وكأن أخي أدرك أن الكلام لا يجدي، فوجه خطابه لجبر بك قائلا: يمكن أن نتفق على حل وسط؛ فتجيء العروس إلى المنصة بين صويحباتها، وأذهب مع أخي إليها، فيجلسان معا بين الأهل ردحا من الزمن قبل الذهاب!
وأومأ إلى البك ألا يعارض، فذهب الرجل، والتفت إلى أخي مغيظا محنقا وقلت له: يا لك من أخ خائن! .. كيف تسمي هذا حلا وسطا، وما هو إلا التنكيل بي؟!
فندت عنه ضحكة مجلجلة ذكرتني بأبينا وقال لي: إنك تعر بلدا، فدع النضال، وسنذهب معا .. ليتني أجد كل يوم زفة فأشق سبيلا طريا بين النساء!
وصمت لحظة قصيرة، ثم لكزني في كتفي وعاد يقول: إذا حدثتك نفسك بالنكوص فاهرب واستغن عن العروس!
واستسلمت إلى الواقع في يأس وضيق وهلع. وعزفت الفرقة نشيد الزفة، فخفق قلبي بارتياع وشعرت بدنو الخطر. وقرعت أذني الزغاريد الآتية من الصالة فانهارت قواي، والتفت إلى مدحت قائلا: أما من حيلة؟ أما من طريق؟
فشد على ذراعي ونهض وهو يقول: طريق واحد يفضي إلى المنصة كأنك طفل يساق إلى الختان!
وسار، فتحركت قدماي وقلبي يغوص في صدري!
وقال لي همسا ونحن نجتاز الباب: ارفع رأسك، حملق في وجوه الحسان حتى يغضين حياء!
ولكني تقدمت على مهل خافض الرأس. لم أشك في أن منظري استثار الضحك المكتوم. وبلغ مسمعي صوت نسائي يتساءل: «أيهما العريس؟» فأجابت أخرى: «الطويل!» كان المكان مكتظا، وقد رأيت عديدا من السيقان والأحذية البيض على جانبي الطريق الذي أفسح لنا. ثم سمعت صوت أخي يهمس في أذني: بلغنا المنصة، اصعد إليها، وحي عروسك واجلس.
ارتقيت درجتين، ورفعت عيني في حذر وإشفاق، فرأيت حبيبتي جالسة تحت ظل من الأزهار، في ثوب العرس الأبيض، وعلى رأسها هالة من الفل والياسمين، تنسدل منها على الظهر ذيول من الحرير. كانت بهاء ونورا وفلا وياسمينا، وقد غضت بصرها ولاحت على ثغرها ابتسامة خفيفة. وصرت منها على قيد خطوة، وتذكرت قول أخي: «حي عروسك واجلس!» .. كيف أحييها؟ أأسلم باليد؟ .. أو أوجه إليها تحية المساء؟ وترددت مرتبكا، ورأيت في ابتسامتها الخفيفة الخجلة ما ينم عن انتظار تحيتي، ثم شعرت بما غاب عني لحظات قصارا، أو عاودني الشعور بالأعين المحدقة بي تكاد تحرق ظهري، ففقدت جناني، وجلست على المقعد الخالي دون أن أنبس بكلمة أو أحرك يدي.
Page inconnue