أكان الإنسان بالفعل هو نقطة نمو الروح الكونية، مثلما كان يرغب في أن يكون في بعض الأحيان، وإن كان ذلك من الناحية الزمنية على الأقل؟ أم هو نقطة واحدة فقط من ملايين نقاط النمو؟ أم أن البشرية لا تمثل في الرؤية الكونية أي أهمية بأكثر مما تمثله الفئران في كاتدرائية؟ وهل كانت غاية الإنسان الحقيقية هي السلطة أم الحكمة أم الحب أم العبادة أم ذلك كله؟ أم أن فكرة الغاية ليس لها أي جدوى في سياق الكون؟ هذه الأسئلة العويصة سوف أجيب عنها. ثم إنني يجب أن أتعلم أن أرى بوضوح أكبر بعض الشيء، وأن أواجه على نحو أكثر صوابا بعض الشيء (هكذا قد صغت الأمر لنفسي) ما يدفعنا إلى العبادة حين نتلقى منه أي نفحة على الإطلاق.
لم أكن أبدو الآن لذاتي ذاتية الأهمية أنني فرد منعزل يشتهي التعظيم، وإنما مبعوث من البشرية، كلا، بل عضو استكشاف، مجس قد قذفه العالم البشري الحي كي يتواصل مع رفاقي في الفضاء. مهما يكن من أمر، فلا بد لي من الاستمرار، حتى وإن كانت حياتي الأرضية التافهة ستنتهي قبل أوانها، وتعيش زوجتي وأطفالي بدوني. لا بد لي من الاستمرار، وحتما سوف أعود بطريقة ما ذات يوم، ولو بعد قرون من السفر بين النجوم.
الآن وقد عدت إلى الأرض بالفعل بعد مغامرات هي الأكثر إدهاشا، حين أعيد النظر في تلك المرحلة من الشعور بالتمجيد، يفزعني التناقض بين الكنز الروحاني الذي كنت أطمح إلى تقديمه لرفاقي من البشر، وبين شح ما قدمته بالفعل. وربما يعود هذا الفشل إلى حقيقة أنه بالرغم من أنني قد قبلت تحدي المغامرة بالفعل، فأنا لم أقبله إلا بتحفظات بيني وبين نفسي. الآن أدرك أن الخوف والتلهف على الراحة قد عتما من سطوع إرادتي. قراري الذي اتخذته بشجاعة كبيرة، قد ثبت أنه واه بالرغم من كل شيء. فكثيرا ما أفسحت شجاعتي المتزعزعة المجال للحنين إلى كوكبي الأصلي. وكثيرا ما كنت أشعر في مسار أسفاري بأن طبيعتي العادية الهيابة قد جعلتني أغفل عن أبرز جوانب الأحداث.
من بين جميع ما اختبرته في أسفاري، لم يكن مفهوما لي بوضوح سوى قدر ضئيل حتى وقت حدوثه، وحينها، مثلما سأذكر لاحقا، كانت قد عززت من قدراتي الأصلية كائنات تتمتع بتطور جبار يفوق القدرات البشرية. أما الآن وقد عدت مرة أخرى إلى كوكبي الأصلي، ولم تعد تلك التعزيزات متوفرة، فأنا لا أستطيع حتى أن أستعيد الكثير من الرؤى العميقة التي توصلت إليها من قبل؛ ولهذا فقد اتضح أن روايتي التي تحكي عن الاستكشاف البشري الأوسع نطاقا على الإطلاق، في نهاية الأمر لا يمكن التعويل عليها بأكثر مما يمكننا التعويل على ترهات أي عقل قد جن إذ اختبر ما لا يقدر على استيعابه.
لأعود الآن إلى قصتي. لست أدري كم من الوقت قد قضيت في الجدال مع نفسي، لكن بعد أن اتخذت قراري، سرعان ما اخترقت النجوم مجددا العتمة التامة. كنت على ما يبدو في حالة سكون؛ إذ كنت أرى النجوم في كل اتجاه بلونها المعتاد.
