فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في مدينة «بيارتز» في أحد فنادقها الكبرى، وقد مضت أشهر على ما قدمت لك، ونحن نرى «لوثار» قد أقبل، ونفهم أن صديقه «موريس» قد وصل إلى الفندق أمس ومعه زوجه «إيرين»؛ ذلك أن «إيرين» حينما استغاثت بموريس أقبل إليها، وما زال بها حتى رد إليها رشدها، فدعته إلى أن يحميها وطلبت إليه أن يتزوجها وأن يسرع في الزواج، فتزوجا. وهما الآن يطوفان في الأرض، وقد أقبلا إلى «بيارتز» بعد أن زارا بلادا مختلفة وجاء «لوثار» للقائهما، وهو لا يلبث أن يلقى صاحبه وأن يتحدثا، فنفهم من حديثهما أنه ليس سعيدا لأن امرأته ليست سعيدة، وهو لا يشك في أنها وفية أمينة تجتهد في أن تحبه وتخلص له، ولكن شيئا يصرفها عن هذا، وهي تخفيه عليه، وقد أقسمت له أنها لم تسمح لخطيبها الأول ولم تخن زوجها الأول، ولكنها مع ذلك تخفي عليه شيئا، ويجب أن يكون هذا الشيء أليما، فقد أنحلها وأضناها حتى أصبحت حياتها معرضة للخطر.
وهو يحبها، ويريد أن ينقذها من هذا الخطر، ويبذل في ذلك ما يستطيع. وهذه «إيرين» قد أقبلت وهي شاحبة نحيفة محزونة، يريد «لوثار» أن يضحكها فلا يصل إلى شيء. وقد أقبلت صديقتها تعرض عليها أن تذهب معها إلى حيث الشاي والرقص، فتظهر الرضا. ولكن هذه الصديقة غابت عنها حينا ثم تعود، وإذا هي منصرفة عن الشاي منصرفة عن الرقص، تعرض على صاحبتها البقاء حيث هما، ثم تسر إلى «لوثار» أنها رأت في قاعة الشاي «روبير»، وتريد أن يعلم ذلك «موريس»، ولكن موريس قد ذهب لبعض شأنه، وإذا «روبير» قد دخل، فرأته «إيرين» فاضطربت اضطرابا شديدا وأخذها دوار يشبه الإغماء.
ودعي زوجها فأقبل، وما يزال بها حتى يرد إليها قوتها وقد عرف كل شيء، فهو يلح على امرأته في أن تنبئه بجلية الأمر، فإذا أبت عليه اتهمها وأنذرها بأن يلقى روبير ويسأله وهو مستعد للمبارزة. هنا تكذب «إيرين» وتتهم نفسها بأنها قد كانت خليلة «لروبير»، وتلح على زوجها في أن يتجنب هذا اللقاء وفي أن يترك مدينة «بيارتز». ولكن زوجها يأبى، وقد تركته ليستريح، فلا يكاد يخلو إلى نفسه حتى يرى غلاما يسرع إلى غرفة امرأته، وكان يخفي كتابا، فيعرض له ويأخذ منه الكتاب قهرا، فإذا الكتاب موجه إلى امرأته وهو لا يريد أن يقرأ هذا الكتاب، ولكنه يريد أن يعلم ما فيه.
وقد أقبل «روبير» فتحدث الرجلان، وأذن له روبير في قراءة الكتاب، فإذا هو كتاب بريء لا إثم فيه، وإنما هو تحية واعتذار. وقد أخذ الرجلان يختصمان، وأخذ العنف يشتد بينهما؛ لأن أحدهما يحب ويغار والآخر يحب ويحقد. ولكن «إيرين» قد أقبلت، فما تزال بالرجلين حتى يهدآ. وقد أعلن زوجها إلى صاحبه أنه يعرف ما كان بينهما من صلة، فيقسم الرجل ببطلان هذه التهمة، وتعترف «إيرين» بأنها كذبت على نفسها لأنها لم ترد أن تفشي سر صاحبها، فهي مقتنعة بأن صاحبها قد قتل زوجها.
وهنا يظهر سر القصة، فالرجل لم يقتل زوج «إيرين»، ولكنه تركه يموت؛ رآه وقد تردى في الهوة وسمعه يصيح ويستغيث، وكان يستطيع أن ينقذه لو أراد، ولكنه تمثل «إيرين» حرة بعد موت هذا الرجل، وتمثل قسمها له وتمثل اقترانه بها؛ كل ذلك في لحظة قصيرة جدا، فأبطأ عن الرجل حتى سقط ومات. وإذن فهو لم يقتله، ولكنه تركه يقتل، وهو يحس في نفسه منذ ذلك اليوم عذابا شديدا، وهو يرى نفسه آثما مجرما، وهو لهذا كان لا يستطيع أن يدنو من «إيرين» ولا أن يجد السعادة في اقترانه بها؛ لأنه كان يتمثل دائما هذا القتيل بينهما.
