، فأصبحت تراه كهلا اشتعل رأسه شيبا، ولو أنه لم يتجاوز 49 عاما، أصبح سريع الانفعال، ولما تنتابه تلك الحال يصبح من غير المتيسر على أعز عزيز لديه الدنو منه ومحادثته، حتى ولا أحد إخوته.
وكان يعتقد دائما أن الصدق والأمانة لا وجود لهما مطلقا عند أي مخلوق، وكل ما يظهره الإنسان من ملق ومداهنة إنما هو لقضاء الحاجات والمآرب دون سواها.
وكان بطبعه محبا للملق والمداهنة؛ لذلك كنت ترى القوم يكيلون له الملق جزافا، حتى إن أحدهم لا يجسر أن يذكر اسمه دون أن يقرنه بصفات الحكم والقوة والعدل والشجاعة والكرم والصدق، وكان من جهته يقابل ذلك الرياء بسرور وارتياح تام، ويا شقاء من كان يمس كرامته!
Page inconnue