وسكتوا جميعا ... وإني لأذكر الجو الخانق الذي عشنا فيه تلك الليلة، وأذكر أيضا أن غالبيتنا منذ ذلك اليوم قد آثرت ألا تثير الموضوع، ولم يكن يواصل الحديث فيه غير مصطفى ...
حتى جاءني مصطفى يوما، وفي يده رسالة وصلت إليه بالبريد ...
رسالة تحمل توقيع سعيد، وفيها يعلن سعيد مصطفى بأنه يقطع علاقته به بعد ما تبين نذالته وحقارته التي لم يكن يتصورها.
وتتلخص هذه النذالة وهذه الحقارة في أن مصطفى قد حاول أن يغري سهام، وطارحها هواه، وطلب منها موعدا بالتليفون ... وفي الرسالة، إن لم تخني ذاكرتي، هذه الجملة:
لقد روت لي سهام كل شيء، وهي خجلة تبكي ... أما خجلها فيرجع إلى المستوى الذي انحدر إليه بعض أصدقائي، وأما بكاؤها فلأنها ربما كانت تنوب عني في ندب صداقتنا الطويلة.
وطويت الرسالة وأنا مذهول، ثم انتبهت على صوت مصطفى، وهو يقول لي: توقعت كل شيء إلا هذا ... لو أنها فعلت ذلك مع أحدكم لكان معقولا ... لكن معي أنا؟
ومضت فترة قبل أن أعي كلماته لأسأله ما يعني ... لم لا يستبعد حدوث ذلك مع أحدنا، ويستبعد حدوثه معه هو؟ وأعادني إلى ذهولي جوابه الجريء. - ذلك لأني الوحيد بينكم الذي فعل ذلك حقا. - فعل ذلك؟ ... أنت؟ ... طارحتها هواك، وطلبت منها موعدا هل جننت؟ - قد أكون جننت ... لكن ذلك حدث ... أما الذي لم يحدث، فهو ما قالته لسعيد من أنها رفضت لقائي ... ولم يحدث ذلك أول أمس كما تقول بل منذ شهر ...
ولم أفهم شيئا، فعاد مصطفى يقول: صبرا حتى تسمع القصة التي يسبقها اعتراف قصير، هو أنني أحببت سهام فعلا، ليس اليوم ولا أمس، وإنما منذ رأيتها أول مرة ، أحببتها كما يجوز أن تحبها أنت، أو يحبها غيرك ... أحببتها وطويت على هذا الحب جوانحي، فلم يعرفه أحد حتى هي نفسها ... ذلك هو اعترافي القصير ... أما ما حدث فهو أنني لقيتها منذ شهور ... لم أطلب منها موعدا، ولم أدبر لقاءنا، وإنما كان ذلك مصادفة.
وفي هذا اللقاء لا أعرف كيف جرتني هي إلى الحديث عن نفسي، ولا أعرف أيضا كيف واعدتها على اللقاء في اليوم التالي، وإن كنت أقسم أني ما رتبت أن تمضي الأمور على هذا الوضع.
وفي لقاء اليوم التالي صارحتها بحبي ... فعلت هذا، وأنا أكاد أبكي لما يريبني من تصرفاتها، وأعترف أني كنت قد فقدت كل سلطان على عقلي وأعصابي، وأعترف أيضا أن شبح سعيد ظل بيننا برغم ما أصابي من انهيار، فما لمست غير يدها في قبلة أحسست أنها أحرقت شفتي، وانتهى لقاؤنا لا كما ينتهي لقاء العشاق على وعد باللقاء، وإنما كما ينتهي غرام يائس لا خير فيه ... وكل ما فعلته بعد ذلك أنني كنت أحادثها بين الحين والحين بالتليفون، فأثرثر معها بضع دقائق، وما خطر ببالي مرة واحدة أن أطلب منها موعدا ... حتى كان يوم الثلاثاء الماضي، إذ رأيتها تجلس في سيارة إلى جانب ذلك الشاب الذي رأيناه عند سعيد منذ بضعة أسابيع، ذلك الشاب الذي قال عنه حمدي إنه قد ورث بضعة ألوف، كانا وحدهما، وكان يطوق خصرها بذراعه في طريق الصحراء، فجن جنوني، وما كاد الصباح يطلع علي حتى أمسكت بالتليفون أعاتبها في حسرة على ما رأيت، فإذا بها تنكر في شدة، وإذا بحديثنا ينتهي، وقد أغلقت المكالمة في عنف ... ثم يكون اليوم الجمعة فتصل إلي هذه الرسالة بالبريد.
Page inconnue