Saladin Ayyoubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
بعد أن مات نور الدين تركت الدولة الإسلامية الكبرى لابنه الملك الصالح إسماعيل وهو صبي يبلغ من العمر نحو إحدى عشرة سنة، وجعل مقامه بدمشق، وحلف له الأمراء الكبار، وضربت النقود باسمه في كل جهة من أول مصر إلى أطراف الشام. وكان في البلاد الشامية والجزيرة عواصم ثلاث أخذت القيادة في حوادث تلك الأيام؛ وهي دمشق وحلب والموصل، وكان أول صوت أذن بالاضطراب في دولة نور الدين آتيا من نحو الموصل؛ إذ إن سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين (أي ابن عم الملك الصالح) أسرع إلى الاستقلال بما يليه من البلاد وأعلن نفسه أميرا على الجزيرة، وكان حوله من أمرائه من يحسن له أن يذهب إلى الشام ويستولي عليها؛ فليس بها من مانع، ولكنه آثر أن يقنع بالجزيرة، وبقيت الشام في أيدي الملك الصالح أو بقول أدق: بقيت في أيدي الأمراء الذين استولوا على الملك الصالح تحت اسم الوصاية عليه وتولي تربيته، فكان الأمر في الواقع في يد شمس الدين محمد بن عبد الملك المشهور بابن المقدم بدمشق، وشمس الدين علي ابن الداية؛ وهو أكبر الأمراء النورية، وكان في حلب. وقد شهد الفرنج ما أصاب دولة نور الدين من الصدع بعد موته؛ فإن مصر صارت مستقلة ولو أن صلاح الدين كان خاضعا في الظاهر للملك الصالح داعيا باسمه على منابره، وكانت الجزيرة في يد سيف الدين غازي، وحلب في يد شمس الدين ابن الداية، ودمشق والملك الصالح بها في يد شمس الدين محمد ابن المقدم، وكان بين هؤلاء جميعا تنافس على أيهم يسود، وكل منهم ينظر إلى الآخر مترقبا حذرا أن يثب به إذا هو لقي منه غرة. فانتهز الفرنج الفرصة وألقوا بفرسانهم إلى دمشق وما جاورها، ولم يستطع شمس الدين ابن المقدم أن يقاوم هجماتهم، أو لعله كان يستطيع ولكنه آثر أن يذل لهم زعما منه؛ لأن الأمراء في الموصل وحلب وصلاح الدين في مصر إذا رأوه منشغلا في حرب الفرنج ينتهزون فرصة انشغاله فيهبطون على ما في يده فيسلبون طعمته. وهكذا يضمحل أمر الدول إذا هوى في أيدي قوم لا يتطلعون إلى أبعد من أنوفهم ولا يدركون إلا ما تقدره نفوسهم الصغيرة.
فصالح شمس الدولة ابن المقدم الفرنج على مال يعطيه لهم وأسرى يطلقهم ممن كانوا عند المسلمين منذ حروب نور الدين.
وأعقب ذلك بالشام تنافس شديد بين أمير حلب وأمير دمشق على أيهما يستولي على الملك الصالح، وأدى ذلك إلى أخذ الملك الصالح إلى حلب ثم إلى مفاوضة مع سيف الدين صاحب الموصل أن يأتي إلى الشام لكي ينجي دولة نور الدين من سفه أمرائه المتنافسين، ولكن سيف الدين أبى أن يتدخل في ذلك، فارتدت المفاوضة إلى جهة مصر، وبلغت الدعوة صلاح الدين ليأتي إلى الشام، وكان قد فرغ من إصلاح أمر مصر وتثبيت قواعد دولته فيها، فلبى الدعوة وسار نحو دمشق، وبذلك بدأ أول خطوة في سبيل التدخل في أمر حكام الأنحاء الأخرى من الدولة الإسلامية، ولن ينتهي السير به في ذلك السبيل دون توحيد جميع الدولة في يده فتكون قوة واحدة للجهاد كما كانت في يد نور الدين، وقد وقع ذلك ما بين سنتي 1174-1186م. (9) الإفرنج أمام الإسكندرية
