الصهيونية
تعريف الصهيونية
العودة والاعتقاد
العودة والتاريخ
تولد الصهيونية الحديثة
نمو الحركة
انتشار الصهيونية
ترس وعلم داود
الفرق والأحزاب الصهيونية
ماذا تعلم؟
ماذا نحتاج؟
الصهيونية
تعريف الصهيونية
العودة والاعتقاد
العودة والتاريخ
تولد الصهيونية الحديثة
نمو الحركة
انتشار الصهيونية
ترس وعلم داود
الفرق والأحزاب الصهيونية
ماذا تعلم؟
ماذا نحتاج؟
الصهيونية
الصهيونية
ملخص تاريخها، غايتها وامتدادها حتى سنة 1905م
تأليف
نجيب نصار
الصهيونية
تاريخها - غرضها - أهميتها «ملخصا عن الأنسيكلوبيديا اليهودية»
دلتنا الأبحاث التي دارت في مجلس الأمة حول المسألة الصهيونية أن حقيقتها ما زالت مجهولة، وأن الذين يديرون دفة السياسة في الآستانة ليس لهم وقوف تام على أهمية حركة الصهيونيين رغم كل ما كتبناه نحن وغيرنا عنها؛ فبينا نحن نتوقع من مجلس الأمة أن يعين لجنة خصوصية يكل إليها درس تاريخ الصهيونيين، والبحث عن غرضهم، وسبر غور أهمية حركتهم وعلاقتها بحياة الدولة والأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإذا بالصدر الأعظم، حقي باشا، يقول على منبر الأمة: ليست الصهيونية سوى رواية، وما القائمون بها إلا أفراد متهوسون.
فراعنا هذا الاقتناع، وعلمنا من التهم التي وجهتها طنين إلى الذين يطرقون هذا الموضوع أن الضعف غالب على مبادينا، وأن العثماني لا يسلم بإخلاص العثماني إلا إذا انقاد إليه انقيادا أعمى، وأن كل ما نقوله من عندياتنا وما نستنتجه من مجريات الحوادث، ومرويات التاريخ، وأقوال الكتبة الصهيونيين يحمل على غير محمله، فعمدنا إلى مصادر يهودية شتى أخصها الأنسيكلوبيديا اليهودية، وفيها من الحقائق ما لا يترك مجالا للاشتباه في حقيقة الصهيونية وأهميتها، ويقنع الصدر الأعظم بأنها أكثر من رواية يجب الحذر منها والتحوط لها، فيعلم صاحب طنين حينئذ أننا على هدى، ويضم صوته إلى أصوات الذين ينذرون بخطر الصهيونية على الوطن العثماني.
وليعلم قراؤنا جميعهم ما هي الأنسيكلوبيديات نقول: هي مجموعة تواريخ وآداب وعادات ومذاهب الشعوب. تكل الأمم الحية تأليفها إلى نخبة من كبار علمائها، وإليها يرجع الباحثون والمدققون في أبحاثهم؛ لأنها تتحرى الحقائق وتدقق فيها كثيرا.
والأنسيكلوبيديا اليهودية ألفها ستمائة من نخبة علماء اليهود تحت نظارة إدارات التأليف المشهورة في أميركا.
تعريف الصهيونية
جاء في المجلد الثاني عشر من الأنسيكلوبيديا اليهودية، في الصفحة 666، تحت عنوان زيونزم
Zionism
أو الصهيونية، أنها حركة ترمي إلى عزل الشعب اليهودي على قواعد ملية إلى وطن خاص بهم، ونشير على الأخص إلى شكل الحركة الجديدة التي تتطلب وطنا لليهود في فلسطين، معترفا به اعترافا عموميا، ومؤمنا تأمينا شرعيا بحسب القاعدة التي أسسها ثيودور هرتسل سنة 1896، ومنذ ذلك العهد تسلطت تلك الحركة على التاريخ اليهودي أو أشغلته
Since then dominating the jewish history .
الكرمل: «الحركة التي تتسلط على تاريخ أمة أو تشغله لا يمكن اعتبارها وهمية، ولا يصح وصف القائمين بها بالمتهوسين».
العودة والاعتقاد
الأنسيكلوبيديا:
أساس فكرة عودة اليهود إلى فلسطين ترتكز على عدة أقوال وردت في الكتاب المقدس: أرميا 30 : 7-22، وحزقيال 39 : 25-29، ومراثي أرميا 2 : 14، ويوئيل 3، وهذه تدل على أن التشتيت كان زمنيا، ولكن تأتي أيام يرد الله سبي شعبه إسرائيل فيقيمون مدنهم الخربة ويسكنون فيها، ويغرسون كروما، ويشربون خمورها، «وأغرسهم في أرضهم، ولن يقلعوا بعد من أرضهم التي أعطيتهم.» عاموس 9 : 14.
وفي أشعيا 11-16 يقول: إن يهوذا وإفرايم ينقضان على أكتاف الفلسطينيين غربا، وينهبون بني المشرق معا، ويكون على أدوم ومواب «شرقي الأردن» امتدادهما، وفي زكريا 10 : 9-10 يقول: إنه يزرعهم في الأراضي البعيدة، ثم يرجعهم من أرض مصر، ويجمعهم من أشور، ويأتي بهم إلى أرض جلعاد ولبنان فلا يوجد لهم مكان.
الكرمل:
يستدل اليهود من هذا القول على أن عددهم يكون كثيرا حتى لا تعود تسعهم فلسطين، فيمتدون إلى لبنان وإلى ما وراء الأردن؛ ولذلك تراهم يضيفون كلمة سوريا إلى فلسطين، وفي بعض الأحيان تركيا آسيا والشرق كما سترى.
الأنسيكلوبيديا:
وبحسب أشعيا 2 : 1-4، وميخا 4 : 1-4، ومزامير 14 : 7، فإن الخلاص يأتي من صهيون، والقدس تكون المركز الذي تصدر منه الشريعة.
الكرمل:
نكتفي بهذه الشواهد من الأنسيكلوبيديا والأنبياء؛ لأننا لو قصدنا جمع كل الأقوال التي يتخذها اليهود دليلا على عودتهم إلى سوريا وفلسطين لاستغرقت مجلدا ضخما.
الأنسيكلوبيديا:
صفحة 668، الاعتقاد بكون المسيا (المسيح) يجمع الجموع المتفرقة يشار إليه في التلمود والكتابات المدراجية، وبين فلاسفة اليهود من يعتقد بأن المسيا بن يوسف يجمع بني إسرائيل حوله ويزحف على القدس، ويتغلب على قوة الأعداء، ويعيد العبادة إلى الهيكل (الحرم الشريف) ويقيم ملكه، على أنه يوجد بعض اللاهوتيين يعارضون هذه الفكرة، ولا يعتقدون بإعادة ملك داود، ولا بإعادة بناء الهيكل، ولا باسترداد فلسطين. هؤلاء تقول الأنسيكلوبيديا: إما أنهم يجهلون تعاليم التوراة والمواعيد الإلهية المعلنة بواسطة رجال الله، أو أنهم يسيئون تفسيرها.
العودة والتاريخ
قالت الأنسيكلوبيديا، مجلد 12، صفحة 667: الرجاء بعود الحياة الملية وبالرجوع إلى فلسطين، كان حيا في الشعب اليهودي منذ الأزمان القديمة؛ فمن بعد السبي الأول بقي اليهود في بابل يتشوفون إلى إعادة مملكتهم القديمة. كلما كثر تفرقهم من بلاد إلى أخرى، وكيفما اتسعت دائرة انتشارهم، بقي هذا الرجاء يتقد في صدورهم، وحاولوا من وقت إلى آخر أن يخرجوه إلى الفعل. خراب الهيكل على يد وسباسيانس وابنه طيطس في سنة 70 مسيحية كان أكبر عامل على تشتيت اليهود في أطراف الأرض الأربعة، ولكن لم يمض وقت طويل حتى عادت آمال الاسترداد فانتعشت من جديد، وأنتجت الثورات بقيادة عقيبا وباركوخبا سنة 118، وعجنت تراب فلسطين بدماء اليهود الذين حاولوا عبثا استرداد حريتهم الملية من أيدي الرومانيين الثقيلة.
ورغم هذه الصدمات دامت فكرة الاسترداد وصارت عقيدة، وتجلت في آداب اليهود الشعرية والنثرية في كل الأدوار من سقوط هيكل سليمان إلى اليوم، وفي منظومات ابن غابيرول وسليمان هالاوي ويهودا هالاوي وإبراهيم بن عزرا وغيرهم ما يدل على مقدار حنين اليهود إلى فلسطين، وأسفهم على زوال أمجادهم وآمالهم باستردادها. وفي الكتابات التلمودية أيضا ما يشير إلى عودته نظام الأشياء القديم إلى سابق حاله، وإلى استرداد الشرائع والعادات نفوذها في أحد الأزمان، وقد تكهن العلماء مرارا في تحديد ذلك الزمن.
غير أن الأحوال الخارجية التي عاش فيها اليهود قرونا صعبت عليهم الافتكار بإخراج ما طالما تمنوه وصلوا من أجله إلى الفعل، وكذلك حالت الاقتناعات الإضافية المولدة عن الاعتقادات الدينية التي غلفت فكرة الاسترداد دون التشبتث بأسباب فعالة، اعتقدوا أن الآلهة تقودهم؛ فبقيت لذلك الأيدي البشرية مرخية.
قام من حين إلى آخر رجال مثل شبناي زيبي في القرن السابع عشر، الذي مثل المسيا، وتظاهر بالدعوة ليعيد اليهود إلى أرض الميعاد. استعداد جماعات كثيرة من اليهود ليتبعوه لولا ظهور فساد دعوته دل على حرارة إيمانهم، ومتانة اعتقادهم بالاسترداد.
ثم تطرقت الأنسيكلوبيديا إلى ذكر محاولة الاستعمار في فلسطين وأميركا ومحلات أخرى في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، إلى أن قالت - في الصفحة 668 من المجلد الثاني عشر: كان لا بد من فشل هذه المشاريع الابتدائية؛ لأن الشعب اليهودي لم يكن قد تهذب بعد إلى حد معرفة حقيقة مركزه في العالم الحديث، ولم تكن عواصف الشعور التي مرت بأوروبا قد نبهته كفاية.
تولد الصهيونية الحديثة
العاملان اللذان أثرا في إظهار أول درجة من درجات الصهيونية الحديثة هما: قيام شعور ملي قوي، وظهور الأنتيسمتزم؛ أي مضادة اليهود. وبعد مقدمات فلسفية، قالت الأنسيكلوبيديا: فكرة الحرية الشخصية جرت في أثرها الرغبة في الحرية العنصرية، وعمل سويسرا وهونغاريا ومقاطعات البلقان المختلفة، ومحاولة أيرلندا تحرير ذاتها من السلطة الإنكليزية، واتحاد إيطاليا وجرمانيا على عنصرية كان لا بد من تأثيرها على اليهود، كان منهم - اليهود - كثيرون في مقدمات صفوف المحاربين من أجل العنصرية، ولم يخطر لهم حينئذ أن ذلك سيولد فيهم اشتياقا للاتحاد العنصري والحياة المشتركة.
تحت هذه التأثيرات، تولد في أوروبا الشرقية بين اليهود، لا سيما بين الناشئة الجديدة، شعور حياة ملية يهودية، حمل في جريانه عددا من أذكياء يهود اليوم والمتقدمين فيهم. منذ سنة 1830، اعتقد المؤرخ اليهودي سلفادور أن مؤتمرا أوروبيا يمكنه أن يعيد فلسطين لليهود، وبمثل ذلك اعتقد مؤسسو الإليانس الإسرائيلي «الاتحاد الإسرائيلي» لما ابتدءوا بالاستعمار في فلسطين تحت إدارة إلبرت كون، وشارنس نتر. وشيدت مدرسة «مكوي إسرائيل» الزراعية بقرب يافا.
في سنة 1852، هولنكسورث
Hollingsworth
الإنكليزي حض على إقامة حكومة يهودية من أجل حماية طريق الهند البرية، وسنة 1864 ظهر في جنيڤ كراس بالإفرنسية عنوانه: «واجبات الأمم في أن يعيدوا للشعب اليهودي قوميته»، وسنة 1868 كتب فرنكل كراسا في ستراسبورغ عنوانه: «إعادة القومية اليهودية»
Retablissement de la Nationalité Juive .
كتب هذا الكاتب كتابه متأثرا بالحركة الملية اليهودية في أيامه من الجهة الواحدة، ومن الجهة الأخرى بحالة اليهود غير الأمينة في أوروبا الشرقية، فجاهر بجسارة بوجوب إعادة تشييد حكومة يهودية في فلسطين بمشترى البلاد من تركيا.
وزاد بقوله: إذا لم يكن مشترى فلسطين ممكنا؛ فلنطلب وطنا معينا في جهة أخرى من الكرة الأرضية؛ لأن الغاية الوحيدة أن يكون لليهود وطن، وأن يكونوا فيه أحرارا من الأمم الأخرى - وقد وافقت فكرته هذه فكرة حزب التريتورياليين
territorialists ، أحد أحزاب الصهيونيين اليوم الصغيرة، الذي لا يحصر مطالبه في فلسطين كما سيجيء).
وقد أجريت عدة تدابير من هذا النوع لهذه الغاية.
وبين سنة 1835 و1840، كان موريتس ستين شنيدر
Moritz Steinschneider
بين القائمين بتأليف جمعية من طلبة المكاتب لنشر فكرة إنشاء حكومة يهودية في فلسطين، وبعد ذلك بسنة نشر كاتب مغفل الإمضاء في «الأورينت»
Orient ، نومرو 24، صفحة 200، مقالة يدعو فيها إخوانه ليسعوا باستحصال سوريا لليهود على شرط بقائها تحت سلطة الحكومة العثمانية.
