يا ابنتي، يا صغيرتي، بمثل هذا تنادي الراهبات جميع التلميذات، ولكنه من فم الأخت أوجني نشيد سماوي يظل صداه مترددا في جنان عائدة. •••
جددت هذه «الفلتة» اللذيذة يوما ووقفت عند عتبة الراهبة وهي تلهث تعبا واضطرابا. رباه، ماذا ترى في هذه الغرفة وماذا تسمع! بين ذراعي صديقتها فتاة تقريبا من عمرها هي عائدة. الفتاة تبكي والراهبة تواسيها بصوت شفيق قائلة: «لا تبكي يا ابنتي، لا تبكي يا صغيرتي!»
لم تلمح هذا المشهد حتى انقلبت راجعة من حيث أتت. سمعت الفتيات في الخارج يتحسرن على هند؛ «لأن أمها ماتت»، ففهمت وقالت: «مسكينة هند.» ولكن شفقتها كانت سطحية لاستيائها من هند المجهولة هذه التي أخذت مكانها، والنداء الذي يجب أن تنادى به وحدها، الأخت أوجني هي! هي! تستعمله لتعزية الفتاة الغريبة ...
آه من خيانة البشر! آه ما أضيق الحياة! ما أثقل جدران هذا الدير وأرهب ظلها المنعكس على ساحة اللعب مختلطا بظل الأشجار الكبيرة! وتبا لهذه الأشجار فقد مشت الأخت أوجني الخائنة تحتها! وتلك الفروض التي يجب أن تكتب! وتلك الدروس التي يجب أن تستظهر! ما أطيب الموت! أين أنت أيها الموت؟
مسكينة عائدة! كانت قوية الشعور فطرة وقد ساعدت تربيتها الأولية على تقوية عواطفها وإرهافها، ولم يكن لديها العقل اللاجم ولا الخبرة الحكيمة. وكم من امرأة تقضي عمرها على هذه الحال فتشقى وتشقي، وهي لا تدري أنها مريضة في أعصابها، وإن نسبت ذلك إلى الرقة. نعم، الحياة تافهة إن لم يبهجها نور الحب ويعظمها سناء الفكر، ولكن بين هاتين القوتين الجليلتين وسخافة الغيرة بونا شاسعا.
وصارت عائدة توجه إلى الراهبة كل كلمة حواها كتاب الصلاة في هجو الشيطان واحتقاره. وتلخصت معاملتها لها في إظهار الاستياء والاستنكاف إلى درجة المبالغة. وكلما أبدت الصديقة الكبيرة ألما زادت الصغيرة الشريرة تعذيبا. •••
تكاد حيوية الشر تتغلب على حيوية الخير، ولكن القلب الوفي لا يفتأ يلتمس من المحبة غذاء ودواء؛ لذلك أفرغ قلب عائدة الكره في أسابيع وأخذت تتسرب إليه الكآبة.
أخذت تكتئب لا سيما وقد دنا عيد الميلاد وأسرعت أيام العام الأخيرة نحو هوة العدم. يخيل أن هذه المواسم أعلام العمر أو محطات على خط الرحلة منه، فتحتاج القلوب إلى مضاعفة المحبة والصداقة والعطف والتبحر، بينا قلوب أخرى تلهو بالرقص واللعب والإنشاد وما شاكلها من أمور خارجية.
وكانت تكتئب؛ لأن رفيقاتها الصغيرات أخذن يغادرن الدير ليصرفن الأسبوع بين أهلهن المقيمين في المدينة أو في ضواحيها. وعائدة من بلدة بعيدة كل البعد؛ لذلك لا يزورها من ذويها في العيد أحد. وستقضي هذه الأيام وحدها بين أولئك النسوة الصائمات، المصليات، الزاهدات، اللائي كانت تشعر بأن منهن غير السعيدات رغم امتثالهن الظاهري؛ فتودع رفيقاتها الواحدة بعد الأخرى متمنية لهن عيدا سعيدا، حتى إذا مضت أخراهن انطلقت إلى الكنيسة وحجبت وجهها بيديها وأجهشت بالبكاء. وإذا بصوت مألوف يهمس في أذنها: «تعالي يا عائدة، فقد سمحت الأم الرئيسة أن أشترك وإياك مع الأخت حنة في تهيئة المذود.»
فانتصبت الفتاة وفرت هاربة إلى حيث لا يعثر عليها، وشهقت متفجعة تقول: «أواه! إنها تشفق علي، إنهن يشفقن علي! ربي، ترى أيهما أمر، أخيانة البشر أم شفقتهم؟» •••
Page inconnue