بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم خطْبَة الْمُؤلف ﵀
حمدا لَك يَا من تنزه عَن مجانسة الْمَخْلُوقَات وتميز بِذَاتِهِ عَن جَمِيع الذوات المحدثات وَصَلَاة وَسلَامًا على رَسُولك الْمَأْمُور بتبليغ الشَّرَائِع الحاسم بمرهم ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾ كل مَا يزخرفه المبطلون من الذرائع وعَلى آله الَّذين مَشوا على صراطه الْمُسْتَقيم وتمسكوا عِنْد ظُهُور الْبدع الْمظْلمَة بهديه القويم
وَبعد فَإِنَّهُ كتب إِلَيّ سَيِّدي السَّيِّد السَّنَد الْعَلامَة الأوحد ترجمان الْبَيَان زِينَة الأوان الْقَاسِم بن أَحْمد لُقْمَان حفظه الله عَن طوارق
1 / 19
الْحدثَان هَذِه الأبيات الفائقة الرائقة متوجعا من غلاة الصُّوفِيَّة وسائلا عَن حكم من كرع مِنْهُم فِي تِلْكَ المشارب الوبية وَقد أوردت نظمه ونثره بِحُرُوفِهِ قَالَ طول الله مدَّته وحرس مهجته مَا لَفظه
نَص السُّؤَال الموجه إِلَى الإِمَام الشَّوْكَانِيّ من الْعَلامَة الْقَاسِم بن أَحْمد لُقْمَان
حرس الله سَمَاء المفاخر بحماية بدرها الزاهي الزَّاهِر وأتحف روضها الناضر بكلاية غيثها الهامي الغامر وَأهْدى إِلَيْهِ تَحِيَّة عطرة وبركة خضرَة نَضرة مَا مسحت أَقْلَام الكتبة مفارق المحابر ورتعت أفهام الطّلبَة حدائق الدفاتر صدرت هَذِه الأبيات فِي غَايَة الْقُصُور أقيلوا عثارها إِن كَانَ لكم عَلَيْهَا عثور نستمنح مِنْكُم الفرائد ونستمد مِنْكُم الْفَوَائِد
1 / 20
أوجب تحريرها أَن ذكر عِنْد بعض الأماثل جمَاعَة المتصوفة فَأثْنى عَلَيْهِم وَأَطْنَبَ وأطرى وأطرب واستشهدني فَقلت بِمُوجب قَوْله مستثنيا مِنْهُم مثل الحلاج وَابْن عَرَبِيّ وَمن يساويهما فأصر
1 / 21
واستكبر وَأبْدى قولا يستنكر وَجرى بَيْننَا خلاف مفرط فاحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ وَلَا تشطط
والأبيات
قصيدة السَّائِل الَّتِي وَجههَا إِلَيّ الْمُؤلف
(١ أعن العذول يُطيق يكتم مَا بِهِ ... والجفن يغرق فِي خليج سحابه)
(٢ جَازَت ركائبه الْحمى فتعلقت ... أحشاؤه بشعابه وهضابه)
(٣ نفد الزَّمَان وَمَا نفدن مسائلي ... فِي الْحبّ والتنقير عَن أربابه)
(٤ فركضت فِي ميدانه وكرعت من ... غدرانه وركعت فِي محرابه)
(٥ وَسَأَلت عَن تَحْقِيقه وبحثت عَن ... تَدْقِيقه وكشفت عَن أَسبَابه)
(٦ فَوجدت أَخْبَار الغرام كواذبا ... فِي أَكثر الفتيان من طلابه)
(٧ ولقلما نلقى امْرأ متصوفا ... ينحو طَرِيق الْحبّ من أبوابه)
(٨ فيميت من شهواته لِحَيَاتِهِ ... وَيرد فضل ذَهَابه لإيابه)
1 / 22
(٩ وجد الْخَطِيئَة كالقذاة لعَينه ... فَرمى بهَا فِي الدمع عَن تسكابه)
(١٠ وَحمى الْحَقِيقَة فِي الطَّرِيقَة سالكا ... نهج النَّبِي قد اقْتدى بصوابه)