وسنة 1847، نشر برثلمي قصيدة في جريدة السياكل
Le siècle
يحض فيها الروتشلديين على إعادة مملكة يهوذا إلى سابق مجدها.
وكتب لوزتو
Luzzatto
في 1844 إلى ألبرت كون يقول: «يجب أن يستعمر اليهود فلسطين لتعود إليها حياتها الزراعية والتجارية.»
وقد زادت أسفار السير موسى مونتفيوري وألبرت كراميو في فلسطين رغبة قوم موسى في وطنهم القديم، وصيرت شأن المسألة عظيما عند العموم.
وقد جد هنري دونانت، مؤسس مجمع جنيڤا، جدا متواصلا من أجل هذه الغاية، وحاول أن يحمل «الاتحاد الإسرائيلي العمومي» سنة 1863 على الاهتمام بهذه المشاريع، وسنة 1866 جرب ذلك مع الجمعية الإنكليزية اليهودية في لندرا
Anglo-Jewish Association
واليهود في برلين، فتألفت جمعيتان لتلك الغاية: الجمعية الفلسطينية العمومية
International Palestine Society ، وجمعية الاستعمار السوري الفلسطيني
Syrian & Palestine Colonization Society .
ولكن مساعيه لم تلق نتيجة كبرى، كما أن طلب السير منتفيوري من محمد علي باشا المصري إسكان اليهود في فلسطين لم يصادف قبولا.
ونظم بنداتو موزولينو مشروعا لإقامة حكومة يهودية في فلسطين بين فيه ما ينجم عن ذلك من الفوائد لليهود والإنكليز والعثمانيين، ولكنه لم يفلح في إقناع اللورد بالمرستون وعائلة روتشلد بمشروعه.
واجتهد الرحالة السياسي الإنكليزي الشهير، لورنس أولفانت، بالحصول على امتياز خط حديدي في وادي الفرات لإسكان مهاجري اليهود الروس على جانبيه، وتصور إيجاد مهجر لليهود في فلسطين في أرض جلعاد بنواحي «السلط»، وتأليف جمعية رأسمالها 10 ملايين روبل لمشترى مليون أو مليون ونصف فدان مصري؛ لإسكان يهود بولندا ورومانيا وآسيا تركيا، فلم يمنحه السلطان إذنا ولا بواحد من الطلبين.
داود دوب غوردون (1826-66)، وزيبي هرش غاليشر (1795-1874)، واليشع غوتماخر، وموسى هس، والتاريخي هنريخ غراتس، كانوا من دعاة اليهود الأقدمين للرجوع لاستيطان فلسطين، فكتب غوردون سنة 1871 في جريدته هاماغد سلسلة في استعمار فلسطين، جاعلا إياه أساسا لتجديد اليهودية، وكتب هس كتابه روم وأورشليم
Rom & Jerusalem ، الكتاب الذي بقي للآن من دعائم الآداب الصهيونية، وطلب معونة فرنسا لإنشاء هذه المستعمرات.
أما غاليشر فيمكن القول إنه كان أول صهيوني بالفعل، وقد حام في كتابه دريشات زيون
Derishat Ziyyon
حول استعمار فلسطين وزراعة الأراضي، وأنشأ مدرسة زراعية، وحامية إسرائيلية عسكرية، واعتقد أن الخلاص المنوه عنه في الأنبياء يأتي متتابعا، وبقيام اليهود لمساعدة أنفسهم، وسافر مرارا بقصد ترويج هذه الفكرة، وكان المسبب في تأليف أول جمعية استعمارية في فرانكفورت سنة 1861، وكان له شيء من التأثير على عمل شارلس نتر في فلسطين. وقد اشترك كثيرون من الحاخامات المتمسكين بالدين، كالرابي هلد سهايمر في حركته، والرابي غولد شميت من ليبسيج، كتب في جريدة يهودية قائلا: إن الاستعمار في فلسطين لمن الأمور المتناهية في التقديس.
وبعد ظهور كتاب هس بسنتين كتب غراتز في كتابه الياربوخ فير إسرائيلتن «كتاب الإسرائيليين السنوي» مقالة في «تجديد شباب العنصر اليهودي»
Die Veryungung des yudischen Stammes ، واجتهد أن يبين بأدلة من التاريخ أن الأمة العبرية مسيح نفسها، ومن واجباتها تجديد صبوتها، وافتداء نفسها بنفسها، ومن العبث انتظارها مجيء شخص واحد يفتديها؛ فكان لهذه المقالة صدى قويا حتى في المجالس الدينية.
الكرمل: يرى القارئ من كل ما تقدم ومما يجيء، أن الحركة الصهيونية تأسست ونمت على أسس عنصرية، ولغاية سياسية قومية. وما الأقوال بكون أكابر اليهود يسعون بإيجاد ملجأ مؤمن بعدالة الدولة الدستورية العثمانية لإخوانهم المضطهدين إلا من قبيل التمويه والتضليل الذي لا يجب أن يلتفت إليه. إن اليهود يستطيعون أن يلاقوا ملاجئ في غير بلادنا، وتحت حكومات أخرى أعرق منا بالدستورية لو لم تكن غايتهم سياسية كما سترى.
ومن العجيب كيف يطالبنا قوم موسى بالمساواة بينما هم يعملون على تخصيص أنفسهم عنا بامتصاص ثروتنا، ومحاولة طردنا عن وطننا ليستأثروا به، أيريد القائمون بالحركة الصهيونية أن يعيدوا تمثيل ذلك الدور من التاريخ القديم الذي مثله أجدادهم يوم خرجوا من مصر، فيستولون على البلاد ويهلكون الحرث والنسل؟! أقوال المحامين عن الصهيونيين تناقض أفعال هؤلاء كل المناقضة. عجبا؛ كيف أن بعض حملة الأقلام منهم في سوريا ومصر لا يخجلون من إنكار هذه المقاصد والمساعي المثبتة في أصدق كتبهم؟
نمو الحركة
قالت الأنسيكلوبيديا حوالي سنة السبعين للقرن التاسع عشر: بدأت مكانة العنصرية تزداد في اليهود، والفضل في ذلك لانتعاش الشعور العنصري في أوروبا عقيب نوال البلغاريين والصربيين وأهالي رومانيا حريتهم التامة.
پنسكر لم يعتقد بإمكانية صيرورة فلسطين وطنا لليهود، غير أن الشعور اليهودي اقتاد الآخرين بسرعة في تلك الوجهة.
بن يهودا كتب مقالات متتابعة في «الهاشاهار» يقترح على استعمار الأراضي المقدسة، وتوطين اليهود تدريجيا فيها، حاسبا ذلك الواسطة الوحيدة لخلاص اليهودية واليهود، وكتب إسحاق رولف كتابه المشهور «اروهات بات أمي» بذات المغزى. وقد أثرت هذه الفكرة على الكتبة المسيحيين فكتبوا فيها كثيرا، وأحدث موسى لوب ليلينبلوم وسمولنسكن تأثيرا كبيرا في إحياء النهضة الملية اليهودية في روسيا، وقد قال اللورد دزرئيلي: «إن العنصرية مفتاح التاريخ.»
وكتب كتبة كثيرون في الحركة اليهودية في ذلك الزمن، منهم جورج إليوت، ودانيال دروندا، ودافيد كوفمن، الذي قال: من يجسر أن يقول بما لا يمكن أن ينجم عن طوفان الشعور في قلوب اليهود؟ ومن يستطيع الجزم بأن جسم الشعور اللطيف هذا الذي لا يعرف له حد، وهذه القوى الغامضة التي تنمو على مرور الأجيال ولا تنقص تعبر بدون أن تخلف أثرا.
وزاد على ذلك يوسف يعقوب بقوله - في الصفحة 80 من «الجويش إيديالس»: «نظريات مردخاي في استرجاع الشعب المقدس للأراضي المقدسة تدل على المركز المنطقي لليهودي الذي لا يشاء أن يقضي تعاقب القرون بانقراض عنصره.» ناهيك عما كتبه غوسطاف كوهين وأما لازاروس من المقالات التي تناقلتها الصحف اليهودية في سبيل تحرير الأمة اليهودية في وطن يهودي في فلسطين.
وقد أدى هذا الهياج إلى تشكيل عدة جمعيات استعمارية - ليس فقط في روسيا - تحت رياسة رابنوڤيتش وپنسكر وشبيرا وليلينبلوم ومكس مندلستام وويسوتسكي، بل في فرنسا وألمانيا وإنكلترا وأميركا أيضا: كجمعية السنترال في غالاتس، وجمعية عزرا في برلين، والشوڤوفي زيون في لندرا، والشوى زيون في أميركا، والياشوب أرض إسرائيل في باريس. وتأسست أول مستعمرة إسرائيلية في فلسطين سنة 1874، غير أن الشروع بالعمل بصورة جدية لم يبدأ قبل سنة 1879.
حضر المؤتمر الذي عقدته جمعية الشوڤوفي زيون والجمعيات الأخرى بتاريخ 6 نوفمبر سنة 1884 لأجل تنظيم شئون مساعدة المستعمرين ممثلو خمسين جماعة، وعقد مؤتمر آخر في درسغنيك
Drusgenik
في 15 يوني سنة 1887، وآخر في ولنا
Wilna
سنة 1889، حضره 38 عضوا عن 35 جمعية.
وقد بلغت حركة الاستعمار أشدها في سنة 1894، ولكن الحكومة العثمانية صدمتها حينئذ صدمة قوية؛ إذ صعبت على اليهود الدخول إلى فلسطين (انظر المجلد الرابع من الأنسيكلوبيديا اليهودية، صفحة 47).
ولم يكن البارون هرش مخالفا للمبدأ في استعمار فلسطين، بل بالعكس وعد أن يساعد في المخابرة مع الآستانة.
الأنتيسيمتزم أو مضادة اليهود
وجاء في المجلد الثاني عشر من الأنسيكلوبيديا اليهودية، صفحة 670، أن ظهور الأنتيسيمتزم وانتشارها أثر أيضا على إنماء حركة الصهيونيين الحديثة.
فإن اليهود ظنوا أنهم بإحرازهم الحرية السياسية، وبانكسار الأبواب القديمة، وبموآنستهم الأمم يقضون على روح كراهة اليهود القديم.
ولكن الأمر جاء بخلاف ما كانوا يؤملون؛ فإن الحرية السياسية لم تخولهم المساواة الاجتماعية، والشعور القومي انقلب شديدا عليهم.
وفي الزمن الذي انتعش فيه شعورهم العنصري بعدما كان نائما، وحينما بدأ عمل الاستعمار في فلسطين يولد حماسا في قلوب جماعات اليهود اشتدت كراهة الأمم لهم، ومنذ سنة 1881، أخذت هذه الروح «الأنتيسيمتزم» تتقوى في أوروبا، وقد استخف بها بادئ بدء في أوروبا الشرقية؛ لأنهم زعموا أنها تضمحل أمام رقي الآداب والتعليم في تلك البلاد ، ولكن هذا الرجاء انتهى باليأس.
وكان لا بد من أن اشتراك بلدان ألمانيا وفرنسا والنمسا بهذا الروح، وعمل حكوماتها مع الأهالي بالاتفاق أن يحدث رد فعل في اليهود.
كثيرون منهم بقوا رغم انتشار «الأنتيسيمتزم» يعتبرونها عارضا ولا بد من زواله، غير أن بعضهم في أميركا وأوروبا الغربية اعتقدوا بوجود أسباب لها أعمق من أن تكون سطحية، وافتكروا أن يجدوا هذه الأسباب فيما يشعر به أقوام كثيرون من عدم إمكان مساواة اليهود بهم، وتخويلهم مقدار حرية الفرد والمجموع التي اعتقد اليهود بضرورتها لهم لحفظ صفاتهم الفردية.
وزد على ذلك أنهم شاهدوا أن نتيجة تجارب إخوانهم في إجابة مطالب الغير أسفرت عن ارتداد عائلات عديدة رئيسية في عصر المندلسونيين إلى النصرانية، وخافوا أن تؤدي إلى حل الروابط التي تربط اليهود معا، وتنتهي إذا استمرت بابتلاعهم، ومحو اليهودية من بين المذاهب.
الجماعات اليهودية الكبرى كانت تدرأ عنها صدمات الأنتيسيمتزم المتوالية بمقاومات سلمية، مما جعل عقلاء المسيحيين في جمعيات النمسا وألمانيا أن يعارضوا المضادة اليهودية، غير أن الفئة الصغرى المار ذكرها رأت بأن تقابل الأنتيسيمتزم بالرجوع إلى ما اعتبروه أساسا للحياة اليهودية - فكرة استمرار بقاء اليهود كشعب - فاتحاد هذا السير مع تنبيه الشعور الجنسي اليهودي واستعمار فلسطين الخيري ولد الحركة الصهيونية الجديدة.
الكرمل: نقرأ بين سطور هذا التعليل الذي جاءت به الأنسيكلوبيديا أن لليهود بعدما نالوا حريتهم السياسية في البلدان الأوروبية التي مر ذكرها؛ جعلوا الشعوب الأوروبية العريقة بالمدنية، والراغبة في منح الحرية والمساواة لكل من يخضع لقوانينها، ويحترم حقوق الوطنية فيها، لا سيما الفرنساويين منها، تنفر من نعرتهم، وأميالهم الجنسية، ومباديهم القومية، وتجاهر بمضادتهم، فأدرك اليهود أن هذه الشعوب صارت حية، وتميز بين النافع والضار، وما عادت تغتر بالأقوال الموهومة، ولا تترك مصالحها غنيمة لغيرها، فحولوا أنظارهم نحونا، وعلقوا آمالهم علينا، وعلموا أن للقبعة شأنا عظيما عندنا، وأننا نرغب بمداواة الحاضر بالحاضر، وأننا نعلق آمالا كبيرة على المواعيد، فوضعوا على رءوس ألسنتهم حلاوة، فبشر السطحيون منا أنفسهم بالانتفاع بأموالهم، وبتعمير البلاد بهم.
