Saladin Ayyoubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
واستمر صلاح الدين على تملك البلاد الجزرية وشمال الشام مثل آمد وتل خالد وعينتاب، وكان انتصاره فيها - كما سبق القول - سهلا في أغلب الأحوال؛ لميل الأمراء إلى الانضواء تحت لوائه المنصور وترك جانب عز الدين.
وفي أثناء هذه الانتصارات على أمراء الجزيرة وشمال الشام كانت الأساطيل المصرية في البحر الأبيض والبحر الأحمر تحرز الانتصارات الباهرة على الفرنج حلفاء عز الدين؛ ففي سنة 1182م انتصر حسام الدين لؤلؤ القائد البحري المصري عند أيلة على رأس خليج العقبة، ثم عند ساحل الجوزاء في شمال الحجاز على جماعة من الفرنج أرسلهم البرنس أرناط «رجنالد دي شاتيون» صاحب الكرك؛ ليوقعوا بالمسلمين الذاهبين إلى الحج، وقد أخذ لؤلؤ جماعة من أسرى الفرنج وأرسلهم إلى «منى» لينحروا بها، فكان ذلك جوابا قاسيا على محاولة أرناط الفتك بالحجاج المسلمين، وكان الأسطول المصري بالبحر يتربص بالفرنج إذا هم قربوا من سواحله، وكان كثيرا ما ينقض على سفنهم فيأسر ويغنم، حتى اضطر المسيحيون إلى عقد هدنة مع صلاح الدين لمدة أربع سنوات تنتهي سنة 1188م/584ه.
وقد توجت انتصارات صلاح الدين أخيرا بملك حلب سنة 1183م وأخذها من عماد الدين زنكي الثاني صاحبها. على أن يعطيه بدلها بعض بلاد الجزيرة، وبذلك أصبح آمنا على حدوده الشمالية، وصار عماد الدين الضعيف حاكما على غرب بلاد الجزيرة - وهي بلاد يسهل عليه فتحها إذا أراد، وأصبحت بلاد عماد الدين مانعا من الاصطدام بينه وبين الأمير القوي الشجاع عز الدين صاحب الموصل.
لم يجد صلاح الدين بعد ذلك صعوبة في أخذ سائر القلاع الشمالية من الشام مثل حارم، وكان يقنع من أصحابها الأمراء المسلمين بالخضوع ويصالحهم على إقرارهم على ما في أيديهم بشرط أن يكون إقطاعا لهم وأن يكونوا هم وعسكرهم معه إذا دعاهم إلى الجهاد. (16) آخر النضال مع الموصل
هل كان صلاح الدين ليقنع بدولته هذه ويرجع إلى مصر ليضع أساس ملك ثابت الأركان؟ أو كان لا بد له من الاستمرار على الحرب إلى نهايته المرة؟ لا حاجة بنا لأن نقف طويلا مترددين عند هذا السؤال؛ فقد كان صلاح الدين وارث دولة نور الدين، وكان عليه عبء الاستمرار على جهاده مع الفرنج، وما كان يقدر أن يخرج على روح العصر وينتحي وادعا مسالما، ولا يزال الخلاف بين الشرق والغرب على أشد ما يكون ولم تخب ثائرته، ولو أنه استطاع ذلك وقعد عن الحرب لاضطر إلى الدفاع عن دولته بعد قليل؛ لأن الفرنج كانوا إذا شعروا بهدوء في هجوم المسلمين قاموا إلى تحقيق حلمهم القديم وهو تكوين دولة مسيحية عظيمة في أحشاء الشرق الأدنى، فكان صلاح الدين مرغما على أن يحارب؛ ولهذا رأى بعينه الثاقبة أنه لا بد أن يستعد للنضال الذي جعله قصد حياته.
