بتقول حكاوي وغناوي
يا قلة الذل انا ناوي
ما اشرب ولو في المية عسل
قضى تلك الليلة في غرفة المعيشة أمام التليفزيون، يعيد الأغنية ذاتها مرارا وتكرارا بعد أن سجل الفيلم الذي كان يعرض للمرة الأولى على شريط فيديو جديد اشتراه خصيصا لذلك الفيلم الذي كان ينتظره منذ أن بدأ التنويه عن عرضه قبل شهر، والذي لم يخيب ظنه. تكفيه تلك الأغنية الساحرة التي ظل يبحث وراءها لأسابيع ، ويسأل كل من يعرفهم عن كاتبها وملحنها، حتى اهتدى إلى عالم ذلك الرجل الضرير ضعيف الجسم أجش الصوت، ورفيقه النحيل الأشعث، وتسجيلاتهما التي كان اقتناؤها في ذلك الزمن جريمة قد تذهب بمرتكبها إلى ما وراء الشمس. استطاع الحصول على بعضها بعد جهد ليس بالقليل، وبدأ يكون مكتبته الخاصة من تسجيلات الشيخ إمام ورفيقه أحمد فؤاد نجم، وبدأ يقرأ عن تلك المرحلة وعن تلك الأفكار، خاصة عندما وقع بصره بالصدفة - بعد ذلك اليوم بعامين - على نعي الشيخ إمام نفسه في صفحة الوفيات بجريدة الأهرام، وفاجأه ذلك العدد الهائل من المثقفين والفنانين - بما فيهم محمد منير نفسه - الذين ينعون ذلك الرجل الغامض الذي لا يكاد يعرفه العامة، ولا يرد ذكره قط في التليفزيون أو الإذاعة أو الصحف، وكأنه لم يكن ولم يوجد يوما. أيقن أن الرجل مشهور ومؤثر بالفعل، ولكن جهة ما - لسبب لم يكن يدركه بعد - لا تريد له أن يبقى كذلك.
صحراء
في الصباح التالي لاكتمال اقتلاع كل الأشجار المجاورة، جاءت قافلة جديدة من تلك الكائنات القبيحة إلى الأرض التي صارت الآن منبسطة بلا كثبان ترمي الظل على بعض الأرض؛ فتسمح ببعض الحياة، وتجعل من الممكن تمييز الوقت بحسب طول الظل واتجاهه. صارت الأرض الآن كلها سواء، صارت أكثر فقدا للتمايز مما كانت، فقدت ورقة التوت الأخيرة التي كانت تحفظ لها النزر اليسير من الهوية، وباتت أخيرا عارية، مستباحة. ما بين غمضة عين وانتباهتها اختفت كل تلك التعرجات والمنحنيات التي أبدعتها الطبيعة على مدار دهور ودهور، محيت تلك الرسوم البديعة التي شكلت هوية الصحراء من قبل أن يوجد الحجر والشجر، وكأنها لم توجد يوما، وكأن لم يكن لهذه الصحراء تاريخ، وكأن لم تمر بها ريح ولم يرطب جفاف جوفها قطرات مطر.
كانت الكائنات الجديدة أشد قبحا من سابقاتها، كانت مفترسة متوحشة، كان لها مخالب وأنياب هائلة كالحيوانات المنقرضة التي عاشت هنا في غابر الدهر، ثم ماتت حين لم تحتمل قسوة الصحراء وندرة الغذاء. لكن تلك الوحوش الجديدة تلتهم كل شيء ولا تبالي، إنها تلتهم الرمال الصفراء نفسها، تغرس مخالبها في قلب الأرض ثم تخرجها وقد امتلأت بالرمال، وبما بقي من جذور الشجر ورفات الدواب وجحور الزواحف. أي وحوش غاشمة تلك التي تلتهم الرمال وتأكل الأرض!
لم تزل تلك الوحوش تحفر أخاديد في قلب الأرض وتخرج باطنها لتلقي به في جوف وحوش أخرى تجري به بعيدا، وكأنها تهرب بما سرقته من رمال قبل أن تبتلعها الأرض الغضبانة، ثم تعود ثانية كأنما قد تقيأت ما التهمته من رمال الصحراء بعيدا، فعادت لتملأ منها جوفها تارة جديدة. لا تشبع تلك الوحوش قط من التهام الأرض!
الفصل السادس
أبريل 1994م
Page inconnue