وقد غرب عن ذهن هؤلاء أن أوروبا سبقتنا في درس فن الاقتصاد مراحل، وهي تنازع بعضها على مرافقه، وتبني الأساطيل، وتحشد الجيوش، وتقيم الدنيا وتقعدها من أجله. فلو رأت حكوماتها أو شعوبها لنفسها خيرا من بقاء اليهود في بلدانها لما تركتهم يحولون أنظارهم شطر بلادنا وهي تنازعنا المنافع فيها. وأي دليل أعظم من استيلاء اليهود على نصف ثروة العالم على قلة عددهم وتفرقهم في الأرض؟! وأي برهان أسطع مما يشاهد عيانا في كل زمان ومكان من أن اليهودي لا يشتري شيئا يلقاه عند أخيه من غيره؟
نحن لا نلوم اليهود على هذا التضامن ولا نحسدهم عليه، ولكننا نلوم من يحط من قدر نفسه وشعبه منا باعتقاده أن لا صلاح فينا لتحسين أحوالنا، فيرجي إصلاحنا ممن يروم الاستفادة من غرورنا، والاستئثار بوطننا، وبموارد رزقنا، قبلما تنفتح عيوننا، فنميز بين النور والظلمة، وقبلما يتنبه شعورنا فندرك معنى الوطنية ومنافع التضامن.
عجبا، كيف يصلح حال العثماني في أميركا وأوروبا؟ وكيف يحسن العمل والكسب والتعلم هناك؟ وكيف يحسن حاله في مصر؟ وكيف كان حاله حسنا في العصور الخوالي؟ ليس في ذلك ما يدعو إلى العجب؛ فإن عمد الحكومة إلى بسط الأمن، والعمل بقواعد المساواة ونشر التعليم يكفي لإبلاغ العثمانيين إلى مصاف الشعوب الراقية، ذلك خير من الإقرار بالعجز، والقعود عن العمل، والالتجاء إلى من برهن التاريخ بأنهم لا ينفعون سوى أنفسهم لينفعونا.
لنا جولة في الأنتيسيمتزم بعد الفراغ من تاريخ الصهيونية.
الدكتور ثيودور هرتسل
الكرمل: رأينا أن نفرد لمطالعاتنا فصلا خصوصيا بعد الفراغ من تعريب أهم تقارير الأنسكلوبيديا.
قالت في الصفحة 671 من المجلد الثاني عشر تحت هذا العنوان: كان هرتسل في وطنه النمسا يرقب فوران الأنتيسيمتزم، وسنة 1895 كتب كتابه اليودنستات
Yudenstaat «الوطن اليهودي» في باريس؛ حيث كان مقيما في ذلك الزمن.
وقال: إنه إنما قصد من تأليف الكتاب بيان آرائه بصورة خصوصية لنفسه فيه، وإنه لم ينو إيقاف سوى عدد قليل من أصدقائه عليه، وقد قال أحدهم بعدما طالع الكتاب: إن عقل مؤلفه غير سليم. أما هرتسل فلم يكن يرمي إلى إحداث حركة فعلية، ولا الدخول في مناقشة على المبادئ الموضوعة في الكتاب الذي لم يلبث أن طبع في فيينا في ربيع سنة 1896، وما كاد يظهر للوجود حتى ترجم للغات الإفرنسية والإنكليزية والعبرية، وأعيد طبعه خمس مرات بالألمانية قبل سنة 1905. أما ما تضمنه الكتاب من الآراء والاقتراحات لتحقيق الأمنية، فيمكن إجماله كما يجيء.
ابتداء هرتسل بقوله: إن الأنتيسيمتزم خطر يهدد ليس اليهود فقط بل العالم بأسره، وهي في نمو مستمر ولا يمكن اجتنابها؛ لأن اليهود شعب يتعذر امتزاجه مع من حواليه في الحياة الاجتماعية، وخصوصا أن الامتزاج الحقيقي ممكن فقط بالزواج المتبادل. واستنتج من ذلك ضرورة تملكهم متسعا من الكرة الأرضية يكفي لأن يجتمعوا فيه ويقيموا لهم وطنا خاصا بهم.
ولتحقيق هذه الغاية اقترح على تشكيل جمعية تقوم بالأعمال الأولية العلمية والسياسية، وشركة يهودية كالشركات الإنكليزية والفرنساوية الصناعية العظمى، رأسمالها خمسين مليون ليرا إنكليزية، يكون مركزها العمومي في لندرا.
وتقوم هذه الشركة بالأعمال التي تهيئها جمعية اليهود، وتنظم شئون الطائفة الجديدة، واقترح هرتسل إما على امتلاك فلسطين أو الأرجنتين؛ لأجل إدخال اليهود بطريقة منظمة لا تدريجية إليها، وإذا وقع الاختيار على فلسطين؛ فمن الواجب جعل محلات العبادة المختصة بالطوائف الأخرى ملكا خصوصيا أو ممتازا.
وعلقت الأنسكلوبيديا على ذلك بقولها: يتضح أن هذا البيان لم يستكمل الشروط ليفوز بالموافقة الدينية التي هي علة آمال اليهود المتدينين في الاسترداد، ولكن بعدما احتك هرتسل بقومه وزاد اختلاطه بهم على تمادي الأيام، بدأ يقدر أهمية الموافقة الدينية؛ لأن قسما كبيرا من اليهود والشعور الملي العمومي كان مرتبطا بفلسطين ارتباطا غير قابل الانفصال.
ومع ذلك فقد ظلت فكرة فصل الكنيسة عن السياسة من مبادئ هرتسل الأساسية.
ثم قالت: إن الموافقة بين الحكومة العثمانية واليهود على ما جاء في كتاب هرتسل يجب أن تترتب بصورة امتياز يمنح لليهود على قواعد سياسية وتجارية محضة.
ثم جاءت على ذكر زيارة هرتسل بلاد الإنكليز، وعدم إقبال اليهود حينئذ على دعوته فيها. أما في أوروبا فقد قام لنصرته رجال أعلام: كالدكتور مكس نوردو ، وأليكساندر مارمورك، والدكتور بودنهايمر، والبروفسور مندلستام، وعدد من رجال العلم والأدب.
وقالت أيضا: إن الظروف تغلبت على رغبة هرتسل في عدم تعديه مسلكه الأدبي الصحافي الروائي؛ لأنه ضرب على صميم المسألة اليهودية كما رأى ذلك إخوانه، وأصاب قلب الشعب الإسرائيلي. وكانت عاصفة الحماس تدفعه بالتدريج إلى الأمام، وتعليه على مسرح الظهور.
وأول من اعتقد بإمكانية تنفيذ مشروعه «الوطن اليهودي» جمعية زيون في النمسا
Zion Society ؛ فقد وقع بضعة آلاف على خطاب أذاعه الدكتوران شنيرر وكوكش، يتضمن الدعوة لتأليف «الجمعية اليهودية» التي ستؤسس في لندرا في يولي سنة 1896، وكتب الدكتوران كتابا بالنيابة عن جمعيتهما إلى هرتسل يعلنان اعتناق الجمعية مبادئه.
وجاء في الأنسكلوبيديا بريطانيكا تحت عنوان «السيونزم» - على ما روى لوسيان ولف - أن سلطان تركيا إذ سمع بمنشورات هرتسل أرسل رسولا خاصا، الشڤالير نيولنسكي، في أيار سنة 1896، يعرض منح امتياز فلسطين لليهود بشرط أن يستعملوا نفوذهم لإيقاف الحركة الناشئة عن المذابح الأرمنية، فلم يقبل ذلك.
هرتسل والرأي العام
قالت الأنسكلوبيديا: يصح أن يقال: إن الشعب اليهودي في البدء لم يلب دعوة الدكتور هرتسل وأتباعه بقدر ما أملوا، وكتبت تقريرا مسهبا في الأنصار والمقاومين يمكن إجماله على الصورة الآتية: إن الذين استهوت قلوبهم فكرة تأليف الجنسية اليهودية اعتبروا بالطبع هرتسل زعيما لهم، والجماعات الكبرى التي كانت تئن تحت نير الاضطهاد في أوروبا الشرقية نظروا إليه كمخلص، حتى الذين هربوا منهم من الاضطهاد إلى أميركا وأوروبا الغربية لم يبطئوا عن اللحاق بإخوانهم المتخلفين، وما عدا هؤلاء فقد هب لمناصرة هرتسل عدد غير كبير من طلبة الأدب وممن شعروا بمرارة الأنتيسيمتزم.
أما المقاومون فقد كانوا في أول الأمر كثيرين، وفي أنحاء متعددة، وكلهم من أنصار الدين الذين لما رأوا بعضا من زعماء دعوة هرتسل لا يهتمون للدين وللطقوس، اعتبروا الحركة كلها بعيدة عن اليهودية الوضعية، وأنها محاولة معاندة يد العناية، فتصدى لها رؤساء الحاخامات في روسيا وألمانيا والنمسا وإنكلترا، وبين الذين اشتهروا بالمقاومة لوسيان ولف، الكاتب الشهير، الذي حسب أن السيونزم حماقة، وغايكر الذي قال: إنها تؤدي إلى حرمان حقوق المدنية في ألمانيا.
أما العالم المسيحي فقد أظهر انعطافا على الصهيونية موجبا للاعتبار، فبينا كانت الجرائد الكبرى التي لليهود علاقة فيها ملازمة الحياد، كانت جرائد العالم المسيحي اليومية الكبرى فاتحة أعمدتها لأخبار الحركة، وعدا ذلك فقد خدم الصهيونية كثيرون من أعلام المسيحيين: كالبروفسور فورر في كلية زوريخ، الذي كان يحض طلبة اليهود دائما على استعمار فلسطين، وجون هاي، سكرتير الولايات المتحدة، الذي أعلن سنة 1904 في حديث له عن الصهيونية أنها والوطنية الأميركية فرسا رهان، وديوك بادن الذي صرح في 4 أوغسطس سنة 1899 للدكتور برلينر بهذه الكلمات: «الحركة ذات أهمية، وتحتاج لمساعدة قوية.» والبروفسور ف. هيمان، من باسل، يعتبر الصهيونية قوة مصالحة تقرب اليهود والنصارى من بعضهم كثيرا، وليون بورجوا، رئيس وزارة رومانيا، كان في عداد الذين أعربوا عن ارتياحهم للصهيونية، وقد عددت الأنسيكلوبيديا أسماء كثيرين غيرهم من مشاهير الرجال.
ثم استطردت إلى القول بأن كل المقاومات المنوه عنها ما عدا الفئة التي خطيبها لوسيان ولف لم تتناقض كثيرا، على رغم تكاثر دافعي الشاقل سنة فسنة، وبقي كثيرون من المتدينين يرون في الصهيونية أو في زعمائها خطرا على العوائد الثابتة والطقوس القديمة المحترمة، رغم القرار الذي قرره مؤتمر باسل الثاني بأن الصهيونية لا تقوم بعمل من شأنه مقاومة العوائد والطقوس.
الحاخامات في غرودتو سنة 1903، وعدد من حاخامات هونغاريا 1904 أعلنوا أنهم يضادون الحركة الصهيونية، بينما الحسيد زيون - فئة متصوفة في المذهب اليهودي - في لودز، ورجال ذوو شهرة كصموئيل موهيليور، والرابي دنر، رئيس حاخامات هولاندا، والحاخام غاستر في إنكلترا - الذي حرم المناداة بالصهيونية في بلاد الإنكليز سابقا - وبربرا مندس، في نيويورك، انخرطوا في صفوف الصهيونيين.
التعليم الحديث
1
قامت مسألة التعليم الحديث أو التهذيب
Kultur
كحجر عثرة في سبيل الصهيونية؛ لأن هذه المسألة لم ترق في نظر كثيرين من الحاخامات، واعتبروها مروقا عن الآداب اللاهوتية، وقد أحدث ربطها بالصهيونية تأثيرا سيئا على النفوس، وجعلوا اليهودي في أوروبا الشرقية يعتقد أن فيها مميزات ومخالفات للدين، رغم كل التدابير التي اتخذت لمحو هذه الشكوك.
وجرت عليها مناقشات في المؤتمرات الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، غير أن المحاماة عن التعليم العقلي والطبيعي على أصول حديثة كان السبب في تحريك الأرثوذكس من قوم موسى على المعارضة، ولولا ذلك لانخرطوا جميعهم في صفوف الصهيونيين.
ولكي يدحض هرتسل هذه الأوهام، قال في خطابه الافتتاحي في المؤتمر الأول على ما جاء في الأنسيكلوبيديا: نحن لا يخطر لنا ببال أن نهمل مقدار شبر من التعاليم
Kultur
التي حصلناها، بل بالعكس نسعى لتوسيع نطاقها.
واستقر قرارهم في المؤتمر الثاني على كون غاية الصهيونية غير منحصرة في تجديد ولادة اليهود الاقتصادية والسياسية، بل تتعدى إلى تجديد الولادة الروحية أيضا.
