ومضت بنا الأيام في حب طاهر، فامتزج روحانا، حتى صارا روحا واحدا في جسمين غير متصلين. ولولا حبها العميق، ومرحها الطليق، وبساطة قلبها الكبير، لمت غما وكمدا!
وإنها لأيام عجيبة، وإنه شهر عسل غريب! وكانت حبيبتي مثالا للشعور الحي والرقة البالغة والحب الصادق. وكثيرا ما كنت أسترق إليها نظرات متفحصة مستريبة، فلم أجد منها إلا الصفاء والوداعة والرضا، فكاد يقع في روعي أنه لا يعوزنا شيء. وأستطيع أن أقول: إنني لم أنعم بالراحة إلا في تلك اللحظات. وفيما عدا ذلك كانت حياتي جحيما مستعرا لا يدري به أحد، لم تعد سعادتي إلا أويقات طارئة كأنها إفاقات من يعاني سكرات الموت. وشعرت بشدة حاجتي إلى المشير؛ ولكن حيائي وقف في طريقي سدا منيعا كالجبل الراسخ، فاستحالت علي المشورة، حتى مجرد تخيلها كان يشب في نارا ويبعث في نفسي إحساسا قاهرا للفرار والاختفاء. وفضلا عن هذا وذاك فلم يكن لي صديق، وكانت أمي - وهي صديقي الوحيد في دنياي - أبعد من أن أذكرها في هذا الأمر خاصة، فكابدت عذابي وحيدا صامتا يائسا. وكان نهارا محتملا، بل بهيجا بفضل حبيبتي التي تذيب روحها راكد الهم، حتى إذا جاء اليل غشيتنا كآبة لم تنفع حيلة في تبديدها. كان كلانا يشعر بالحرج والضيق والخوف، ولم تواتني الشجاعة على معاودة التجربة بعد إخفاق الليلتين المتعاقبتين، فكنت أقنع بأن نضطجع جنبا إلى جنب، وأضمها إلى صدري، منتظرا الرحمة في خوف وقلق وهلع، حتى ينتشلني النوم من عذابي، ولذلك لم يزل الحياء حجابا بيني وبينها، ولو أتيح لنا الامتزاج لرفع الحجاب رويدا رويدا، فلم أستطع أن أشكو إليها بثي وهمي، وطالما نازعتني نفسي إلى الترويح عنها بالكلام، فما أكاد أفتح شفتي حتى أطبقهما في ارتباك وخجل. وفي إحدى هذه المرات قالت لي بصوت مهموس: هل ترغب أن تقول شيئا؟
ووجدت وراء تساؤلها دعوة إلى الكلام، فخفق قلبي بعنف وقلت في اضطراب أخفيته بجهد شديد: أرغب دائما أن أقول إني أحبك!
هذا حق في ذاته، ولكني كنت أرغب بلا ريب أن أقول شيئا آخر، وأحسست بأنها تقرأ صفحة أفكاري الخفية، فجثم الكذب على صدري كالكابوس، وغمغمت بعد أن جاهدت حيائي جهادا مريرا: إن ما مضى من حياتنا المشتركة لا يقاس إلى ما ينتظرنا من عمر طويل.
وخيل إلي أن وجهها تضرج بالاحمرار، وإن كنت أراه على ضوء المصباح الساهر الخافت، وداعبت شعري بأناملها، ثم قبلتني قبلة عذبة على شفتي، وسألتني في أذني: أيضايقك شيء؟
فالتهب جسمي خجلا وألما، وقلت بإخلاص: معاذ الله!
وصمت على رغمي مليا، وقلبي يخفق بشدة وعنف، ثم قلت وبودي لو أتوارى عن ناظريها: إنها مسألة وقت!
هكذا تعاقبت الأيام، ومرة أخرى أقول: إنه لولا حبها العميق ومرحها الطليق وبساطة قلبها الكبير لمت غما وكمدا. •••
وذات مساء - وكان مضى على زواجنا ثلاثة أسابيع - لاحظت أنها تخالسني نظرات تنم عن الحيرة، وأن لديها ما تقوله، فقلت لها مدفوعا برغبة قوية في استدراجها إلى الكلام: في عينيك كلام!
فقالت مبتسمة في ارتباك: أجل.
Page inconnue