غير أن تغيرا عجيبا قد حل بي؛ فسرعان ما اكتشفت أنني أستطيع التحرك نحو أي نجم بمجرد رغبتي في الاقتراب منه، وبسرعة لا بد أنها كانت أكبر كثيرا من سرعة الضوء المعتادة. وقد كنت أعرف أن هذا محال من الناحية الفيزيائية. لقد أكد لي العلماء أن الحركة بسرعة أكبر من الضوء عبث لا معنى له. ولهذا، فقد استنتجت أن حركتي لا بد أنها كانت ظاهرة ذهنية على نحو ما وليست مادية، مما جعلني أستطيع أن أشغل نقاطا متتالية دون وسيلة تنقل مادي. وبدا لي من الجلي أيضا أن ضوء النجوم التي كنت أراها الآن، لم يكن ضوءا معتادا وماديا؛ إذ إنني لاحظت أن وسيلة سفري الجديدة والحثيثة لم يكن لها أي أثر على الألوان المرئية للنجوم. ومهما بلغت سرعتي، فقد ظلت النجوم على ألوانها الماسية، غير أنها كانت أكثر سطوعا ووضوحا مما كانت عليه في الرؤية المعتادة.
فور أن تيقنت من قدرتي الجديدة على التنقل، رحت أستخدمها بحماس شديد. قلت لنفسي إنني أقدم على رحلة من البحث الميتافيزيقي والفلكي، لكن اشتياقي للأرض كان يخل بهدفي؛ فقد حول انتباهي دونما داع إلى البحث عن الكواكب، ولا سيما الكواكب من النوع الأرضي.
بصورة عشوائية وجهت مساري إلى إحدى النجوم القريبة الأكثر سطوعا. كان تقدمي سريعا للغاية حتى إن بعض الأجرام السماوية الأصغر والتي كانت أقرب إلي، راحت تتدفق بمحاذاتي كالشهب. تحركت بالقرب من الشمس العظيمة دون شعور بحرارتها. على سطحها المبرقش، كنت أستطيع أن أرى ببصري الخارق، بالرغم من البريق السائد، مجموعة من البقع الشمسية الضخمة الداكنة، وكل منها حفرة كان يمكن أن تلقى فيها عشرات من كواكب الأرض. حول حافة النجم بدت البروزات في الغلاف اللوني كأنها ريش ووحوش بدائية وأشجار متقدة، كلها تقف في ترقب أو مهابة، على كرة أصغر جدا من أن تكفيها. وفيما وراء ذلك، نشرت الهالة الشاحبة لهيبها في الظلام. وبينما رحت أدور حول النجم في مسار زائدي المقطع، رحت أبحث بتوتر عن كواكب، لكنني لم أجد أيا منها. بحثت مجددا بدقة، ورحت أتقدم إلى الأمام وأنحرف قريبا وبعيدا. في المدارات العريضة، قد يكون من السهل جدا أن تغفل عن جسم صغير مثل الأرض. لم أجد شيئا سوى الشهب والقليل من المذنبات الواهية. وقد كان ذلك هو الأكثر إحباطا؛ إذ إن النجم قد بدا من النوع نفسه الذي تنتمي إليه الشمس المألوفة. كنت آمل بيني وبين نفسي ألا أعثر على كواكب فحسب، بل أن أعثر على الأرض بالتحديد.
مرة أخرى انطلقت في محيط الفضاء متوجها إلى نجم آخر قريب. ومرة أخرى شعرت بخيبة الأمل. لم أقترب إلا من أتون آخر موحش. هذا النجم أيضا لم يكن يضم تلك الحبات الدقيقة التي تأوي الحياة.
الآن كنت أسرع من نجم إلى آخر، ككلب ضال يبحث عن سيده. اندفعت هنا وهناك عازما على إيجاد شمس تدور حولها كواكب، والتي من بينها يوجد موطني. فتشت نجمة تلو النجمة، وقد تجاوزت عددا كبيرا منها بنفاد صبر قبل أن أدرك أنها كبيرة وهشة وصغيرة السن للغاية لأن تكون شمس الأرض. كان بعضها نجوما عملاقة محمرة غير واضحة المعالم عرضها أكبر من مدار المشتري، وبعضها أصغر وأكثر وضوحا ولها سطوع ألف شمس، وكان لونها أزرق. كنت قد تعلمت أن شمسنا من النوع المتوسط، غير أنني وجدت الآن من الشموس الضخمة الصغيرة السن عددا أكبر بكثير من الشموس الصغيرة المصفرة المتوسطة السن. من الواضح أنني كنت أمكث في منطقة متكدسة بالنجوم الحديثة.
Page inconnue