وبرزوا إلى شرفة الحديقة وجلسوا على درجها وجلست «ليدا» دونه تصغي إلى حديثه في صمت، وأحست في قلبها برد الجليد، وقالت لها غريزتها النسوية الذكية إن أخاها غير ما خالت. واستشعرت الخجل والارتباك في حضرته كأنه أجنبي منها. وانتشرت على الأرض غيابات العشي وزحفت حولهم الظلال. وأشعل سانين سيجارة فاختلط شذى الطباق (التبغ) بأرج الحديقة وقص عليهما سيرته، وكيف رمت به حياته المرامي وكيف طوى كثيرا وتشرد، وكيف خاض لجج الجهاد السياسي وكيف أنه لما أدركه الونى والفتور أقلع عنها ونكص.
وكانت «ليدا» مائلة إليه بسمعها دون حراك وعليها من رقة الحسن والحلاوة ما تفيضه أصائل الصيف على كل فاتنة عذراء.
وكانت كلما أوغل في الحديث تزداد اقتناعا بأن حياته، التي وشاها خيالها بأبهج الألوان وأشدها لألاء، لم تكن في واقع الأمر إلا عادية كأبسط ما تكون، ولكن فيها على هذا شيئا عجيبا. وما ذاك؟ هذا ما لم تستطع اكتناهه. على أنه مهما يكن من الأمر فإن حياته على ما جاء في روايته لم تعد أن تكون بسيطة مملة فاترة، يظهر أنه عاش حيثما اتفق ولم يعتمد شيئا يفعله على التعيين، فيوما يشتغل ويوما يتبطل. ومن الجلي كذلك أنه كلف بالشراب وأن له خبرة بالنساء. وأحر بمثل هذه الحياة أن تخلو من الحلوكة أو الشر، وهي لا تشبه في دقيق أو جليل ما توهمته من سيرته، لا فكرة يحيا لها، ولا هو يكره مخلوقا ولا تعذب في سبيل كائن ما. ولقد كربها حقا بعض ما صارحها به وبخاصة لما قال إنه بلغ من خصاصته ورقة حاله مرة أن رقع سراويله الممزقة بيده.
فلم تملك إلا أن تسأله: «أو تعرف إذن كيف تحوك؟» وفي صوتها نبرات الدهشة والزراية. إذ كانت تعد ذلك هوانا وضعة، وترى فيه ما ينافي الرجولة في الواقع.
فقال سانين باسما وقد فطن إلى ما دار في خاطر أخته: «لم تكن لي بذلك دراية في أول الأمر ولكني ما لبثت أن تعلمت بكرهي.»
فهزت الفتاة كتفيها بلا احتفال ولزمت الصمت ورمت الحديقة بعينيها وخيل إليها كأنها كانت تحلم بالشمس الضاحية، فلما فتحت عينيها لم تجد غير سماء عائمة مقرورة.
واكتأبت أمه كذلك وحز في نفسها أن ابنها لم يشغل المركز الذي هو أهل له بحكم منزلته في المجتمع، وشرعت تقول له إن الأمور لا يمكن أن تظل جارية على هذا النحو، وإنه ينبغي له أن يكون فيما يستقبل من أيامه أرشد وأحزم، وكانت تكلمه في بادئ الأمر على حذر ثم بدا لها أنه لا يكاد يجعل باله إلى ما تقول، فأخذها الغضب شيئا فشيئا وألحت عليه بالكلام ذاهبة إلى العناد والمشادة شأن العجائز السخيفات من نظائرها لتوهمها أن ابنها يتعمد أن يكايدها. ولكن سانين لم يعجب ولم يضجر وكأنه لم يفهم ما قالت، فظل صامتا غير مكترث.
بيد أنه لما سألته: «كيف تنوي أن تعيش؟» قال مبتسما: «على نحو ما.» وكان صوته الهادئ المتزن ونظرته السريعة يوقعان في الروع أن لهذه الكلمات - التي لم تفهم منها أمه لا قليلا ولا كثيرا - دلالة عميقة محدودة عنده.
فتنهدت ماريا إيفانوفنا وقالت بعد فترة بشيء من القلق: «هذا شأنك على كل حال فقد شببت عن الطوق ولم تعد طفلا. ينبغي أن تطوف الحديقة فإن مجلاها يروق النظر الآن.»
فقال سانين لأخته: «نعم تعالي لتريني الحديقة فقد نسيت شكلها.»
Page inconnue