أما هي فإنها شاركته في الغضب وأحست بنوع من الخجل؛ لأن الذين قاموا بتلك المؤامرة من رجال أخيها فقالت: «نعم، إنها خيانة عظيمة، ولكنني أستغرب وقوع مثل هذا العمل من قوم عقلاء ... فربما كان الساعون فيه من بعض العامة الجهلاء.»
قال: «إنهم من أكبر الأمراء الأعيان، وفيهم رجل يزعم أنه من سلالة العبيد بين أقربائكم. ولم نوفق إلى القبض عليه مع من كان في القصر منكم، وحسبناه اكتفى بالنجاة من القتل واختفى، لكنه الآن من أكبر المحرضين على الخيانة، أظنك عرفته ... ولولا دخوله في هذا الأمر لم أتعبك في شرح هذه الواقعة. وإنما أردت الاستعانة بك في استطلاع حاله لعلك تعرفين عنه شيئا؛ لأنه أقرب المقربين لأخيك - رحمه الله - حتى إنه كان طامعا في ولاية العهد بعده، أظنك عرفته.»
فعلمت سيدة الملك أنه يعني أبا الحسن فامتقع لونها غضبا وقالت: «نعم عرفته، أظنك تعني ذلك الشريف الكاذب، إنه يدعي النسب فينا وليس هو منا، ألا تعني أبا الحسن؟»
قال: «إياه أعني، إنه من أكبر المنافقين الخائنين؛ لأنه جاءنا والمرحوم العاضد على فراش الموت وتوسل إلينا في نقل ولاية العهد إليه على أن يكون عونا لنا في كل شيء فلم نوافقه. فانقلب إلى دس الدسائس ونصب الحبائل، فأطاعه جماعة من المارقين، وسينال كل منهم جزاءه، وإنما ألتمس منك أن ترشدينا عما تعلميه من مكان أبي الحسن.» قال ذلك وهو يتلطف في السؤال بخفض صوته.
فظلت ساكتة وقد تمنت أن يكون ما يقوله صلاح الدين صحيحا ليقع أبو الحسن في شر أعماله وتتخلص منه، وأحبت أن تتحقق صحة تلك الدعوة فقالت: «نعم أعرف نقص هذا الرجل وسوء خلقه ومطامعه وسأبحث عن مكانه، ولكنني أرجو أن يكون سيدي على ثقة في الخبر، وإذا شاء أن يزيدني بيانا فإنه يعينني على البحث.»
قال: «إن هذا الخبر تلقيته من عدة مصادر، فشككت فيه حتى أتاني بشأنه كتاب من رجل لا أشك في صدقه، كتب الكتاب بخطه وقد وصل إلي في فجر أمس سرا مع وفد أرسله الإفرنج الموالون لأولئك الخائنين بحجة أنهم يحملون إلي هدية من بعض ملوكهم، وهم إنما يحتالون في مقابلة تلك العصابة ليتموا المكيدة، وهذا هو الكتاب إذا طالعته أغناني عن زيادة الإيضاح.» قال ذلك ومد يده إلى جيبه واستخرج لفافة دفعها إلى قراقوش ليقرأها.
ففتحها بهاء الدين وأخذ يقرأ:
أكتب هذا الكتاب إلى مولاي السلطان وأنا في أعماق السجن في بيت المقدس. ولا يسعني الوقت لتفصيل سبب سعيي؛ فإن الكلام فيه يطول وإنما أسرعت إلى كتابته لأنقل إلى مولاي خبرا مهما عرفته من ثقة، وأخاف إذا تأخر وصوله أن ينتهي بما أكره وقوعه، علمت بعد خروجي من مصر بموت العاضد وانتقال الدولة إلى مولاي السلطان، وسمعت وأنا في السجن أن بعض رجال تلك الدولة يجتمعون سرا في الفسطاط يتآمرون على إخراج هذا الأمر من حوزته. وقد خابروا الإفرنج في هذه الديار أن يهاجموا مصر بجند كثيف يجمعونه من هنا ومن صقلية، وأن أهل مصر يكونون معهم على جندكم. وأن أولئك المؤتمرين يرأسهم رجل من العلويين اسمه أبو الحسن، وهو الذي أغرى الناقمين على هذه الدولة فوافقوه واستنجدوا الإفرنج. وقد وافقهم الإفرنج وأخذوا يتأهبون لهذه الحملة، لكنهم هيئوا جماعة بصورة وفد يحمل هدية إلى السلطان صلاح الدين من ملك الإفرنج وهم في الحقيقة يريدون الاجتماع بتلك العصابة وإتمام المؤامرة. وقد وفقني الله بواسطة صديق لي هنا أن أطلع على ذلك، وأن أرسل هذه الرسالة مع حامل هذا الكتاب، وهو بحسب الظاهر من جملة خدم الوفد أو هو دليلهم في الطريق، فدفعت إليه هذا الكتاب، فإذا وصل إليكم فادفعوا إلى حامله مائة دينار وأكرموه. أما أنا فما زلت هنا وسأبقى حتى يتاح لي الخروج للقيام بالمهمة التي وقفت حياتي للقيام بها في خدمة مولاي السلطان، وأنا ظافر بها بإذن الله، فإما أن أعود إليكم فائزا منصورا أو أموت في هذا السبيل فداء لمولاي؛ لأن حياتي وحياة كل رجاله مبذولة في خدمته.
كانت سيدة الملك تسمع الكتاب ونفسها تحدثها في أثناء ذلك أن الكتاب يتعلق بعماد الدين. فلما سمعت قوله في الفقرة الأخيرة يذكر المهمة التي انتدب لها خفق قلبها وتبادر إلى ذهنها أن يكون هذا الكتاب من عماد الدين نفسه، خصوصا لأنه يقول إنه برح مصر قبل وفاة أخيها، فبدت البغتة في وجهها وتسارعت دقات قلبها ولم تتمالك عند الفراغ من تلاوة الكتاب أن قالت: «هل يأمر السلطان أن أعرف من هو صاحب هذا الكتاب؟»
قال: «ينبغي لنا حفظ اسمه، لكنني نظرا إلى ما بدا لي من غيرتك وصدق لهجتك لا أرى مانعا من ذكره، إنه شاب جمع بين المروءة والحماسة وصدق المودة، كنا أنفذناه لأمر هام لا يجسر عليه سواه، لا أظنك تعرفينه.» ووقع نظر صلاح الدين وهو يتكلم على نظر بهاء الدين قراقوش فقرأ في وجهه شيئا يستدعي التوقف عن التصريح، لكنه لم يدرك السبب ولا استطاع التوقف بعد أن وعد بالتصريح، ونظر إلى سيدة الملك فرآها متطاولة بعنقها وعيناها شاخصتان إلى شفتيه تكادان تحتلبان الكلام من فيه احتلابا فقال: «إن صاحب هذه الرسالة اسمه عماد الدين.»
Page inconnue