ولم يبق أمام صلاح الدين بعد ذلك إلا خطوة واحدة حتى يصبح سيد كل الدول الإسلامية بالشام والجزيرة؛ فيقدر أن يهوي بتلك القوة العظيمة على الصليبيين فيضربهم الضربة التي كان يستعد لها طول تلك المدة. على أنه لم ينس أن يجس المسيحيين بين حين وآخر، وكان موضع جسه حصن الكرك وفيه ذلك الفارس الشجاع «أرناط». على أنه كان كلما حاصره عرف عجزه عن أخذه مع خوفه من جانب الموصل، وكان موقنا أنه إذا اشتبك مع المسيحيين كان النضال نضال حياة أو موت، فلا يفارق أحد الجانبين عنق الآخر إلا بموت واحد منهما؛ ولهذا آثر أن يبدأ بعلاج البثرة التي في جانبه قبل أن يلج باب النضال الهائل مع أعدائه المسيحيين. وهكذا ذهب إلى ميدان الموصل وقضى فيه ما بين سنة 1185-1186م/581-582ه بين حصار لتلك المدينة وانصراف عنها ثم عودة إليها، وكان جماعة من أمراء الجزيرة يصحبونه، فلما قرب من الموصل أول مرة سنة 1185م أرسل إليه عز الدين يطلب الصلح على يد جماعة من الأمراء، وأرسل معهم والدته وابنة عمه نور الدين محمود؛ سيد صلاح الدين، وغيرهما من النساء النبيلات، وهناك كان كل الناس يعتقدون أن صلاح الدين لا بد أن يجيب طلب هذه الوفود؛ لما كان معروفا عنه من رقة الخلق ولا سيما مع النساء، ولما كان مشهورا عنه من إجلاله لبيت سيده نور الدين. ولكنه هذه المرة لم يعمل بما يوحيه إليه قلبه، بل رأى الأمر أمر دولة يجب ألا يدخل فيه اعتبار العواطف، فجمع أمراءه فأشاروا عليه برفض الرجاء. وهكذا كان، وارتكب صلاح الدين برفض طلب هذه الوفود خطأين: أحدهما خلقي والآخر سياسي، وإذا كان الخطأ الخلقي لا يعني أهل السياسة فإنه على كل حال يعني من يدرس حياة صلاح الدين الذي لا يكاد المدقق يرى شائبة في خلقه من قسوة أو نقص في المروءة والشهامة. على أنه قد يغفر له الخطأ لو اعتبرنا الظروف التي كانت تحيط به، ورأي كبار أمرائه الذين أكدوا له أن أمر الدولة يجب ألا يدخل في تدبيره ضعف الرحمة أو الحفاظ.
وهكذا استقر الأموأما الخطأ السياسي فذلك أنه رفض الصلح وهو غير عارف تمام المعرفة بحال خصمه، وكثيرا ما يطلب الخصم الصلح وهو قوي حتى يخلص من ويلات الحرب، أو لعل الخصم يتظاهر بحب السلام لكي يضع خصمه أمام الناس موضع المعتدي الظالم فيكسب عطف العالم. وعلى كل حال فقد لقي صلاح الدين جزاء تلك الغلطة سريعا، ويدلنا على حسن رأيه أنه عرف خطأه بعد قليل، فعاد يلوم من أشاروا عليه بسلوك سبيل المخاشنة، وتحمل لوم من لامه وقبح فعله مثل القاضي الفاضل مساعده الكبير بمصر. وقد نجح عز الدين بسلوكه ذلك في استنهاض همم الناس معه، فساعده عامة أهل الموصل وحاربوا مع جنوده مستبسلين؛ ولهذا لم يقدر صلاح الدين على أخذ المدينة، وانصرف عنها مدة قضاها في بلاد الأرمن الإسلامية التي فسد أمرها بعد موت صاحبها «شاه أرمن»، فاستولى على ميافارقين أكبر بلادها وحصونها، وأقر أمراءها عليها بشرط أن يكونوا تبعا له على حسب عادته كلما فتح بلدا إسلاميا، ثم رجع إلى الموصل فاستمر على حصارها، وترددت الرسل بينه وبين عز الدين بالصلح، فقبل أخيرا على أن يكون عز الدين تابعا له ويخطب له على منابر بلاده ويكتب اسمه على السكة وينزل له عن كل ما وراء نهر الزاب من بلاد الجزيرة.
