لا يراعي الناس في حكمهم على الآخرين ما يجيزونه لأنفسهم، وإنما يحكمون وفقا لنصوص صلبة جمعت في الجدول الأخلاقي الذي يتسلحون به أمام بعضهم بعضا، فإذا ما طرحت العيوب في سوق المزايدة، هي مزايدة لا تقبل المناقصة مطلقا، عمد المتحدثون الذين صار كل منهم في ذلك الموقف بارا صفيا وقديسا مفضالا، عمدوا إلى ذلك الجدول الصارم كوجه الجلاد. وكما أن جدول الحساب الذي وضعه فيثاغورث اليوناني هو جدول ضرب كذلك كان الجدول الأخلاقي لمساوئ العباد والحكم عليها، جدول ضرب تعالت أرقامه الشريفة عن كل طرح شائن! •••
كثيرا ما كنت ألتقي بالسيدة غ. ب في أماكن مختلفة؛ في الكنيسة، والحفلات الموسيقية (كونسرت)، والمخازن الكبرى، وكان يندر أن أسير في شوارع حي الإسماعيلية كشارع قصر النيل، وعماد الدين، والمغربي، والمدابغ، وسليمان باشا، دون أن أراها مارة كأنها تقطن هذه الجهات أو قريبا منها، فإذا كنت مع صاحبة أو رفيقة لفظت بيننا تلك الكلمة التي يتبادلها النساء، والرجال أيضا مع احترامي لسادتنا الأجلاء، لدى مرور سيدة ذات ميزة ما، تلك الكلمة هي «انظري! انظر!» ولتلك السيدة غير ميزة، فهي معروفة بجمال الصوت وقد سمعتها في حفلتين اثنتين. وهي أنيقة الهندام تتزيا بأحدث الأزياء، بل هي من السابقات إلى ترويج الأزياء الحديثة في القاهرة، ويقولون إنها حسناء.
كنت أشاهدها عن بعد فيستلفتني إليها ذلك الشيء الخاص في كل إنسان وليس هو الهندام، ولا ملامح الوجه، ولا الحركة، ولا السكوت ولكنه شيء مبهم يختلف باختلاف الأشخاص. ويزعم بعض أهل الفراسة أن مقره بين العينين، ويدعي غيرهم أنه في إنسان العين، أو حول الفم، أو في خطوط الشفاه، أو في ارتكاز الذقن. وأنا لا أعلم سوى أنه موجود وأنه المكون الأكبر لما نسميه «معنى» الشخص. وهو عند بعضهم قوي، شديد التأثير، يلتصق بنفس الرائي فلا يعود ينسى ذلك «المعنى» ولا ينسى حامله.
بعد كلمة «انظر! انظري!» لا بد من «حكاية» عن موضوع النظر. وهكذا سمعت عن تلك السيدة حكايات جمة جعلتني كثيرة التفكير فيها أسائل «معناها» الباقي في نفسي: ماذا علي أن أصدق من كل ما قيل ويقال؟ ويزيد اهتمامي بها بتراكم الحكايات عنها، كأني ذلك الرجل الذي تعرف إلى أحد المشاهير وقال: «سمعتهم يذمونك فشاقني التعرف بهولك.»
عيناها كانتا أعلق الأشياء بحافظتي، هما عينان متغيرتان تظهران مرة عيني امرأة وجيعة صابرة، وحينا تفكران معرضتين عن جميع مظاهر الحياة، ويوما تكنان نظرة لا قرار لها، وتخترقان الأشياء إلى فضاء يحيط بها، كأنهما ترقبان في الهواء إشارات يد غير منظورة. وطورا تبدوان كعيني الشخص الاجتماعي الذي يتمتع بأفراح عادية ويكتفي بها غير متخيل وجود ما يفضلها. ثم تتألقان سعيدتين كأن الحياة أشبعتهما مسرات لطيفة هادئة وحققت منهما بعيد الأماني. إلا أني كنت أحبهما عندما تذبلان وينطفئ نورهما كأن صاحبتهما شاخت في أسبوعين خمسين عاما. ثم ألتقي بها مرة أخرى فأحسبها في ثوبها الوردي، وبرنيطتها المرفرفة على وجهها، طفلة تنتظر من الوجود جميع صنوف الهناء. •••
أقامت يوما نخبة غواة حفلة موسيقية في قاعة الأعياد الكبرى بفندق شبرد. وقد أشرف على تنظيمها أستاذان شهيران هما السيدة ك. أقدر معلمة بين الأجنبيات المتعاطيات تدريس فن الغناء، ولها في منزلها اجتماعات حافلة بأجمل أصوات القاهرة من نساء ورجال درسوا عليها والتفوا حولها. والسنيور ف. الذي يقطن هذه المدينة منذ أعوام وقد كثر تلاميذه وتلميذاته من مختلف الجاليات، وتزايد عدد أصدقائه والمعجبين به الذين يرون معجزاته على البيانو متجددة كل يوم، مدهشة كل مرة.
في تلك الحفلة غنت السيدة التي لها حكاية إلا أني لم أجد من يحدثني عنها، ربما لأن أكثر الحضور من أهل الغواة، فكلما عزف عازف أو أنشدت منشدة زف الجمع التهاني إلى ذويه وذويها؛ ليضمنوا بذلك تهاني تزف إليهم عندما يغني أولادهم ويعزفون. تلك المرأة لم يكن لها أهل، ومع ذلك فقد أحدث إنشادها تأثيرا كبيرا وأثار تصفيقا حادا لم تكن تقابله هي بغير السكون. وقد أطل من عينيها لهيب قاتم عميق وارتدت ملامحها هيئة آمرة تبعدها عن الشباب والشيخوخة معا ، وتجعلها شبيهة بالتماثيل التي لا تتغير شاراتها وتظل في أوضاعها ثابتة على الدوام.
فكرت فيها طويلا ذلك المساء، وألفت من كل ما سمعت عنها رواية كئيبة فقلت لنفسي: «يا للخسارة! لماذا تتجاهل هذه المرأة ذاتها؟ لماذا لا تنسى أنها حسناء فترتفع إلى القمة التي أراها أهلا لبلوغها؟»
وفي الغد جاء السنيور ف. ليعطيني درسي الموسيقي ولكن بدلا من أن يأتي في الساعة الحادية عشرة، وهي الوقت المعين، جاء قبل الظهر بعشر دقائق. دخل يفرك يديه وعيناه تلمعان وراء زجاجتي نظارته، فتذمرت وقلت: «إنك لا تبالي بوقتي يا أستاذ، لقد أتلفت صباحي، بل نهاري كله!» فضحك ضحكة ابتدأت في قرار معتدل وانتهت فيما يشبه زقزقة الطيور وقال: «أنا لست أستاذ رياضيات لألزم بالمجيء في الوقت المعين.» وفرك يديه من جديد ليستشهد بالمثل الفرنسوي القائل: «بعض التشويش ضروري لتجميل الفن.» قلت: «ولكن وقتي ...» فقاطع قائلا: «الدرس، الدرس.» وسمع الجيران مدة ساعة طويلة تلك الضوضاء الخاصة التي يحدثها التمرين والمراجعة في حضرة المعلم.
ولما انقضت الساعة بإجهاد وسلام طلبت حقي. والسنيور ف. يعزف لتلاميذه القطعة التي يطلبونها إذا كان راضيا عنهم. وحقي الذي طلبته يومئذ قطعة موسيقى روسية كان قد عزفها في حفلة اليوم السابق. •••
Page inconnue