وهو قد انصرف عن محاكم الجنايات لأنه لا يستطيع أن يدافع عن المجرمين وهو مجرم، وهو قد انصرف عن العمل كله لأنه مفرق النفس بين الحب واللوم، وهو قد أقبل يرى صاحبته للمرة الأخيرة، وهو يتمنى السعادة للزوجين ويسألهما الرثاء له. أما هي فممعنة في الانتحاب، وأما زوجها فيصافح هذا الشقي البائس قبل أن ينصرف، وهو يسال امرأته ويريد منها الجواب في صراحة وإخلاص: ماذا كنت تصنعين لو أنه اعترف لك بهذا كله قبل زواجنا، أكنت تتزوجينه؟ فتجيب: نعم! لأنه لم يقتل ولأني أحبه. •••
فإذا كان الفصل الرابع - وكنت أود ألا يكون - فنحن في ضاحية من ضواحي باريس، في قصر فخم يسكنه «موريس» وامرأته، وقد انصرفا عن مائدة الغداء ومعهما «لوثار» وصديقة لهما، وهم يتحدثون، وقد فهمنا من حديثهم أن «إيرين» ما زالت محزونة كئيبة، وأن «موريس» ما زال محتملا جادا في العناية بها، وأنها تتمنى أن ترزق ولدا يصرفها عن حزنها وأساها. ولكن لنتعجل، فقد انصرف القوم جميعا وبقيت «إيرين» وحدها، فتجلس إلى البيانو وتعبث بأصابعها، وإذا الخادم قد أقبلت تنبئها بأن زائرا يريد أن يراها، فتمتنع لأنها عرفت من هو، ثم تأذن فيدخل «روبير»، وإذا رجل سيئ الحال جدا لا نكاد نراه حتى نصدق ما سمعنا من أنه قد انصرف إلى اللهو، فهو يقضي الليل في الحانات، وهو يدمن على الخمر و«الكوكايين»، وقد أقبل اليوم يعلن إلى صاحبته أنه سيترك فرنسا إلى مكان بعيد يجد فيه عملا مثمرا ومسليا. وهو يعلم أنها تحبه، وأنها لا تحب زوجها الثاني، كما أنها لم تحب زوجها الأول. وهو يعرض عليها السعادة، ولكنه يريد أن تكون حرة، يعرض عليها أن تسافر معه، ويذكرها حبهما وقسمها، وأنه وإن يكن أساء فقد احتمل من الألم والندم ما يكفر عن سيئته. وقد أثر فيها تاثيرا قويا، وقد كاد يغلبها على أمرها، ولكنه يريد أن تكون حرة فيما تعتزم، فسينصرف وسينتظر في الشارع دون النافذة. فإذا فكرت وقررت أن تلحق به فلتتخذ معطفها وقلنسوتها ولتهبط إليه. وإذا اعتزمت أن تبقى ولا تراه، فلتضم الأستار إلى النافذة، فسيرى هو هذا وسينصرف إلى حيث لا تراه. قال هذا ومضى وتركها مضطربة أشد الاضطراب، ولكن زوجها قد أقبل؛ ذلك لأنه بينما كان خارجا من القصر رأى «روبير» يدخله، فانتظر حتى انصرف «روبير» وأقبل إلى امرأته، وهو يحدثها في صراحة وكرم وطيب نفس، يعرض عليها حريتها. وهو يعلم أنها تحب «روبير»، وأنها لم تنصرف عن حبه قط، وأنها لن تسعد إلا معه، وهو يحبها ولكن لنفسها لا لنفسه، وأي آية على الحب وصدقه أقوى من أن تضحي بنفسك وسعادتك في سبيل من تحب؟! تستطيع إذن أن تذهب مع «روبير»، فقد سمع الناس يتحدثون بأنه مسافر إلى مكان بعيد، ولا ينبغي أن تتردد ولا أن تشفق، فسعادته الصحيحة في أن يجعلها سعيدة، وسيرفع أمر الطلاق إلى المحكمة ويحتمل هو آثام الطلاق، وسيصدر الحكم لها لا عليها. هو يقول هذا كله مخلصا، وهي تسمع هذا كله باكية منتحبة، ولكنها لن تفعل من هذا شيئا. أليست هي التي أبت أن تخون زوجها الأول، فكيف تخون زوجها الثاني؟! هو يريد أن يضحي بنفسه في سبيلها، فلم تكون هي من الأثرة بحيث تقبل هذه التضحية؟! هي لا تحب زوجها حب شهوة ولذة، ولكن لم لا تحب زوجها حب صداقة وشكر للصنيع؟! وبعد فلو أنها أرادت أن تلحق بصاحبها لما استطاعت؛ ذلك لأنها تحس في أعماقها شيئا كانت تتمناه لتسلو به عن الحزن والألم، وكان يخيل إليها أنها لن تظفر به، ولكنها الآن تحسه فكأنه قد أقبل ليصرفها عن الإثم والجور، وليقر العدل في نصابه. هي تحس أنها حامل، وهي تعلن ذلك إلى زوجها، وهو يضمها إليه ويقبلها سعيدا مغتبطا وقد أفلتت من بين ذراعيه وأسرعت إلى النافذة في ذهول فضمت أستارها، ولكنها سمعت شيئا صعقت له، فيقبل زوجها عليها ويعنى بها حتى تفيق بعض الشيء، وتنهض فتجلس إلى البيانو وتعبث بأصابعها لتخدع زوجها عن مرضها وحزنها، أصابعها مضطربة على البيانو وبصرها حائر وفكرها مشرد، والباب قد فتح والخادم تدعو سيدها وجلة، فيسرع إليها فتنبئه بأن رجلا قتل نفسه بالباب ...
يناير سنة 1925
الغربان
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «هنري بيك»
Page inconnue