(١١ تمْضِي بِهِ اللحظات وَهُوَ محاسب ... للنَّفس قبل وُقُوفه لحسابه)
(١٢ هذي الطَّرِيقَة للمريد مبلغ ... مخ التصوف فَهِيَ لب لبابه)
(١٣ وَجَمَاعَة رقصوا على أوتارهم ... يتجاذبون الْخمر عَن أكوابه)
(١٤ يتواجدون لكل أحوى أحور ... يتعللون من الْهوى برضابه)
(١٥ أَصْحَاب أَحْوَال تعدوا طورهم ... فتنكروا فِي الْحَال عَن أحزابه)
(١٦ زجروا مطاياهم إِلَيْهِ وَإِنَّمَا ... نكص الغرام بهم على أعقابه)
(١٧ دعواك معرفَة الغيوب سفاهة ... وَالشَّرْع قَاض والنهى بكذابه)
(١٨ فَمن الْمحَال يرى امْرُؤ من غَيره ... مَا فِي الضَّمِير بِدُونِ رفع نقابه)
(١٩ وخرافة بشر يرى متشكلا ... مُتَمَكنًا من لبس غير إهابه)
(٢٠ رجحت نهاي فَلَا أصدق مَا سوى ... رسل المليك وترجمان كِتَابه)
(٢١ فدع التصوف واثقا بِحَقِيقَة ... واحرص فَلَا يغررك لمع سرابه)
(٢٢ للْقَوْم تَعْبِير بِهِ يسبي النهى ... طَربا ويثني الصب عَن أحبابه)
(٢٣ ويرون حق الْغَيْر غير محرم ... بل يَزْعمُونَ بِأَنَّهُم أولى بِهِ)
(٢٤ لبسوا المدارع واستراحوا جرْأَة ... عَن أَمر باريهم وَعَن إِيجَابه)
(٢٥ خَرجُوا عَن الْإِسْلَام ثمَّ تمسكوا ... بتصوف فتستروا بحجابه)
(٢٦ فَأُولَئِك الْقَوْم الَّذين جهادهم ... فرض فَلَا يعدوك نيل ثَوَابه)
(٢٧ وَإِذا أَرَابَك مَا أَقُول فسل بِهِ ... من عِنْده فِي الحكم فصل خطابه)
(٢٨ عَلامَة الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول من ... حكمت لَهُ الْعليا على أترابه)
(٢٩ فذ الزَّمَان وتوءم الْمجد الَّذِي ... سَاد الأكابر فِي أَوَان شبابه)
(٣٠ بدر الْهدى النظار سَله مُقبلا ... كفيه ملتمسا لرد جَوَابه)
1 / 23
(٣١ فمحمد بن عَليّ بن مُحَمَّد ... مني ومنك محققا أدرى بِهِ)
(٣٢ سَله زَكَاة الِاجْتِهَاد فَإِنَّهُ ... إِن صَحَّ فقرك مُحرز لنصابه)
انْتهى
ابْتِدَاء الْجَواب من الْعَلامَة الشَّوْكَانِيّ ناثرا وناظما
وَأَقُول سُبْحَانَ الفاتح المانح الْوَاهِب لهَذَا الشريف من فنون البلاغة المتجر الرابح وَقد آن أَن أشرع فِي الْجَواب عَلَيْهِ امتثالا لمرسومه وَقد نظمت هَذِه القصيدة على منوال قصيدته فِي الروي والقافية وَأما فِي البلاغة والجزالة والانسجام والإبداع فَالْفرق مثل الصُّبْح ظَاهر وَإِن مَا أَنا فِيهِ من الأشغال المتكاثفة للدرس والتدريس والإفتاء والتأليف لمن أعظم الْمَوَانِع العائقة لصَاحِبهَا عَن اللحاق بالمجيدين لصناعة النّظم والنثر لَا سِيمَا وَهَذِه الأبيات الَّتِي أجبْت بهَا بنت سَاعَة من نَهَار فَأَقُول مستعينا بِاللَّه ومتوكلا عَلَيْهِ
(١ هَذَا العقيق فقف على أبوابه ... متمايلا طَربا لوصل عرابه)
(٢ يَا طالما قد جِئْت كل تنوفة ... مغبرة ترجو لقا أترابه)
1 / 24
(٣ وَقطعت أمتاع الرَّوَاحِل معربا ... فِي كل حَيّ جِئْته بطلابه)