كان موت نور الدين - كما قدمنا - مؤذنا بسعي الفرنج من جديد لكي يستردوا ما أخذه منهم ذلك الملك العظيم، فثاروا بالشام وذهبوا إلى قرب دمشق، وكان أبناء نور الدين ووزراؤهم على غير ما عهد الفرنج من أبيهم العظيم، وكذلك ظن الفرنج الذين اشتركوا في التآمر على صلاح الدين - كما أسلفنا - أنهم يستطيعون عند ذلك أن يضربوا ضربتهم لتكون قاتلة. فاجتمع لهم سفن كثيرة من الشام وصقلية بلغت عدتها نحو 282 سفينة، وجاءوا إلى الإسكندرية ونصبوا المجانيق والدبابات عليها في يوليو سنة 1174م، ولكن شتان بين ما لقيهم به صلاح الدين من العدة وبين ما لقيهم به وزير الملك الصالح بدمشق؛ فقد كان أهل مصر واثقين بقائدهم وحاكمهم؛ ولهذا أبدى أهل الإسكندرية من الشجاعة ما أدهش المهاجمين، ثم وصلتهم نجدات العسكر فزادهم ذلك صبرا في الحرب، ثم بلغ الأمر إلى صلاح الدين فأسرع بجيش إلى الإسكندرية وبالغ في الاحتياط، فأرسل جيشا آخر إلى دمياط، فلما عرف المدافعون مسيره إليهم دبت فيهم حماسة عظيمة وأبلوا بلاء حسنا، فهزم الفرنج وغرقت لهم سفن كثيرة وفشلت حملتهم فشلا تاما. ولسنا ندري ماذا كان يحدث لو وقع الهجوم من أربعة شهور قبل أن يقضي صلاح الدين على رءوس المتآمرين في داخل البلاد؟ (10) استتباب الأمر لصلاح الدين في مصر
دخل صلاح الدين مصر أول مرة مع عمه سنة 1164م، ودخلها آخر مرة مع عمه أيضا سنة 1169م، ثم أقام بها وزيرا للعاضد إلى سنة 1171م، ومن ذلك الوقت صار فيها شبه ملك مستقل خاضع لنور الدين على الأسلوب الإقطاعي، وقابل مشاكل مصر العديدة منتصرا في كل موقف بغير أن يحدث زعجة أو يثير ضجة، بل لقد وقف - وهو وزير - بين نور الدين السني المجاهد وبين العاضد الفاطمي، واستطاع بكياسته وحسن اختياره أن يحفظ توازنه ويسير الأمور سيرا ناعما، فلم يحقد عليه العاضد بل ظل على تقديره والإخلاص إليه حتى مات، وليس أدل على ذلك من طلبه رؤيته وهو في أشد حال من مرضه قبل وفاته. وكذلك لم يجد نور الدين في سلوكه ما يجعله يندم على إقرار أمره والموافقة على تقديمه أمام الجلة من كبار أمرائه. ثم أصبح - بعد موت العاضد - ملكا على مصر فعلا مع بقائه على الخضوع لنور الدين، وبدأ يشترك في أمور الدولة الإسلامية العامة في حين ضبطه لمصر في داخلها وخارجها، فإذا قلنا: إن سياسته كانت تامة النجاح لم يكن في ذلك شيء من المبالغة؛ إذ ما أتى آخر عام 1174م حتى كان قد أسس دولة فتية على رأسها جيش واثق برئيسه وتدعمها سياسة اقتصادية حكيمة ملأت خزائن الدولة بغير أن تنسى الإصلاح والتعمير، وإذا كان لرأي الشعب في تلك العصور قيمة فقد أدرك الشعب المصري أن فوقه رجلا ولا كالرجال، بل هو القائد الفذ والمصلح الذي لم يعهد مثله؛ فهدأت أحوال مصر وسارت في سبيل الاطمئنان الذي سيعدها لاستقبال عصرها المجيد أيام دولة بني أيوب ومن جاء بعدهم من السلاطين المماليك، فلا نسمع بعد بثورة إلا كان القضاء عليها أمرا لا يحتاج لأكثر من أيام كثورة قامت بها البقية القليلة من أعداء دولة صلاح الدين وكانت في الصعيد بقيادة رجل يعرف بالكنز، فلم تلبث أن قضي عليها قضاء يدل على أن أساس الدولة قد صار راسيا متينا.
باب زويلة (مثل من بناء سور القاهرة).
