Saladin Ayyoubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
وهكذا اجتمعت كل قوة الفرنج وكل قوة الدولة الإسلامية عند عكا في أغسطس سنة 1189م شعبان 585ه، فكان ما حولها ميدانا واسعا في البر والبحر ظهرت فيه من الجانبين آيات باهرة من الشجاعة والتضحية، وأتى الأفراد في كلا الجيشين أجل أعمال البطولة الخارقة للعادة. حقا لقد كان سباقا عظيما بين الشرق والغرب، وقد ظهر فيه كلاهما بمظهره الأسمى كل بحسب طبعه، وكان كلا الجانبين المتسابقين من جانبه جليلا.
واستمر النضال هناك عامين حدث في خلالهما معارك كثيرة بعضها كبير وبعضها صغير، إلى أن جاء فيليب ثم ريكارد في ربيع سنة 1191م/587ه، فأصبحت قوة الفرنج أكبر من أن يغلبها صلاح الدين، فآثر ترك المدينة إليهم، فسلمت بعد قليل في يوليو سنة 1191م/17 جمادى الآخرة 587ه، وقد تقلب ذلك النضال بين المتحاربين وحدثت فيه فترات؛ ولهذا يحسن تقسيمه إلى أدوار ثلاثة: الأول من أول الحصار إلى هجوم شتاء سنة 1189م/585ه، والثاني من ربيع سنة 1190م/586ه إلى أول شتاء سنة 1190م، والثالث من ربيع سنة 1191م/587ه إلى سقوط المدينة. (23) الدور الأول للحصار
حدث ما توقعه صلاح الدين؛ فعندما ذهب إلى عكا كان الفرنج قد اختاروا مكانهم وحصروا المدينة حصارا تاما، وكان عددهم ألفي فارس وثلاثين ألف راجل، فكان هم صلاح الدين الأول أن يجعل في الحصار ثغرة يستطيع أن يصل بها إلى المدينة بالجنود والأقوات حتى تقدر على المقاومة. وانفتح الطريق أخيرا إلى المدينة بعد أن لقي صلاح الدين مشقة عظيمة من مقاومة الفرنج له، وكان كثير الاهتمام أثناء هذا حتى لقد بقي ثلاثة أيام بغير أكل إلا شيئا يسيرا. ولكن الفرنج جعلوا يعاودون الكرات حتى يتموا الحصار مرة أخرى، فكانت المعارك تحدث كل يوم حول الأسوار ، وهنا نلاحظ أمرا يمكن أن ندرك منه روح الحرب بين الطائفتين؛ فقد جعل الحرب بين المسلمين والفرنج شبه تعارف ومودة - وما أغرب ذلك - فكانوا بين الهجمات العنيفة يضعون السلاح ويتحدث الجماعة من المسيحيين إلى الأخرى من المسلمين، وقد يغني البعض ويرقص البعض، بل لقد كانوا يمزحون؛ كما فعلوا مرة إذ أتوا بصبيين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، ووقف الجانبان ينظران إلى نضالهما حتى تغلب المسلم وقبض على أسيره المسيحي، فافتداه بعض الفرنج المازحين بدينارين. وهكذا كان الناس من الطائفتين يقطعون بعض وقتهم في فترات الحرب، أحقا كان في هذه الحرب مرارة الجهاد وتجهم الحقد المتأصل في النفوس وعبوس العداء الذي كانت تمتاز به الحرب الصليبية الأولى؟
لسنا مبالغين إذا قلنا: إن عصر الحرب الصليبية الحقيقية كان قد انقضى منذ أوائل القرن الثاني عشر، ولم يبق إلا نضال دنيوي يدافع فيه المسلمون عن بلادهم ويحاول الفرنج أن يبقوها في يدهم إباء وأنفة أن يكونوا مخذولين وحذرا من معرة الهزيمة. وقد بلغ النضال أشده في هذا الدور من الحصار بعد نحو شهر ونصف من البدء فيه، فدارت رحى أشد معركة شهدتها أسوار عكا، وتقلب فيها الحظ بين الجانبين، ولكن ثبات السلطان وإخلاص أهل بيته وشجاعتهم وانقياد أمرائه لأوامره، كل ذلك جعل النصر للمسلمين بعد أن قتل من الجانبين عدد عظيم، ولكن قتلى الفرنج كانوا آلافا؛ قيل: سبعة.