(٤ حَتَّى غَدَتْ غُدْرَان دمعك فيضا ... بالنفح فِي ذَا السفح من تسكابه)
(٥ والعمر وَهُوَ أجل مَا خولته ... أنفقته فِي الدّور فِي أدرابه)
(٦ وعصيت فِيهِ قَول كل مُفند ... وسددت سمعا عَن سَماع خطابه)
(٧ بشراي بعد الْيَأْس وَهِي حظية ... بتبدلي سهل الْهوى بصعابه)
(٨ قد أنجح الله الَّذِي أملته ... وكدحت فِيهِ لنيل لب لبابه)
(٩ وهجرت فِيهِ ملاعبي وَلَقِيت فِيهِ ... متاعبي ومنيت من أوصابه)
(١٠ وشربت كاسات الْفِرَاق وَقد غَدَتْ ... ممزوجة بزعافه وبصابه)
(١١ وبذلت للهادي إِلَيْهِ نفائسي ... ومنحته مني بملء وطابه)
(١٢ فحططت رحلي بَين سكان الْحمى ... وأنخته فِي مخصبات شعابه)
(١٣ وشفيت نَفسِي بعد طول عنائها ... فِي قطع حزن فلاته وهضابه)
(١٤ وَوضعت عَن عنقِي عَصا الترحال لَا ... أخْشَى العذول وَلَا قَبِيح عتابه)
(١٥ فَأَنا وَلَا فَخر الْعَلِيم بأرضه ... وَأَنا العروف بسانحات عِقَابه)
(١٦ وَأَنا الْعَلِيم بِكُل مَا فِي سوحه ... وَأَنا المترجم عَن خَفِي جَوَابه)
(١٧ يَابْنَ الرَّسُول وعالم الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول ... أَنْت بِمثل ذَا أدرى بِهِ)
(١٨ لَا تسألن عَن العقيق فَإِنَّهَا ... قد ذللت لَك جامحات ركابه)
(١٩ وكرعت فِي تِلْكَ الْمَوَارِد بُرْهَة ... وشربت صفو الود من أربابه)
(٢٠ وَقَعَدت فِي عرصاته متمايلا ... مُتَبَسِّمًا نشوان من إطرابه)
(٢١ واسلم وَدم أَنْت الْمعد لمعضل ... أعيا الورى يَوْمًا بكشف نقابه)
(٢٢ وَخذ الْجَواب فَمَا بِهِ خطل وَلَا ... عصبية قدحت بِغَيْر صَوَابه)
(٢٣ سكانه صنفان صنف قد غَدا ... متجردا للحب بَين صحابه)
(٢٤ قد طلق الدُّنْيَا فَلَيْسَ بضارع ... يَوْمًا لنيل طَعَامه وَشَرَابه)
1 / 25
(٢٥ يمْضِي على سنَن الرَّسُول مفوضا ... لِلْأَمْرِ لَا يلوي للمع سرابه)
(٢٦ يرضى من الدُّنْيَا بميسور وَلَا ... يغتم عِنْد نفارها عَن بَابه)
(٢٧ متقللا مِنْهَا تقلل موقن ... بدروس رونقها وَقرب ذَهَابه)
(٢٨ متزهدا فِيمَا يَزُول مزايلا ... إِدْرَاك مَا يبْقى عَظِيم ثَوَابه)
(٢٩ جعل الشعار لَهُ محبَّة ربه ... وثنى عنان الْحبّ عَن أحبابه)
(٣٠ أكْرم بِهَذَا الصِّنْف من سكانه ... أحبب بِهَذَا الْجِنْس من أحزابه)
(٣١ فهم الَّذين أَصَابُوا الْغَرَض الَّذِي ... هُوَ لامرا فِي الدّين لب لبابه)
(٣٢ وَلكم مَشى هذي الطَّرِيقَة صَاحب ... لمُحَمد فَمَشَوْا على أعقابه)
(٣٣ فبها الْغِفَارِيّ قد أَنَاخَ مطيه ... وَمَشى بهَا الْقَرنِي بسبق ركابه)
(٣٤ وَبهَا فُضَيْل والجنيد تجاذبا ... كأس الْهوى وتعللا برضابه)
(٣٥ وكذاك بشر وَابْن أدهم أَسْرعَا ... مشيا بِهِ والكينعي مَشى بِهِ)
(٣٦ أما الَّذين غدوا على أوتارهم ... يتجاذبون الْخمر عَن أكوابه)
