فقلت بلهجة نمت عن عدم رغبتي الاسترسال في النقاش: إني أنتظر تهنئتك يا أماه!
فمالت نحوي حتى لثمت خدي وتمتمت: إني أحق منك بالتهاني.
ودعت لي طويلا، وكان وجهها كالصفحة المصقولة لا تخفى بها خافية، ولم تكن تحسن مداراة ما يعتمل في نفسها، فلمست في نظرة عينيها خيبة عميقة نغصت علي صفوي؛ بيد أنني تجاهلتها وتظاهرت بتصديق كلماتها، وسرعان ما شغلت عنها بسعادتي. وكتبت في نفس اليوم لأخي خطابا أخبرته بما كان ودعوته لشهود الخطبة، وزرت أختي راضية ودعوتها كذلك، وذهبنا جميعا في اليوم الموعود. ولست أدري كيف واتتني شجاعتي ذلك اليوم. لقد شبكت ذراعي بذراع شقيقي مدحت ورجوته أن يكون مرشدي، ولشد ما أتعبته بجمودي وارتباكي وخجلي.
لم أنبس بكلمة طوال السهرة، ولم أرفع عيني عن الأرض، ولبثت محاصرا بأعين المستطلعين رجالا ونساء، ولم تزايلني الرهبة حتى بعد انصراف الأقارب واقتصار الموجودين على الأهل. وقد ضحكت حرم جبر بك وقالت لي: أنت خجول يا سي كامل .. وقد أدركت الآن السر في أنك كنت تحوم حول عروسك أشهرا طوالا كالخائف!
وخفق قلبي لقولها، واختلست من أمي نظرة لأرى وقعه في نفسها، فوجدتها مشتبكة مع جبر بك في حديث. وجلست طوال الوقت بجانب رباب دون أن أستطيع إرواء قلبي الظامئ لرؤيتها. وما ألقيت عليها إلا نظرة سريعة حيية حين دخولها الحجرة في هالة من نور وبهاء، ثم غبت في حيائي وارتباكي، ولما انفض الحفل العائلي وغادرنا البيت ضحك أخي مدحت في الطريق مقهقها وقال لي بدهشة: ينبغي أن نجد علاجا لخجلك، فوالله ما رأيت مثلك رجلا.
ولم آبه لانتقاده وسخريته؛ كنت سعيدا!
38 ... ثم هان علي عناء الزيارات، اعتدتها وآنست إليها. أمكنني أن أضغط على زر الجرس دون أن ينخلع قلبي، وأن أمضي إلى حجرة الاستقبال دون أن أعثر بطرف سجادة أو قطعة أثاث، وأن ألقى آلي الجدد غير خافض الرأس ولا ملهوج الحديث؛ بل أمكنني أن أتحدث أيضا وأن أضحك إذا دعا الداعي للضحك، في حدود طاقتي. وأسرتي الجديدة أسرة لطيفة حقيقة بالمودة، حبيبتي عنوانها، وحسبها هذا شهادة وثناء، وقد توثقت الأسباب بيني وبين جبر بك السيد فصرنا صديقين، وقربت الألفة بيني وبين نازلي هانم فكأننا ابن وأم. وأسرني الصغيران محمد وروحية بظرفهما، حتى الخادم الصغيرة والجارية السوداء حظيتا بنصيب من ودي، فأحببتهم جميعا حبا دل على ما بقلبي من هيام بحبيبتي وشوق مكبوت للمعاشرة والتودد.
