وفي ظلال هذه الزوجة الفريدة عرفت حسين، عرفته في إحدى السهرات، وكانت تجذبني إلى معرفته مقالاته الرنانة في الصحف عن الفن والحياة الفنية، وحديث مغامراته التي لا يخلو منها مجلس، وازداد تعلقي به حين عرفته، فوجدت في حديثه ومجلسه أكثر مما يسود ما يكتبه من مرح، وحببه إلي ميله إلى الدعابة في كل شيء والسخرية بكل شيء.
كنت إذ ذاك في شرخ الشباب، وكانت الحياة في نظري ميدانا فسيحا من العبث أن نملأه بالجد، وطريقا طويلا لن نقوى على قطعه صامتين، وأمثال حسين بلا شك يفهمون جيدا أن الطريق طويل ممل لن يؤنس وحشته إلا رنين الضحكات، وأمثالي أنا، وأنا أصغر من حسين ببضع سنوات في حاجة إلى دراسة فلسفته وحياته لينسجوا على منوالها ...
وقلت لحسين ذات ليلة: أنت تعجبني في الحياة، وإني لأعجب كيف تسوس حياتك؟ ألا تحاسبك زوجك حينما تعود إلى البيت ساعات الفجر؟ قل لي بالله ماذا تفعل حين ترى وجهك في الصباح؟
فأجابني وهو يضحك: تفعل! تعد لي طعام الإفطار، وتتسلم مني مصروف البيت، وتقص علي ما فعلت في أمسها، وتسألني بين الحين والحين ثوبا أو حلية، ماذا تريدها أن تفعل؟ - تغضب مثلا أو تحاسبك؟ - تحاسبني على ماذا؟ على أني أستمتع بربيع حياتي؟
ولم ينتظر جوابي، بل مضى يضحك حتى إذا أفرغ من صدره قدرا من المرح، مضى يقص علي قصة زواجه بإقبال ... تلك القصة التي رويتها لك، والتي ينزل عليها ستار الفصل الأول من حياة حسين.
أما الفصل الثاني، فإنه يبدأ دون جلبة ولا مقدمة، بل حتى ولا استراحة قصيرة ... إنه مجرد امتداد لنهاية الفصل الأول، فحسين يعيش كما هو ناعما بكل ما في الحياة من متعة، يستطيع أن يهبها له المال والاسم اللامع، إن عيب هذا الفصل هو أنه طويل وممل، ومناظره متكررة ... بل هو منظر واحد يتكرر، حسين ينتقل من مغامرة غرامية غريبة إلى أخرى، مثيرا حول اسمه دائما ضجة ولمعانا، والفضائح كما نعرف جميعا تضفي على الأفراد ثوبا يجعلهم في نظرنا شيئا غير البشر، ثوبا من النور يجذب فراشات الليل الضالة ... وكم من فراشة احترقت على حافة الثوب المنير، ولم تلبث على غلالته إلا ريثما تمر بها ريح عابرة، أو تطؤها أقدام فراشة أخرى ضالة ...
هذا هو الجزء الأيمن من المنظر، الجزء الواقع بعد باب منزل حسين مباشرة ...
أما الجزء الثاني، فهو إقبال في البيت تتلقى كل مغامرة من مغامرات حسين على أفواه صديقاتها، وفي صفحات الصحف، وهي أقل اكتراثا من خادمة، تسمع بأنباء غرامياته صاغرة ساكنة، وكأنما تؤمن إيمانا راسخا بأن كل مزاياها كزوجة هي خضوعها كرقيق ليس عليه أن يحس أو يتألم ...
إنك ستلحظ بعض التغيير قبل نهاية هذا الفصل، لقد استغرق فعلا اثني عشر عاما رتيبة تمضي على منوال واحد، لكن العام الأخير في هذا الفصل طويل تدب فيه الشعرات البيض في مفرق حسين، ويمضي دبيبها إلى جسمه وبشرته في بضع نفضات تعلو جبينه وتنتشر على صفحته ...
ليس هذا فحسب ... لقد بدأ حسين يعود إلى المنزل في ساعة مبكرة، وبدأت إقبال تقضي لياليها لا إلى جوار النافذة تنتظر، وإنما إلى جوار حسين تتحدث معه ... حتى صوته نفسه بدأ يتخذ لهجة أرق، ونغمة غير نغمة الأمر والنهي التي ألفتها خلال الأعوام الماضية.
Page inconnue