فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت ستة أشهر على هذا كله، ونحن في باريس في بيت فخم أنيق حسن الأثاث فيه كل ألوان الترف الحديث، ونحن نرى «فيليب» قد جلس إلى مكتبه وهو يكتب، وقد أقبل أبوه فأخذ يحدثه، فماذا نفهم من هذا الحديث؟ نرى الرجل على حاله لم يغيره الغنى كما لم يغيره الفقر؛ فهو كاذب منافق، يستحب الكذب والنفاق، ويتقلب فيهما في سهولة ويسر، وهو ضيق الذرع بصاحبته قد سئمها وزهد فيها، ويريد أن يخلص منها بالكذب كما اتصل بها بالكذب أيضا، ونحن نسمعه يحدث ابنه فيذكر له أن هذه المرأة غائبة عن باريس لأن أختها كانت مريضة، وقد ماتت، وأنها ستعود بعد أيام، وأنه يريد السفر إلى «بروكسل» ليتبع صاحبة جديدة له فيقضي معها أياما، ولكنه يطلب إلى ابنه أن يزعم لكل من يسأل عنه ولهذه المرأة بنوع خاص أنه مسافر إلى مدينة «جرينوبل» لعمل هام، وهو لا يخفي الآن على ابنه حب هذه المرأة له ولا ما كان بينهما من صلة، ولم يخف على ابنه هذا وهو يتخذ ابنه رفيق لهوه؟ ألم يصطحبه منذ أيام إلى الحانة حيث تناول العشاء مع امرأتين، ولها كل واحد منهما مع إحدى هاتين المرأتين؟! وهو يسخر من ابنه سخرية شديدة؛ لأن الغلام ندم على لهوه وخيانته لصاحبته الفتاة، ولأنه اجتهد في أن يقطع الصلة مع هذه المرأة التي عرفها منذ أيام ويستأنف الوفاء لصاحبته، والأب يعظ ابنه وينصح له بأن يكون حرا جريئا لا يخضع لهذه القوانين الخلقية التي يكبرها المغفلون.
وهو في ذلك وإذا الخادم يدخل فينبئه بأن «مرسلين» تستأذن، فيلقى الخادم لقاء منكرا ويعنفه تعنيفا شديدا، ألم يأمره بأن ينكر وجوده على كل إنسان! ولكن الخادم قد أنكر فلم تصدقه الزائرة، وهي تلح في أن ترى «فيليب»، فانظر إلى الأب وقد استخفى في إحدى الغرف وأمر ابنه أن يلقى صاحبته وأن ينبئها بسفره، وقد دخلت المرأة مضطربة محزونة، فلا تكاد تسأل عن صاحبها وتسمع أنه مسافر حتى تكذب الفتى وتلح عليه وتنبئه بكل شيء وتسرف في الإلحاح، وإذا الفتى يعترف بأنه كان كاذبا وبأن أباه مختبئ، وقد نهضت المرأة ففتحت باب الغرفة ودعت صاحبها، فيقبل مبتسما ويحييها تحية المشوق، ويعلن سخطه على ابنه وعلى الخادم؛ فقد أمرهما أن ينكرا وجوده ولكن لا عليها بل على غيرها من الناس، وهو يصرف ابنه ويخلو إلى صاحبته، فيكون بينهما عتاب ثم لا يلبث أن يقنعها ويرضيها بمهارته وخداعه، وإذا هي تنبئه بشكها وغيرتها وتخرج من حقيبتها مسدسا كانت تريد أن تقتل نفسها به لو ثبت لها أن صاحبها جفاها، وهو يأخذ هذا المسدس فيضعه على المائدة ثم يميل إلى صاحبته مغازلا مداعبا حتى تطمئن، ثم يتفقان على أن يتناولا العشاء عندها بعد ساعات وتخرج.
وإذا هو يعمد إلى التليفون فيعتذر إلى صاحبته الثانية، ويأخذ منها موعدا آخر قبل العشاء وموعدا بعد العشاء، ثم يخرج ويترك ابنه على أن يوافيه عند «مرسلين» للعشاء أيضا، ولكن «جيزيل» قد أقبلت وهي ذاهلة مضطربة لما رأت من اضطراب أمها، وقد جاءت تلتمس أمها هذه فلم تجدها، فأخذت تتحدث إلى فيليب وهي محزونة دهشة ؛ لأنها ترى أن شيئا في هذه الغرفة قد تغير منذ سفرها، ثم لا تكاد تمضي في الحديث مع صاحبها حتى يشعر أنه هو أيضا قد تغير، أليس يرثى لهذه المرأة الآثمة؟! أليس يعذر حب أبيه وقد تعودا أن ينكرا الحب ويرياه إثما؟! ولكنه يمضي في الاعتذار لأبيه، وكلما رأى سخط صاحبته اجتهد في إقناعها بضعف الإنسان وقوة الحب، وإذا هي تحسب أنه خانها، وإذا هو يكاد يعترف لها بذلك، وقد جثا بين يديها مستعطفا يريد أن يتكلم، فتضع يدها على فمه لتمنعه من الكلام، ولكنه يقبل هذه اليد قبلة حب ولذة، وإذا الفتاة مضطربة ساخطة تنكر هذه القبلة، وتنكر هذا الحب! ألم يعاهدها على أن تكون الصلة بينهما صلة الأخوين؟! لقد أفسده أبوه إذن، ولقد أصبح رجلا كغيره من الرجال لا يستطيع أن يتصور الصلة بين الرجل والمرأة إلا مع هذه الضعة الجنسية، والفتى يجتهد في أن يقنعها بأن الحب ليس كله إثما، بل قد يكون طاهرا نقيا، ولكنها لا تقتنع وقد يئست من كل شيء؛ يئست من أمها، ويئست من صاحبها ... فما الحياة؟ وفيم الحرص عليها؟
انظر إليها وقد هدأت فجأة وهي تحدث صاحبها في دعة واطمئنان، وتظهر له أنها كانت مخطئة وأنها ترى أنه مصيب وأن الحياة الإنسانية لا تستطيع أن تبرأ من ضعفها الطبيعي، وهي إذن تقره على رأيه في الحب وتريد أن تكون صاحبته الصادقة، وهي تأذن له في تقبيلها فيفعل، ثم تأمره أن يذهب ليحضر معطفه، فقد آن أن ينصرفا، وقد ذهب ليلبس معطفه وإذا يدها قد امتدت إلى المسدس، وإذا هي تطلق النار على نفسها، وإذا هي صريعة، وإذا الفتى قد أقبل مذعورا يصيح: قتلناها!