(٣٧ ولوحدة جعلُوا المثاني مؤنسا ... واللحن عِنْد الذّكر من إعرابه)
(٣٨ ويرون حق الْغَيْر غير محرم ... بل يَزْعمُونَ بِأَنَّهُم أولى بِهِ)
(٣٩ فهم الَّذين تلاعبوا بَين الورى ... بِالدّينِ وانتدبوا لقصد خرابه)
(٤٠ قد أنهج الحلاج طرق سبيلهم ... وكذاك مُحي الدّين لَا أَحْيَا بِهِ)
(٤١ وكذاك فارضهم بتائياته ... فرض الضلال عَلَيْهِم ودعا بِهِ)
(٤٢ وَكَذَا ابْن سبعين المهين فقد غَدا ... متطورا فِي جَهله ولعابه)
(٤٣ رام النبوءة لالعا لعثاره ... روم البغاث مصيره كعقابه)
(٤٤ والتلمساني قَالَ قد حلت لَهُ ... كل الْفروج فَخذ بذا وَكفى بِهِ)
(٤٥ وَكَذَلِكَ الجيلي أجال جَوَاده ... فِي ذَلِك الميدان ثمَّ سعى بِهِ)
(٤٦ إنسانه إِنْسَان عين الْكفْر لَا ... يرتاب فِيهِ سابح بعبابه)
1 / 26
(٤٧ نهقوا بوحدتهم على روس الملا ... وَمن الْمقَال أَتَوا بِعَين كذابه)
(٤٨ إِن صَحَّ مَا نقل الْأَئِمَّة عَنْهُم ... فالكفر ضَرْبَة لازب لصحابه)
(٤٩ لَا كفر فِي الدُّنْيَا على كل الورى ... إِن كَانَ هَذَا القَوْل دون نصابه)
(٥٠ قد ألزمونا أَن ندين بكفرهم ... وَالْكفْر شَرّ الْخلق من يرضى بِهِ)
(٥١ فدع التأول للنصوص وَلَا تكن ... كفتى يُغطي جيفة بثيابه)
(٥٢ قد صَرَّحُوا أَن الَّذِي يبغونه ... هُوَ ظَاهر الْأَمر الَّذِي قُلْنَا بِهِ)
(٥٣ هذي فتوحات المشوم شَوَاهِد ... أَن المُرَاد لَهُ نُصُوص كِتَابه)
تَوْجِيه النَّقْد العنيف لمن ينخدع بهؤلاء المخذولين
وَلما فرغت من نظم هَذِه الأبيات قلت رُبمَا وقف عَلَيْهَا بعض من فت فِي عضد إيمَانه هينمة هَؤُلَاءِ المخذولين كَمَا نرَاهُ فِي كثير من أهل عصرنا الَّذين نفقت عِنْدهم تلبيسات هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِين فَقَالَ شَيْطَانه مَا بَال هَذَا المحجوب يتَكَلَّم فِي أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَيتَعَاطَى كؤوس شرابهم الصافي الَّذِي لَا يعرفهُ مثله كَمَا قَالَ قَائِلهمْ من ذاق طعم شراب الْقَوْم يدريه وَلَوْلَا مرَارَة فَمه لما تغير عِنْده طعمه
(وَمن يَك ذَا فَم مر مَرِيض ... يجد مرا بِهِ المَاء الزلالا)
وَإِنَّمَا يعرف الصِّنَاعَة أَهلهَا ويتمتع بمحاسن الحسنا بَعْلهَا لَا من عمي عَن أسرار تِلْكَ الإشارات وَقصر عَن فهم تِلْكَ الْعبارَات
(فوامحنة الحسنا تعار إِلَى امرىء ... ضَرِير وعنين عَن الوجد خَالِيا)
فَمَا لَك والتلدد حول نجد أَيهَا الْمِسْكِين أما كَانَ لَك أُسْوَة بِمن تَأَول تِلْكَ المقالات من الْعلمَاء الهادين وناضل عَن مشكلات تِلْكَ
1 / 27
الإشارات من الْأَئِمَّة الراسخين
(دع عَنْك تعنيفي وذق طعم الْهوى ... فَإِذا عشقت فَبعد ذَلِك عنف)
(وَكَيف ترى ليلى بِعَين ترى بهَا ... سواهَا وَمَا طهرتها بالمدامع)
(ويلتذ مِنْهَا بِالْحَدِيثِ وَقد جرى ... حَدِيث سواهَا فِي خروق المسامع)
