ودونك مثالًا مما كان يكتبه الفارياق في أساطير بعير بيعر. في هذا اليوم وهو الحادي عشر من شهر آذار سنة ١٨١٨ قصَّ فلان ابن فلانة بيت فلانة ذنب حصانه الأشهب بعد أن كان طويلًا يكنس الأرض. وفي ذلك اليوم بعينه ركبه فكبا به. فإن قلت ما سبب النسبة إلى الأم دون الأب قلت أن بعير بيعر كان من المتديّنين، المتورعين المتقين. فنسبة الولد إلى أمه أصح وأصدق من نسبته إلى أبيه. فإن الأم لا تكون إلا واحدة بخلاف الأب ولكون الجنين لا يمكنه الخروج إلا من مخرج واحد، ومن ذلك اليوم نظرت سفينة في البحر ماخرة فظُن إنها بارجة قدمت من إحدى مراسي فرنسا لتحرير أهل البلاد، لكنه عند التحقيق ظهر أنها كانت زورقًا مشحونًا ببراميل فارغة وكان سبب قدومه للاستقاء من عين كذا. فإن قيل أن هذا خلاف المعهود، فإن من شأن الكبير أن يبدو للعين عن بُعد صغيرًا لا عكسه. قيل أن الإنسان إذا أعطى نفسه هواها رأى الشيء بخلاف ما هو عليه. فمن أحب مثلًا امرأة قصيرة لم ير بها قِصْرًا. ومنخلا بمحبوبته في فترة رآها أوسع من صرح بلقيس. فإنا نرى النور الصغير عن بُعدٍ كبيرًا. فلا غرو أن يبدو الزورق بارجة أو شونة. فإن القوم هناك ما زالوا يحملون بأن رؤوسهم قد تبرطلت ببراطل الفرنساوية ولحموا عرضهم بعرضهم حتى يروا نساءهم كما قال الشاعر:
تصيد ظباؤنا الأسدُ الضواري ... بلحظ أو بلفظ في المسالك
وغزلان الفرنج تصيد أيضًا ... بذَيْن معا وبالأيدي كذلك
وكان بعير بيعر سُتْهمَا جَعْظَرا أُحرقه. لكنه كان حليمًا يجب السلم والدعة. وكان من التغفل على جانب عظيم. فكان مفوضًا أموره المعاشية إلى رجل لئيم شرس الأخلاق عيده به كبر وعنجهية وعجرفة وتفجُّس وغطرسة. وكان تمضي عليه الساعة والساعتان وهولا يبدي ولا يعيد. فيظن الغر أنه معمل فكره في تدبير الدول. أو تلخيص النحل. فقد جرت العادة بأن الرجل إذا كان ذا منزلة رفيعة فإن كان عييا مفحمًا عُدّ رزينًا وقورًا. وأن يك مهذارًا عد فصيحًا. فأما أموره المعادية فإنها كانت تعلو وتسفل وتضوي وتجزل وتفتق وترتق بتدبير قسيس ذي دعابة وفكاهة وبشاشة وهشاشة. قصير سمين. أبيض بدين. وكان هذا القسيس الصالح قد تمكن من حريمه تمكنًا لا يباريه فيه النسيم. وألقى عصاه عند إحدى بناته وكانت ذات وجه وسيم ومنطق رخيم. وكانت تزوجت برجل قد جُنّ وتخبل فخلته وجنونه واعتصمت بعقوة أبيها فكان القسيس آمرًا عليها مطاعًا. ناهيًا وزاعًا فكانت كلما دخل فيها شيء أوخرج منها شيء تطالعه به لأنها كانت ممن قفط قطري الدين والدنيا معًا. وكانت تعترف له بجرائرها في الخلوة. وهو يسألها عن كل زلة وهفوة. فيقول لها هل تتذبذب أليتاك ويترجرج ثدياك عند صعودك الدرك أو عند المشي. وهل يحدث فيك هذا الارتجاج من لذة. فقد ورد في بعض الأخبار أن بعض الجلامظة كان يرتاح إلى أي ارتجاج كان. حتى كان كثيرًا ما يتمنى أن تتزلزل الأرض من تحته. وتمور الجبال من فوقه. وهل يمثل لك في الحلم ضجيع يكافحك. وخليع يصافحك إذ لا فرق عند الله بين اليقظة والمنام. وأن أعظم الحقائق إنما بني على الأحلام. وهل وسوس إليك الوسواس الخناس فاشتهيت أن تكوني خُنْثَى، أي ذكرًا وأنثى لا ذكر ولا أنثى كما تقول العامة. فإن هذا القول لم يرتضه المحققون من الربانيين اللاتين وغير ذلك من الوسائل التي يضيق عن تفصيلها هذا الفصل. وكان أبوها لا يسيء به الظن لما تقرر عنده من أن كل من لبس السواد فهو من الفاطميين أهواءهم عن اللذات الخاصين أنفسهم عن الشهوات حتى أنه نظر يومًا في بعض الكتب هذا البيت وهو:
وذموا لنا الدّنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما تدّر لنا ثعل
فظن أنه تعريض بهم وتلميح إليهم. فأمر بإحراقه فأحرق وذرى رماده. ورأى يومًا آخر بيتين في كتاب آخر وهما:
ما بال عيني لا ترى من بين من ... لبس السواد من العباد نحيفًا
ما كان من لحمٍ وشيء غيره ... فيهم فأصلب ما يكون وقوفاُ
1 / 18