ولم ينس صلاح الدين أن يجعل لمصر حصنا كما كان لبلاد الشام حصون، ولم يرض عن سور القاهرة ولا عن حصنها فصعد في الجبل واختار أقرب رأس منه مشرف على القاهرة، وفكر في أن يبني عليها قلعة، ولا نقدر إلا أن نرى في عزمه هذا أثرا من آثار العصر وروحه؛ فإن المحاربين عند ذلك كانوا لا يثقون إلا في القلاع سواء في ذلك الفرنج والمسلمون، وكان الشرق من الشام إلى فارس لا يرى العز والمنعة إلا في القلاع في تلك العصور المضطربة، وكانت مصر بلادا سهلة؛ فمن ملك ناصية الجبل المطل على عاصمتها استطاع أن يمتنع على المغير الأجنبي إذا غزا أرباض القاهرة، وكذلك يستطيع من يملكها أن يظهر لكل ذي عينين في تلك العاصمة أن هناك قوة كبيرة ماثلة أمامه يقبض عليها رأس الدولة ويقدر أن يقذف بها على من يخالفه.
ولكن مشاكل الدولة الإسلامية بعد موت نور الدين دعت صلاح الدين إلى أن يترك مصر وأمورها إلى حين؛ ولهذا لم يبدأ بناء القلعة والسور الذي عزم على إقامته بينها وبين والقاهرة، بل أجل ذلك حتى يقابل الأخطار التي كانت تهدد دولة نور الدين؛ فأسرع إلى الثغرة ليسدها؛ لأنه شعر أنه وارث العبء بعد وفاة العميد الأول (نور الدين)، وأن عليه واجبا كبيرا: وهو جمع الأزمة في قبضة واحدة ليتم عمل السابقين في جهاد أعداء الدولة الإسلامية. (11) حروب الشام الأولى
كانت رحلة صلاح الدين الأولى أشبه شيء برحلة زيارة؛ إذ إنه لم يعد عدة الحرب ولم يظهر بمظهر الفاتح، وإنما ذهب إجابة لدعوة توجهت إليه، ووجد في البلاد التي دعته استعدادا للانضمام تحت لوائه وسرورا بالاتحاد مع دولته المصرية العظيمة.
سار في نحو سبعمائة فارس في أواخر عام 1174م/570ه حتى بلغ دمشق، ولم يجد حربا لا من أصحاب البلاد المسلمين ولا من المسيحيين الذين على جانب طريقه، فخرج إليه أهل دمشق وعسكرها ورحبوا به، وأعلن أنه إنما جاء في خدمة الملك الصالح ونصرته، وسلمت له القلعة بدمشق، وحدث الانقلاب بغير سفك دماء، ثم سار إلى الشمال نحو حمص وحماة وهو يردد إعلان أمره، وأنه إنما جاء في سبيل نصرة الملك الصالح ليمنع عنه جوار ابن عمه سيف الدين غازي من جهة، واستبداد أمرائه من جهة أخرى، واعتداء الفرنج على بلاده من جهة ثالثة ، وقد قاومته قلعة حمص حينا إلى ما بعد حصار حلب ثم سلمت إليه. ولكن انضم إليه صديقه القديم «جورديك» وكان حاكما على قلعة حماة وسارا معا إلى حلب، وكان الأمراء الذين مع الملك الصالح يفزعون من أن يستولي صلاح الدين على حلب خوفا من أن يكون الملك الصالح في يده دونهم، فقاوموا وجعلوا الملك يستثير حمية أهل حلب للدفاع عنه حتى ساعدوه مستبسلين وخرجوا إلى حرب صلاح الدين، وقد بذل أمراء حلب في ذلك الوقت همة في الدفاع عن أنفسهم لم يكن صلاح الدين يتوقع مثلها منهم؛ فقد كان الأمر أمر حياة أو موت لهم؛ ولهذا أرسلوا باسم الملك الصالح يستنجدون بمن يتوقعون منهم المساعدة؛ لا يبالون بشيء إلا بأن يخلصوا من خطر صلاح الدين؛ فأرسلوا إلى الفرنج يطلبون مساعدتهم، وكان كبيرهم «الكونت ريمون» - حاكم طرابلس - ويسميه العرب القمص ريمند، وكان إذ ذاك أكبر أمراء ملك الفرنج المجذوم «بلدوين الرابع»، وكذلك أرسلوا إلى سنان مقدم طائفة الباطنية الفدائيين الإسماعيلية لكي يرسلوا فتاكهم يغتالون الرجل المخيف الذي قد يعجزون هم وحلفاؤهم عن مقاومته صراحة في ميدان النضال الشريف، وأرسلوا إلى جهة ثالثة غير مؤملين منها مساعدة - وهي الموصل - حيث كان سيف الدين غازي.
Page inconnue