مؤتمر باسل الأول وغاية الصهيونية
جاء في الأنسيكلوبيديا أن هرتسل أصر على إكمال الخطة التي وضعها في كتابه اليودنستات أو الوطن اليهودي، رغم كل المعارضات، وأول فصل من تلك الخطة يرمي إلى عقد مؤتمر يدعى إليه من قوم موسى وجمعياتهم من يهتم للحركة الصهيونية. وقد كان في النية عقد هذا المؤتمر في ميونخ، ولكنهم لأسباب عادوا فعقدوه في باسل، فحضره 204 أعضاء، بعضهم يمثلون جماعات، ولكن أكثرهم جاءوا من تلقاء نفوسهم، ولم يكن من يمثل الهيئات اليهودية الكبرى في أميركا وأوروبا في هذا المؤتمر.
مع أن الغاية من عقد هذا المؤتمر كانت إشهار المسألة، فقد ابتدءوا فيه بتدبير الحركة، واقترحوا على عدة أمور جرى إتمامها فيما بعد؛ منها: (1) ترويج تعليم اللغة العبرية وآدابها. وأثناء المناقشة في هذه القضية، اقترح على إنشاء مدرسة موسوية كبرى؛ إما في يافا أو في القدس، (2) الاهتمام بإنشاء مدارس عمومية لتعليم اللغة العبرية، وتأليف قومسيون مخصوص للآداب اليهودية، (3) إنشاء مالية للملة اليهودية.
وقد خط في هذا المؤتمر بروغرامه الذي يتضمن غرض الصهيونية «إيجاد وطن للشعب اليهودي في فلسطين مؤمن تأمينا عموميا شرعيا» كونتمبوراري رڤيو
Contenporary Review
سنة 1797، صفحة 587-600.
ماذا جرى بين المؤتمرين؟
الجمعية العاملة التي جرى انتخابها في المؤتمر الأول اهتمت في الفترة بين المؤتمرين الأول والثاني في نشر الدعوة
، بطبع خطب هرتسل ونوردو على «حاجة قوم موسى»، و«غايات الصهيونيين»، و«معارضة الصهيونية» باللغات العبرية والجاركونية والألمانية والإفرنسية والعربية، واشتغلت في ترتيب الجماعات المختلفة التي نشأت جديدا، وأعدت المعدات الأولية لتأليف عمدة
Trust
استعمارية إسرائيلية.
المؤتمر الثاني
انعقد مجمع افتتاحي قوامه أعضاء الجمعية العاملة وبعض الزعماء من بلدان مختلفة في فيينا في شهر أبريل سنة 1898، وعقبه انعقاد المؤتمر الثاني في باسل في 28-31 من شهر أوغسطس لسنة 1898؛ ولأجل معرفة مقدار انتشار الصهيونية في الفترة بين المؤتمرين ننقل عن الأنسيكلوبيديا بيان الجمعيات الصهيونية القديمة والحادثة لحين عقد المؤتمر الثاني.
البلاد
جديدة
قديمة
مجموع
البلاد
جديدة
قديمة
مجموع
روسيا
350
23
373
فرنسا
3
00
3
النمسا
176
42
218
البلجيك
2
00
2
هونغاريا
32
228
260
تركيا
2
00
2
رومانيا
100
27
127
الدانمارك
1
00
1
إنكلترا
12
14
26
الصرب
1
00
1
جرمانيا
25
00
25
اليونان
1
00
1
إيطاليا
12
9
21
مصر
2
00
2
بلغاريا
15
1
16
الترنسڤال
6
00
6
سويسرا
6
00
6
أميركا
50
10
60
وكذلك انعقد مجمع أولي في ورسو «روسيا» حضره 140 عضوا، وانعقد آخر في باسل من رجال الدين المتمسكين برياسة الحاخام غاستر الإنكليزي - الذي حرم المنادات بالصهيونية في بلاد الإنكليز سابقا. وقد تلقى المؤتمر الثاني إبان انعقاده أربعين برقية من حاخامات متعصبين يعلنون اعتناقهم الصهيونية، وحضره عدد من حاخامات روسيا أصحاب التيجان، يعني المعترف بهم رسميا، ونواب عن الحسيديم «اليهود المتصوفين» أيضا.
تعينت في هذا المؤتمر جمعية استعمارية خصوصية غرضها توسيع نطاق الاستعمار بشرط الحصول على رضى الحكومة العثمانية، وجرى الاتفاق على تأليف عمدة
Trust
يهودية استعمارية، وتشكلت جمعية مؤلفة من تسعة أشخاص برياسة ولفسون لهذه الغاية. وقد اقترح الرابي أرنبريس على جعل اللسان العبراني لغة قوم موسى العامة، وقبل اقتراح غاستر الذي سبق الكلام عنه فيما يتعلق بالتهذيب
Kultur .
المؤتمر الثالث
انعقد المؤتمر الثالث في باسل أيضا، في 15-18 أوغسطس سنة 1899، وفي هذا المؤتمر صرح هرتسل بأن مساعيه كانت موجهة للحصول على امتياز من السلطان، وتليت تقارير الجمعية العاملة، فظهر منها أن معدل الزيادة في عدد الجمعيات الصهيونية التي بلغت في روسيا في هذه السنة 877 عدا، كان 30 بالمائة، وفي البلدان الأخرى 25 بالمائة، وبلغ عدد دافعي الشاقل أكثر من مائة ألف؛ مما دل على أن 250 ألفا صاروا في ذلك الوقت صهيونيين - رجال «الشوفوفي صهيون» في رومانيا دخلوا كلهم في عضوية المؤتمر، وجرت الموافقة على مشروع جديد يرمي إلى إقامة بناء الحركة الداخلي، وكرروا المناقشة في مسألة التهذيب، واجتهدوا أن يوضحوا بأن «التهذيب»
Kultur
لا ينافي اليهودية ولا يعارضها بوجه من الوجوه، واقترح بعضهم على الاستعمار في قبرص، فلم يقبل هذا الاقتراح ولا أجيزت المناقشة فيه.
المؤتمر الرابع
انعقد هذا المؤتمر في كوينس هال بلندرا في 13-16 أوغسطس سنة 1900، وقصدوا بهذا النقل تقوية التأثير على الرأي العام الإنكليزي؛ لأن الدعوة الصهيونية كما قالت الأنسيكلوبيديا لم يتلقها الرأي العام بتفاهم وارتياح وشعور في بلاد كالبلاد الإنكليزية.
وارتقى عدد الجمعيات الصهيونية في غضون هذه السنة في روسيا إلى 1043، وفي إنكلترا إلى 38، وبلغ عدد جمعيات الولايات المتمحدة 135. أما بلغاريا فلم يعد عدد هذه الجمعيات فيها مع صغرها أقل من 42.
ولكن آمال جمهور الصهيونيين في فلسطين ومقاصد القوة المتسلطة الحسنة هناك. رطبتها نوعا تعليمات الباب العالي الصادرة في شهر نوفمبر سنة 1900، القاضية بعدم تمكين زوار اليهود من الإقامة أكثر من ثلاثة شهور في فلسطين. وقد احتجت حكومة إيطاليا على ذلك في الحال بأنها لا تفرق بين رعاياها المسيحيين واليهود.
وقد عرضت هذه المسألة على سكرتير الولايات المتحدة، المستر هاي، فأصدر أمره في 28 فبرير سنة 1901 إلى سفير أميركا بالآستانة؛ ليحتج باسم حكومة الولايات المتحدة أيضا، وقيل: إن عمل الباب العالي هذا كان سببه انتعاش الحركة الصهيونية.
هرتسل يقابل السلطان
رغم ما تقدم ذكره من المنع؛ فإن السلطان أذن لهرتسل بمقابلته في 17 أيار سنة 1901، ورافقه في هذه المهمة دافيد ولفسون وأوسكار مارمورك من أعضاء الجمعية العاملة.
غير أن هرتسل قابل السلطان مرتين منفردا عن رفيقيه، وقبل أن يبارح الآستانة أنعم عليه السلطان بالنيشان المجيدي الأول، وجاء منها إلى لندرا؛ حيث قابل جمعية المكابيين في 11 يوني سنة 1901، وأعرب لهم عن ثقته من نجاح مهمته لدى السلطان، وطلب من اليهود مليون ونصف ليرا إنكليزية، علاوة على المال الذي كان موجودا في المصرف للحصول على الامتياز، فقابل قوم موسى هذا الطلب بالجمود، فسكنت المخابرات بعد بلوغها تلك الدرجة إلى حين .
المؤتمر الخامس
انعقد المؤتمر الخامس هذه المرة في فصل الشتاء ، في ديسمبر 26-30 سنة 1901، بمدينة باسل.
قبلت بهذا المؤتمر القواعد الترتيبية نهائيا، وهي عقد مؤتمر كل سنتين مرة، وتنعقد في الفترات بين المؤتمرات اجتماعات يحضرها أعضاء الجمعية العاملة الكبرى وزعماء البلدان المختلفة. وتقرر أيضا جواز تشكيل هيئة تدبيرية أو إدارية محلية في الأمكنة التي يبلغ عدد دافعي الشاقل فيها الخمسة آلاف إذا طلب هؤلاء ذلك، وأكملت كل التدابير لفتح المصرف، وصدر القرار بإعطاء معونة
Subvention
للمكتبة الملية في القدس، وبضرورة تأليف أنسيكلوبيديا عبرانية، وبضرورة تأليف إدارة تشتغل بشئون الأمة
Statistical bureau .
وانعقدت جلسة طويلة دار البحث فيها على مسألة التهذيب، انتهت بالقرار الآتي: «المؤتمر يعلن تحسين الروحيات، يعني أهم مواد البروغرام الصهيوني هو تعليم العالم اليهودي على قواعد عنصرية، وعلى كل صهيوني أن يعمل لهذه الغاية».
مقابلة هرتسل لإمبراطور ألمانيا
عقيب مقابلات أولية في بوتسدام والآستانة، أذن إمبراطور ألمانيا، وليم الثاني، لبعثة صهيونية قوامها هرتسل وشنيرر وولفسون وبودنهايمر وسيدنر بمقابلته بالقدس، وأجابهم على خطاب خاطبوه به بما يفيد أن كل المساعي لترقية زراعة فلسطين التي تعود بالمنفعة على الدولة العثمانية، والتي تحترم سيادة السلطان، تفوز بارتياحه ورضاه.
في ذلك الزمن وعقيبه حظي هرتسل بمقابلة السلطان، وقد كان بروغرامه الأساسي يرمي إلى تفاهم مع السلطان على أساس تنظيم المالية العثمانية.
وحاول أيضا أن يقنع السلطان بتمام إخلاص الصهيونيين متخذا لذلك حجة كونهم يعملون علانية وليس في الخفاء، ويقاومون كل شكل حركة استعمارية صغرى معناها إدخال اليهود تدريجيا إلى فلسطين، رغم رغائب القوة الحاكمة، وأن اليهود عنصر خاضع للقوانين مجتهد.
وأما ما يطلبه هرتسل من السطان، فهو أن تمنح الحكومة العثمانية اليهود مقدارا واسعا من الحكم البلدي الذاتي، فيدفع اليهود مبلغا معلوما من المال تلقاء هذا الامتياز، ويدفعون من بعد ذلك راتبا سنويا كجزيرة ساموس التي نالت في 11 ديسمبر سنة 1832، بتوسط حكومات إنكلترا وفرنسا وروسيا، أميرا مسيحيا مستقلا استقلالا إداريا، له جنده الخاص، ورايته الخاصة، ومؤتمره الخاص، ويدفع بمقابلة ذلك ثلاثمائة ألف غرش راتبا سنويا للسلطان .
قالت الأنسيكلوبيديا: إن السبب في فشل سياسة هرتسل هذه هو عدم معاضدة اليهود له بالمال؛ لأنه كان في أحيان كثيرة يرى نفسه قريبا من النجاح بإتمام رغائبه.
وبعد ذلك بزمان عرض السلطان على اليهود استعمارا متفرقا في السلطنة العثمانية، فاضطر هرتسل إلى عدم قبول هذا الاقتراح لمخالفته بروغرام باسل، وعدم موافقته الحركة الجنسية اليهودية (انظر الوجه السادس من بروتوكول المؤتمر الصهيوني السادس).
استعمار العريش
في سنة 1898، جرت مخابرات مع بعض أركان الحكومة الإنكليزية على منح امتياز باستعمار شبه جزيرة سيناء، واستطرد كرينبرك المفاوضات مع اللورد كرومر والحكومة المصرية في مصر، وأرسلت بعثة مؤلفة من الفريقين سنة 1903 للكشف على الأراضي.
وقد أظهرت حكومة مصر ميلا لإعطاء امتياز بأراضي العريش، لولا أنها رأت أن قلة المياه في تلك البلاد تضطرها إلى تخصيص قسم من مياه النيل لري تلك الأراضي، الأمر الذي لم تقدم على فعله.
الصهيونية في روسيا
عدد الصهيونيين في روسيا زاد كثيرا عن عددهم في البلدان الأخرى، وقد أعربت الأنسيكلوبيديا عن مجاري الشعور في تلك البلاد بقولها: انعقد مؤتمر صهيوني في مدينة مينسك في سبتمبر حضره 500 نائب يمثلون فرقة «الأرثوذكسيين» اليهود المتدينين، وفرقة السوسيالست الاشتراكيين»، والفرقة الديمقراطية المسماة فرقة الوسط.
وجرى البحث في علاقة الأرثوذكسية بالمعارضة، وفي مسألة التهذيب، وعلى الأخص بمسألة الاستعمار في فلسطين. وأظهر المؤتمر ميلا للاتحاد مع الجمعيات الاستعمارية غير الصهيونية في مشترى الأراضي في فلسطين، وأعطيت قرارات مآلها استعمال كل الأموال المختصة بالمصرف الملي اليهودي لمشترى أراضي فلسطين، وبتحوير مواد قوانين المصرف المتعلقة بجمع رأس المال حتى لا يبقى فيها تحديد أو تخصيص للمال المجموع.
