حسن في هذه الحال وقبيح فيما عداها. عندما أقصدك مستشفيا أعلم أنك تستطيع شفائي فأذعن لأوامرك وأقبل نصائحك. وعندما أسألك رأيك أعتبرك قادرا على وضع نفسك مكاني والشعور معي، حقيقا بأن تقودني في طريق سلكتها واختبرتها قبلي. ولكن ما قيمة الرأي عند غير أهله؟ كيف يرشدني في الموسيقى من لا يتقن إلا التجارة؟ كيف يصلح أغلاطي اللغوية من كان صحيحه مغلوطا؟ كيف يعلمني الصينية من لا يعرف عدد حروفها؟ ثم كيف هو ينهاني عن قيادة زورق حياتي كما أريد؟ عجبا! أألام لأني لا أقضي ليالي حول الطاولة الخضراء، ولا أصرف نهاري بين سباق الخيل، وصيد الحمام، وحانات الرقص والشراب؟ كنت وما زلت أعتقد أن من كانت هذه حياته حق عليه الملام، وها أنا الذي أطلب الهدوء والوحدة أقابل بالشغب والعبوس. (يصمت آسفا لأنه تكلم، إلا أن الكلام يعود متدفقا من شفتيه)
يعيرني أنه رباني صغيرا. والله يعلم كيف رباني! إنه أدخلني المدرسة، وهل كان بوسعه أن يفعل أقل من ذلك! ويقول إنه بمثابة الأب لي، فأي حنو وطد هذه الأبوة؟ كنت أقضي في المدرسة شهورا طويلة دون أن أراه، وإذا زارني هو و... وهن حملوا إلي الحلوى واللعبات وكل ما تجلبه الدراهم، ولكنهم لم يكونوا ليعطوني منهم شيئا. الدراهم أورثنيها أبي مثل ما أورثهم. أما قلوبهم فكانت مختومة كالقبور. كنت أبكي - أتسمع يا دكتور؟ قلت أبكي - كنت أبكي عندما أرى رفاقي في أحضان ذويهم محبوبين مدللين، أما هو فكان يأتي ويذهب بلا قبلة عطف، بلا كلمة محبة، بلا نظرة اهتمام لليتيم الصغير الذي كنته. وكم كنت مستعدا لأحبه! وكم كنت أتمنى أن يتركني أحبه دون أن يجمد قلبي! ولو علمت اليوم أنه ينصحني مهتما مخلصا لسعدت بالتنازل عن رأيي وسارعت إلى إتيان ما يشتهي. ولكنه ينصحني ليجعل لنفسه أهمية وليذلني، ولو أذعنت لكلامه لحظة ما تأخر عن تغييره في اللحظة التالية. (يتنهد)
لا أستنشق في هذا البيت غير هواء المقت والكظيمة. إنهم ينظرون إلي كدخيل مغتصب. وهذه أمراض عضالة لا تستطيع معالجتها يا دكتور. (تلتقي عيناه بعيني الطبيب وهو ينظر إليه طويلا بعطف يشبه المصادقة، فيهز رأسه فجأة ويحاول الابتسام)
أستمحيك عفوا فقد مزجت قهوتك بالشكوى. (يهز كتفيه)
ما أحقر الشكوى وما أحقر الشاكي! (يتغلب على نفسه ويرسل زفرة عميقة)
انتهى يا دكتور.
الدكتور (متجها نحو الباب) :
نصحي إليك، وإن كرهت الناصحين، أن تخرج من نفسك بقدر الإمكان. إن عكفك على ذاتك يزيد عواطفك رقة وتهيجا. احتك بالناس، اسمع ثرثرتهم، شاركهم فيها، اخرج إلى الهواء الطلق، تعاط الألعاب الرياضية. العب، العب، كن من أبناء جيلك لئلا تتعذب كثيرا.
سميحة (تغمز ضاحكة) :
سلمني مريضك فأمرضه يا دكتور! (إلى شفيق)
Page inconnue