وفي صباح اليوم الخامس أطلت وقفتي حيال المرآة قبل أن أغادر البيت، وألقيت على صورتي نظرة متفحصة. ينبغي أن أعترف هنا بإعجابي الشديد بذاتي! فلم تكن أنانيتي بقاصرة على سلوكي، ولكنها امتدت إلى حب الصورة والإعجاب بها. ولشد ما أنعمت النظر إلى هاتين العينين الخضراوين الواسعتين، وهذا الأنف الدقيق المستقيم، وهذا الوجه الطويل المتناسق ذي البشرة البيضاء .. وكان تأنقي مضرب الأمثال في البيت والمدرسة على السواء، حتى لأذكر قول أستاذ اللغة العربية لي مرة: «لو أتقنت العربية إتقانك لعقد رباط رقبتك لما كنت أسوأ تلميذ عندي!» نظرت إلى صورتي طويلا ذاك الصباح، وجعلت أمي ترمقني بإعجاب وتمازحني بكلمات كالغزل، فقلت لنفسي: آه لو تدري لمن أنا أتأنق! وغادرت البيت في ارتياح مطمئنا إلى ما عسى أن يتركه منظري من أثر حسن في نفس الفتاة إذا شاء القدر أن يلفت عينيها إلي. بيد أن ارتياحي لم يطل، وذكرت أمرا طالما نغص علي صفوي ، ففتر حماسي .. ذكرت ما رميت به كثيرا من ثقل الدم، ولم أستبعد في تلك اللحظة أن يكون ذلك العلة في إخفاقي في اكتساب صديق واحد، وسرعان ما تكدر صفوي وتجهمت لي الدنيا .. وسرت بخطا ثقيلة حتى انتهيت إلى المحطة. ودار بصري ينقب في مكانها حتى استقر عليها في الشرفة تحتسي الشاي كما رأيتها أول مرة. هناك نسيت كدري وهمي، وانشرح صدري، وانبعث السرور في كل قطرة من دمي. هناك أدركت أنها سروري وفرحي، وأنها روحي وحياتي، وأن الدنيا من غير طلعة محياها لا تساوي ذرة من رماد! •••
وواظبت على ذاك الموعد الذي لا يدري به الطرف الآخر شهرين أو يزيد، يوما بعد يوم دون انقطاع أو تأخير. تطلعت بناظري حتى كل البصر، ووهبتها الإعجاب والاحترام عن طيب خاطر حتى نؤت بهما، وتمليت السرور والأحلام حتى نسيت الحقيقة والواقع، وسحت في دنيا الهيام حتى سلبت العقل والرشاد، حفظتها عن ظهر قلب؛ طولا وعرضا، إيماءة ولفتة، وقفة ومشية، سكونا وحركة، وعرفت من وراء زجاج النوافذ أسرتها من أب وأم وأخت وأخ. كل هذا وهي لا تدري بي، ولا تحس لي وجودا، وكأنني بالنسبة إليها ليس من سكان هذا الكوكب. وأمضني الجزع والضيق، وأحرقتني الرغبة في إثبات وجودي، ولكن شدني عجزي إلى موقفي لا أتعداه. حلمت في شرودي كثيرا بأني أعترض سبيلها وأتبعها، أو أني أبوح لها بإعجابي واحترامي. أما في الحقيقة فلم تكن تبرز من باب العمارة حتى ينقبض قلبي حياء وخوفا، وحتى أتهيأ لغض بصري فيما إذا اتجه بصرها نحوي. ولعله كان أسهل علي أن أرمي بنفسي من جسر الملك الصالح من أن أصمد لنظرة من عينيها. وكنت أتساءل في يأس وجزع: متى تنتبه لوجودي؟ متى تدري أن هناك قلبا غريبا يكن لها من الوداد أضعاف ما يكنه لها الوالدان؟! .. أليس غريبا أن يمر شخص مر الكرام بقلب يود لو يفرش شغافه تحت قدميه؟!
