وبعد ذلك بيومين برحنا أم شنجة وبتنا في جبل الحلة، فاستقبلنا هناك حسن بك أم كادوك شيخ قبيلة برني، وكان على ولاء كبير للحكومة، وقد منحه غوردون رتبة بك، وكان رجلا كهلا سمينا جدا عريض المنكبين ووجهه مستدير دائم الابتسام، وقد يمكن أن نسميه «فولسطاف السودان»؛ جريا على شكسبير الذي سمى أكبر شخص مضحك في دراماته «فولسطاف»؛ فإننا بعد سنوات عندما انقلبت الأحوال وصار السادة عبيدا، صرنا أنا وهو ياورين عند الخليفة، وكان مزاجه البهيج هذا كثيرا ما يخفف عنا أعباء حياتنا التي كنا لا نتحملها أحيانا. وكان أخوه إسماعيل، على النقيض منه، رجلا طويلا نحيفا يميل إلى الجد، ولم يكن يتفق هذان الأخوان في شيء إلا في مسألة واحدة؛ هي حب المريسة - الجعة السودانية - والتهالك على شربها، وكان لكل منهما إناء يدعي أنه بلبل توضع فيه هذه المريسة فيتسابقان أيهما يفرغ إناءه قبل الآخر.
وقد دعوانا إلى العشاء معهما وشوي لنا خروف كامل على فحم الخشب، يصحبه عدة من الدجاج المشوي، وطبق من العصيدة التي تؤكل في كل وجبة في السودان. وكان أيضا على المائدة عدة آنية من المريسة، وقد طاب لنا الطعام فأكلنا، وتركنا المريسة لهما وشربنا نحن شيئا مما عندنا من النبيذ الأحمر، وقد شرب حسن وإسماعيل كلاهما من النبيذ والمريسة ما شاءا، وكان أثر الخمر في الأول عندما صدمته حمياها أن جعلته يتدفق في الحديث، أما الثاني فقد انعقد لسانه وصمت! وكان حسن يروي لنا بعض ما يعرفه عن غوردون، وقد اكتأب وحزن عندما عرف بسفره للحبشة.
وقال لي بلهجة الحزن: «قد لا يرجع غوردون من الحبشة، وقد يسافر إلى بلاده فلا نراه ثانيا.» ومن الغريب أن قولته هذه كان فيها شيء من الصحة، ثم ترك الغرفة وعاد بعد برهة ومعه سرج وسيف وهو يقول: «انظر، هذا هو آخر ما أعطانيه غوردون لما رافقته إلى الفاشر، ما أكرمه وأرأفه!» وعرض علينا إسماعيل سترة مطرزة بالذهب أهداها إليه غوردون، وقال حسن: «كان غوردون لا يعرف الكبر؛ في أحد الأيام ونحن في الطريق إلى الفاشر صاد أحد الخدم طائرا، فلما حططنا رحالنا في الظهر وضع الطباخ قليلا من الماء على النار، حتى إذا غلى غمس فيه الطائر لكي ينزع ريشه، ورآه غوردون يفعل ذلك فذهب إليه وأخذ يساعده في نزع الريش، فاندفعت أنا إليه ورجوته أن يكف عن ذلك وأنا أقوم بدلا منه بهذا العمل، ولكنه قال لي: «وهل تظنني أخجل من العمل؟ إني قادر على أن أخدم نفسي، ولست في حاجة لأن يقوم بخدمتي رجل حائز لرتبة بك مثلك».»
