ولأضرب مثلا على سلسلة الأكاذيب التي سردتها هذا اليوم، لقد تحدثت عن دراستي، وقلت إنني أتممتها بالجامعة، وإنني سافرت في صيف العام الماضي إلى أوروبا، وإنني أبحث عن عمل، وأريد أن أقضي عاما أو عامين أدرس فيهما الخطط للمستقبل ... هذا الجو الذي خلقته عن نفسي، والذي يتلخص في الكلمات الثلاث، شاب متعلم مهذب غني ... لم يكن حقيقيا.
أما التعليم فاليوم بالذات دفع والدي القسط الثاني لي في كلية الحقوق، وهو متبرم، وعلى حد تعبيره «فلوس رايحة في الهوا» ذلك لأنه كان العام الثاني الذي أرسب فيه في السنة الثانية.
أما أوروبا، فلم تذهب قدماي إلى الآن إلى أبعد من البراميل المنتشرة على الشريط الضيق من ساحل البحر الأبيض الذي نسميه البلاج، والتي وضعت لأمثالي لتنبئهم بأن الأوان لم يئن بعد ليعبروا البحر بطريقة ما ... وأما أني مهذب فتلك مسألة فيها نظر، وأنا شخصيا أعتقد أنني مهذب، وسوف أجتهد أن يصدق هذا الشطر على الأقل في علاقتي مع الآنسة «ر».
طالت جلستنا أنا والآنسة «ر» وأدركت ونحن نغادر «جروبي» أن علي أن أقول شيئا ... وأجابتني «ر» وهي تمنحني إحدى ابتساماتها الهادئة: فليكن بعد غد ... هنا في «جروبي» ...
لا أدري، لم أحس وأنا أكتب مذكراتي اليوم بشيء من الغبطة، وأتخيل بعد غد حين ألقاها، أعترف أن الآنسة «ر» شغلت فكري طول اليوم ... وأعترف أيضا أنني أنظر إليها نظرة تختلف عن نظرتي لغيرها من الفتيات.
9 من أبريل سنة 1929
لماذا فعلت ذلك؟
سألت نفسي هذا السؤال منذ الصباح إلى الآن أكثر من مرة، ولم أستطع الإجابة عليه ... حدث كل ذلك بسرعة، ودون أن تتاح لي فرصة للتفكير، وجدت نفسي خارج حياة تلك المخلوقة التي راقبتني، والتي كنت أتمنى أن أرتبط بها إلى الأبد ...
إنها إن كانت أخرجتني من حياتها، فإنني لن أستطيع أن أخرجها من حياتي ... لا اليوم ... ولا غدا ... بل ستظل دائما الفردوس المفقود.
آه من الفردوس المفقود ... إن مرارة ذكراه أقسى من مرارة فردوس الأماني التي لم يرها الإنسان بعد، أجل، إن «ر» فردوس مفقود، فردوس كان بين يدي خلال الشهرين الماضيين كما تقول محجوزا للزوج ... الذي هو أنا بالطبع.
Page inconnue