وَأَقُول أَيهَا المخدوع
(مَا أَنْت أول سَار غره قمر ... ورائد أَعْجَبته خضرَة الدمن)
لَعَلَّك سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته وَلَو كنت كَمَا قيل
(وَإِنَّمَا رجل الدُّنْيَا وواحدها ... من لم يعول فِي الدُّنْيَا على رجل)
لم استربت فِي هَذَا الحَدِيث وَلَا نشبت بجسمك مخالب كل مخاتل خَبِيث وَقد آن أَن نبين لَك مَا أَنْت عَلَيْهِ من الإغترار ونعرفك بِبَعْض الْبَعْض من نهيق هَؤُلَاءِ الأشرار
(فَكُن رجلا رجله فِي الثرى ... وَهَامة همته فِي الثريا)
وَإِيَّاك أَن تكون كَمَا قَالَ من حقت عَلَيْهِ كلمة الضلال
(وَمَا أَنا إِلَّا من غزيَّة إِن غوت ... غويت وَإِن ترشد غزيَّة أرشد)
فَاعْلَم أَولا أَن أَصْحَابك الَّذين تجَادل عَنْهُم وتناضل مصرحون فِي كتبهمْ تَصْرِيحًا لَا يرتاب فِيهِ مبصر وَلَا كَامِل إِن من تَمام إِيمَان الْعلمَاء الحكم عَلَيْهِم بالْكفْر والزندقة والإفتاء بسفك دِمَائِهِمْ حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ قَالَ بعض السَّادة القادة لَا يبلغ إِنْسَان دَرَجَة الْحَقِيقَة
1 / 28
حَتَّى يشْهد عَلَيْهِ ألف صديق أَنه زنديق فَهَل يَلِيق بمثلك أَن تسترسل فِي غُبَار من طلب تَمام إيمَانه وَرَجا الْبلُوغ إِلَى دَرَجَة الصديقين بتكفير من يَجْعَل تَمام الْإِيمَان التَّصْرِيح بتكفيره فَمَا أولاك وأحقك بشكر من حكم على أَصْحَابك بالْكفْر والزندقة وَأفْتى بسفك دِمَائِهِمْ لِأَنَّهُ قد تمّ بذلكم إيمَانه وَصَارَ عِنْد مشائخك من الصديقين وَهَذَا أول غلط صدر مِنْك فِي المحاماة عَن أعراضهم وَهَا نَحن قد نبهناك عَلَيْهِ فَخذ بِهِ أَو دع
الرَّد على من يَقُول إِن الصُّوفِيَّة يُرِيدُونَ بكلامهم خلاف الظَّاهِر
ثمَّ اعْلَم ثَانِيًا أَن قَوْلك أَنهم يُرِيدُونَ خلاف الظَّاهِر فِي كَلَامهم كذب بحت وَجَهل مركب فَإِنَّهُم مصرحون بِأَنَّهُم لَا يُرِيدُونَ إِلَّا مَا قضى عَن الظَّاهِر وَهَذَا الإِمَام السخاوي فِي القَوْل المنبي عَن تَرْجَمَة ابْن عَرَبِيّ قَالَ إِنَّه صرح فِي الفتوحات المكية أَن كَلَامه على ظَاهره
1 / 29
وَقَالَ أَيْضا فِي الضَّوْء اللامع فِي تَرْجَمَة الْعَلامَة الْحُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن الأهدل قَالَ وَقيل لي عَنهُ إِنَّه قَالَ يَعْنِي ابْن عَرَبِيّ إِن كَلَامي على ظَاهره وَإِن مرادي مِنْهُ ظَاهره فَكيف تزْعم أَيهَا الْمَغْرُور أَنه لَا يُرِيد مَا يدل عَلَيْهِ ظَاهر كَلَامه وَهَذَا نَصه وَكَلَامه فِي فتوحاته وفصوصه كَلَام عَرَبِيّ لَا أعجمي وَكَذَلِكَ غَيره من
1 / 30
أهل نحلته فَكيف لَا يفهم ظَاهره عُلَمَاء الشَّرِيعَة وَهَذَا غلط ثَان من أغاليطك ننبهك عَلَيْهِ
