فإذا كان الفصل الرابع، فنحن في بيت الخطيب وهو يقرأ رسالة وصلت إليه من «أستيل» تنبئه فيها بأنها رأته يوم كذا في المطعم، وتريد أن تستشيره في أمر هام ستراه بعد ساعة، وهي تأمل أن يلقاها، يدهش لهذا الكتاب، ولكن الزوج القديم قد أقبل يزوره، فيسأله: أحقا أنك ستتزوج هنرييت؟ - نعم. - فأنا ألح عليك في ألا تفعل! - ليس هذا من حقك! - بلى! لأني أحبها! - وأنا أيضا أحبها! - كلا! أنت لا تحبها، ولا تستطيع أن تحبها، بل لا تستطيع أن تحب! - ولماذا؟ - لأنك رجل منظم منصرف إلى الدرس، أنفقت حياتك كلها في الجد، لم تقترف إثما ولم تبدد ثروتك ولم تحزن أهلك، ومن لم يفعل شيئا من هذا فليس خليقا أن يحب. - ولكني سأتزوجها! - وإذن فأنا أعلن إليك أني سأنفق حياتي في طلبها والإلحاح عليها بحبي!
ثم يغضبان، وينصرف الزوج القديم، وتأتي هنرييت فرحة مبتهجة تعرض على خطيبها ألوان الأثاث الذي يتخذانه لبيتهما الجديد، ولكنه يلقاها ثائرا يغلي، ويعلن إليها أنه يحبها. - أنا أعلم ذلك. - كلا إني أحبك حبا لا تعلمينه، حب من لم ينفق حياته في الدرس بل في اللهو، سأقترف الآثام وسأبدد ثروتي، وسأحزن أهلي، سأحبك كما ينبغي أن أحبك. - ولكنك تعرض علي ما لا أريد، فلم أقبل خطبتك إلا لأنك هادئ مطمئن جاد منظم. - ليس هذا هو الحب، أتحبينني أنت؟ - إن لم أكن أحبك فأنا أميل إليك. - ليس هذا هو الحب! - وأنا أجلك. - ليس هذا هو الحب! - ويسعدني أن أكون لك زوجا. - ليس هذا هو الحب!
فتنبئه بأنها تعرض عليه ما تملك، فإن قبله فذاك وإلا فلا زواج، فيقبل، ويتفقان على لون الأثاث، وتنصرف هنرييت، وتقبل: «أستيل» فيلقاها في جلال ووقار، ويسألها عن أمرها، فتقص عليه ما كان من خيانة زوجها إياها، ومن حياتها مع زوج هنرييت، وتنبئه في سذاجة وطفولة أنها قد قطعت الصلة مع خليلها، وأنه يعرض عليها مالا، فهي تريد أن تستشيره أتقبل هذا المال أم ترفضه، فإذا ظهر عليه الارتباك أنبأته بأنها ذهبت إلى العرافة وعرضت عليها يدها فأنبأتها العرافة بأنها ستتزوج رجلا من أهل القضاء، وسيكون لها منه ثلاثة أولاد، ثم قدمت إليه يدها اللطيفة لتدله على الخط، فإذا نظر في الخط لم يسهل عليه أن يرد هذه اليد، ولا ينبغي أن ننسى أنه يريد أن يأثم، وأن يبدد ثروته، وأن يحزن أهله. وتحس المرأة منه ذلك، فتعلن إليه أنها تحبه، وأنها تريد أن تقبله، والرجل مضطرب أمام هذا الهجوم الغريب، وإذا المرأة قد وثبت إليه فقبلته وجلست على فخذيه، وفتح الباب فإذا هنرييت! أما «أستيل» فنهضت وانصرفت مسرعة، ولا أحدثك عن غضب هنرييت، وما يصيبها من اليأس وخيبة الأمل. ويحاول صاحبها أن يعتذر، فإذا هو يعتذر بنفس ما كان يعتذر به زوجها القديم من أنه تورط وكره أن يوصف بالجفوة والغلظة. - إذن فكلكم سواء، وإذا كان هذا شأنك أنت فليس لي أن ألوم الآن زوجي القديم، علي أن أعتذر إليه، وهنا يقبل الزوج القديم فيلقاه الخطيب مغضبا. هو يقول: تعال فإنها تريد أن تعتذر إليك. ويهم بالانصراف فيهمس الزوج القديم في أذنه: إن أستيل تنتظرك في العربة. ينصرف ويجثو الزوج القديم أمام هنرييت ضارعا مستعطفا وقد عفت عنه.
وهما يعتنقان إذ يدخل الأبوان؛ أما الشيخ فمبتهج لأنه قد ظفر بما كان يريد، وأما الأم فمضطربة أمام هذا الأمر الواقع: أملائم هو للأخلاق أم غير ملائم؟ ولكن ما أسرع ما تنتهي إلى الجواب! هي محافظة مؤمنة لا تعترف بالطلاق، وإذن فما زالا أمام الله زوجين.
يونيو سنة 1924
السلام الحي
قصة روائية بقلم «بول رينيه»
تلك قصة كتبت بعد الحرب الكبرى، ونشرت على الناس في هذا العام، ولكل ما كتب بعد الحرب الكبرى طابع يمتاز به؛ ذلك هو اضطراب الذهن وعدم استقراره، ومهما يكن الكاتب أو المفن مؤمنا بالنظرية التي يريد إبرازها للناس فهو عرضة دائما لأن تغشى على فكرته الحين بعد الحين سحابة ولو شفافة، تبدو من خلالها هذه الحرب التي لم تضع بعد أوزارها، والتي لا تزال مستعرة الأوار بين الفكرة والعاطفة والشهوة، وإن شئت فقل بين الإيمان والتجريد والعلم، وذلك طبيعي بعد إذ قلبت الحرب النظم الاجتماعية، فأفسدت بمقدار عظيم فوارق الطبقات القديمة، بما أغنت من فقراء وأفقرت من أغنياء، ورفعت من وضيعين ووضعت من ذوي الرفعة، وبما غلبت به قوة الساعد على حكمة العقل، وترهات الساسة على منطق الحكماء.
ولهذا الانقلاب الاجتماعي أثره في الفن والأدب، وله كذلك أثره في العلم والفلسفة، فأنت قل أن تجد اليوم الحكمة المطمئنة إلى ما أثبت العلم وحده، وقل أن تجد الفن أو الأدب الصادر عن فكرة عميقة ممتلئة بها نفس الكاتب أو المفن، بل يغلب أن تختلط بحكمة العالم مظاهر التجريد أو الإيمان، وأن تضطرب في نفس المفن فكرته فتختلط بأكثر من نقيض من نقائضها؛ ولذلك قل أن تجد اليوم في منشآت العلم والأدب والفن ذلك الصفاء الذي كنت تجده قبل الحرب، وإن كنت قد تجد فيها أكداسا من الثروة الذهنية التي لم تعرف من قبل ثم لم تستقر بعد إلى نظام.
وقصة «السلام الحي» خاضعة لهذه الظاهرة كل الخضوع، وإن يك كاتبها قد جاهد نفسه، فنزع بمقدار إلى ذلك النوع من القصص البسيكولوجية التي تصف حياة نفس وتحلل مشاعرها وآثار الحياة فيها وآثارها هي في الحياة.
Page inconnue