حين اجتاز هذا العالم الحشري أزمته، بدأ يتقدم بسرعة كبيرة في البنية الاجتماعية، وفي تطوير العقل الفردي حتى إننا وجدنا صعوبة متزايدة في الحفاظ على التواصل معه، ثم فقدنا التواصل برمته في النهاية. بالرغم من ذلك، فحين تقدمنا نحن أنفسنا فيما بعد، أتينا على هذا العالم مرة أخرى وتواصلنا معه.
بالنسبة إلى العوالم الحشرية الأخرى، فلن أذكر عنها شيئا إذ لم يقدر لأي منها أن تؤدي دورا مهما في تاريخ المجرة.
ولكي أكمل صورة السلالات التي لا يكون للعقل الفردي فيها جسم واحد له امتداد مادي، يجب أن أشير إلى نوع آخر مختلف للغاية وأكثر غرابة. في هذا النوع، كان جسد الفرد يتألف من مجموعة كبيرة من الوحدات الحيوية الفرعية البالغة الصغر، والتي تنظم في نظام مشترك من أمواج الراديو. ومن هذا النوع ظهرت السلالة التي تسكن الآن كوكب المريخ الموجود في نظامنا الشمسي. ولأنني قد وصفت هذه الكائنات بالفعل في كتاب آخر، ووصفت أيضا تلك العلاقات المأساوية التي ستجمعهم بنسلنا في المستقبل البعيد، فلن أذكر المزيد عنها هنا سوى أننا لم نتواصل معهم إلا في مرحلة متأخرة للغاية من مغامرتنا، حين اكتسبنا مهارة الوصول إلى كائنات تختلف عنا في الحالة الروحانية. (3) البشر-النباتات وسلالات أخرى
قبل أن أنتقل إلى رواية قصة مجرتنا ككل (بالحد الذي أستطيع استيعابه) ينبغي أن أذكر نوعا آخر غريبا للغاية من العوالم. لم نجد من هذا العالم سوى القليل من الأمثلة، والقليل منها فقط هو ما نجا حتى وصل إلى الزمن الذي بلغت فيه الإثارة في المجرة أوجها، لكن أحدها على الأقل كان له (أو سيكون له) أثر عظيم على نمو الروح في هذه الحقبة المثيرة.
على بعض الكواكب الصغيرة التي يغمرها الضوء والحرارة من شمس قريبة أو ضخمة، اتخذ التطور مسارا مختلفا للغاية عن ذلك الذي نعرفه. لم تنفصل الوظائف النباتية والحيوانية في نوعين عضويين مختلفين، بل أصبحت الكائنات كلها نباتا وحيوانا في الوقت ذاته.
في هذه العوالم، كانت الكائنات العليا أشبه بنباتات ضخمة متحركة، لكن الفيضان العنيف للإشعاع الشمسي قد جعل إيقاع نموها أسرع كثيرا من نمو نباتاتنا. وربما يكون تشبيه هذه الكائنات بالنباتات وصفا مضللا؛ إذ إنها كانت تشبه الحيوانات بالقدر نفسه. كان لها عدد محدد من الأطراف وشكل محدد للجسم، غير أن بشرتها كانت كلها خضراء أو مخططة بالأخضر، وكانت تحمل كتلا عظيمة من الأوراق في مكان ما من أجسادها وفقا للنوع الذي تنتمي إليه. وبسبب ضعف قوة الجاذبية على هذه الكواكب الصغيرة، كانت الحيوانات-النباتات غالبا ما تدعم بنى شاسعة فائقة على أطراف أو جذوع نحيلة للغاية. وبصفة عامة، فقد كانت الأنواع المتحركة من هذه الكائنات مزودة بكمية أقل من الأوراق مقارنة بالأنواع الساكنة منها بنحو أو بآخر.
