ونهض البواب مبتسما، ودعاني إلى دخول الحديقة، ومضى ليخبر البك. هي الحديقة نفسها، لا تزال تسطع جنباتها بشذا الليمون، تمتلئ سماؤها برءوس النخيل، وتتسرب منها إلى النفس كآبة ووحشة. وأرسلت ببصري إلى الفراندا في نهاية الحديقة، فرأيت البواب يدعوني، فتقدمت وأنا أطرد عن قلبي شعورا بعدم الارتباك. وارتقيت السلم، فطالعني المنظر القديم؛ الرجل والخوان المزركش والقارورة والكأس. مد لي يده وعلى فمه شبه ابتسامة، فسلمت عليه، ثم دعاني للجلوس فجلست على مقعد إلى يمين الخوان. وألقيت عليه نظرة سريعة فرأيت الجسم المكتنز وقد ترهل، واشتد احتقان الدم بالوجه الممتلئ، وغابت العينان في نظرة ذاهلة، وبان للكبر في صفحة وجهه غضون في الجبين وحول العينين، وذبول الخدين. لم أرتح لمنظره، ولكني حرصت على ألا يبدو في وجهي أثر مما في نفسي .. ولاحت مني نظرة إلى القارورة الممتلئة للنصف، فرمقتها بنظرة غريبة، وذكرت كيف تراءت لعيني في الزورة الأولى فقلت لنفسي: لشد ما يسارع الفساد للإنسان! وكان يتلفع بروب حريري وقاية من رطوبة الخريف في تلك الساعة من الأصيل. ولم يداخلني ريب في أنه مفعم خمرا حتى قمته، فساورني القلق، وتساءلت عما دهاني من جنون حتى قمت بهذه الزيارة التي لا رجاء منها. وجعل ينظر صوبي باهتمام، أو لعله حب استطلاع، فعجبت لذاك اللقاء الغريب بين أب وابنه بعد افتراق عمر كامل، وتساءلت في نفسي في دهشة وعدم تصديق عما يقال عن الحب بين الآباء والأبناء. ولم أدر بطبيعة الحال كيف أبدأ الحديث؛ ولكنه أخذ يتكلم فأنقذني من حيرتي، وقال بصوت غليظ: كيف حالكم؟ مات جدك! كان رجلا لطيفا، وأحفظ له ذكريات لا بأس بها على رغم ما كان؛ ولكني لم أشهد جنازته وهو ما لا يغفره كثيرون، على أن الإنسان في مثل سني ينبغي أن يعفى من الواجبات، والشيخ والطفل سيان في ذلك، ولا تنس من ناحية أخرى أن جنازتي لا ينتظر أن يشيعها أحد؛ اللهم إلا عم آدم البواب، ولا يبعد أن يشغل عنها عم آدم نفسه بتفتيش جيوبي وسرقة ما يظنه بها من نقود، هل تشيع أنت نعشي؟! •••
دهمني سؤاله بعد قلق استحوذ علي بتأثير لهجته الثملة، فأيقنت أن مهمتي ستكون شاقة مخيفة، ولكني بادرته قائلا: أطال الله بقاءك!
فقهقه ضاحكا، ورأيت أنه فقد ضروسه، فساءني منظره وضحكه، واستدرك قائلا: يا لك من ولد بار؛ فجميل جدا أن تحب أباك وتدعو له بطول العمر! والبر بالأب سجية فاضلة لم يكن لي منها نصيب وا أسفاه! ولو أوتيت قدرا من الرياء أو حظا من الصبر لكنت الآن من أغنياء البلد المعروفين، مثل عمك، قاتله الله، ألم تر إليه كيف لم يقنع بما ورث من مال لا تفنيه النار حتى استأثر بأخيك مدحت - ذلك الثور - فزوجه ابنته؟! ولقد ظننته يوما سيعتنق مذهب الطلاق كأبيه، ولكنه يبدو خانعا كالنساء، وانقلب فلاحا مزارعا يشارك القطعان معيشتها، ولعله يحلم بثروة عريضة بعد موت عمه، ولكن خاب فأله، فلزوجه أخوات ست كلهن مطمع الفحول من عشاق المال والنساء! ولذلك أقول إنه من التعاسة أن تنجب بنات، هذا عار كبير مهما قالوا إن الزواج نصف الدين! إلا إذا كان النصف الآخر هو الطلاق .. ثم غير لهجته .. لماذا لا تطلب يد إحدى بنات عمك؟! ألا تعلم بأن ميراث الواحدة منهن لا يقل عن مائة جنيه كل شهر؟ ولكن دعنا من هذا كله واسمح لي أن أنظر في وجهك قليلا، فإني لا أكاد أعرفك. ما شاء الله، أنت رجل لا ينقصك إلا الشارب، لماذا لم ترسل شاربك؟ .. ثم إنك رجل جميل، ولكنك نحيل مهزول كأنك لا تأخذ كفايتك من الطعام؟ عار أن يكون شاب في مثل سنك نحيلا. ومع ذلك فيا لها من سعادة أن يرى الأب ابنه رجلا، خصوصا إذا كان يراه لأول أو لثاني مرة! ألا ترى أني أب عجيب؟ لقد أنجبت ثلاثة ولكني وحيد مهجور، ولست ساخطا على حظي؛ لأنه من السعادة أن تبقى وحيدا، وما من مرة خلوت بإنسان قط إلا وافترقنا خصمين، وهم يقولون عادة إني مخطئ، وأنا أقول إنهم لمخطئون، فالله يفصل بيننا يوم القيامة. لا تدهش إذا سمعتني أقتبس من القرآن! فإنما الفضل في ذلك إلى الراديو، ولقد باعدت بيني وبين الدنيا ولكن الدنيا تأبى إلا أن تقتحم علي داري في الراديو. أهلا أهلا .. أنت ولد بار يا كامل، ولكن ينبغي أن تعتني بصحتك، وتأخذ كفايتك من الطعام حتى تسمن، ألم يترك جدك ثروة؟!