ثم قالت الأنسيكلوبيديا: إن فون بلوف، وزير داخلية روسيا، وزع منشورا سريا في 24 يونيو 1903 على كل الحكام ورؤساء البلديات ورؤساء البوليس، يقضي بمنع اجتماع الجمعيات الصهيونية وجمع المال لها، وأمر بوجوب تحويل الأموال المختصة بالعمدة وبالبنك الملي اليهودي ومجموعات الشاقل، إلى جمعية أودسا لمعاونة مزارعي اليهود في فلسطين. وقد جعل لهذا العمل حجة الزعم بعدم التمكن من إتمام المشروع الصهيوني قبل مضي زمن طويل، ولكن السبب الحقيقي فيه كان الخوف من استخدام اليهود الاشتراكيين الجمعيات الصهيونية لنشر مبادئهم (التيمس اللندنية الصادرة في 2 و11 سبتمبر)، فحمل هذا الأمر وضيق اليهود في تلك البلاد هرتسل على زيارة روسيا، وقابل ويتي وفون بلوف في أوائل أوغسطس سنة 1903.
ونتيجة هذه المقابلة مثبتة في تحرير أرسله فون بلوف لهرتسل بتاريخ 12 أوغسطس، وقد قرئ في المؤتمر السادس، ويقول فون بلوف في ذلك التحرير لهرتسل: إذا كانت الحركة الصهيونية منحصرة في تشكيل حكومة مستقلة في فلسطين، وموجهة إلى تدبير مهاجرة جانب كبير من يهود روسيا؛ فالحكومة الروسية تعضد المخابرات الصهيونية مع الآستانة ماديا وأدبيا، وتسهل عمل جمعيات المهاجرة.
الصهيونية في شرقي أفريقيا
بقي هرتسل يتقرب من الحكومة الإنكليزية بعد المخابرة على استعمار العريش، وقد عرض شامبرلين بعدما زار جنوبي أفريقيا على أثر حرب البوير شرقي أفريقيا بتحرير رسمي صدر عن وزارة الخارجية بتاريخ 14 أوغسطس سنة 1903 إلى كرينبرج، شكل اتفاق اقترح هرتسل الدخول في المخابرة بشأنه بين حكومة جلالة ملك «الإنكليز» وعمدة الاستعمار المحدودة على إحداث مقر يهودي في شرقي أفريقيا.
المؤتمر السادس
عقد المؤتمر السادس في باسل أيضا في 23-28 أوغسطس سنة 1903، وسبق المؤتمر انعقاد جمعية أولية انتقد فيها ألفرد نوسغ فرقة الحكومة انتقادا مرا، وقال: إن تهذيب الأمة مقدم على إحراز البلاد. قالت الأنسيكلوبيديا: مثل هذه الانتقادات كانت منتظرة.
ثم قالت: مع أن حق الإنابة رفع إلى 200 دافع شاقل، فقد بلغ عدد النواب 592، وعدد المتفرجين زاد عن الألفين.
إعلان مقابلة هرتسل مع فون بلوف أحدث تأثيرا عميقا على أعضاء الروس، لا سيما الذين يميلون إلى السوسيالست منهم.
أما ما عرضته حكومة إنكلترا من استعمار شرقي أفريقيا فقد صادف شعائر مختلفة.
هرتسل قال في خطابه قولا في غاية الصراحة: «شرقي أفريقيا ليست صهيون، ولا يمكن أن تكون كذلك.» وقد تكلم مكس نوردو ببلاغة عن هذه المسألة، ومما قاله: لو أمكن إحداث مثل هذا المقر، فهو لا يمكن أن يكون غير دار عزلة ليلية. أما الحزب الديمقراطي فقد عارض بالإجماع هذه الفكرة، كما أن نواب الروس لم يقبلوا بها، واقترح على إرسال بعثة إلى شرقي أفريقيا لتفحص عن أحوال تلك البلاد؛ فقوبل هذا الاقتراح أيضا بعدم الرضى، ولم ترض الأكثرية بدفع نفقات البعثة، فسألوا جمعية الاستعمار اليهودي أن تدفع نصف النفقات، فقبلت على شرط إذا وافقت تلك البلاد أن لا يكون للاستعمار فيها صفة سياسية على الإطلاق، وأخيرا اضطر أصدقاء الصهيونيين من المسيحيين إلى دفع نفقات البعثة.
المؤتمر الصهيوني الأول في فلسطين
قالت الأنسيكلوبيديا: في ذات الوقت الذي انعقد فيه المؤتمر العمومي في باسل، انعقد المؤتمر اليهودي الأول في زكرون يعقوب «زمارين»، من أعمال فلسطين، برياسة أوسيشكين، وقد حضره خمسون عضوا، وستون معلما. والقصد من هذ أن المؤتمر أن يكون مصغر مؤتمر باسل.
وتألفت هيئة ليتسنى لكل أهالي فلسطين من اليهود البالغين سن الثامنة عشرة فما فوق، الذين يدفعون فرنكا «5 غروش» في السنة، الانضمام إليها، كل خمسين من دافعي الفرنك ينتخبون عنهم عضوا، والأعضاء يجتمعون مرة في السنة، وقد قسمت فلسطين إلى ستة أقسام: (1)
القدس وحبرون «خليل الرحمن» وموزا
Mozah
وعرطوف. (2)
المستعمرات الكائنة حوالي الرملة. (3)
يافا وبيتاتيكوا
. (4)
الناصرة وطبريا والمستعمرات المجاورة. (5)
الخضيرة وزكرون يعقوب «زمارين» وحيفا. (6)
صفد والمستعمرات الجليلة.
وتقرر تشكيل هيئة عاملة ينتخب لها 23 عضوا، وتشكيل جمعية فلسطينية فوق العادة يكون فيها ممثلون لهيئة أودسا ولجمعية الاستعمار اليهودية، ولجمعية الاتحاد الإسرائيلي، ولجمعية عزرا والبارون أدموند روتشلد.
قالت الأنسيكلوبيديا - التي طبعت سنة 1905: لا يعلم إذا كان جرى إتمام هذه التدابير، وإذا كانت الجمعيات انعقدت بعد المؤتمر الأول.
لم يقعد أعضاء الجمعية العاملة الروسيون بعدما عادوا من المؤتمر السادس عن العمل، فقد عقدت أكثريتهم في أكتوبر سنة 1903 مؤتمرا سريا في خاركوف، وأقروا على إرسال بعثة إلى فيينا تطلب من هرتسل وعدا خطيا بإسقاط مشروع أفريقيا قبل التئام المؤتمر السابع، وباستعمال نفوذه كزعيم الصهيونيين ليمنع الاشتغال بتاتا في استعمار غير فلسطين، وأن يعد رسميا بالمباشرة بالعمل في فلسطين، وبمشترى الأراضي فيها وفي سوريا بأموال المصرف الملي، وإذا أبى هرتسل أن يعد بالقيام بذلك ، فالروسيون يمتنعون عن دفع الإعانات في فيينا، وينادون بمقاومة حزب الحكومة فعليا.
وأوفدوا إليه بعثة من خيرة رجالهم، فاستعملت جميع الوسائل لإقناع البعثة بأن أعضاء الروس غير محقين في عملهم، وأن مخاوفهم في غير محلها؛ لأنه لا هرتسل ولا الجمعية العاملة حادت عن قرار مؤتمر باسل. وبهذه الوسيلة تمكنوا من إهمال مطالب مجمع خاركوف.
موت هرتسل
قالت الأنسيكلوبيديا: شكى هرتسل في المؤتمر السادس من ضعف قواه الطبيعية، ولكنه لم يتخلف عن العمل.
وفي 11 أكتوبر سنة 1903، أذن ملك إيطاليا للرابي س. مرغوليوس من فلورنس بمقابلته ومحادثته بمصالح الصهيونيين.
وعقيب ذلك في شهر يونيو، حظي هرتسل بمقابلة الملك والمسيو تيتوني، ناظر خارجية إيطاليا، وتمكن في تلك الفرصة من مقابلة البابا الكاردينال دل ڤال.
وفي 3 يولي، لفظ هرتسل نفسه الأخير، وقضى شهيد الغاية اليهودية، وربما كان هو السياسي اليهودي الوحيد الذي كرس حياته لخدمة قومه، واستطاع أن يقوم بما لم يستطعه فرد أو جماعة في سبيل إعلاء شأن الغاية وتثبيتها، وقد وحد كلمة العاملين على اختلاف مذاهبهم، كانت المسألة اليهودية في البدء مسألة خيرية وزراعية، ولكن هرتسل صيرها اقتصادية سياسية.
أحدث موت هرتسل دهشة في العالم الصهيوني، وأشغلت مسألة تعيين خلف له في رياسة الجمعية العاملة ورياسة المؤتمرات العقول.
في 16 أوغسطس سنة 1904، عقدت الجمعية العاملة الكبرى اجتماعا لتهتم بتدبير الشئون، وفي 17 منه، انعقد المجتمع السنوي، وانتخب قومسيونا إضافيا للجمعية العاملة الصغرى قوامه نردو وولفسون ويوسيسكين وغيرهم.
وفي 18 نوفمبر سنة 1904، قابلت بعثة صهيونية سڤياتوبولك ميرسكي، وزير داخلية روسيا الجديد.
وفي 4 و5 ديسمبر، عقد بودنهايمر وغيره، بالنيابة عن الجمعية العاملة، اجتماعا في فرنكفور؛ ليرتبوا كيفية مهاجرة اليهود من روسيا.
وفي 14 ينوار سنة 1905، انعقدت الجمعية العاملة الكبرى في فيينا، وتقرر تسجيل البنك الملي اليهودي في لندرا تحت كونترول «البنك اليهودي الاستعماري».
وفي غضون ذلك كان صهيونيو الروس يستعدون للعراك المنتظر في المؤتمر السابع.
وعقدوا في 14 ينوار سنة 1905 اجتماعا في ولنا، حضره 47 شخصا، وقرروا مقاومة كل محاولة تحقيق أمنية الصهيونية النهائية في غير فلسطين؛ لأن ذلك مناف للفكرة التاريخية ولقرار مؤتمر باسل.
المؤتمر السابع
انعقد المؤتمر السابع في 27 يولي سنة 1905، وانتخب الدكتور مكس نوردو له رئيسا، وكان تقرير الكومسيون الفلسطيني من أفضل التقارير التي قدمت لهذا المؤتمر؛ لأنه تضمن خبر انتشار جريدتهم «الألتنيولند» أو البلاد القديمة الجديدة، وخبر إرسالية جيولوجية، وتأسيس مراصد متيورولوجيكالية أو جوية، وخبر مهمة إرسال الدكتور سوسكين إلى فلسطين وسوريا المتعلقة بزراعة القطن، وخبر سياق الخطب على الاستعمار.
أما اهتمام المؤتمر الحقيقي فقد كان منحصرا على الأكثر في الاقتراع على قرار كومسيون شرقي أفريقيا، وقد صرفوا أياما عديدة في البحث والمداولة فيه. الجمعية العاملة أعطت قرارا بأن الأرض المنوه عنها لم تكن لتفي بغرض الاستعمار من حيث اتساعها.
ولما كان حزب الحكومة وجماعة الزيون زيونست وجماعة المزراحي معارضين، وهم يؤلفون الأكثرية الكبرى، أصدر أليكساندر مارمورك باسم الجمعية العاملة التقرير المتفق عليه الآتي:
يعلن المؤتمر الصهيوني السابع بأن الهيئة الصهيونية تبقى ثابتة لا تتحول عن قاعدة مؤتمر باسل الرئيسية، وهي إعداد وطن لليهود في فلسطين مؤمن تأمينا شرعيا، ومعترف به اعترافا علنيا، «وترفض - كخاتمة أو كوسيلة - الاستعمار خارج فلسطين والأراضي المجاورة لها»، وقرر المؤتمر أن يرفع شكره للحكومة الإنكليزية على عرضها قطعة من أفريقيا الشرقية البريطانية لغاية إقامة مقر يهودي فيها مع حقوق إدارية إلخ.
مشروع العمل في فلسطين
دار البحث أيضا في المؤتمر السابع على موضوع عمل الجمعية الصهيونية في المستقبل في فلسطين، وجرت مناقشات طويلة بشأنه بين حزب الحكومة وفرقة الزيون زيونست، وأخيرا أعطى القرار الآتي:
قر قرار المؤتمر السابع أنه تطبيقا للحركة الإدارية والسياسية
ومن أجل تقوية تلك الحركة، يجب أن تروج على الأصول مقاصد الحركة على القواعد الآتية: (1) بالاكتشاف أو تحري الآثار
Exploration . (2) بترويج الزراعة والصناعة إلخ على أقصى المبادي الديمقراطية الممكنة. (3) بتحسين الحالة الاقتصادية والتهذيبية، وتنظيم شئون يهود فلسطين بواسطة الحصول على نهضة فكرية جديدة. (4) بالحصول على الامتيازات «كامتياز الأصفر مثلا». والمؤتمر السابع يرفض كل استعمار مجرد عن الغرض، وغير مشترك بالعواطف، وخيري بطرق مصغرة، إذا كان غير منطبق على الفقرة الأولى من بروغرام مؤتمر باسل.