في هذه العوالم الصغيرة الحارة، تسبب الدوران المضطرب للماء والغلاف الجوي في حدوث تغييرات سريعة في الأرض يوما بعد يوم. جعلت العواصف والفيضانات من القدرة على التنقل من مكان لآخر أمرا مرغوبا للغاية بالنسبة إلى سكان هذه العوالم؛ ومن ثم فالنباتات المبكرة التي تمكنت بفضل وفرة الإشعاع الشمسي، من تخزين مقدار من الطاقة يكفيها على مدى الحياة للاستخدام في مستوى متوسط من الأنشطة العضلية، قد تطورت لديها قدرات الإدراك الحسي والتنقل. وظهرت العيون والآذان النباتية والأعضاء النباتية للتذوق والشم واللمس على سيقانها وأوراقها. أما فيما يتعلق بالقدرة على التنقل، فقد كان بعضها يسحب جذوره البدائية من الأرض ويزحف هنا وهناك بحركة تشبه حركة اليرقانة. وبعضها كان ينشر أوراقه وينجرف على الرياح، ومن هذه الأنواع تطورت على مدار العصور كائنات تستطيع الطيران بالفعل. وفي هذه الأثناء، تحولت بعض الجذور لدى الأنواع السائرة إلى سيقان عضلية، رباعية أو سداسية أو أكثر من ذلك. أما بقية الجذور فقد زودت بآلات للحفر كانت تستطيع الانتشار في الأرض بسرعة في المواقع الجديدة. بالرغم من ذلك، فثمة طريقة أخرى من الجمع بين الجذور والقدرة على التنقل ربما تكون أكثر تميزا. كان الجزء الهوائي من الكائن يفصل نفسه عن جذوره المغروسة وينطلق على الأرض أو الهواء كي يغرس جذوره من جديد في تربة بكر. وحين يستنفد الكائن الموقع الثاني، كان ينطلق بحثا عن موقع ثالث ثم إلى غيره وغيره، أو يعود إلى موقعه الأصلي والذي من المحتمل أن يكون قد استعاد خصوبته بحلول ذلك الوقت. وهناك، يربط نفسه من جديد بجذوره القديمة الخاملة ويبعث فيها النشاط من جديد.
وقد طورت العديد من الأنواع بالطبع عادات افتراسية، وأعضاء خاصة للهجوم، مثل الفروع العضلية القوية كالأصلات والتي كانت تستخدم للتضييق وإحكام القبض، وكذلك المخالب والقرون والكلابات الضحمة المثلمة. في هذه الكائنات «اللاحمة»، تقلص انتشار الأوراق إلى حد كبير، وكانت تستطيع طي أوراقها بعيدا إلى الخلف على نحو مريح. وفي الأنواع الأكثر تخصصا في الافتراس، كانت الأوراق نحيلة ولم تكن لها أي فائدة سوى القيمة الجمالية. وقد كان من المدهش أن نرى كيف أن البيئة قد فرضت على هذه الكائنات الغريبة أشكالا تذكر بنمورنا وذئابنا. وكان من المثير للاهتمام أيضا أن نرى تدمير هذا التخصص الفائق في الهجوم أو الدفاع أو التكيف الفائق عليه لنوع تلو الآخر، وكيف أن ظهور الذكاء «البشري» بعد فترة طويلة من الوقت جاء على يد كائن ليس بالضخم ولا بالمهاجم، بل كانت هبتاه الوحيدتان هما الذكاء والتعقل تجاه العالم المادي وتجاه رفاقه. وقبل أن أصف ازدهار «البشرية» في هذا النوع من العوالم، ينبغي أن أذكر مشكلة خطيرة تواجه الحياة المتطورة على جميع الكواكب الصغيرة، والتي تحدث غالبا في مرحلة مبكرة. وقد صادفنا هذه المشكلة بالفعل على الأرض الأخرى. فنظرا لضعف الجاذبية والحرارة المرتفعة للشمس، تهرب جزيئات الغلاف الجوي