ثم حكى لها ما قالته ماريانا بعد انصرافها، وكيف أنها لم تغضب حين قبلها، فكيف تغضب الفتيات الماجنات؟ ... فأخذت تضحك حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وثابت إلى الحصافة فأوصته أن يزور «ماريانا» في اليوم التالي ويثابر على سؤالها بضعة أيام، ثم ينسى المسألة كأنه ألقى بها في ذمة المصادفات.
وانطوت المسافة إلى حديقة الأهرام بمثل لمح البصر، وزعم همام وهو يناول السائق أجره أن سيارته أسرع ما أنجبته المصانع الحديثة، وأنه حرام عليه أن يشترك بها في سباق السيارات.
وخف كل شيء في الدنيا حتى أشفقا أن يذهل قانون الجاذبية عن واجبه المرسوم، وشعرا بهذه الخفة من حولهما، ولا سيما حين بصرا بالمكان خاليا من كل إنسان، فانطلق الكلام كأنه ثرثرة الأطفال، وانبعثا معا في خلق جديد.
وطلبا الطعام فظهر لهمام أن صاحبته من صاحبات النظام المتحذرات من كل ما يجلب السمنة في طعام وشراب، فصدقت على كل ما اقترحه عليها إلا صفحة شواء لا تشبع، فأراد أن يحذرها من القسوة على جسدها، وقال لها إن بعض الأجسام إذا خف لم تكن خفته على استواء واحد، فيخف هنا ويسمن هناك ويشوه من حيث يراد له حسن الهندام، ولا ينال أصحابه إلا الجوع والندم!
فنظرت إليه بعيني طفلة تخاف، وسألته مستوثقة: أحق ما تقول؟
قال: حق كل الحق، وسأريك إذا زرتني في المنزل صور التماثيل التي يعدونها في العالم بأسره نماذج لجمال الأنوثة، فإن تماثيل الزهرة التي صنعها اليونان - وهم أساتذة الذوق السليم - ليست على نحافة ولا ودقة في الخصور والأطراف، ولكنها مثال الجسم المتين المنسوق. وسيفسد علينا سماسرة البدع الحديثة تنويع الجمال في بنات حواء. فأين نرى البضاضة والسموق إذ أصبح النساء وكلهن نحيفات هزيلات؟ وكيف تتعدد القوالب إذا كانت المرأة لا تخلق لنا إلا في قالب واحد؟
وسرها ما سمعت فسألته عفوا: أيعجبك إذن هندام جسمي على ما هو عليه؟
قال متماجنا: ومن أين لي أن أحكم؟
ثم أحجم عن التمادي في هذه النغمة، وأيقن أنهما في هذه الخفة التي يشعران بها ليستطيعان أن يتحدثا عن الموت كما يتحدثان عن الرقص واللهو والمجانة، وأحب أن يتحول الحديث إلى قصة الزواج التي وعدته أن تقصها عليه، والتي يتوقف على فهمه إياها أن يفهم مدى العلاقة التي ستجمعه بهذه الفتاة الجالسة في تلك الساعة أمامه، فقال وهو لا يحذر من تنغيصها باستطراده: إن كنت لا ترضين زوجا بالتماس النحافة فعلام كل هذا العناء؟ أهناك رجل آخر؟
وصح ما قدره همام، فكان جوابها على نغمة الخفة التي شملت في تلك الساعة كل شيء، وقالت: أوتحسب أن المرأة لا تتزين إلا لزوج أو حبيب؟ إنها لتتزين لنفسها، وإنها لتتزين للرجل الذي في عالم الخيال، ولو لم يكن له في عالم الواقع وجود.
Page inconnue