وتنهدت أمي من الأعماق وقالت وعيناها تدمعان: ألم أقل لك؟! .. إن راضية فتاة طاهرة ولكنها تعيسة الحظ، رباه .. أين هي الآن؟ خبرني بكل ما تعلم.
فقال جدي بهدوء: سافرنا إلى بنها، أنا وعمها ومدحت ، فوجدناها في أسرة طيبة محترمة، وتعرفنا إلى زوجها، وهو شاب موظف بالحقانية يدعى صابر أمين، فأخبرنا أنه استأجر شقة بشارع هدايت بشبرا وأنه سينقل إليها هذا الأسبوع. وقالت راضية: إن زوجها تقدم لخطبتها ولكن أباها رفضه بغلظة، وأنه رفض قبله شابا آخر تقدم لخطبتها كذلك .. ولعلها الخمر التي لم تبق على ذرة من إنسانيته فأنسي واجباته وبدد مرتباته، واستبد بها اليأس فهربت مع الشاب، وسافرا إلى أسرته حيث كان المأذون في انتظارهما.
وأصغت أمي إليه وهي تبكي بكاء حارا، بعثه الحزن والارتياح معا، ثم قالت: سأسافر إليها غدا!
فقال جدي بتأكيد: ستجدينها في بيتها غدا أو بعد غد.
وعادت تتساءل: لماذا لم تأت إلي أنا؟
فقال جدي كمن يعتذر عن الفتاة: لعلها خجلت أن تأتي بخطيبها إلينا وهي هاربة من وجه أبيها، وعلى أية حال لنحمد الله على هذه النهاية التي لم نكن نحلم بها.
9
ركبنا الحنطور جميعا لأول مرة، فجلس جدي وأمي في الصدارة، وجلست على المقعد الخلفي. كانت أمي من الفرح في نهاية، وقد بدت بعد ما عانت في الأيام الأخيرة من هم وحزن وكأنها استردت شبابها الأول .. كانت عيناها تتألقان بنور السرور البهيج، وكان لسانها يسبح بالحمد والشكر. وانتقل سرورها إلى صدري ففرحت برحلتنا السعيدة. وجعلت أفكر في شقيقتي التي سأراها لأول مرة بعد دقائق بدهشة وسرور وقلق لم أدر له سببا، ترى ما شكلها؟ وكيف تلقانا؟ وهل تحبنا؟ وقطعت أمي علي حبل أفكاري فسألت جدي بلهفة: هل أجد مدحت هناك؟
فقال جدي وقد اعتمد مقبض عصاه بيديه: الراجح أن يكون هناك .. لقد تواعدنا على ذلك. ولاحت في عينيها نظرة حنان ورجاء. وسارت العربة ميممة شبرا. ورحت أتسلى بمشاهدة المارة والعربات والترام، حتى بلغ الحنطور مقصده، وانعطف إلى شارع هدايت، ثم وقف أمام بيت متوسط الحجم، مكون من ثلاثة أدوار. وغادرنا العربة وصعدنا إلى الدور الثاني وأمي تقول بصوت كالهمس: ما أشد خفقان قلبي! ودق جدي الجرس، وفتح الباب ودخلنا .. رأيت فتاة وشابين، وقبل أن أعاينهما هرع اثنان منهما إلى أمي، فلم أر إلا عناقا حارا، ولم أسمع إلا تنهدات الدموع. رمقت الثلاثة بحيرة وخجل وصمت. وطال العناق، وطال البكاء، حتى تدخل جدي بينهم ضاحكا وهو يقول: إليك زوج ابنتك صابر أفندي أمين.
وتقدم الشاب من أمي فقبل يدها، وقبلت جبينه، ولم ألبث أن رأيت نفسي محط أنظار الجميع. وقالت أمي وهي تبتسم خلال دموعها: أخوكما كامل.
Page inconnue