بسهولة كبيرة إلى الفضاء. ولا شك بأن معظم العوالم الصغيرة تفقد كل هوائها ومائها قبل أن تصل الحياة عليها إلى المرحلة «البشرية» بفترة طويلة، وقبل أن يستقر وجودها أصلا في بعض الأحيان. أما بعض الكواكب الأخرى التي كانت أقل صغرا، والتي ربما تكون قد زودت بالغلاف الجوي على نحو كامل في مراحلها المبكرة، وإن كان ذلك بعد وقت طويل للغاية نظرا للانكماش البطيء الثابت لمداراتها، فقد تزداد حرارتها للغاية حتى إنها لا تتمكن من الإبقاء على الجزيئات العنيفة الاهتياج التي تؤلف غلافها الجوي. في بعض هذه الكواكب، تتطور مجموعة كبيرة من أشكال الحياة في الحقب المبكرة، ثم تختفي من الوجود نتيجة لما تتعرض له من الظمأ الشديد والاختناق اللذين يحدثان بسبب ما يشهده الكوكب من الجفاف والتعرية لفترات طويلة. بالرغم من ذلك، ففي الحالات المواتية على نحو أفضل، تتمكن الحياة من تكييف نفسها تدريجيا على الظروف القاسية على نحو متزايد. في بعض العوالم، على سبيل المثال، ظهرت آلية بيولوجية أدت إلى حبس ما تبقى من الغلاف الجوي داخل مجال كهرومغناطيسي قوي تولد عن الكائنات الحية التي تسكن العالم. وقد استغنت عوالم أخرى عن الحاجة إلى الغلاف الجوي برمته، وصار البناء الضوئي وجميع عمليات الأيض في الحياة تجري عن طريق السوائل فقط. وقد حفظت آخر الغازات المتلاشية في هيئة سائل يخزن في مسالك ضخمة من الكتل الإسفنجية التي تقع بين الجذور، ويغطيه غشاء منيع.
هاتان الطريقتان البيولوجيتان الطبيعيتان قد حدثتا في عالم أو أكثر من عوالم الحيوانات-النباتات التي قد بلغت المرحلة «البشرية». وليس لدي من المجال ما يتسع إلا لذكر مثال واحد، وهو أهم هذه العوالم المميزة، وهو أحد العوالم التي تلاشى فيها الغلاف الجوي بأكمله قبل ظهور الذكاء.
لقد كان دخول هذا العالم ومعرفته من خلال الحواس والطباع الغريبة لسكانه الأصليين مغامرة أكثر إرباكا في بعض الجوانب من جميع استكشافاتنا السابقة. ونظرا لانعدام الغلاف الجوي، فحتى في وجود ضوء الشمس بأكمله، كانت السماء مظلمة بظلمة الفضاء الواقع بين النجوم، وكانت النجوم تتوهج. وبسبب ضعف الجاذبية، وغياب عملية تشكيل الهواء والماء والجليد على سطح الكوكب المتغضن المتضائل، فقد كان المنظر الطبيعي يتألف من كتل من الجبال المطوية، والبراكين البدائية الخامدة، والفيضانات المتجمدة وأكوام الحمم البركانية، والوهاد التي تشكلت بفعل سقوط الشهب الضخمة. وأي من هذه المعالم لم تصقل كثيرا بفعل تأثيرات الغلاف الجوي والجليد. علاوة على ذلك، فضغوطات قشرة الكوكب دائمة التغير قد حطمت العديد من الجبال إلى أشكال من الجبال الجليدية المذهلة. على أرضنا حيث توجد الجاذبية الشبيهة بكلب صيد لا يكل، والذي يسحب صيده بقوة أكبر كثيرا، لم تكن هذه القباب والقمم ذات الصخور الثقيلة لتصمد على الإطلاق. وبسبب انعدام الغلاف الجوي، كانت الأسطح المكشوفة للصخور الشديدة السطوع، وجميع الأخاديد والظلال سوداء كالليل.
Page inconnue