فَإِن قلت نسلك بك طَريقَة التَّأْوِيل وَإِن وَقع التَّصْرِيح فَإِن المُرَاد الظَّاهِر
قُلْنَا فَلَا يخص التَّأْوِيل لكَلَام أَصْحَابك واطرده فِي كَلَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر الْمُشْركين كَمَا فعله ابْن عَرَبِيّ وَأَتْبَاعه على مَا سنبينه لَك وَقد أجمع الْمُسلمُونَ أَنه لَا يؤول إِلَّا كَلَام الْمَعْصُوم مُقَيّدا بِعَدَمِ
1 / 31
الْمَانِع مِنْهُ وَالتَّصْرِيح بِأَن المُرَاد بالْكلَام ظَاهره يمْنَع تَأْوِيل كَلَام الْمَعْصُوم فَكيف تَأْوِيل كَلَام ابْن عَرَبِيّ بعد تصريحه بذلك فَانْظُر يَا مِسْكين مَا صنع بك الْجَهْل وَإِلَى أَي مَحل بلغ بك حب هَؤُلَاءِ وَالله ﷻ قد حكم على النَّصَارَى بالْكفْر لقَولهم هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة فَكيف لَا يحكم على هَؤُلَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلهم
ثمَّ اسْمَع بعد هَذَا مَا نمليه عَلَيْك من كرامات هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاء الَّذين تلاعبوا بدين الله
الحلاج هُوَ الفاتح لباب القَوْل بالوحدة
أما الحلاج فَهُوَ الفاتح لباب الْوحدَة الَّتِي شغل بهَا ابْن عَرَبِيّ وَأهل نحلته أعمارهم ومقدم الْقَافِلَة فِي هَذِه الْمقَالة الكفرية وَلكنه وجد بعصر فِي أَهله بَقِيَّة خير وحمية على الدّين فَقطعُوا أوصاله الخبيثة بصوارم الْإِسْلَام ومزقوا من استهواهم بشعابذه كل ممزق فجزاهم الله خيرا وَمن كَلَامه فِي الْوحدَة الَّتِي مَا خدع إِبْلِيس أحدا من الْكَفَرَة بِمِثْلِهَا فِيمَا نَقله عَنهُ الصُّوفِي الْكَبِير عبد الله بن أسعد اليافعي فِي كِتَابه
1 / 32
مرْآة الْجنان وعبرة الْيَقظَان الَّذِي قَالَ فِي آخِره إِنَّه لَا يُجِيز رِوَايَته لعارفه إِلَّا بِشَرْط اعْتِقَاده فِي الصوفة أَنا الْحق وَمَا فِي الْجُبَّة إِلَّا الله وَهَذِه الْأَلْفَاظ قد رَوَاهَا عَنهُ النَّاس وَلَكنَّا اقتصرنا على التَّصْرِيح بِرِوَايَة هَذَا الصُّوفِي ليَكُون أقطع وأنفع لمن رسخت فِي قلبه محبته
مَا جَاءَ فِي كتب شيخ الصُّوفِيَّة عبد الْقَادِر الجيلاني وتفنيده
وَقَالَ شيخ الصُّوفِيَّة وَرَئِيسهمْ بأجمعهم عبد الْقَادِر الجيلاني فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ اليافعي الْمَذْكُور من كَلَامه فِي الحلاج مَا لَفظه طلب مَا هُوَ أعز من وجود النَّار فِي قَعْر الْبحار تلفت بِعَين عقله فَمَا شَاهد سوى
1 / 33
الْآثَار فكر فَلم يجد فِي الدُّنْيَا سوى محبوبه فطرب فَقَالَ بِلِسَان سكر قلبه أَنا الْحق ترنم بلحن غير مَعْهُود من الْبشر صفر فِي رَوْضَة الْوُجُود صفيرا لَا يَلِيق ببني آدم لحن بِصَوْتِهِ لحنا عرضه لحتفه انْتهى
وَمن كَلَامه فِيهِ بِتِلْكَ الرِّوَايَة ظهر عَلَيْهِ عِقَاب الْملك من مُمكن إِن الله لَغَنِيّ عَن الْعَالمين انْتهى ذَلِك