ولم يكف حسن عن مسامرتنا حتى ساعة متأخرة من الليل، وقد حكى لنا عن تجاريبه لما فتح الزبير دارفور، ثم ما تلا ذلك من الثورة إلى حالتها الحاضرة، وكان كثيرا ما يعود إلى ذكر غوردون، ومما قاله: «كنت مرة مسافرا مع غوردون فمرضت وجاء غوردون يعودني في خيمتي، وبينما هو يحدثني قلت له إني كنت منغمسا في الشراب، وإن وعكتي الحاضرة لم تحدث لي إلا لانقطاعي عنه منذ أيام، وكان قولي هذا هو الصيغة الغير المباشرة التي أردت منها أن يعطيني غوردون شيئا من الشراب، ولكن ساء فألي؛ فإن غوردون وبخني وعنفني وقال لي: «أنت مسلم وديانتك تحرم تناول الخمر، إني في غاية الدهشة، أقلع عن هذه العادة فكل منا يجب أن يطيع أوامر دينه.» فقلت له: «لقد اعتدت الشرب طول حياتي، فإذا انقطعت عنه الآن فإني أمرض، ولكني سأعتدل في المستقبل.» فبانت أمارات الرضى على وجه غوردون وهز يدي مسلما وودعني وخرج، وفي صباح اليوم التالي أرسل لي ثلاث زجاجات من الكونياك وأوصاني بالاعتدال في شربه.»
وكان أخو حسن صامتا لا ينبس بكلمة، وكان مرتفقا يملأ كوبا وراء آخر من المريسة ويشربه بجد ووقار ونظام كأنه نظام بساعة، ولما انتهى من الشراب وقف في روية وتؤدة ومسح شاربيه وقال بلهجة الحزن: «نعم، نعم، الكونياك شراب طيب، وهو ليس خمرا بل دواء، وغوردون رجل عظيم بار ولن نراه ثانيا.»
وذهبنا إلى الفراش في ساعة متأخرة وأمرنا قبل نومنا أن تعد الدواب للقيام في الفجر، فلم ننم إلا وقتا قصيرا. ولما استيقظنا وأردنا الركوب أنا والدكتور زربوخين، نظرنا حوالينا نبحث عن أهل البيت لكي نودعهم قبل سيرنا، ونحن في ذلك وإذا بإسماعيل يعدو إلينا ورأسه يميل من أثر الشراب السابق، وقال لنا: «أيها السادة إننا سمعنا على الدوام بأن في بلادكم عدلا، وأنا واثق بأن الضيف هناك لا يسيء إلى رب البيت، وأمس عندما أمرتم الدواب التي تحمل أمتعتكم بالسفر سرق رجالكم السجادة التي وضعتها لكم لتقعدوا عليها.»
فبحثت وتأكدت بأن أحد رجالي قد سرق هذه السجادة الثمينة، وأرسلت وراء الجمال قواصا لكي يدرك هذا اللص ويحضره، وقعدت أنتظر، وبعد مدة جاء القواص ومعه السجادة ووراءه عسكري زنجي من الحرس الثمانية الذين كانوا في صحبتا، ولما استجوبنا هذا العسكري قال إنه حملها خطأ، ولكني لتأكدي من جريمته أمرت بجلده وإرساله سجينا إلى أم شنجة، وقد تعكر مزاجي لهذه الحادثة؛ لأني كنت أعرف أن الناس هنا يحكمون على الأسياد بما يرون من الخدم، وكنت واثقا بأني إذا لم أعاقب هذا الخائن، فإن مثل هذه السرقات ستكرر في المستقبل.
واعتذرنا إلى حسن وأخيه، ثم شرعنا في السفر إلى الفاشر التي بلغناها بعد خمسة أيام، ومررنا في طريقنا على بروش وأرجود.
وقد كانت الفاشر طول مدة القرن الماضي عاصمة دارفور، وهي مبنية على قارتين أو رابيتين واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب، يفصلهما واد عرضه نحو 400 ياردة يدعى وادي تندلتي، وفي الغرب قلعة على تل حولها حائط من الطوب النيئ عرضه ثلاثة أقدام، وحول الحائط خندق عمقه 15 قدما، وكان في الأركان أربعة أبراج وبها مدافع تطلق قنابلها من فتحات صغيرة.
وكان هذا الحائط يحتوي على مباني الحكومة ومساكن الضباط وثكنة الجنود، وكان الخيالة غير النظاميين يسكنون خارجا، وكان سكان القلعة يستقون الماء من آبار في الوادي تبعد عنهم بنحو خمسين ياردة.
Page inconnue