وزاد من التياعي أنني جعلت أراها في الأصائل كما أراها في الأبكار؛ لأنني كنت أغادر البيت عصرا كما يحلو لكثير من الموظفين في غير معارضة من أمي التي لم يعد بوسعها أن تعارض في ذلك، وكنت أهرع إلى محطتي القديمة تلقاء بيتها، فأقف بين المنتظرين مستطلعا مشرق روحي بطرف مشوق، فأحيانا أرى الأم أو الأب أو الأخ أو الأخت، وأحيانا أراها في فستان بسيط أنيق من فساتين البيت يزلزل نفسي زلزالا شديدا.
لم أعد أرى لحياتي أملا إلا في الرفيق الأنيس، فهمت بها هياما، واستأسرتني رغبة صادقة حارة في السعادة التي لم يكن لها من معنى في نفسي، إلا أن أفنى فيها وأن تفنى في. بيد أنني لم أتجاهل العقبات، وهل كان دأبي إلا تكبير العقبات؟! فلم أنس أنني في أول الطريق وأن مرتبي سبعة جنيهات ونصف. ثم لاحظت بمزيد القلق أن ثمة رجلين يقفان معنا في المحطة صباحا لا يفتآن ينعمان النظر في وجه الفتاة باهتمام. أما أحدهما فرأيته يخرج مرات من العمارة التي تقيم فيها، وهو رجل في نحو الأربعين تلوح في وجهه آي الرزانة والوقار، ويتسم بطابع الموظفين الممتازين. وأما الآخر فشاب في الثلاثين، ميال للضخامة والبدانة مع أناقة ووجاهة، إلا أن إيماءاته ونظراته تنم عن العجب والزهو. وعجبت لتطلعهما المتواصل إليها، وما من داع إلى العجب، ولكني ظننتني - ويا له من ظن مضحك - أول من تهيأ له كشف ذلك الكنز. وثار بي الغضب والحنق، وتلوت دودة الغيرة في سويداء قلبي. إنها لا تحيد عن نظرتها المستقيمة، ولكن ترى هل تجهلهما حقا كما تجهلني؟ خصوصا هذا الجار الذي يقطن تحتها أو فوقها؟ وتقبض قلبي فزعا ويأسا ورمقتها بغيظ كأنها المسئولة عن اهتمام الناس بها؟
واطردت حياتي بين عمل ممقوت وحب حائر غريب ...
وكان بيتنا في ذلك الحين يعد من البيوت السعيدة؛ اطمأنت قلوب أهله، فسكن خاطر الشيخ الهرم، وقنعت أمي بما قسم لي ولها. بيد أن جدي قال لي يوما بلهجة ساخرة: ألا اخجل يا رجل وابتع لك فراشا! أتظل الدهر تنام في حضن أمك؟!
وابتعت بالفعل فراشا؛ ولكني ركبته في نفس الحجرة فظلت تحوينا معا، وهي الحجرة التي رأيت فيها نور الدنيا.