ديسمبر سنة 1924
الصحو
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
نعم «بول هرفيو»، فأنا أعود بك إليه اليوم بعد أن تركته أكثر من سنة. أعود بك إليه راضيا مطمئنا، بل سعيدا مبتهجا، ولست أشك في أنك تشاركني في هذا الرضا والاطمئنان، بل في هذه السعادة والابتهاج، فلست أعرف كاتبا فرنسيا ممثلا يزداد قارئه حرصا على عشرته كلما قرأه مثل هذا الكاتب، ولعلك تذكر القصص الخمس التي لخصتها له في السنة الماضية. ولقد قال أحد أصدقائي حين رآني ألخص قصصه تلخيصا متصلا: «كأنك تريد أن تضع كتابا موضوعه «بول هرڨيو».» ولم لا؟ وأي كتاب أنفع وأكثر فائدة ولذة من كتاب يدرس هذا الكاتب من جهاته المختلفة: يدرس فنه، ويدرس فلسفته، ويدرس قصصه، ويدرس شخصيته بوجه عام، ولكن من لي بالوقت والقوة أنفقهما في وضع كتاب عن «بول هرفيو»؟!
حدثتك غير مرة عن فلسفة هذا الكتاب في تمثيله، وقلت إنه ليس كاتبا مبتسما، وإنه لا يرى الحياة الإنسانية مبتهجا بها راضيا عنها، ولكنه في الوقت نفسه ليس شديد التشاؤم ولا مسرفا فيه، وإنما هو يرى الحياة كما هي، قد امتزج حلوها بمرها، واختلط خيرها بشرها، وليس لإنسان أن يحتكم فيها ولا أن يجعلها صفوا خالصا، وإنما الإنسان مضطر أن يحتملها كما تأتى، فيستمتع بما فيها من خير، ويصبر على ما فيها من شر، وقد يكون هذا الشر كثيرا، وقد يكون خالصا لا أثر للخير فيه، ولكنه مع ذلك ليس قانون الحياة، وإنما أثره في الحياة قوي لا ينبغي ازدراؤه ولا الإعراض عنه.
وحدثتك غير مرة أيضا عن مذهبه في التمثيل، فهو شديد التأثر بقدماء الممثلين من اليونان، وأكاد أقول إنه شديد التأثر بهؤلاء القدماء والاقتداء بهم؛ يذهب مذهب نوابغهم، وينتهي كثيرا إلى مثل ما انتهوا إليه، ينتهي إلى هذه العقد التي تعرض للإنسان في حياته دون أن يكون له عليها سلطان، ودون أن يكون قد عمل في تكوينها، ودون أن تكون له القدرة على حلها أو التخلص منها، كأن هناك يدا خفية تدبر حياتنا وصلاتنا، وتقفنا أمام المعضلات من حيث لا ندري ودون أن يتبين لنا سبيل التخلص منها. وكأن غاية هذه اليد الخفية، التي تدبر حياتنا وتخلق لنا العقد والمعضلات، إنما هي إكراهنا على أن ننزل عن كبريائنا وغرورنا، ونعترف بأننا مهما نبلغ من قوة معنوية أو مادية فإن هنالك قوى أشد منا بأسا وأعظم منا سلطانا، وهي قادرة على أن تسحقنا سحقا، وعلى أن تردنا إلى أطوارنا حين يغرينا الغرور بالخروج منها، وليست هذه القوة القاهرة المسيطرة في فلسفة «بول هرفيو» هي تلك القوة التي كان يؤمن بها القدماء ويؤلهونها، بل يبسطون سلطانها على الآلهة أنفسهم، وهي قوة القضاء والقدر التي كانت تحكم الناس والأشياء والآلهة معا في تمثيل اليونان القدماء خاصة وأدبهم عامة، وإنما هي قوة قاهرة مقهورة في وقت واحد: قاهرة لأننا لا نستطيع أن نخلص منها ولا أن نتقي آثارها، ومقهورة لأن عقلنا قد يستطيع أن يفهمها وأن يدرسها وأن يصورها تصويرا واضحا وجليا؛ فهي إذن ليست قوة إلاهية، وليست قضاء وقدرا، ليست شيئا فوق عقولنا، وإنما هي قوى طبيعية نجدها في أنفسنا، ونجدها في حياتنا وصلاتنا، بل هي القوى التي تكون نفوسنا والتي تؤلف حياتنا، والتي تخلق ما بيننا من الصلات.
Page inconnue