فأنت ترى موضع الخصومة، وأنت تحس منذ الآن أن هذه الخصومة ستكون عنيفة؛ لأن المختصمين جميعا أقوياء، ولأنهم جميعا يحبون فيحسنون الحب، ويريدون فيحسنون الإرادة. وأنت ترى أن الأمر لو وقف عند ما نعرف من هؤلاء الأشخاص لما أمكن أن تنحل الخصومة بينهم إلا بشر وتضحية، فيجب أن يضحى بالأب في سبيل الزوجين، أو بالزوج في سبيل الأب وابنته، أو بالقوم جميعا.
ولكني لم أكشف لك من شخصية الأب إلا عن وجه واحد، وهناك وجه آخر يؤثر في حياة هؤلاء المختصمين؛ وإن كان شرا في نفسه وفي ظاهر الأمر بنوع خاص. هذا الرجل أثر مسرف في الأثرة، يدفعه حبه لنفسه إلى الكذب والتضليل واقتراف ما يشبه الإثم، وهو مضطر إلى ذلك اضطرارا، فقد رأيت أنه يحب ابنته هذا الحب الغريب، وهو يلهو مع طائفة من النساء، ولكنه يحب امرأة أخرى حبا طبيعيا حادا، كما تحب ابنته زوجها، وكما يحب هذا الزوج امرأته. وهذا الحب الطارئ هو الذي ينتهي بالقصة إلى أرقى منازل العنف، وهو الذي ينحدر بها، ولكن في رفق ولين ودعة، إلى حيث الرضا والطمأنينة واستئناف الحياة الهادئة في لذة وابتسام، وشيء مع ذلك من المرارة غير قليل.
وفي القصة، إلى هؤلاء الأشخاص، أشخاص آخرون، نذكر منهم «جاستون» أخا «فريدريك»، طالب مسرف في لهوه وعبثه، يلهو ويلهي النظارة بمزاحه وسخريته وجهله.
ونذكر منهم «كودريه» جد «فريدريك»؛ لأنه شيخ، رقيق، سمح، رزين، حسن النصح، قيم المشورة، محب لحفيدته وزوجها حبا مؤثرا حقا.
ونذكر منهم هذه الدوقة التي نراها في الفصل الأول، جميلة، فتانة، لعوبا، تعبث بأبي «فريدريك» وتعبث بنفسها أيضا، وتعنى بما يمكن وما لا يمكن؛ لأنها تحب الأستاذ الطبيب وتريد أن تلهو معه.
ثم نذكر آخر الأمر «مسز ونتون»، هذه الأميركية ذات الثروة الضخمة والجمال الرائع والإرادة القوية والحب العنيف أيضا. كان زوجها عالما مخترعا، وكان قد ضيف «جان لوي مارنييه » ابن «فريدريك» فأحبته وأحبها، ثم مات زوجها وأقبلت إلى باريس تريد أن تتزوج حبيبها، فيصطدم حبها بهذه الخصومة بين الأب والزوج والزوجة.
فأنت ترى إلى هذه القصة كيف اختار الكاتب موضوعها من هذه الموضوعات الشائعة المبتذلة، ثم لم يكد يخلق أشخاصها ويبعث فيهم الحياة وينفخ فيهم من روحه حتى صورهم أقوياء ممتازين، لهم من العواطف والأهواء ما للناس جميعا، ولكن مع شيء من الدقة والتعقيد ليس للناس جميعا. وما هي إلا أن يقف هؤلاء الأشخاص بعضهم لبعض حتى ترتفع القصة وتقوى، وتحس أنك في بيئة ممتازة من كل ناحية دون أن يمنعك هذا الحس أن تجد نفسك وعواطفك وحياتك ممثلة في هذه القصة من كل الوجوه أو من بعضها.
والآن وقد صورت لك هؤلاء الأشخاص تصويرا مقاربا، أستطيع أن أوجز لك خلاصة هذه القصة، ولكني ألفتك منذ الآن إلى أن هذا التلخيص لن يغني عنك شيئا، وإلى أنك لن تجد اللذة والمنفعة إلا في قراءة القصة نفسها. •••
نحن في بيت «جان لوي مارنييه» أول الليل. ينصرف القوم عن المائدة وقد أخذوا يأتون إلى غرف الاستقبال. وكان أول القادمين «كودريه» وحفيده «جاستون»، ونحن نرى الشاب يعنى بالشيخ عناية لا تخلو من غلو، ويمهد له ويقدم إليه البيبة، ويتلطف له في الحديث. ويحس الشيخ أن هذه العناية لم يرد بها وجه الله، وما هي إلا لحظة حتى نفهم أن الشاب في حاجة إلى الفرنكات لأنه يريد أن يشتري سيارة.
ثم يأتي «جان لوي» وقد قدم ذراعه إلى ابنته، فلا يكادون يتحدثون حتى يضيق الفتى ذرعا بأبيه الذي أخذ يسأله في الألمانية، وبأخته التي أخذت تظهر جهله بهذه اللغة، فينتحي بجده الشيخ ناحية ليلعب النرد. ونرى الأب يجلس إلى ابنته ويتحدثان، ونحن نرى الفتاة تعنى بأبيها، ولكنها عناية لا تخلو من دعابة وفكاهة. والرجل يجيب على هذه الدعابة والفكاهة بمثلهما، ثم لا يلبث هذا العبث أن يستحيل إلى جد، فقد ظهرت غيرة المرأة، ووقف الرجل موقف الدفاع عن نفسه؛ ذلك أن الخادم قد حمل إليه رسالة، تقرءها المرأة فإذا هي من الدوقة التي أشرت إليها آنفا. وهي تنبئ الأستاذ بأنها ستزوره بعد العشاء لتقص عليه أخبارا مهمة متصلة بانتخابه في المجمع العلمي، فلا تكاد «فريدريك» تقرأ هذه الرسالة حتى تثور وتأخذها غيرة حادة، وتحصي للرجل سيئاته وآثامه ولهوه، وتعلن أنها قد صفحت عن هذا كله لأنه لم يكن شيئا يذكر، إنما كان لهو ساعة أو بعض ساعة، وأنها لم تخف حقا إلا مرة واحدة حين ذهب الأستاذ إلى أحد المؤتمرات في أمريكا فأحب «مسز ونتون» امرأة مضيفة.
Page inconnue