بلغت الديوان بعد الثامنة بعشر دقائق، وعكفت على عملي، ولكن العمل لم يستطع أن يغيبني عن نفسي، وعدت بفكري إلى رباب فتمثلت لي نظرة عينيها الساهمة واستشعرت وحشة لم أدر لها سببا، وحاولت أن أفنى في العمل ولكني لم أفز بطائل، وغلبتني على أمري نفسي التي تخلق المخاوف من لا شيء؛ فاشتد بي القلق وجعلت أقول لنفسي: إن رباب عجزت عن العودة إلى بيتها، وهي تبدو مهزولة متضعضعة فكيف أطمئن؟! كيف أتركها؟! ولم يكن تهافت قلبي حيال أخف الملمات بجديد علي، وطالما جافاني النوم لوعكة خفيفة تنتاب أمي، فلعل ذلك الخوف كان أثرا من هذا التهافت المقيم. أفظع بها من كآبة ثقيلة! إن قلبي ينقبض في خوف وألم، وكأنه يكاتم صرخة استغاثة تحاول أن تنطلق. لماذا أعذب نفسي بتجرع غصص انتظار لا موجب له؟ وعند ذاك طويت الأوراق واستأذنت في الانصراف معتذرا بمرض زوجي. وغادرت الوزارة في منتصف العاشرة، فبلغت البيت قبل العاشرة بدقائق .. وكنت كلما اقتربت من البيت ازداد قلبي وحشة، حتى دخلته فيما يشبه الهلع، ودققت الجرس، وفتح الباب بعد قليل، ولشد ما كانت دهشتي حين رأيت أمامي الدكتور أمين رضا، وكان هو الذي فتح الباب، وكانت الصالة الصغرى التي يفتح الباب عليها مغلقة الأبواب وليس بها سواه، ولم أكن رأيته منذ اجتماعنا في مأدبة الغداء بهذا البيت. ترى ما الذي جاء به في هذه الساعة المبكرة؟! وما الذي أبقاه وحده في هذه الصالة المغلقة؟ ومددت له يدي وأنا أقول: السلام عليكم!
فمد لي يده قائلا: «وعليكم السلام.» وكأنني لاحظت أنه يحدجني بنظرة غريبة من وراء عويناته، فقلت له: ألا تتفضل بالدخول؟
فتحول عني وهو يقول: إني منتظر في حجرة الاستقبال.
واتجه بالفعل نحو باب الحجرة، وفتحه ودخل، ومضيت إلى باب الصالة الكبرى وفتحته ودخلت، وسرت نحو حجرة نازلي هانم، ولكنني ما قطعت خطوتين حتى قرع أذني صوت غريب لا أدرى كيف أصفه، أكان تنهدا طويلا؟ أكان صراخا مكتوما؟ ولكنه كان آتيا بلا ريب من وراء باب الحجرة المغلقة؛ حجرة رباب! واندفعت نحو الباب، وأدرت الأكرة وفتحته، ودخلت خافق الفؤاد من الهلع، واتجه بصري إلى الفراش فرأيت رباب نائمة، مغطاة إلى عنقها، وقد التف منديلها حول وجهها من قمة الرأس إلى أسفل الذقن مارا بالأذنين، كانت عيناها مغمضتين، وبشرة وجهها شاحبة باهتة يشوبها بياض مخيف. لقد بعث الوجه المعصوب في نفسي ذكريات غامضة لم أجد وقتا لتوضيحها، ولكنه حرك رعبا كامنا في أعماقي، ثم تبين لي في اللحظة التالية أن نازلي هانم جالسة على طرف الكنبة دافنة وجهها في وسادة الفراش، مغرقة في نحيب موجع، وأن «صباح» واقفة عند أسفل الفراش تولول باكية، فلم تنتبه لدخولي!
رباه! .. هل حقا ماتت رباب؟!
60
هتفت كالمجنون: خبراني ماذا حدث؟
والتفتت نحوي صباح وصاحت وهي تنشج: سيدي .. سيدي ...
ورفعت المرأة وجهها في فزع ظاهر، وحملقت في وجهي بعينين محمرتين، ولبثت لحظة جامدة لا تتكلم ولا تبكي، كأن محضري كان عليها أشد من الموت، ثم شهقت وأفحمت في بالبكاء. رددت بصري بين المرأتين في ذهول، ثم استقر بصري على الوجه المعصوب. كيف أذعن لحكم هذا الواقع المخيف؟! ونازعني قلبي المتفتت إلى أن أرتمي على زوجي، وأن أبكي وأصرخ حتى أموت. بيد أني لم أبد حراكا، سمرتني قوة غريبة في مكاني، وملأتني قسوة وجنونا .. واجتاحتني ثورة عارمة تتحدى قوة الموت نفسه وبطش القضاء. أبيت أن أصدق عيني، واستعصى علي الاقتناع. ما معنى هذا؟ ولوحت بيدي للأم وسألتها بصوت كنت أسمعه لأول مرة: كيف؟ .. كيف؟
فبسطت ذراعيها في قنوط وقد خنقتها العبرات، ولكن صباح أقبلت نحوي في حال من الهذيان مرعبة وصاحت بصوت مبحوح: العملية المشئومة! .. لعن الله العملية.
Page inconnue