وكان جبر بك السيد من أولئك الرجال الذين لا يبرحون بيوتهم إلا للضرورة القصوى، فإن لم يكن في الوزارة أو في رحلة تفتيشية بالأقاليم فهو في بيته وبين زوجه وأبنائه. بدا لي من أول يوم لتعارفنا مهذبا رقيق الحاشية، ولم يخف عن عيني - على ضعف ملاحظتي - أنه من الأزواج المطيعين، وأن زوجه هي الآمرة الناهية في البيت؛ ولكن ذلك لم يضعف من منزلته، ولعله حظي من حب أبنائه بما لم تحظ به الأم نفسها، ولم يخل من ميل للفخر والمباهاة على تجاوزه الخمسين، وما أسهل أن تلاحظ ذلك إذا سمعته محدثا عن عمله ومركزه وصلاته بأقرانه ومرءوسيه، أو منوها برحلاته التفتيشية وملاحظاته، وما أكثر ما ينتقد المهندسين الشبان ممن تلقوا علومهم في إنجلترا وألمانيا! فيقول: إن علم الهندسة في مصر هو علم الهندسة في أوروبا، وإن القدم لا ترسخ في العلم إلا بالتجربة والممارسة؛ الأمر الذي يتجاهله الشبان. وكان في تلك الأيام قلقا على مركزه بالوزارة، ولا يفتأ شاكيا ما يلقى من اضطهاد سياسي مرده في رأيه إلى صلته بالوزير الوفدي السابق، حتى إنه صرح مرة بأنه يفكر في طلب تحويله إلى المعاش والاشتراك في النشاط السياسي، ولكنه لم يستطع الاسترسال في شرح رأيه لتصدي زوجه له بالمعارضة الحاسمة التي لا تحتمل مناقشة. وكنت أجد حياله شعورين متضادين؛ شعورا بالضآلة لتفاهة مركزي في الحكومة وقلة حظي من الثقافة، وشعورا بالزهو لانتسابي لرجل مثله عظيم في قدره ومركزه وعلمه. أما نازلي هانم فعلى نقيضه؛ ميالة للقصر، مفرطة في السمنة، وكانت على اقترابها من الخمسين ذات وسامة لا بأس بها تدل بلا ريب على ما كانت تتمتع به من جمال في صباها. وكانت على سمنتها المفرطة بالغة في نشاطها ويقظتها وسهرها على رعاية بيتها وأبنائها وزوجها، وقد شكا زوجها مرة إلي حرصها الزائد عن الحد على تنسيق البيت وتنظيفه ومراقبة الخادم والطاهية، وإفراطها في ذلك إفراطا هو أدنى إلى الوسوسة والإرهاق، ولكنه لم يخل في شكواه مما يشي بإعجابه ورضاه. وبدت لي ظريفة في غير ما تكلف، ولشد ما ضحكت من ذكريات تطلعي الصامت إلى الشرفة والنافذة، وقارنت بين حيائي وبين وقاحة الشبان، وعلقت على ذلك قائلة: فمن حسن الحظ أن تكون لرباب، ومن حسن الحظ أن تكون رباب لك، فهي ليست كفتيات اليوم أيضا.
هذا حق، حبيبتي ليس كمثلها شيء، هي الحياة والذكاء والجمال، وإن الأيام لتزيدني بها تعلقا وهياما وإعجابا، ما أرخم صوتها! وما أرشق إيماءتها! وما أجمل رزانتها! وكانت إلى هذا كله أنوثة ناضجة كاملة، وإن عينيها لتطالعاني بالإخلاص والمودة والصدق من غير ما حاجة إلى خفة مصطنعة أو تكلف غير بريء. ولم أكن أفوز بها في خلوة أبدا، ولم تتهيأ لي فرصة للانفراد بها منذ إعلان خطبتنا. وشاقني كثيرا أن أخلو إليها، وأن أتملى بإدامة النظر إلى وجهها الصبيح في أمن من الرقباء. على أنني لم أخل من خوف من مثل هذه الخلوة المأمولة، وما أنا حري بأن أعانيه فيها من عي وحصر وحرج واضطراب، فقنعت بالمبذول لي في حظيرة الأسرة، راضيا آمنا، مكتفيا إلى حين بالنظرة الخاطفة والمحاورة المقتضبة، سعيدا بالنشوة التي يبثها وجودها في قلبي وروحي. ووجدت حديثها لطيفا طبيعيا، لا أثر فيه لشهادتها العالية - وهو ما كنت أحاذره وأشفق منه - فلا تفلسف ولا ادعاء ولا حذلقة.
وتم الاتفاق فيما بيننا على أن يكون الزواج في العطلة الصيفية، ولم يألوا جهدا في إعداد الجهاز، واقترحت نازلي هانم أن ينتقلوا إلى شقة كبيرة على أن أنضم إليهم، ولكن الاقتراح أزعجني وذكرني بأمي، فاعتذرت من عدم استطاعتي قبوله قائلا إني لا يمكنني التخلي عن أمي. وعند ذاك قالت نازلي هانم: والدتك سيدة محترمة ولطيفة، ولكن يبدو لي أنها لا تميل إلى المعاشرة!
Page inconnue