وهكذا استقر الأمر أخيرا بين صلاح الدين وجاره الشجاع عز الدين الذي يمثل البيت المجيد: بيت عماد الدين زنكي، وقد حدثت في أثناء المفاوضة حادثة تستحق أن تذكر؛ وذلك أن صلاح الدين مرض حتى أشرف على الهلاك، وكان ابن عمه محمد بن شيركوه قريبا منه، وكانت له أقطاع حمص والرحبة، فسار إلى حمص وجعل يمهد السبيل إلى تملك الملك لو مات صلاح الدين، ولكن صلاح الدين عوفي وعرف الخبر، فلم يمض غير قليل حتى مات ابن شيركوه على أثر ليلة شرب فيها كثيرا من الخمر، وتقول ألسنة السوء: إن صلاح الدين دس إليه من قتله بالسم وهو ينادمه. والحق أن المؤرخين يظهرون في هذه القصة كثيرا من الاحتراس فيقولون دائما: «والعهدة على من يقول ذلك»؛ لأنهم شاعرون أن مثل هذا العمل لا يتفق وما عرف عن صلاح الدين من الزهد في الدنيا والتغاضي عن الإساءات؛ فقد كان يعرف من عدوه الغدر ثم إذا رأى نفسه قدر عليه عفا عنه ولم يحرجه، بل لقد كان يحسن إلى عدوه ويتغاضى عن ماضي إساءته، فهل كان مثل هذا الرجل ليسم ابن عمه لأنه سمع عنه خبر عزم على أن يملك البلاد لو مات، ولم يفكر في الخروج عليه ولا إضرام نار ثورة؟!
وهل كان صلاح الدين يخشى أن يجرد ابن عمه من أقطاعه لو صح عنده العزم على عقابه؟! إنه كان على رأس الدولة؛ يطيعه أمراؤه جميعا، ويحبه أهل البلاد والعسكر على السواء، فما كان من العسير عليه أن يعاقب ابن عمه بأية عقوبة لو رآه مستحقا لهذا. ولئن كان خشي من إثارة ثورة بين أمرائه أو بين أفراد أسرته لو أوقع بابن عمه؛ أما كان يخشى أن يثير ثورة أكبر بمثل هذا الغدر وتلك الخيانة؟! على أن صلاح الدين أثبت أقطاع محمد بن شيركوه لابنه الصغير، ولو كان الأمر قد بلغ حد أن يسقي الأب السم لما كان يرعى حقه في ابنه. وقد قال ذلك الابن علنا مرة في حضرة صلاح الدين قولا يفيد أنه يتهمه بالاستيلاء على شيء من ميراثه؛ لأن صلاح الدين كان قد أخذ للدولة أكثر آلاته وخيله وأمواله، ولو كان هناك شك في أن صلاح الدين شريك في قتل أبيه لما كان تردد - وله تلك الصراحة - أن يتهمه بذلك علنا . إن الظنون تذهب في الخطأ بعيدا في العادة، فما بالك وقد اتفق موت الرجل المتهم بعد جنايته فجأة؟ إنه من الطبيعي أن يظن الناس في الأمر شيئا من الأسرار؛ ولا سيما وقد كان ذلك العصر عصر أسرار خفية كثيرة.
على أن هذه القصة تلوح لنا محض رواية خيالية فيما يتعلق بابن عمه محمد بن شيركوه، ولعل هناك خلطا بين الحوادث؛ فقد ورد ذكر مثلها عن تقي الدين ابن أخي صلاح الدين وكان بمصر؛ وذلك أنه أثناء مرض صلاح الدين جرى من تقي الدين حركات تدل على عزمه على الاستبداد بالملك إذا مات السلطان، فلما عوفي بلغه الأمر فأرسل إليه صديقه الفقيه عيسى الهكاري وكان مطاعا في الجند وأمره بإخراج تقي الدين من مصر، وأرسل في نفس الوقت إلى تقي الدين يدعوه إلى الحضور إلى الشام، فعصى تقي الدين أولا وعزم على الخروج إلى برقة، وكان مملوكه «قراقوش» قد ملكها ولكنه عدل أخيرا وذهب إلى الشام، فأحسن إليه صلاح الدين وأقطعه حماة وبلادا كثيرة غيرها بالشام وأرمينيا، ولم يعاقبه على شيء مما بدر منه، بل إنه «لم يظهر له شيئا مما كان».
Page inconnue