وتقرر أيضا عدم مشترى الأراضي من مال المصرف الملي ما لم يكن ذلك ممكنا بطريقة مشروعة، ثم قالت الأنسيكلوبيديا (1905): يعسر معرفة مقدار الجمعيات الصهيونية؛ لأنها بلغت ألوفا عديدة، وأعمالها متنوعة، وتختلف باختلاف الظروف اليهودية الاجتماعية في البلدان التي توجد فيها هذه الجمعيات، وكلها لها غرض واحد؛ وهو تربية وإنماء الشعور الملي اليهودي.
تعقد هذه الجمعيات اجتماعات سنوية أو نصف سنوية، وقد أخذت تتحد مع بعضها؛ ففي سنة 1905 كان عدد الجمعيات المتحدة والمتوحدة في أميركا 238، ثم انضم إليها 80 جمعية أخرى، وقد توحدت كل جمعيات الشوڤوفي زيون القديمة في بلاد الإنكليز، وانضمت إليها جمعيات أفريقيا الجنوبية وكندا أيضا.
بناء الجمعية الصهيونية من أساسه ديمقراطي.
القوة موجودة في المؤتمرات فقط، وهذه المؤتمرات تدير المهام، وتعين الوظائف النيابية في المؤتمرات قائمة على أصول نائب لكل مائتين ممن يدفعون الشاقل.
المصرف اليهودي الاستعماري
2
قالت الأنسيكلوبيديا: وصفنا تأسيس هذا المصرف في الصفحة 176 للمجلد السابع من الأنسيكلوبيديا اليهودية. مقاصد هذا المصرف ليست مالية، بل سياسية؛ ولكونه حاصل على حقوق الشركات ذات الامتياز فهو أداة الهيئة الصهيونية العملية.
غايته - على ما أعلنتها المفكرة الأصلية - العمل في فلسطين وسوريا، وفي أي قسم كان من العالم إذا رأى مجلس الشورى أن مصلحة الشعب اليهودي تستدعي ذلك، ولكنه خيف من أن تكون هذه الصلاحية واسعة جدا، وربما فتحت بابا لسوء استعمال الأموال؛ ولذلك صار تحديد عمل هذا المصرف وخط قانونه في المؤتمر الثالث في 17 أوغسطس سنة 1899 كما يأتي: «من أجل إخراج وتحسين وإدارة الاستعمار في الشرق، لا سيما في فلسطين وسوريا، وكذلك من أجل إخراج وتحسين والقيام بالصناعات في فلسطين وسوريا وسائر أنحاء العالم». وفي المؤتمر السابع زادوا - بتأثير الأكثرية القائلة باستعمار فلسطين - في تحديد عمل المصرف، وأصلحوا قانونه على الصورة الآتية: «في فلسطين وسوريا وسائر أنحاء تركيا آسيا، وفي شبه جزيرة سيناء، وفي جزيرة قبرص».
أصحاب الأسهم في البنك يعدون ثلاثمائة ألف تقريبا. واقترح في المؤتمر الخامس على فتح شعبة للمصرف في يافا؛ وذلك لأجل اطراد العمل في فلسطين، ولتقوية مصالح اليهود فيها، فتم ذلك في سنة 1903؛ إذ تشكلت شركة جديدة باسم «شركة أنجلو فلسطين» الشركة الإنكليزية الفلسطينية، وأسهمها كلها للمصرف اليهودي الاستعماري.
للمعرب «وهي التي نرى شعب مصارفها في يافا والقدس وحيفا، وتعرف ببنوكة أنجلو فلسطين، وقيل: إنه صار لها فرع أو معاملة مع صراف في طبريا، وآخر في صفد».
وسنة 1905 تأسس فرع مالي لشركة أنجلو فلسطين في القدس للغاية نفسها، وسيتبعه فرع في حيفا «فتح».
وقد اشترك المصرف الملي اليهودي أيضا في تأسيس البلاستينا هندلس كيزلشافت التي كان رأسمالها سنة 1903: 22500 مارك، وفي الدويتش ليڤانت بومڤول كيزلشافت التي كان رأسمالها 25000 مارك سنة 1903 أيضا.
كثيرون من اليهود الذين لا علاقة لهم بالصهيونية ساهموا في شركتي الأنجلو فلسطين، والبلاستينا هاندلس كيزلشافت؛ ليساعدوا على إنهاض العمل اليهودي في فلسطين.
البنك اليهودي الملي
البروفسور هومان شبيرا أبدى في المؤتمر الأول سنة 1879 فكرة إنشاء مصرف ملي يهودي، وفي المؤتمر الرابع سنة 1900 قبلت هذه الفكرة. المقصود من هذا المصرف إيجاد رأس مال دائم ليكون ملكا للملة اليهودية يستخدم في الغرض الخصوصي، ألا وهو مشترى الأراضي في فلسطين، ورأس ماله لا ينبغي أن يمس حتى يبلغ مليون شلن أو خمسين ألف ليرا يتحتم بقاء نصفها دائما في المصرف.
المواد التي وضعها قومسيون هذا المصرف قبلت في المؤتمر الخامس سنة 1901، وفي سنة 1904 سجل المصرف في لندرا باسم «كيرن كيامت»
Keren Kayyemet ، وعهد بأمواله للمصرف اليهودي الاستعماري. أموال المصرف اليهودي الملي تجمع من استعمال التمبر؛ أي طوابع البريد التي تلصق على مكاتيب الصهيونيين والدعوات وما شاكل ذلك، ومن الهبات الاختيارية، ومما يدفع على قيد أسماء الأفراد والجمعيات في سفر الذهب «سيفر هازهاب».
العمل التهذيبي
كان للصهيونيين على ما روت الأنسيكلوبيديا تأثير عظيم على حياة اليهود الروحية والأدبية، فالتعليم كان من أغراض الصهيونية الرئيسية؛ فقد أسست في أماكن مختلفة غرف قراءة ومنتديات للخطب الليلية، وسنة 1903 أنشأ الصهيونيون مدرسة في تميرخان الشوزا في داغستان، والمدرسة الملية «بيت هاسفر» للبنات في يافا تحصل على مدد من الجمعية، وكذلك المكتبة المركزية اليهودية «أباربنال»، التي ألفها يوسف شازانويكز الصهيوني الغيور. وقد نظم بوبرو ويزمان بروغراما مكملا لجامعة ونشر في اليودشرفرلاغ سنة 1901. والجامعة اليهودية العمومية في باريس مديونة بوجودها للجمعيات الصهيونية الباريسية التي يرأسها مارمورك.
وقالت الأنسيكلوبيديا في ختام هذا الموضوع: وفي محاولة تقدير درجة تأثير هذه النهضة لا ينبغي أن يبرح عن الذهن بأن الحركة التي غايتها تقوية المساعي السابقة بطرق متنوعة، وتوليد مساع جديدة من نوعها، كانت كنقطة نهائية لبيان سابق. وقد أبلغت تجديد اليهودية إلى القمة، وأوجدت مجرى تحولت إليه كل حركات التجدد.
جمعيات الطلبة اليهودية
ورد في الصفحة 682 للجزء الثاني عشر من الأنسيكلوبيديا، أن طلبة المدارس اليهودية في فيينا وروسيا وغاليسيا ورومانيا تعاقدوا على المحافظة على الشعور اليهودي، وتعزيز الآداب اليهودية، پارس سمولنسكين سمى هذه الجمعية «كاديما»، ومعناها إلى الأمام وإلى الشرق، محددا بتسميتها بهذا الاسم وجهة حركتها، وصار كتاب بنسكر
Outoemancipation
أو التحرير للجمعية كالتوراة، وانصرف اهتمامها لاستعمار فلسطين، وتشكلت بعد ذلك جمعيات عديدة من طلبة المكاتب كاليونيتاش وإيفريا وليبانونيا وباركوخبا ومكابيا وبارغيورا وغيرها، وتألفت جمعيات أخرى من شكلها في جامعات أخرى، وفي المدارس العالية ذكرت الأنسيكلوبيديا أسماء عشرات منها، وقالت: إن نوابا عن هذه الجمعيات كانوا يعقدون الاجتماعات في أحيان مختلفة.
الجمعيات الجيمناستيكية أو التمرينية
وعلى هذا المنوال تألفت جمعيات تمرينية عديدة غايتها تشديد العضل اليهودي في الناشئة الجديدة. وقد ابتدأت هذه الحركة قبل انعقاد المؤتمر الأول، فتأسست جمعية في الآستانة سنة 1894، وأخرى في برلين سنة 1898 باسم باركوخبا، وأخرى في الفيليبوليس باسم مكابي، وتألفت جمعيات من هذا النوع أيضا في فيينا وبيالا وصوفيا وبخارا وهامبورغ وفرانكفورت، وفي محلات أخر كثيرة. «وكان عدد هذه الجمعيات يتزايد مع الزمان، ومن تلقيب أكثرها بأسماء أبطال اليهود القدماء كشمشون وباركوخبا والمكابي يمكن الاستدلال على غاية اليهود من تشكيل مثل هذه الجمعيات. هم يريدون أن ينشطوا أبدان ناشئتهم ويمرنوا عضلاتهم ليعدوهم لأيام عصيبة، يريدون أن ترسخ في أذهانهم سير رجال الثورات الذين قاموا من بينهم في عصور مختلفة».
وقد خولت الجمعية الصهيونية النساء حق التصويت والانتخاب لعضوية المؤتمر، فتألفت منهم عدة جمعيات: كجمعية بنات صهيون، والهاداسا، ويهوديت، وموريا ، وسيون. وعمل هذه الجمعيات النسائية أدبي تهذيبي اجتماعي.
الصحافة
قالت الأنسيكلوبيديا: كان للصحافة الصهيونية تأثير قوي في نشر الدعوة الصهيونية، وذكرت أن للصهيونيين صحفا عديدة في روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا وإنكلترا وبلغاريا ومصر، نضرب لضيق المقام صفحا عن ذكر أسمائها.
انتشار الصهيونية
قالت الأنسيكلوبيديا - في الصفحة 684 للمجلد الثاني عشر: سعة انتشار الفكرة الصهيونية بين الشعب اليهودي ترى ليس فقط في العدد العديد من اليهود المرتبطين بالمبدأ الصهيوني وبالمؤتمر، بل أيضا في الحقائق الثابتة؛ إذ إنه لا يوجد قرنة أو زاوية في العالم اليهودي خالية من الجمعيات الصهيونية، حتى الأمكنة التي لا يوجد فيها تدابير صهيونية قام منها جماعات الذين عاشوا منقطعين بالفعل عن كل علاقة بالحياة اليهودية، وأرسلوا بلاغات تدل على موافقتهم على المبدأ الصهيوني والتصاقهم به.
ومما يستحق الذكر ما جاء من المخابرات والتبرعات من فريق من اليهود المتسلسلين من يهود البرتغال والساكنين مانيكوري أمازوناس من أعمال البرازيل، ومن اليهود القاطنين شيل، ومن يهود جديد الإسلام في خراسان، وفضلا عن ذلك فالجمعيات امتدت إلى شيتا «سيبيريا» على حدود منشوريا، وإلى تشكنت وبخارا ورنغون «بورما»، وفي ناغازاكي وهونغ كونغ وسينغابور وبين العسكر الأميركي في الفلبين.
جمعية الشانغاي الصهيونية تأسست سنة 1903، ويوجد في أستراليا 4 اتحاديات صهيونية؛ وهي: نيوسوث والس، وڤكتوريا، وسوث أستراليا، ووست أستراليا، ولبلاد كوينسلاندا اتحادياتها ومركزيتها في بريزبان. ويوجد عدة جمعيات في نيوزيلاندا، ويوجد حتى بين اليهود الروس الذين أسكنتهم الجمعية الاستعمارية اليهودية في الأرجنتين اتحادية مؤلفة من أربع جمعيات صهيونية. وقد انعقد مؤتمر صهيوني في تلك البلاد في 16 أيار سنة 1904 حوى نوابا عن ألف ومائة وخمسين صهيونيا يدفعون الشاقل في كل بلاد من أوروبا، وفي الولايات المتحدة، وعلى شاطئ أفريقيا الشمالي. وفي فلسطين يوجد جمعيات صهيونية.
ترس وعلم داود
قالت الأنسيكلوبيديا في معرض سانت لويس سنة 1904: كان العلم الصهيوني ذو الخطوط البيضاء والزرقاء وترس داود
1
في وسطها يخفق على إحدى أبنية المعرض بين أعلام الأمم الأخرى.
للمعرب: رسم المثلث المزدوج هو ترس داود
Magen David ، والمثلث رمز إلى كون مدينة داود «القدس» كانت قائمة قديما على ثلاثة تلال صهيون، والموريا «جبل الحرم الشريف» وأكرا - أما اليوم فعلى خمسة - ومحاطة بثلاثة أودية: قدرون وابن هنوم ويهوشافاط، وإلى كون شعب إسرائيل مؤلف من الشعب واللاويين والكهنة. وقد اتخذ الصهيونيون هذا الرسم علامة لعلمهم كما اتخذت العثمانية الهلال، والألمانية النسر، والإنكليزية الأسد وهلم جرا.
واليهود يرفعونه في احتفالاتهم، وقد رفعوه في القدس من مدة بضعة أشهر على النادي الصهيوني لما احتفلوا بعيد ابن يهودا، وباعوا الطوابع اليهودية علنا، وأبرق لنا بذلك حضرة الوطني الغيور إسعاف أفندي النشاشيبي، فنشرنا البرقية ونقلتها الصحف، غير أن الحكومة على ما يظهر لم تهتم للأمر، كما أنها لا تهتم لمنع مهاجرة اليهود إلى البلاد وتجمعهم فيها، رغم تصريحات الصدر الأعظم بأن الورقة الحمراء ما زالت معمولا بها.