وعَلى الْجُمْلَة فحال هَذَا المخذول أوضح من الشَّمْس والاستكثار من هذيانه تَضْييع للْوَقْت وشغلة للحيز وَلَو لم يكن من قبائحه إِلَّا مَا رَوَاهُ عَنهُ شيخ الصُّوفِيَّة أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي رسَالَته أَن عمر بن عُثْمَان دخل عَلَيْهِ وَهُوَ بِمَكَّة وَهُوَ يكْتب شَيْئا فِي أوراق فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا فَقَالَ هوذا أعارض الْقُرْآن قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِ فَلم يفلح بعْدهَا لَكَانَ كَافِيا فِي معرفَة حَاله وَالَّذِي يغلب بِهِ ظَنِّي أَن الرجل بعد انسلاخه من الدّين اشْتغل بِطَلَب الغلو الدنيوي كَمَا يومي إِلَيْهِ قَوْله
1 / 34
(فلي نفس ستتلف أَو سترقى ... لعمر الله فِي أَمر جسيم)
وَقد أصدق الله تفرسه فأتلف نَفسه بسيوف دينه وأرقاه إِلَى الْخَشَبَة الَّتِي صلب عَلَيْهَا فَجمع لَهُ من شقي الترديد الْوَاقِع فِي كَلَامه وَمن شعره الْمشعر بِمَا ذكرت لَك وَهُوَ مصلوب على الْخَشَبَة قَوْله
(طلبت المستقر بِكُل أَرض ... فَلم أر لي بِأَرْض مُسْتَقرًّا)
(أَطَعْت مطامعي فاستعبدتني ... وَلَو أَنِّي قنعت لَكُنْت حرا)
تَرْجَمَة الذَّهَبِيّ للحلاج وَذكر مَا رَوَاهُ ابْن كثير من كراماته المفضوحة
وَقد ترْجم لَهُ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فَقَالَ الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج الْمَقْتُول على الزندقة مَا روى وَللَّه الْحَمد شَيْئا من الْعلم وَكَانَ لَهُ بداية جَيِّدَة وتأله وتصوف ثمَّ انْسَلَخَ من الدّين وَتعلم السحر وأراهم المخاريق وأباح الْعلمَاء دَمه انْتهى
وَمن كرامات هَذَا الْوَلِيّ مَا رَوَاهُ ابْن كثير فِي تَارِيخه بِلَفْظ روى بَعضهم قَالَ كنت أسمع أَن الحلاج لَهُ أَحْوَال وكرامات فَأَحْبَبْت أَن أختبر ذَلِك فَجِئْته فَسلمت عَلَيْهِ فَقَالَ تشْتَهي السَّاعَة عَليّ شَيْئا فَقلت أشتهي سمكًا طريا فَدخل منزله فَغَاب سَاعَة ثمَّ خرج عَليّ وَمَعَهُ سَمَكَة تضطرب وَرجلَاهُ عَلَيْهِمَا الطين فَقَالَ دَعَوْت الله
1 / 35
فَأمرنِي أَن آتِي البطائح لآتيك بِهَذِهِ السَّمَكَة فخضت الأهواز وَهَذَا الطين مِنْهَا فَقلت إِن شِئْت أدخلني مَنْزِلك ليقوي يقيني بذلك فَإِن ظَهرت على شَيْء وَإِلَّا آمَنت بك فَقَالَ ادخل فَدخلت وأغلق عَليّ الْبَاب وَجلسَ يراني فَدرت الْبَيْت فَلم أجد فِيهِ منفذا إِلَى غَيره فتحيرت فِي أمره ثمَّ نظرت فَإِذا أَنا بزير فكشفته فَإِذا فِيهِ منفذ فدخلته فأفضى بِي إِلَى بُسْتَان هائل فِيهِ من سَائِر الثِّمَار الجديدة والعتيقة وَإِذا أَشْيَاء كَثِيرَة مَعْدُودَة للْأَكْل وَإِذا هُنَاكَ بركَة كَبِيرَة فِيهَا سمك كثير صغَار وكبار فدخلتها وأخرجت مِنْهَا وَاحِدَة فنال رجْلي من الطين مثل الَّذِي نَالَ رجله فَجئْت إِلَى الْبَاب فَقلت افْتَحْ فقد آمَنت بك فَلَمَّا رَآنِي على مثل حَاله أسْرع خَلْفي جَريا يُرِيد أَن يقتلني فضربته بالسمكة فِي وَجهه وَقلت يَا عَدو الله أتعبتني فِي هَذَا الْيَوْم
