Les années du trou noir

Husayn Mihran d. 1450 AH
43

Les années du trou noir

سنوات الثقب الأسود

Genres

أجاب الثاني وهو لم يزل مطرقا ببصره إلى الخارج: نعم، بالفعل، وجدت الحرية والعدالة والفرص وكل شيء، لا يمكنني إنكار ذلك، ربما لأنني اعتدت على تلك المبادئ فلم أعد ألحظها أو أقدر أهميتها، صارت بالنسبة لي بديهيات، لكن حلمي، لا أعرف يا صديقي! أنا فقط أعيش مثلما يعيش بقية الناس، تأقلمت على الحياة هناك منذ زمن، لكنها، صدقني، مجرد أيام أقضيها وحسب، نعم ليست لدي مشكلات كبيرة، ليس لدي إلا الهموم العادية كأي شخص طبيعي، لكنني قطعا لم أحقق حلمي، أنا أحقق أحلام أشخاص آخرين، أحلام أصحاب الشركة والمساهمين والعملاء، أحلام كل الأطراف ذوي العلاقة، أحلام كل ال

stakeholders

كما يقولون هناك في كندا، لكنني بالتأكيد لا أحقق حلمي أنا!

أكمل الأول بنفس النبرة المستخفة في صوته وكأنه يحاور شخصا يقول كلاما غير منطقي: لماذا لا تعود إذن إلى مصر؟

التفت إليه وكأنه استيقظ من حلم، ثم فكر للحظة وأجاب: ليت الأمر كان بتلك السهولة! أنا لا أستطيع العيش في مصر يا صديقي. ليس لأن مصر سيئة؛ لكن لأنني نسيت كيفية الحياة فيها، نسيت كيف كان شكل الحياة هنا، ثم إنه حتى شكل الحياة الذي قد أتذكره لم يعد موجودا! لم أعد أعرف الإسكندرية! أسير في شوارع لا أعرفها ولا أتذكر أي شيء مما يحيط بها، ولا أستطيع أن أجد الأشياء التي أتذكرها! هل تعرف؛ منذ أيام كنت أتمشى في كفر عبده، حيث كنت أحب التمشية قديما وسط الفيلات والأشجار في الشتاء، حينما كنت أضع سماعات الأذن وأستمع إلى محمد منير من جهاز الووكمان في جيبي، ثم تذكرت بيشوي صديقي من المدرسة الثانوية، الذي كان يقيم هناك، وكنا نقضي في بيته ساعات طويلة نستمع إلى الموسيقى ونشاهد مباريات الكرة. أتعرف، حاولت الوصول إلى الشارع الذي كان يقيم فيه بيشوي فلم أستطع! لا شيء هناك كما كان عليه، أتذكر الشارع جيدا، كانت على ناصيته تلك الفيلا إنجليزية الطراز التي تطل شرفة بيشوي على حديقتها، وكان في آخر الشارع محل مكوجي صغير لا أتذكر اسمه الآن، لكنني أتذكر جيدا واجهته الخشبية الزرقاء ذات الزجاج المزخرف المكتوب عليه اسم المحل بالفرنسية، كان هناك كذلك الفكهاني النوبي الذي كان يأتي بأفضل بطيخ يمكنك الحصول عليه في الإسكندرية، والذي اشتريت منه فاكهة البابايا لأول مرة في حياتي، ولم أكن أعرف اسمها وقتذاك. أتعرف، لم أستطع التعرف على الشارع! لم أعثر على أي فكهاني نوبي ولا على محل مكوجي ذي واجهة خشبية زرقاء، لم تعد هناك فيلا إنجليزية الطراز يا ياسين، لم أستطع أن أحدد أي واحدة من تلك البنايات الجديدة قد قامت على أنقاض حديقة الفيلا التي كنا نستمتع بتغريد الطيور على أشجار حديقتها قبيل الغسق من شرفة بيشوي، لم تعد هناك أي أشجار! هل تذكر مثلا محل الفشار في محطة الرمل؟ لعلك تعرف أنه لم يعد موجودا كذلك. هل تذكر بيانكي التي كنا نفعل الأعاجيب لنحصل على تصاريح دخولها؟ لقد تحولت إلى عشوائيات تطفح في شوارعها مجارير الصرف. الإسكندرية التي أعرفها لم تعد موجودة! أصبحت مدينة من الماضي لا يمكنك رؤيتها إلا في أفلام الثمانينيات والتسعينيات. لقد أصبحت أحس بالغربة هنا، لو انتقلت للعيش هنا سيكون ذلك كانتقالي للعيش في بلد جديد أحتاج بعض الوقت للتعرف عليه وفهمه، وما الذي يجعلني أنتقل للعيش في مدينة جديدة في عمري هذا؟ لقد تعبت من الهجرة، كلما انتقلت إلى بلد وفهمته وتأقلمت مع طبيعة الحياة به أجد نفسي مدفوعا إلى هجرة جديدة! يكفيني ذلك، لقد اكتفيت من الترحال.

كان الآخر ينصت إليه باهتمام ويهز رأسه موافقا حتى انتهى من حديثه الطويل، فكر لبرهة ثم أجابه وقد غابت نبرة الاستخفاف وحلت محلها الجدية: لقد تغير البلد فعلا، أنا مثلك في أحيان كثيرة لا أكاد أعرف أين أنا، لقد صارت الحياة هنا صعبة بحق، هذا البلد يبذل كل جهده لكي يجعل استمرار الحياة فيه مستحيلة.

حدجه الثاني بنظرة استنكار وأجاب: لكنني أشعر أنك تعيش حياة جيدة هنا، يبدو من مظهرك أن حالتك المادية متيسرة إلى حد كبير، ما الذي يضايقك إذن من العيش في بلدك التي تعرفها وسط أهلك وأصدقائك؟ ما الذي يسوءك في أن تشيخ في مدينتك أو حتى في القاهرة؟ أنت تذكر طبعا قول الأبنودي على لسان عمته يامنة:

عجزت يا واد؟

متى؟ وكيف؟

عاد اللي يعجز في بلاده، غير اللي يعجز ضيف!

Page inconnue