الفرق والأحزاب الصهيونية
قالت الأنسيكلوبيديا: يوجد تباين في الآراء بين صفوف الصهيونيين لا يمكن اجتنابه؛ لأن الحركة قومية، وقد نمت عدة فرق وأحزاب في الجامعة الصهيونية، وجعلت نفسها معروفة في المؤتمرات.
والمناقشات داخل المؤتمرات وخارجها تكون في أحيان عنيفة؛ لأنها ناشئة عن اختلافات راديكالية أو أصلية ترافق بطبيعتها كل حركة عمومية. وهذه أسماء بعض فرق الجمعية الصهيونية:
فرقة الحكومة:
وهم أتباع هرتسل الخصوصيين الذين لازموه وناصروه في عمله مدة السبع سنوات.
بروغرام هذه الفرقة هو الذي صرح به رئيس المؤتمر في جلساته العديدة، وهي تسعى إلى استحصال وطن مؤمن تأمينا شرعيا لليهود في فلسطين وفي البلاد المجاورة لها، وتتمسك بقرار مؤتمر باسل بدون زيادة ولا نقصان هذه الفرقة الإدارية السياسية، ومع ذلك فهي لا تعارض في تقوية مركز اليهود في فلسطين بتحسين أحوالهم في الأمور الزراعية والصناعية.
فرقة الوسط:
أما الفرقة الثانية فهي فرقة الوسط أو المزراحية، وهي عبارة عن عصبة اليهود المتدينين في الصهيونية.
وقد تألف المزراحيون في مدة المؤتمر الخامس، وهم عبارة عن فرع حزب أديكال، ورئيسهم الرابي إسحاق يعقوب ديناس من ليدا في روسيا؛ حيث عقدوا اجتماعهم الأول في 23 فبروار سنة 1903، وكان عدد أعضاء هذه الفرقة في ذلك الزمن 11 ألفا، ولكنه تزايد كثيرا فيما بعد. وفي سنة 1903، أسس المزراحيون 152 جمعية صهيونية منهم، ليس فقط في روسيا، بل في ألمانيا وإنكلترا وغاليسيا وفلسطين، وانعقد مؤتمر مزراحي عمومي في برسبورغ في 21-24 أوغسطس لسنة 1904.
وعقدت جمعياتهم الإنكليزية مؤتمرا خصوصيا في لندرا في 19 يولي سنة 1904، وامتدت فروع هذه الفرقة إلى أميركا أيضا، حيث عقدت اجتماعين؛ أحدهما: في نيويورك في 5-7 ينوار سنة 1905، والآخر في فيلادلفيا في 17 من شهر يوني. وللفرع الأميركي جريدة اسمها «جورنال السبت».
والمزراحيون هم حزب الوسط الصهيوني، وقد كانوا مظاهرين لثيودور هرتسل، وبقوا بعد موته أمناء على مبادئه، وزادوا عليها صورة خصوصية «المحافظة على التقاليد اليهودية الأرثوذكسية»، ويصوتون في المؤتمرات مع حزب الحكومة. وبحسب بروغرامهم، فهم «هيئة صهيونية أرثوذكسية أمينة للتوراة والتقاليد في كل ما يتعلق بالحياة اليهودية والميل لأرض الأباء، وتسعى على أساس مؤتمر باسل لإتمام غرض اليهود على الشروط الموافقة والضامنة له».
البوال زيون أو الحزب الديمقراطي:
وهو الحزب الذي يشكل حزب اليسار، ويوجد بين صفوفه عدد من مشاهير السوسيالست، وإن يكن عدد هذه الفرقه قليلا فقد برهنوا عن اقتدار في المؤتمر الثاني، وتغلبوا على مقاومة البروفسور مندلستون لهم ومحاولته إخراجهم. قوامهم في النمسا وسويسرا، ويوجد فرقة منهم تسمي نفسها علنا «فرقة العملة السوسيالستية الصهيونية في لندرا وباريس». ظهروا في أميركا سنة 1903، وعقدوا اجتماعهم الأول في 29 أبريل سنة 1904، فمثلت فيه 12 جمعية، ولهم جريدة اسمها «النيوشتمي» أو النغمة الجديدة. هم مرتبطون في الولايات الأميركية مع الاتحادية الأميركية.
يظن في بعض الدوائر أن هذه الفرقة تخدم غرضها الاشتراكي أكثر من عملها الصهيوني، ويدعي أعضاؤها أنهم مرغمون على مقاومة استعمار فلسطين. يظهر في ذلك من الصعوبة وقد كانت البند
Bund
في روسيا معارضة للصهيونية بدعوة أن الصهيونية أبت مساعدة يهود رومانيا سنة 1897.
ولكن منذ ذلك العهد أخذ أعضاء البند يتقربون من الصهيونية، وصاروا يهود مليين يشتغلون من أجل الإدارة الملية.
الزيون زيونست:
يوجد فرقة بهذا الاسم ضمن الجمعية العمومية. وقد نشأت على أثر المناقشات التي دارت في المؤتمر السادس.
زعيم هذه الفرقة أوسيسكين من ياكاترينوسلاف. كان أوسيسكين في مدة انعقاد المؤتمر السادس يرأس مؤتمر فلسطين الذي سبق ذكره، وقد صرح بكونه ليس فقط معارضا لمشروع شرقي أفريقيا، بل للشكل الارتباطي الذي اتخذه التصويت في المؤتمر، في الكراس «بروغرامنا»
Unser Programm
الذي صدر في فيينا سنة 1905، وضع أوسيسكين مبادئ الفرقة الجديدة، مدعيا أن أعمال هرتسل السياسية فشلت، وأن المسألة تحتاج إلى العمل السريع في فلسطين بدون انتظار منحة أو امتياز.
وأن الأراضي يجب مشتراها بالحال بجانب من مال المصرف الملي، ويجب أن تدير جمعية العمل السياسي الذي يجب أن يرافق الاستعمار، وتألفت جمعية للاستعمار دعيت باسم غيلا
Geulla ، وطلبت مساعدة جمعية الإيكا التي تستعمر الآن في فلسطين، «ومن وكلائها الخواجات: شتاركمت، وكلفريسكي، وروزنك، ومن مستخدميها الوطنيين: سليم أفندي منصور من حيفا، وإبراهيم أفندي عبادي من طبريا»، ومساعدة جمعيات الاستعمار الأخرى. وتأسست جمعية فلسطينية صهيونية في لندرا في أيار سنة 1905، وانتخب لها الحاخام غاستر رئيسا. غايتها العمل على منهاج جمعيات الاستعمار كالإيكا وغيرها.
منذ عقد المؤتمر السادس والمسيو أوسيسكين يشتغل بلم شعث مريديه وجمع كلمتهم، وانعقد اجتماع أولي في فريبرغ، عقبه انعقاد المؤتمر السابع، فبلغت فيه أصوات فرقة الزيونست 360 صوتا، وهي الأغلبية في المؤتمر.
فرقة التريتورياليين:
قوام هذه الفرقة أكثرهم من الذين رغبوا إلى المؤتمر قبول ما عرضته الحكومة الإنكليزية - استعمار شرقي أفريقيا - ولكنهم ما لبثوا أن قرروا مبدأهم على استحصال مقاطعة في أي بلاد كانت يحصلون فيها على استقلال إداري. وكان إسرائيل زنكويل رئيس هذه الفرقة وزعيمها، وعلى رغم احتجاجه بوجوب خضوع الأقلية للأكثرية، كان يشعر بأن حاجة الشعب اليهودي التائه التي تسبب مهاجرتهم الدائمة تستدعي حلا أسرع مما تستطيع القيام به الصهيونية السياسية.
قالت الأنسيكلوبيديا: اعتقد زنكويل أن الأكثرية في المؤتمر السادس كانت في جانب التريتورياليين، ولكن الحقيقة أن الأكثرية لم تنحز إليهم، وإنما صوتت من أجل إرسال قومسيون يرول شرقي أفريقيا فقط.
وقالت أيضا: إن القسم العظيم من الصهيونيين رأوا في خطة هذه الفرقة الجديدة انشقاقا عن الأكثرية، وأنها فرقة صهيونية بلا صهيون.
فرق أخرى :
ظهرت فرق أخرى أقل اشتهارا من الفرق التي تقدم ذكرها؛ منها فرقة الصهيونيين السياسيين، الذين عقدوا اجتماعا خصوصيا في وارسو سنة 1905 رأسه البروفسور مندلستام.
هذه الفرقة معارضة للتريتورياليين، ولكنها من بعض الوجوه فلسطينية، وترغب في أن تعمل بالاتفاق مع فرق أخرى في جعل المهاجرة إلى بلاد غير فلسطين على شروط حكم إداري.
ولكنهم من الجهة الثانية يرغبون بقاء العمل في فلسطين، ومن أجلها، ويوافقون على عدم استعمال الأموال الصهيونية في غير بلاد فلسطين.
يدعون أنه كان لهم 45 عضوا في المؤتمر الخامس. وفي المؤتمر السابع ألفوا فرقة خصوصية.
ويوجد فرقة أخرى أصغر من هذه أيضا تسمى «الصهيونية السياسية الحقيقية»، يرأسها نوسيغ وتريتش، وهؤلاء معارضون لفرقة الزيون زيونست وللتريتورياليين. هم يعتقدون أن أهمية الحكم الإداري في لم شعث اليهود مبالغ فيها، ويريدون أن تهتم الصهيونية في إحراز استعمار مشروع في فلسطين والبلاد المجاورة، وتقدم اقتصادي منظم في الشرق الأدنى، ومشترى الأراضي في فلسطين وحواليها، والاستقصاء عن الموارد الزراعية والتجارية فيها، واتخاذ ما يمكن نواله من التدابير السياسية.
ويوجد فرقة أخرى صغيرة تدعى الصهيونية المعنوية، وهي تعتبر أن اليهودية بافتقار إلى أسمى مما يحتاجه اليهود، إلى مركز روحي ملي في فلسطين، وبعد تجديد قلوب اليهود وجذب أرواحهم إلى المركز، فحينئذ يمكن جمعهم هم في المركز. كثيرون يحترمون فكرة أحاد. ها. أم، زعيم هذه الفرقة، ويعتبرونها رأيا فلسفيا، ولكنهم في الفعل يعضدون الصهيونية.
اختتمت الأنسيكلوبيديا بقولها: إن هذه الفرق كان لها تأثير على مجرى الصهيونية العمومي.
غير أن ما كان يتصدى لمبادئ مؤتمر باسل الرئيسية منها لم يلاق سوى الرفض.
وظهر استعداد عظيم للقيام بالعمل في فلسطين على قواعد فعلية بدون انتظار نتيجة العمل السياسية الإدارية النهائية.
هنا انتهى ملخصا ما نقلته الأنسيكلوبيديا عن الصهيونية، وسنبدأ في العدد القادم بنشر مطالعاتنا بالإيجاز المقتضي على هذه الحقائق التي لا يستهان بها.
تبين من تقرير الأنسيكلوبيديا اليهودية الذي تقدم أن الصهيونية حركة عظيمة تشغل أفكار وقلوب اليهود في أقطار العالم كله، وأن القائمين بتدبيرها هم من أقدر رجال العالم، وقد عرفوا كيف يوفقون بين الأميال الدينية والقومية، وهي مؤسسة على قواعد صحيحة تكفل انضمام اليهود إليها، فهي تحافظ على التقاليد الدينية، وترمي إلى إيجاد وطن خاص بالشعب اليهودي، وتسعى بجمع المال لذلك، وبإنماء الشعائر القومية، وبتعليم الناشئة، وبمشترى الأراضي، وبولوج أبواب التجارة والاقتصاد، ونوال الامتيازات الكبرى والصغرى، طبقا لبروغرامها.
ومن البديهي أن الأنسيكلوبيديا بذل واضعوها كل ما في الإمكان لعدم تنبيه العثمانيين لهذه الحركة، ومع كل هذا فقد ظهر لنا فيها ما لو أضفناه إلى ما يبدو من أعمال الجمعيات، ومقاطعة اليهود للعثمانيين وغير ذلك، لكفى بأن يجعلنا نكون على تمام الحذر.
ولقد ذكرنا قول هرتسل في أحد المؤتمرات بأن شرقي أفريقيا ليست فلسطين ولا يمكن أن تكون، وكذلك برد الصدر الأعظم حقي باشا على إسماعيل حقي بك مبعوث كوملجنه؛ إذ قال: إن السير كاسل كان في مصر، ولم يسع بتمليك اليهود فيها، متخذا قوله هذا دليلا على كون السير أرنست كاسل بعيدا عن فكرة اليهود السياسية، كأن اليهود لا يفرقون بين مصر وفلسطين أرض الميعاد.
ثم إن الجمعية التي اهتمت لها حكومة بريطانيا، وجرت المفاوضات بينها وبين حكومات روسيا وإيطاليا والولايات المتحدة لا يمكن أن يقال عنها: خيالية، واعتماد الصدر الأعظم والبعض من رجال السياسة على اهتمام الدول المسيحية بالمحلات المقدسة في القدس غير متين الوضع؛ لأن الإنسان يجب أن يعتمد قبل كل شيء على نفسه في صيانة أملاكه وحقوقه، فضلا عن كون الدول المسيحية ما دامت المحلات المقدسة مصونة سيان عندها كانت البلاد بيد الحكومة العثمانية أو بيد اليهود.
ثم إن هرتسل فطن لهذا الأمر واحتاط له، وخابر الحكومات وقداسة البابا على ما نعتقد بشأنه، وقرر في أحد المؤتمرات حفظ امتيازات محلات المسيحيين المقدسة في فلسطين.