وَلما خلصت مِنْهُ لَقِيَنِي بعد أَيَّام فضاحكني وَقَالَ لَا تفش مَا رَأَيْت لأحد أبْعث إِلَيْك من يقتلك على فراشك قَالَ فَعرفت أَنه يفعل إِن أفشيت عَلَيْهِ فَلم أحدث بِهِ أحدا حَتَّى صلب انْتهى
الْكَلَام على ابْن عَرَبِيّ وَابْن الفارض وَابْن سبعين والتلمساني وَمَا رَوَاهُ ابْن تَيْمِية عَنْهُم)
وَأما ابْن الفارض وَابْن عَرَبِيّ وَابْن سبعين والتلمساني
1 / 36
وأتباعهم فَاعْلَم أَنَّهَا قد جمعتهم خصْلَة كفرية هِيَ القَوْل بوحدة الْوُجُود مَعَ مَا تفرق فيهم من خِصَال الخذلان والبلايا الْبَالِغَة إِلَى حد لَيْسَ فَوْقه أشنع مِنْهُ كتحليل ابْن عَرَبِيّ لجَمِيع الْفروج كَمَا صرح بذلك الإِمَام ابْن عبد السَّلَام عِنْد قدومه الْقَاهِرَة لما سَأَلُوهُ عَن ابْن عَرَبِيّ فَقَالَ هُوَ شيخ سوء يَقُول بقدم الْعَالم وَلَا يحرم فرجا انْتهى
1 / 37
وكما رَوَاهُ الإِمَام ابْن تَيْمِية عَن ابْن التلمساني أَنه قَالَ وَقد قرئَ عَلَيْهِ الفصوص وَقيل لَهُ هَذَا كُله مُخَالف لِلْقُرْآنِ فَقَالَ الْقُرْآن كُله شرك وَإِنَّمَا التَّوْحِيد قَوْلنَا وَقيل لَهُ مَا الْفرق بَين أُخْتِي وزوجتي قَالَ لَا فرق عندنَا قَالُوا حرَام فَقُلْنَا حرَام عَلَيْكُم
وَقَالَ ابْن تَيْمِية فِي كِتَابه منهاج السّنة إِن ابْن سبعين جَاءَ من الْمغرب إِلَى مَكَّة وَكَانَ يطْلب أَن يصير نَبيا وَكَانَ يَقُول لقد زرت ابْن آمِنَة الَّذِي يَقُول لَا نَبِي بعدِي وَكَانَ بارعا فِي الفلسفة وَفِي تصرف الفلسفة
فَإِن قلت مَا هَذِه الْوحدَة الَّتِي جَعلتهَا من أعظم خِصَال الْكفْر
قلت قَوْلهم إِن الله سُبْحَانَهُ حَقِيقَة كل مَوْجُود من جسم وَعرض ومخيل وموهوم تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَلِهَذَا فرعوا على هَذِه الْمقَالة الملعونة فروعا كفرية مِنْهَا تصويب عَبدة الْأَوْثَان وَمِنْهَا تخطئة الْأَنْبِيَاء فِي الْإِنْكَار عَلَيْهِم وَمِنْهَا عدم صِحَة لَا إِلَه إِلَّا الله كَمَا صرح بذلك ابْن عَرَبِيّ قَالَ لِأَن الِاسْتِثْنَاء يسْتَلْزم التَّعَدُّد وَلَا تعدد
سماهم الْقُسْطَلَانِيّ الليسية لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لَيْسَ إِلَّا الله
قَالَ ابْن تَيْمِية وَلِهَذَا كَانَ يَقُول ابْن سبعين وَأَصْحَابه فِي ذكرهم لَيْسَ إِلَّا الله وَكَانَ يسميهم الشَّيْخ قطب الدّين ابْن الْقُسْطَلَانِيّ
1 / 38