19
ثم كان صباح تاريخي في حياتي إذ وقع بصرها علي، والتقت عينانا وهي قادمة نحو المحطة، وارتعشت جوارحي وتساءلت وأنا أعاني الحياء: ترى ألم تذكر الفتى الذي رأته يوم لبت نداء روحي؟! وأسكرتني نشوة لم يخمدها مجيء الرجلين المنافسين نفسه. وحملنا الترام جميعا حتى محطة الوزارة فغادرته، وهرعت إلى الطوار ثم بعثت بناظري إلى مقصورة السيدات، وكانت تجلس في الصف الآخر ووجهها إلى ناحيتي، فالتقت عينانا مرة أخرى، وغضضت بصري في حياء وصدري بالسعادة يبترد، ثم غمغمت لنفسي وأنا أجد في السير «برح الخفاء وافتضحت!»، وقد تذكرت سعادتي عصرا وأنا جالس في حجرتي غير بعيد عن أمي، فقلت لنفسي وأنا أختلس منها نظرة غريبة: «آه لو تدري بأفكاري!» ألم تعلمني تجاربي الماضية أن مثل سعادتي هذه مما تعده هي - أمي - كفرا لا يغتفر؟! هذه حقيقة لم تغب عن خاطري قط، ومع ذلك بدت لي وقتذاك غريبة مستنكرة كأنما أكتشفها لأول مرة، وسددت نحو الوجه الوقور الجميل نظرة احتجاج واستياء، وقلت لنفسي متغيظا: «ربما كان الضرر يقع بي أخف لديها من كشف حبي!» ولعلي بالغت كثيرا، ولكن سيرتها الماضية جعلتني لا أرنو إلى الجانب البهيج من الحياة إلا في خوف وحياء شديدين من ناحيتها! وكأنما ضقت بكتماني سعادتي في حضرتها، فغادرت البيت مسرورا وهرعت كالمعتاد إلى المحطة القديمة، وسبقني بصري فوقع على الشقيقتين وراء زجاج النافذة، فتقدمت في سعادة غامرة، أمشي على استحياء .. واندسست في زحمة الواقفين وقلبي يتمنى ألا أبرح المحطة حتى يسدل الليل سدوله. وكان الجو شديد البرودة، فداخلني سرور بأني أتحمل قسوة الجو في سبيل نظرة من عينيها. ولم أشك في أن طول قامتي ومعطفي الأسود خليقان بأن يذكراها بي. ورفعت عيني في خوف شديد فرأيتها تنظر صوبي، وإن لم أتمكن لبعد المسافة من تحديد تحديقة عينيها، ومع ذلك سرت إلى أطرافي رعدة السرور. وجاء الترام على رغمي، ودفعني الخجل دفعا إلى ركوبه.
لم يعد لحياتي من غاية إلا المحطة وصاحبة المحطة. قصاراي أن أسترق النظر بعينين خجولتين، وأن أخفضهما سريعا إذا رنت إلي العينان اللتان أحبهما أكثر من الحياة نفسها. ولم تعد فتاتي تجهلني كما جهلتني أشهرا أربعة، فأحست بلا شك أن فتى يتطلع إليها حيثما تحل، وأنه يتعمد ذلك في صبر طويل وإن كان لا يبدي حراكا. بل ابتسم الحظ فجعلت أفوز بنظرة كل يوم تقريبا. وإن بدا أن الاتفاق وحده هو باعثها، نظرة عابرة تلقى على المكان كله فتصادفني في جانب منه! وفيما عدا ذلك فقد حافظت على وقارها واحتشامها. أجل ما عادت تجهلني مهما تجاهلتني، وإنه لظفر رائع - بالقياس إلى عجزي - أن تحس وجودي بعد ذلك النضال الصامت الطويل. وثابرت على النظر والصبر وكأنني أنتظر أن تجيء الخطوة التالية من ناحيتها هي، أو من رب السماوات والأرض!
تلك أيام حلوة سعيدة على خلوها من الأمل، أنفقتها في إحساس عميق بهيج وأحلام لا يحيط بها الخيال، رفت على قلبي في طهر وقداسة. وقد أوصدت دونها باب خلوتي الليلية ، ولذتي الشيطانية. •••
وتبين لي بعد حين أن سري المكنون يتسرب من أعماق صدري على تكتمي وحرصي. لا أدري كيف حدث ذلك، ولعل الأمر لم يعد أنني أنسى نفسي في لحظات الهيام، فتقع العين مني على ما أحرص على كتمانه. وما أدري يوما إلا والرجلان «المنافسان» يرمقانني بريبة، وكأنهما فطنا إلى ظهور منافس جديد. ويوما مرت بي في موقفي من المحطة خادمة الفتاة فألقت علي نظرة ذات معنى ذاب لها قلبي ذوبانا، وساءلت نفسي في خوف وسرور: ترى هل بلغ سري البيت نفسه؟! ثم غمغمت في حياء بالغ: «افتضحت وما كان قد كان!»
Page inconnue