قالت الأنسيكلوبيديا: قلة المال كانت السبب في عدم نجاح هرتسل باقتطاع فلسطين في عهد عبد الحميد؛ فالآن المال أصبح موجودا بكثرة، والشعب اليهودي صار على تمام الاستعداد، فهل تحول الحكومة العثمانية وشعبها دون تحقيق أمانيهم؟ أم نتركهم يعملون غير مبالين، ومعللين أنفسنا بأن حركتهم وهمية، حتى إذا نالوا أمانيهم قمنا نصيح ونحتج شأننا في كل الأمور؟
وقالت أيضا: إن نوال حكومات البلقان حريتها كان السبب في نشاط آمال اليهود، فهل نترك اليهود يحققون آمالهم لننشط آمال الأقوام الآخرين؟
أنا أرتجف من استعمال لفظتي: وهم، وخيال؛ لأن الذين يستطيعون الاستيلاء على نصف أموال العالم بمزاحمة الشعوب النشيطة وهم في حالة الضعف والتشتيت، ويكون لهم تأثير عظيم على سياسة ممالك العالم بأسرها، أيعجزون عن تحقيق أمنيتهم في سوريا وفلسطين إزاء حكومة كحكومتنا أحوالها المالية على ما هي عليه من الضعف، وشعبها مما لحق به من الظلم والاستبداد فقد نشاطه، وضعفت وطنيته، والدول الأجنبية تطمع فيها في كل أمر؟ أيعجزون عن ذلك لا سيما بعد أن يكونوا جمعوا كلمتهم، ولموا شعثهم؟
قلنا: لنا جولة في الأنتيسيمتزم «ضد اليهود»؛ فالأنتيسيمتزم هي نتجية السيمتزم، ولولا ظهور اليهودية في الشعب اليهودي لما ظهر ضدها في أوروبا بين الشعوب المتمدنة التي لا تفرق بين أبناء الإنسانية الذين لا يحيدون عن قواعدها، فمن يكفل لنا أن السيمتزم أو اليهودية التي ظهرت في قلب العالم المتمدن واليهود بحالة الضعف، لا تظهر بأجلى معانيها في الشرق مهد التعصبات المذهبية وهم في طور القوة؟ إنها - وربي - تظهر في كل حركة من حركات اليهود المستعمرين.
كرهت شعوب الأرض بقاء اليهود في بلدانهم يزاحمونهم على الرزق، فرغبوا في عزلهم ليرتاحوا منهم؛ ولذلك ولأسباب أخرى فحكومات أوروبا تساعدهم على تحقيق آمالهم عندنا.
ويؤيد ذلك أن جونستون، الكاتب السياسي الشهير، ذكر سلخ فلسطين مرتين في مقالاته في مجلة القرن التاسع عشر هذه السنة، فإذا كانت أوروبا تروم الخلاص من السيمتزم، أمن العدل أن لا تبالي حكومتنا بها، وهي ستظهر عما قريب بمنتهى القوة في بلادنا، لا سيما وأن اليهود يطمعون عندنا بما لا يطمعون به في أوروبا.
تبين لنا أن لهم غير الصهيونية جمعيات مختلفة ، ولكنها كلها ترمي إلى استعمار سوريا وفلسطين واستيطانها، غير أن الفرق بين هذه الجمعيات أن الصهيونية تجاهر بغايتها السياسية. أما الجمعيات الأخرى فهي تروم أن تقوم بالعمل بصورة تدريجية واقتصادية، وتستر الغرض السياسي حتى يتسنى لها إظهاره.
ولذلك حاول هرتسل إقناع السلطان السابق عبد الحميد بأن عمله ليس فيه شيء من الخدعة؛ لأنه يظهر كل ما يضمر.
رأينا أن ترتيب الجمعية الصهيونية أشبه بترتيب الحكومات الديمقراطية، فالمؤتمرات هي بمثابة البرلمانات، والجمعية العاملة الصغرى هي بمقام الهيئة الإجرائية، والجمعية العاملة الكبرى عبارة عن مجلس شورى، ولهم إدارة مالية ومصارف تجارية زراعية، وإدارة معارف وتهذيب، وجمعيات جمناستيكية على الأصول الرومانية لتقوية العضل، وللتدريب على الحركات الجندية، وإدارة بريد وراية، وما شاكل ذلك من الأمور التي يجب أن لا يتغاضى عنها القابضون على زمام الدولة؛ لئلا يبقوا لهم أثرا مكروها في تاريخ هذه الأمة التي اشترى أسلافها البلاد بدماء ثمينة.
ماذا تعلم؟
إن الذي يطالع تقرير الأنسيكلوبيديا يرى أن للجمعية فروعا رئيسية في أكثر عواصم ممالك العالم، عدا عن الشعب المنتشرة في كل المحلات اليهودية.
وهي تسلم العمل السياسي في الغالب للفروع الموجودة في عواصم الحكومات التي تكون سياستها ولائية مع الحكومة العثمانية، فبينما أكثر مصارفها وشركاتها مسجلة في بلاد الإنكليز، ترى جمعية برلين اليوم تدبر الحركة السياسية بمناسبة الزعم بأن الدولة العثمانية تميل لحكومة برلين، ويؤيد ذلك الخطاب الذي ألقاه أحد الصهيونيين في جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك؛ إذ وجه المطاعن نحو السياسة الإنكليزية فيما بين النهرين، وأثنى على السياسة الألمانية هناك، الأمر الذي أوجب كدر الاتحاديين، وترك كثيرين منهم النادي كي لا يسمعوا خطابه الذي انتقدته جريدة الروملي بعدئذ بشدة. وسننشر ما اتصل بنا من ذلك في أعداد الكرمل الآتية.
أما عقيب إعلان الدستور، فقد هددنا أحد وكلاء الاستعمار بقوله: «أنا فرنساوي، وجمعيتي «الإيكا» إنكليزية.» ومن هذا ومن تظاهرهم بالميل للعثمانية في هذه البلاد يعلم أنهم يحتالون ليستفيدوا من جميع الظروف، ويميلون مع السياسة كيفما مالت رغبة في تحقيق أمانيهم.
ومما يؤلم أن بعض اليهود العثمانيين يجعلون أنفسهم آلة بيد المستعمرين، فيعيرونهم أسماءهم لمشترى الأراضي، ولنا على ذلك أدلة قوية لا يناسب ذكرها مراعاة للأحوال الحاضرة، ولكنها لا تلبث أن تظهر من ذاتها فيما بعد، وهذا لا يجب أن يدعو إلى الاستغراب، فبعد أن امتدت الصهيونية هذا الامتداد، ونجحت هذا النجاح، فلا بدع إذا ساعدها اليهود وعلقوا آمالهم عليها في إعادة حياتهم القومية، واسترداد مجدهم الزائل، لا سيما وفي التقاليد اليهودية أنه لا يجوز إعطاء الجزية لملك غير يهودي. وفي التوراة أن دفع اليهود لأيدي الأمم الأخرى قصاص من الله.
اليهود يسخرون بنا بقولهم: إنهم يحبون العثمانية، ويريدون أن يتفيئوا بظل الهلال، وإنهم سئموا معاشرة الأميركان والروس والفرنساويين والإنكليز وغيرهم من الشعوب؛ لأنهم حاصلون في تلك البلدان على راحة وحرية لم نبلغها نحن بعد. وهم يريدون الانتفاع بجهلنا، والاستفادة من خمولنا، ومن تفرق كلمتنا، وضعف وطنيتنا؛ ليستولوا على بلادنا وموارد رزقنا، ويتمموا مقررات التاريخ لهم كما قال زعيمهم الدكتور مكس نوردو. ولو كان الأمر كما يقولون لكنا نرى العثمانية تتجلى في كل مظهر من مظاهرهم، ولكن ما نراه من أفعالهم لا ينطبق على أقوالهم البتة.
ما كنا أبدا لنعارض الاستعمار الإسرائيلي لو كان مجردا عن الغاية السياسية التي لم يعد في وسعهم إنكارها، ولو كانوا يرضون بغير فلسطين وسوريا مهجرا، وأن يعيشوا متفرقين بين العثمانيين، وأن يتعثمنوا حقيقة لا تمويها، وأن يعاملوا العثمانيين كما يعاملون بعضهم في الأخذ والعطاء، والبيع والشراء.
ماذا نحتاج؟
إن الذي يطالع تقرير الأنسيكلوبيديا في الصهيونية يستطيع أن يستخرج منه دروسا مفيدة.
منها أن المشاريع أول ما تبتدئ صغيرة، ويقوم بها فرد أو أفراد يلاقون معاكسات وممانعات شديدة، فإذا ثبتوا وكانوا أمناء على مبادئهم لا تلبث أن تمتد وتنتشر وتعم، فإن هرتسل لما بدأ بمشروعه في تأسيس الصهيونية كان منفردا، حتى إن أحد أصحابه اتهمه بالجنون، وعارضه رجال الدين، ولكن طريقته الصحيحة التي أدخل عليها بعض التعديلات لتلائم جميع اليهود على اختلاف أذواقهم ومبادئهم، ما لبثت أن عمت واجتذبت قلوب اليهود من جميع أطراف العالم إليها.
أما نحن فيريد الواحد منا بمجرد كلمة يقولها، أو فكر يبديه أن يصغى له العالم بأجمعه، ويؤمن على أقواله ويناصره، وإلا حسب نفسه منفردا في وطنيته وإخلاصه، ويئس من النجاح وتقاعد عن العمل، وشكى من ضعف الوطنية وتفرق الكلمة، حالة كون الشعب اليهودي مشهورا بحب المنفعة الخصوصية، وقد قضت عليه النوائب بالتشتيت حتى تفرقت كلمته، واختلفت أذواقه، وصار من أصعب الأمور جمع كلمته، ولكن حسن قياد هرتسل وثباته في توحيد كلمة قومه أفضى بنجاحه نجاحا باهرا.
نحن غير الشعب اليهودي؛ لنا جامعة عثمانية تجمعنا راية تخفق فوق رءوسنا، فضلا عن أن الفريق الأكبر منا له خلافة دينية توجب عليه الارتباط بها، علاوة عن الشئون الاجتماعية والسياسية، وتوجب على بقية العثمانيين احترامها رعاية له. وهذه الخلافة تضم إلينا شعائر 250 مليونا من المسلمين غير العثمانيين، فكلمتنا إذن قوية، ووسائل الارتباط موجودة. وهي مكينة، وإنما تفتقر إلى إدراك معنى الوطنية الصحيحة، وإلى القيادة الحسنة وعدم التردد الذي يرافق طبائعنا.
نحتاج إلى الاعتماد على النفس، وعدم انتظار كل شيء من الحكومة؛ فاليهود شعب مشتت في الأرض، متفرق الكلمة، وليس له حكومة تجمع كلمته، وتدفع عنه الطوارئ والأخطار، ومع ذلك فقد تمكن رجل واحد من جمع كلمته، وجعله يتخذ خطة الهجوم، فلماذا لا نقوى نحن على الدفاع عن أنفسنا بأنفسنا، وننتظر من الحكومة أن تدرأ عنا كل مصيبة؟ هذا إقرار منا بالعجز والضعف، وهذا مما لا أريده لمواطني. فلو فرضنا أن بعض عمال الحكومة أرادوا بيعنا بمنافع خصوصية، هل نقبل بالعبودية وبالشقاء صاغرين؟ حكومتنا اليوم دستورية، والحكومات الدستورية للشعب، فإذا لم يستطع الشعب استخدام الحكومة لمصالحه الاجتماعية ومنافعه العمومية؛ فالشعب خامل وخليق بالانقراض.
نتعلم أيضا أن الصهيونية ورفيقاتها أصبحن جمعيات قوية غنية، فلمقاومة مقاصدهن يقتضى أن يكون كل صدر من صدور العثمانيين غنيا بالوطنية، ومن أجل ذلك فالبلاد تحتاج إلى قادة مخلصين كهرتسل ينكرون ذواتهم في سبيل المصلحة العمومية. عندنا كثيرون كهرتسل ولكن يعوزهم معرفة قدر نفوسهم، وشجاعة أدبية ليخطوا الخطوة الأولى؛ فليظهر هؤلاء ولا يبالوا، والظروف تخدمهم؛ لأن الأفكار تنبهت وصار عندها استعداد .
ليقم رجالنا ويبدءوا بتشكيل جمعيات تنادي بالعثمانية للعثمانيين، وتعلم الاقتصاد، وتزرع مبدأ عدم ترك أموال العثمانيين تتسرب في جيوب المستعمرين الذين ينازعوننا البقاء، ولا يعيدونها إلينا، بتأليف شركات تجمع الأموال بالغروش؛ ليشترك فيها الفقير والغني، فتشتري الأراضي، وتقوم بالمشاريع الزراعية والصناعية والتجارية، الصغائر تنتج الكبائر، فليبتدئ النشيط العاقل، وكل من سار على الدرب وصل.
نحن إذا كنا قضينا أجيالا نعاني البؤس والشقاء، لماذا لا نصير رجالا ونتمشى في طريق الحرية، ونعيش لوطننا ولأنفسنا، فلا نستمطر لعنات أجدادنا وأبنائنا علينا بإضاعة بلاد اشتراها الأجداد بدمائهم؟
وفي الختام: لا بد لنا من الاعتراف بفضل الأنصار الذين شدوا أزرنا في خدمة هذا الموضوع، ونادوا معنا بخطره، ونبهوا إلى ضرره، كما أننا لا نشكو ممن قاومونا، ووشوا بنا، وحاولوا إحباط مساعينا، ورشقونا بتهم دنيئة،
1
لا سيما من المسلمين أصحاب الحصة الكبرى في هذا الوطن العزيز؛ لأن مثل هذا كثيرا ما يكون نصيب أصحاب المبادئ وخدمة الأوطان.
Page inconnue