وبعد هذه الموقعة جمع السلطان مجلسا حربيا كعادته، وكان يرى أن هذه الصدمة الأولى لا بد تؤثر في نفوس أعدائه، فإذا تابع الهجوم كان رفع الحصار عن عكا محققا، ولكن أمراءه رأوا تفضيل الراحة بعد وقوفهم عند عكا نحو خمسين يوما فنزل على رأيهم، وكان هذا من غلطاته؛ لأن الراحة أفادت الصليبيين أضعاف ما أفادت المسلمين. ولم يستأنف بعد تلك الراحة قتال جدي في هذا العام لدخول الشتاء، فاكتفى صلاح الدين بإدخال المؤن والرجال إلى عكا، وسرح جنوده لمدة الشتاء الذي تكثر فيه الأمطار وتتعذر الحركات، وتراجع بباقي الجيش إلى الخروبة تخلصا من عفونة الميدان الذي حول عكا؛ لما كان به من جثث القتلى. ولم يكن خالي البال في أثناء راحته؛ لأنه كان يتوقع مجيء الإمداد إلى عدوه من أوروبا، وكان كل يوم يتطاول به الحرب يزيد من توقع العجز عن رفع الحصار.
وكان أكثر ما يرد إليه من أخبار الفرنج يدل على مسير ملك الألمان «فردريك برباروسا» في جيش عظيم لنصرة الصليبيين. (24) الدور الثاني للحصار
بعد انقضاء الشتاء أرسل صلاح الدين إلى أطراف دولته الواسعة يدعو أمراءه لاستئناف القتال في الربيع من سنة 1190م/586ه فأتت إليه الكتائب يلي بعضها بعضا، وجاءته مساعدات من الخليفة ببغداد، وقد استعد هذه المرة بالنفاطين والزراقين الذين يرمون النيران والنفط على آلات الحصار. وقد أبلى في ذلك بلاء حسنا شاب من صناع دمشق، فإنه أدخل من التحسين على صناعة النار ما جعلها تحرق آلات الحصار المنيعة التي كان الفرنج يطلونها بطلاء يمنع تعلق النار بها، وكان أشد الآلات على المدينة الدبابات؛ وهي أبراج عالية ذات طبقات يركبها الجنود وتسير على عجل وفي مقدمتها حديد قوي؛ فتصطدم بالأسوار فتصدعها، ثم يعمل الجنود المجتمعون بها في الأسوار فيهدمونها.
وقد تمكن ذلك الشاب المجتهد من إحراقها باختراع سائل يرميه أولا في قدور على هذه الدبابات المدرعة، ثم يقذف بعد ذلك النار فيلتهب ذلك السائل ولا يقاوم ناره شيء.
وقد تأخر وصول الأسطول المصري إلى ما بعد أن استؤنف القتال؛ ولهذا وجد صعوبة في الوصول إلى الميناء، ولم يصل إليه إلا بعد أن قام صلاح الدين بهجوم عام من الخارج في البر؛ ليشغل جنود الفرنج فيخفف بذلك الضغط عن البحر، فدارت معركة برية بحرية في وقت واحد وانتهت بانتصار عظيم، ودخل الأسطول المصري إلى عكا محملا بالمؤن والمحاربين، وكان صلاح الدين يجد في الحرب خاشيا من وصول ملك الألمان بالمساعدة المنتظرة، ولكن لحسن حظه كانت حملة ملك الألمان غير موفقة.
فقد سار فردريك بارباروسا عن طريق البر من ألمانيا مخترقا بلاد المجر إلى البلقان والقسطنطينية. وكانت تلك الخطة في الواقع خطة غير ممكنة ؛ لأن سير جيش عظيم في البر لا بد يؤدي إلى احتكاك كثير مع الأهالي، ولا سيما في الدول التي يوجد فرق بين مذهبها الديني وبين مذهب الغربيين، وهذه عامة أمم البلقان.
Page inconnue