كنت جزعا يائسا لا أدري كيف أطرق الموضوع الذي جئت من أجله في ضوضاء تلك الثرثرة التي لا ضابط لها، واشتد جزعي ويأسي حين رأيته - في أثناء ثرثرته - يملأ كأسا جديدا، ولكني انتهزت فرصة طرحه السؤال الأخير وقلت بلهجة لا يشوبها شك: لم يترك جدي شيئا على الإطلاق!
فهز رأسه الأصلع الأحمر كأنه يقول «هذا ما توقعته»، ثم قال: مرتب عال، ذرية قليلة، معاش ضخم، ثم لا يترك شيئا، كان رحمه الله مقامرا، والمقامر يفضل أن يخسر نقوده على المائدة على أن يكنزها في المصرف، وما هو إلا طفل قد تمكن من قلبه حب اللعب، ولست ألومه لأني بدوري شريب سكير، والفرق بين المقامر والسكير أن الأول عملي يضارب ويخادع ويكسب ويخسر؛ أما الآخر فنظري يحلم ويحلم ويحلم. إذا طمع المقامر في الثراء قامر بثروته في اللعب فيخسرها على الغالب، ويمني نفسه بتعويض خسارته، فما يزداد إلا خسارا حتى إذا مات لم يترك شيئا .. يترك دينا ثقيلا، والغريب في الأمر أن المقامرين جميعا يخسرون ولا أدري من يربح إذن؟! أما الشريب فإذا طمع في الثراء وجده محضرا بين يديه دون أن يكلفه ذلك أكثر من ثلاثين قرشا ثمن قارورة كهذه. أتقول إن ذلك محض وهم؟! ليكن، وهل ثمة شيء في الدنيا إلا وهو وهم وخيال؟! أين جدك؟! .. كان جدك حقيقة ملموسة فأين هو الآن؟! شمر للبحث عنه فلن تجد له أثرا .. فتش عنه في البيت، وفي المقهى، وفي النادي، بل انظر في القبر نفسه، وهاك رقبتي إن وجدت له أثرا، فكيف يكون حقيقة؟! رحمه الله! وماذا فعلتم بعده؟ أما زلت طالبا؟!
فقلت وأنا أداري حنقي وجزعي بابتسامة باهتة: تعينت موظفا بوزارة الحربية!
فرفع كأسه ضاحكا وقال: نخب مستقبلك! ما شاء الله! أسرتنا مجيدة ولكن ليس بها من موظف واحد، فأنت الذي تشق طريقها إلى الحكومة!
ولم أتمالك أن قلت بضيق: لست إلا موظفا صغيرا، وليس لي مرتب يذكر!
فرمقني بنظرة توجس من تحت حاجبيه الأشيبين وقال بغير مبالاة: لا تجزع، الصغير يكبر حتما .. قضت حكمة الدنيا بأن الصغير يكبر والكبير يصغر .. والظاهر أن الله خلق ثروة محدودة واحدة، لا يتغير مقدارها، ويتغير حظ الناس منها، وإلا فلماذا لا يثري الناس جميعا؟ فاصبر يا بني ولا تشغل نفسك بالتفكير في المال. التفكير في المال مهلكة كادت توردني في يوم من الأيام، إني أعجب لماذا يحب الناس المال هذا الحب الكبير! لست في حاضري من محبي المال، أنا لا أحب إلا الخمر، ولو أحب الناس جميعا الخمر كما أحبها، واستهانوا بالمال، لأمكن حل مشكلة الدنيا بكلمة واحدة. تصور معي بلدا سعيدا، يشطرونه شطرين فيشيدون المساكن على اليمين والحانات على اليسار والحكومة في الوسط، ولا يكون للناس من واجب إلا أن يشربوا، هذا بلد يريح ويستريح، ألا تشرب يا بني؟ كلا! فماذا تعتنق من الشرور؟ إن قيمة المرء الحقيقية فيما يعمل من شر، هبني مت غدا ولم أكن سكيرا، فما عسى أن يقول عني الناس؟ لا شيء! أما وأنا شريب فسيقولون حتما كان شريبا سكيرا. بل ولو كنت أتصدق بمالي هذا على الفقراء لما ذكرني أحد بكلمة، الناس ينسون الخير بسرعة ولو كانوا من صنائعه، فالشيء الوحيد الذي يخلد ذكرك هو الشر .. ما رأيك في كلامي هذا؟!
ولم أجد من الإجابة مفرا، فقلت: يجب أن نخاف الله ونطيعه.
Page inconnue