في الشرفة حيث جلست منذ شهور قليلة مع سامية لأول مرة بدأ الليل يرخي سدوله ... وأخذت أضواء الشارع تعكس ضوءا باهتا علينا ... بالضبط كذلك اليوم الأول.
كنا صامتين نحن الثلاثة ... ولا أدري ماذا كان يملأ رأس سامية، ولا رأس حمدي من خواطر، وإنما أعرف فقط أن صورة واحدة تملأ رأسي أنا ... صورة ميدان سباق تجري فيه ثلاثة جياد ... فيتقدم اثنان منها ... أما الثالث فإن الإعياء يغلبه، وتتخاذل ساقاه، ويتصبب عرقا، ولما يمض من الشوط ثوان ... في حين أخذ الناس يصيحون به من كل مكان ... اخرج أيها الحصان العجوز ...
ولا أعرف ماذا فعلت إذ ذاك لأخرج من الميدان، ويستدرك قائلا: أقصد من الفيلا، لقد اختلطت الصورة بالواقع فاعذروني ... إنني أعرف فقط أني خرجت، استأذنت بضع دقائق لألقى صديقا، قلت إني نسيت موعده ... ووعدت بالحضور مسرعا، وما كدت أغادرهما حتى تنفست الصعداء، ووجدتني أخرج منديلي لأجفف عرقي، وخيل لي أن الصورة التي ملأت رأسي بدأت تتلاشى.
وتركت السيارة تسير على مهل على شاطئ النيل ... كانت صفحة الماء قد بدأت تعكس في وضوح صورة المصابيح المتناثرة على الشاطئ ... وكان كل ما يشغلني إذ ذاك فكرة واحدة ... سؤال واحد كان يدور بخاطري: هل أدركت سامية أنني لن أعود؟
لقد أتاني الجواب في اليوم التالي، وفي الأيام التي تلته ... إن سامية قد كفت عن عادتها التي ألفتها منذ شهور، ولم تعد توقظني بصوتها العذب كل صباح.
قولوا ما شئتم عني ... لكنني أقسم، وأنا صادق، أني ما ندمت على هذا الفراق ...
ولنصدقه هذه المرة.
الشعرات البيضاء
كذب عليها ... وكانت تحبه ... ولا يقتل الحب غير الكذب ... فمات حبها له، وبقي له الندم إلى الأبد. ***
22 من يناير سنة 1929
Page inconnue