وتركزت أفكاري - تلك الفترة - في قلبي بآلامه وآماله، مخاوفه وأفراحه، وشعرت شعورا قويا بحاجتي إلى نصيح أو مشير، وكانت أمي هي صديقي الوحيد في دنياي، ولكني لم أتوجه إليها بطبيعة الحال في أزمتي تلك لشعوري بأنها ستقف من رغبات قلبي موقف العداوة! .. بيد أني وجدت في بعض المجلات التي يقرؤها جدي صفحات مخصصة لأسئلة القراء، فأملت أن أظفر منها بالمشير الذي أفتقد. وأرسلت إلى إحداها هذا السؤال الذي أقض مضجعي: «رجل ثقيل الدم، أليس ثمة أمل أن يحبه محبوبه؟». وكان جواب المجلة: «الحب سر من الأسرار لا شأن له بالخفة ولا بالثقل، وقد يتعامى عن القبح والدمامة، فلا تخف على حبك من ثقل دمك، وإذا جاز لنا أن نتفلسف عن طبيعة المرأة فلعله يصح أن نقول: إنها مغرمة بالقوة والشجاعة». سررت بمطلع الإجابة، فلما أن بلغت ختامها خامرني شعور بالخيبة، وتساءلت عما يعنيه بالقوة .. آه! لست قويا على أي حال، والحق أن إدماني العادة المرذولة جعلني نحيفا أكثر مما ينبغي وأضفى على بشرتي شحوبا، وعندما ذكرت الشجاعة لم أتمالك نفسي من ضحكة مريرة، وعددت ما يخيفني في هذه الدنيا من الأناسي والأجواء والفيران والصراصير، فعصر اليأس قلبي!
ولكنني لم أسلم لليأس؛ لأن النار التي تستعر بنفسي كانت أقوى من أن تخمدها ضربة من قبضة اليأس الباردة، فأرسلت إلى المجلة هذا السؤال: «كيف أجذب محبوبتي؟»، وكان الجواب: «اذهب إلى أبيها أو ولي أمرها واطلب يدها إليه وإني كفيل بأن تحبك». رباه، ما أقسى المجلة! إنها لا تدري أني طالب، وأن أمامي أربعة أعوام - أو ثمانية - قبل أن أصير رجلا مسئولا، وأنني فوق هذا كله أقدر على اقتحام أبواب جهنم مني على طرق باب محبوبتي لأطلب يدها .. يا أسفا، ألا يعلم هؤلاء الناس ما الخجل؟! ما أراني إلا مقضيا علي بالهيام الصامت المنفرد وحبيبتي على قيد خطوة مني!
17
واعترض سبيلي حادث لعله في ذاته تافه، ولكنه غير مجرى حياتي، وكانت حياتي الدراسية نزاعا متواصلا بين عقلي الراكد ونفسي الشاردة يتمخض - كما تمخض في الماضي - عن عناء شديد وثمرة قليلة. وقد بات الشرود لدي ملكة آسرة غلبت على نفسي جميع قواها العقلية، حتى أشفقت من ألا أنال الليسانس قبل الخامسة والثلاثين! على أني عرفت من خطورة دراسة القانون أشياء غاب عني شيء لا يكاد يقيم له الطلبة وزنا، بل يقبلون عليه في سرور ويعدونه رياضة ولهوا، ذلك هو درس الخطابة. وكان يلقى علينا مرة في الأسبوع في مدرج عام يحضره جميع طلبة القسم الإعدادي. وفي أثناء الشهرين الأولين استمعنا إلى دراسة نظرية في فن الخطابة، ثم بدأ التدريب العملي. وطفق الأستاذ يدعو الطلبة إلى ارتجال الخطب في الأغراض المختلفة، فكانوا يخطبون بطلاقة، وبأصوات جهورية في ثبات وشجاعة، ورحت أنصت إليهم في دهشة مقرونة بالإعجاب البالغ، مأخوذا بطلاقتهم وشجاعتهم، مذهولا لمقدرتهم على التصدي لهذا الموقف الرهيب حيال هذا الجمع الحاشد، فكنت أتطوع بالخجل نيابة عنهم حتى يتفصد جبيني عرقا! وما أدري في أحد الأيام إلا والأستاذ ينادي: كامل رؤبة لاظ!
ونهضت قائما بحركة عكسية، في الصف الأخير من المدرج - المكان المفضل عندي - حيث لا تقع علي عين .. وأحدث اسمي اهتماما ساخرا، فهمس أحدهم قائلا: هذا حفيد لاظوغلي!
وتساءل آخر: اسم هذا أم فعل؟!
وقفت مبهوتا خافق الفؤاد، فقال الأستاذ: تعال إلى المنصة!
وتسمرت في مكاني في ارتباك لا قبل لي به، رغبت أن أعتذر ولكن بعدي عن الأستاذ كان يوجب علي أن أعلي صوتي فيسمعه الجميع، فسكت على رغمي. ونظر الأستاذ إلي دهشا، ثم قال: ما لك واقفا لا تتحرك؟ .. تعال إلى المنصبة.
Page inconnue