Saladin Ayyoubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
فبينما كان يطهر الترع القديمة ويقوي جسور النيل وينظم الضرائب بمساعدة رجال أفاضل مثل القاضي الفاضل والعماد الكاتب كان لا ينسى الوجهة الأدبية؛ فأدخل نظاما جديدا في التعليم لم يكن من قبل موجودا بمصر؛ وذلك هو نظام المدارس.
صورة باب في سور القاهرة على الشكل البوزنطي.
لقد كان من قبل في مصر مدارس كبرى مثل دار الحكمة والأزهر وجامع عمرو، ولكن الأول والثاني كانا خاصين بتعليم أسرار الشيعة والباطنية، فكان التعليم بهما مصبوغا بصبغة الدعوة الفاطمية. وأما جامع عمرو فكان في الواقع مدرسة صغيرة لا تفي بغرض التعليم العام؛ ولهذا بدأ صلاح الدين بإدخال نظام المدارس العامة التي يسمح فيها بالعلم لكل من شاء، وبدأ في ذلك منذ صار في مصر وزيرا للعاضد الفاطمي. وما زال بعد ذلك يزيد في هذه المدارس حتى صار منها كثير في أنحاء القاهرة مبعثرة من قرافة الإمام الشافعي في الجنوب إلى سوق السلاح في الشمال، ولعل عظمة الأزهر - بصفته مدرسة للعلم - لم تبدأ إلا منذ ذلك الوقت. ولكن لم يكن في تلك المدارس ما سمي باسم صلاح الدين، ولعل ذلك كان ناشئا من خلقه المتواضع، فلا نعرف إلا قليلا من أعماله ما أطلق عليه اسم نفسه قصدا.
على أننا لا نستطيع أن نقول: إن صلاح الدين أدخل التعليم بالمعنى الحديث وإلا كان ذلك إنكارا منا لروح العصر؛ فإن التعليم الدنيوي - أي تعليم الناس كيف يعرفون الحياة ويعملون فيها - لم يكن القصد من المدارس في ذلك الوقت؛ فإن أكبر ما كان يدرس فيها هو القانون أو الشريعة على المذاهب الأربعة. وأما التعليم الصناعي وغير ذلك من فروع العلم المتعلقة بالحياة المادية فلم يكن ذا شأن في تلك المدارس، بل كان متروكا إلى أهل الصناعة أنفسهم، كل طائفة تسير على خطتها فيه، ويتعلم الصغار بالممارسة طريقة الكبار الذين سبقوهم في الصناعة.
وأما التعليم الحربي فكان في داخل الجيش نفسه، وكان كل ما يتعلق بآلاته واستعمالها يتعلمه الأفراد ممن نبغوا في الفن. وكان رجال الجيش كلهم - أو على الأقل جلهم - من الأتراك والأكراد الذين في خدمة الأمراء، فكان التعليم مقصورا على طائفتهم، فيدخل الصغير الخدمة ولا يزال بها يتقلب على أنواع الأعمال ويتعلم أثناء ذلك تدريجا ما يؤهله للجندية، واستمر هذا إلى أن زاد الأمر زيادة كبرى في هذا السبيل عندما صار الجيش من المماليك بعد عصر صلاح الدين وصدر الدولة الأيوبية.
وإذا قلنا: إن التعليم في ذلك العصر كان ناقصا من هذه الجهة فليس معنى ذلك أنه كان ناقصا إذا قسناه بما كان في العالم إذ ذاك؛ فإن الواقع كان غير ذلك؛ لأن الدولة الإسلامية كانت في ذلك العصر هي الدولة المستنيرة ذات العلم والصناعة والمدنية الموروثة عن القرون الماضية من مدنيات الدول الإسلامية السابقة، في حين كان العالم الغربي لا يزال ناشئا يفتح عينيه لأول أشعة النور الضئيلة.
وكان للإصلاح الذي أدخله صلاح الدين أثر عظيم في مصر بنوع خاص؛ وذلك أن مصر بقيت بعد ذلك دولة محصنة قاومت الهجمات العنيفة التي صدمت العالم الإسلامي بعد ذلك بقليل عند هجوم التتار ذلك السيل الجارف المخرب، واحتفظت مصر لهذا بكنز من العلم الأدبي ودراسة القانون الإسلامي، فلم ينحط مستوى الحياة الأدبية في الشرق عامة وفي مصر خاصة إلى المستوى الذي هبط إليه في القرون الوسطى والعصور المظلمة في أوروبا، بل بقي الشرع عاليا أمام الناس؛ يحفظه كثير من أهل البلاد، وتعلو أصواتهم بالاحتجاج على من يعبث بالناس ويخرق القانون، فقلل ذلك من سوء الحال أيام الاستبداد الذي هوى إليه العالم الإسلامي في القرون التي تلت القرن الثالث عشر.
5
ولعل هذا هو السر في أن الشعب الإسلامي - ولا سيما المصري - لم ينحط إلى درك العبودية أو شبه الرق الذي كان فيه شعب أوروبا في عصر جهالته؛ فقد كان من حفظة الشرع من ينشر على الناس أحكام القانون ويعلمهم ما يجب عليهم وما يحق لهم، ومن يرفع منار القانون عاليا أمام الحاكم حتى لا تضل أحكامهم ضلالا بعيدا أو تجرفهم فوضى الحروب إلى الاستهانة بالحريات؛ ولهذا كان الشعب دائما محتفظا بكثير من كرامته وحقوقه. وأما ما نسمعه عن مظالم العصور التي أتت بعد القرن الثالث عشر فكان أكثرها مظالم مالية لا شخصية، وكانت أكثر المظالم الشخصية واقعة على الأمراء والجنود، وهؤلاء منعزلون تمام الانعزال عن الشعب؛ فقد كان الأمراء يوقعون بعضهم ببعض ويخترقون القانون في أثناء نضالهم ويرتكبون الفظائع، ولكن ذلك لم يتعد كثيرا إلى الأهالي الذين كان العلماء على رأسهم حماة للحريات الشخصية،
6
Page inconnue