فتناوله وتردد لحظة وهو ينظر إلى صديقه عبد الرحيم فرآه يشجعه فشرب ما في القدح وأومأ إليه الشيخ أن يقعد. فقعد وأحس بعد قليل بالخدر ثم غاب عن رشده. •••
ولا تسل عن دهشته لما أفاق من غيبوبته وفتح عينيه فرأى نفسه في حديقة كالجنة بما يصفونها به من جري الأنهار وتعانق الأشجار وتجاوب الأطيار من صادح وسابح. وأول ما نبهه من رقاده نسيم مر على وجهه ويد لمست جبينه. فإذا هي يد غادة أو حورية كأنها البدر عليها ثوب يجللها لكنه لا يكسوها لشفافته. وبيمناها مروحة من ريش النعام تروح له بها. وقد وضعت يسراها على جبينه كأنها تمسح عرقه فظن نفسه أول وهلة في حلم وخاف إذا نهض أن يفقد تلك المناظر البديعة فصبر قليلا، فإذا بتلك الحورية تخاطبه بصوت رخيم قائلة: «انهض يا حبيبي إلى متى الرقاد؟»
فنهض ونظر إلى نفسه فرأى عليه ثوبا يشبه أثواب الأمراء لم ير على السلطان صلاح الدين أحسن منه. وعلى رأسه عمامة من نسيج مزركش بالقصب. وقد جلس على بساط من أجمل أبسطة عصره عليه الصور المنسوجة بالذهب. وقضى برهة وقد أخذته الدهشة ينظر تارة إلى نفسه وطورا إلى تلك الحورية، وآونة لما بين يديه أو لما يقع عليه بصره من الأشجار والأزهار وما يسمعه من خرير الماء وتجاوب الأطيار، وما يفوح من الروائح العطرية مما لم ير مثله ولا خطر بباله.
وبينما هو يفكر في ذلك تقدمت إليه تلك الغانية وقد أزاحت نقابها عن رأسها وأرسلت شعرها الذهبي على كتفيها وهي تنظر إلى عماد الدين بعينين تكادان تنطقان بعبارات الحب وتشكيان لواعج الغرام. على أنه تجلد ونظر إليها وصبر لما يبدو منها فمدت يدها للمصافحة فناول يده وهو ما زال يحسب نفسه في رؤيا، فقبضت على أنامله وهي تقول: «ما بالك يا عبد الجبار ما زلت تحسب نفسك في منام؟ أنسيت أنك شربت ماء الحياة من يد مولانا الشيخ الأكبر؟ إنك في الجنة الآن التي لا يدخلها إلا المستحقون؟»
فتذكر القدح الذي شربه من يد راشد الدين فغلب على اعتقاده صدق دعوى ذلك الرجل وأنه في الواقع انتقل إلى الجنة بأنهارها وأشجارها وأطيارها، وأن هذه المرأة حورية من حورها. ثم تذكر سيدة الملك فأجفل وقال في نفسه: «ما لهذه المرأة تهم بقلبي لتختطفه وهو ليس لي؟» وتباعد عنها فتباعدت، وبان العتب في وجهها وتحولت عنه ثم غابت عن عينيه.
فتركها ومشى على أرض مكسوة بالعشب الأخضر اللون كالبساط المزركش وقد فاحت منه الروائح المنعشة، فوقع بصره عن بعد على قناة يجري فيها الماء لامعا كأنه الزلال، وعلى ضفتيها أشجار الفاكهة وقد وقعت أشعة الشمس من خلال الأغصان على ذلك الماء وهو يجري فتلون بألوان قوس قزح. فدنا من تلك القناة ووقف على ضفتها ينظر إلى الأشعة الواقعة على الحصى في قاعها كيف تتكسر وتتلون. وأنه لفي ذلك إذ رأى في الجانب الآخر حورية برزت من بين الأشجار ومشت نحوه وهي تبتسم له. فسره أن بينه وبينها قناة تحول دون وصولها إليه، وتوقع أن تقف على الضفة الأخرى وتخاطبه. فإذا هي تجاوزت الضفة ولم تزل ماشية إليه فوق سطح الماء ولم تبتل قدماها.
وتعاظمت دهشته لما رآها وصلت إليه وقدماها العاريتان تنتقلان فوق سطح الماء الجاري لا تقع فيه ولا تعكره أو تعيق سيره. فتحقق لديه أنه في مكان غير الأرض، وأن أولئك الحور من الملائكة. وصلت تلك الحورية إليه والهواء يعبث بشعرها ويلاعب أطراف ردائها. وبسطت يدها نحوه كأنها تستقبله وهو يحارب هواه ويتذكر سيدة الملك وحبها إياه ويهم بالابتعاد، فرأى وجه تلك الحورية شيئا يشبه ملامح حبيبته فذعر وتفرس فيها جيدا وحدثته نفسه أن تكون هي بعينها وأن مجيئها إلى تلك الجنة من جملة معجزات راشد الدين. فوقف ريثما وصلت الحورية إليه ومدت يدها نحوه، فمد يده وتصافحا وهو يتفرس في وجهها فكانت كلما دنت منه بعدت المشابهة بينها وبين سيدة الملك. لكنه استأنس بها وأحب أن يحادثها عما يراه. فلما دنت منه فاحت رائحة الطيب من ثوبها فوضعت يدها على كتفه فاقشعر بدنه فقال لها: «من أنت يا هذه وأين أنا؟»
قالت: «ألا تعرف أين أنت؟ إنك في جنة شيخ الجبل مولانا الإمام الأكبر.»
قال: «وهذا مقر أتباعه أجمعين؟»
قالت: «نعم. ولكن لا يمكث فيها إلا من أحسن البلاء في طاعته.»
Page inconnue